الاجتهاد: قد يطرح البعض تساؤلات مثل: “لماذا يحيي المسلمون ذكرى استشهاد الحسين بن علي في واقعة الطف وقد قتل قبل ألف سنة، وانتهت الحادثة بمصرعه، وقَتْل جميع أبطال تلك الحادثة،
أليس الأجدر والأولى أن تُصرف الأموال والطاقات والجهود في إعداد الأجيال لبناء المستقبل بدل أن تُصرف الجهود والأموال والأوقات في إحياء ذكرى رجل قُتِل قبل ألف سنة وانتهى الحدث بمصرعه”؟
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32]صدق الله العلي العظيم
انطلاقاً من الآية المباركة نطرح ثلاثة أسئلة:
لماذا نحيي ذكرى الحسين بن علي «عليهما السلام»؟
لماذا نستخدم الطقوس في إحياء الذكرى؟
لماذا نختار طقوسًا معينة وهي الطقوس الملونة بلون الحزن والأسى؟
فعندنا ثلاثة محاور للإجابة عن هذه الأسئلة.
المحور الأول: لماذا نحيي ذكرى الحسين بن علي «عليهما السلام»؟
لماذا يحيي المسلمون ذكرى الحسين بن علي وقد قتل قبل ألف سنة؟
الجواب عن هذا التساؤل:
هنا هدفان منظوران في إحياء ذكرى الحسين بن علي صلوات الله عليه وعلى آله:
الهدف الأول: الرشد الاجتماعي
الإنسان الرشيد هو من يمتلك القدرة والوعي على ربط طاقاته بأهدافه، وأما الإنسان السفيه فهو الذي يبعثر طاقته في غير أهدافه.
إذن هناك إنسان رشيد يوظف طاقته لهدفه، وهناك سفيه يبعثر طاقته دون هدف، كما أن الإنسان يتصف بالرشد أيضاً المجتمع يتصف بالرشد، وهناك مجتمع رشيد ومجتمع سفيه، فالمجتمع الرشيد هو الذي يستثمر طاقاته في إطار أهدافه وفي سبيل الوصول إلى أهدافه، ومن مظاهر الرشد الاجتماعي هو تخليد العظماء والرموز، لا تجد شعباً من شعوب الإنسانية على الأرض لا يخلد عظماءه ورموزه وإلا كان شعباً سفيهاً.
فالشعب الذي يمتلك رشداً ووعياً هو الشعب الذي يحرص على تخليد ذكرى رموزه وعظمائه؛ لأن في تخليد الذكرى ربط الحاضر والمستقبل بقيم الماضي من أجل إعادة إحيائها وتجسيدها من جديد، فهذا مجتمع رشيد لأنه لا يحتفل بذكرى العظماء لأنهم عظماء وإنما يحتفل بذكراهم حتى يكتسب العظمة، وحتى يستلهم القيم والمثل التي جسدها العظماء.
من هنا نقول أن الاحتفال بذكرى الحسين الذي قُتل قبل ألف سنة ليس مهرجاناً عاطفياً فقط وليس احتفالاً تاريخياً، الاحتفال بذكرى الحسين هو عبارة عن إحياء قيم الحسين وإحياء مُثُل الحسين، القيم التي من أجلها ضحى الحسين وبذل عليها الغالي والنفيس، الحسين ضحى من أجل العدالة التي نادى بها القرآن الكريم ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾ [النحل: 90] وقال الحسين : “ألا وإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برماً ألا ترون إلى الحق لا يعمل به وإلى الباطل لا يتناهى عنه”.
الحسين ناضل من أجل العزة التي نادى بها القرآن الكريم ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون: 8] وقال الحسين بن علي: “ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون”.
الحسين ناضل من أجل الإصلاح، يقول القرآن الكريم: ﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ﴾ [الأعراف: 170] وقال الحسين بن علي: “ما خرجت أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي”، فاحتفالنا كمسلمين بذكرى الحسين هو احتفالاً بهذه القيم، ونداء لتجسيد هذه القيم في سلوكنا وشخصياتنا.
الهدف الثاني: تجسيد مضامين القرآن الكريم
حركة الحسين لا تنفصل عن مضامين القرآن الكريم، وهناك ثلاثة عناوين في القرآن تنطبق على إحياء ذكرى الحسين:
العنوان الأول: الدعوة إلى الخير؛ يقول القرآن الكريم: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾ [آل عمران: 104] وأي خير أعظم من الدعوة إلى العدالة والعزة ورفض الظلم والذل وإلى الإصلاح! إذن إحياء ذكرى الحسين تطبيق لنداء القرآن.
العنوان الثاني: تعظيم شعائر الله؛ يقول القرآن الكريم: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32] شعائر الحسين هي شعائر الله، الحسين هو ثأر الله، الحسين دمٌ سفك من أجل السماء ومن أجل قيم السماء، فهو ثأر لله، دم سفك من أجل الله تبارك وتعالى، إذن شعيرة الحسين هي شعيرة الله، وإحياء ذكرى الحسين هو إحياء لذكر الله الذي نادى به القرآن الكريم: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الأنفال: 45].
العنوان الثالث: الجهاد؛ والجهاد ليس فقط هو جهاد بالنفس، فهذه الجهود التي تُبذل في ذكرى الحسين سواء كانت مال أو جهود أو أوقات كلها لون من ألوان الجهاد، يقول القرآن الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ «10» تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ «11»﴾ [الصف: 10 – 11]، ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت: 69].
إذن إحياء ذكرى الحسين هو إحياء للقيم الإنسانية وإحياء لمثل السماء وتطبيق لمضامين القرآن الكريم.
المحور الثاني: لماذا نستخدم الطقوس في إحياء الذكرى؟
لماذا نحيي ذكرى الحسين في الطقوس، لماذا لا تكون بالمحاضرات والندوات الفكرية أو المقالات والكتب؟ لماذا نحيي ذكرى الحسين عبر الطقوس مأتم وصرخة ودمعة وزيارة مليونية للحسين، لماذا ننتقل من الإحياء الفكري عبر المحاضرات والندوات إلى هذه الطقوس؟
يرجع الجواب عن هذا التساؤل إلى بحث علمي في علم الاجتماع، ففي علم الاجتماع مفردتان تنطبقان تماماً على إحياء ذكرى الحسين بهذه الطقوس المعينة:
المفردة الأولى: العقل الجمعي
دايفيد دوركايم المفكر الفرنسي المشهور من مؤسسي علم الاجتماع الحديث هو أول من تحدث عن الوعي الجمعي والعقل الجمعي ومدى تأثيره على صياغة شخصية الإنسان في كتابه «المنهج الاجتماعي»، قال: العقل الجمعي هو عبارة عن مجموعة من المعتقدات والمواقف التي تُشكل قاسماً مشتركاً بين مجموعات متنوعة كأعياد الميلاد مثلاً؛ هو عقل جمعي يحتفل به المسيحيون في العالم، وهذا العقل الجمعي يعني أن هذه المجموعات من البشر المختلفة في اللغة واللون والعرق والجنسية يدخلون تحت موقف معين وفكرة معينة وهي الاحتفال بعيد الميلاد، كذلك الحج الذي يقوم به المسلمون سنوياً هو عقل جمعي؛ لأنه مجموعة من النُسك والطقوس تجمع مئات الآلاف المتغايرة في اللون واللغة والعرق والجنسية تحت فكرة واحدة وهي نسك الحج.
فالعقل الجمعي في علم الاجتماع له أبعاد ثلاثة: الإحساس بالهوية، والشعور بالانتماء، والشعور بالتوازن.
فما الذي يفيده الحج على هؤلاء المئات الآلاف الذين يجتمعون يوم عرفة في أرض واحدة وفي موقف واحد؟ هذا العقل الجمعي له أبعاد ثلاثة:
البعد الأول:
الإحساس بالهوية؛ لك مجموعة من الهويات هويتك كإنسان وهويتك كعربي ومنها هويتك كمسلم تشعر بها في الحج، عندما تعيش هذا العقل الجمعي تحصل على إحساس بهوية عظيمة ألا وهي أنك منتمي ومرتبط بالسماء، أنت مسلم، الإحساس بالهوية الإسلامية بُعْدٌ من أبعاد العقل الجمعي.
البعد الثاني:
الشعور بالانتماء؛ الشعور بالانتماء له قوة تعطيك نوع من الفخر والاعتزاز والاطمئنان، عندما تعيش العقل الجمعي في الحج تشعر بأنك تنتمي إلى أمة تمتلك حضارة وثقافة وأدب وعلم، ألا وهي الأمة الإسلامية ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 92] أنت من خلال العقل الجمعي تشعر بالانتماء إلى حضارة الأمة الإسلامية فتحصل على نوع من الفخر والاعتزاز.
البعد الثالث:
الشعور بالتوازن؛ ترى الإنسان قبل الحج يجري وراء شهواته وغرائزه ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ [آل عمران: 14] الإنسان قبل الحج ابن الغريزة يجري وراءها، ولكنه عندما يذهب إلى الحج ويعيش الأجواء الروحية يحصل على نوع من التوازن بين عقله وشهوته، بين عقله وقلبه، وهذا التوازن من مكتسبات العقل الجمعي، وهو حصول الإنسان على توازن روحي وتوازن نفسي.
إذن العقل الجمعي شيء مهم بنظر علماء الاجتماع، فهو يضع بصمات مهمة، الإحساس بالمسؤولية، والإحساس بالهوية، والإحساس بالانتماء، والتوازن مجموعة من المشاعر يحصل عليها الإنسان من خلال العقل الجمعي، طبق هذا البعد على الزيارة المليونية لقبر الحسين ، الزيارة المليونية لقبر الحسين هي عقل جمعي،
وهذا العقل الجمعي يضم ملايين البشر، المختلفون في الألوان واللغات والإيديولوجيات الثقافية، يجتمعون تحت عنوان الحسين بن علي صلوات الله وسلامه عليهما، فهذا يشكل عقل جمعي له بصمات مهمة على هؤلاء المجتمعين، أولاً الشعور بالهوية؛ فعندما تندمج في هذا العقل الجمعي في هذه الزيارة المليونية تشعر بهوية ذات حرارة وسخونة وهي الهوية الحسينية،
وعندما تندمج من خلال هذا العقل الجمعي تشعر بالانتماء إلى أمة تمتلك فكر وعلم وحضارة وأدب، أنت تنتمي إلى هذه الأمة من خلال العقل الجمعي، وأنت من خلال الزيارة المليونية تعيش أجواء روحية تحصل على حالة من التوازن، تتوازن فيها مشاعرك، وتتوازن قوتاك قوة العقل وقوة القلب، قوة العقل وقوة العاطفة، تحصل على نوع من التوازن نتيجة الانسياب والانغماس في هذه الأجواء الروحية التي تغمرك في الزيارة المليونية لضريح الحسين بن صلوات الله وسلامه عليه.
لذلك ترى حتى بعض الملحدين يدعون لاستثمار العقل الجمعي، مثلاً تدخل على منصة تايت «Tait» وهي منصة كل مفكر يستطيع أن يبرز أفكاره وأبحاثه من خلالها، وآلان ديبوتون له محاضرة عبر هذه المنصة يقول فيها:
نحن كملحدين ننكر الإله لكننا لا ننكر الدين، وهذا العصر الذي نعيش فيه عصر العلمانية المسيطرة على كل شيء هو عصر مليء بالثغرات والفجوات والثقوب لا يملأ ثغراته ولا فجواته إلا الدين وإن كنا لا نعترف بالإله من خلال الطقوس الدينية، نحن كملحدين لابد أن نطرح الإلحاد بنسخة جديدة وهي أن نستثمر الطقوس الدينية لطرح ثقافة الإلحاد، ولكن لا تستطيع أن تروج فكرةً عبر المحاضرات فقط،
فعندما تريد أن تروج فكرة معينة وترسخها لا تكفيك المحاضرات ولا الندوات ولا الأقلام ولا المقالات بل تحتاج إلى طقوس وإلى عقل جمعي، العقل الجمعي هو الوسيلة لترسيخ الفكرة، وهو الوسيلة لنشر الفكرة، إذن نحتاج أن نسرق من الدين فكرة العقل الجمعي والطقوس حتى نستطيع أن ننقل ثقافة الإلحاد وتكون ثقافة راسخة.
كل الديانات تتعامل بالعقل الجمعي، الكنيسة الكاثوليكية سنوياً في نهاية مارس تقوم بالاحتفال بذكرى جورم القديس الذي كان يفيض تواضعاً وحناناً وعناية بالفقراء، والتوقيت هذا هو فكرة العقل الجمعي وهو أن تربط الفكرة بيوم معين، فإذا ربطت الفكرة بيوم معين انشدت الشعوب إلى ذلك اليوم وترقبته وتفاعلت معه، فحتى ترسخ الفكرة عليك بتوقيت الفكرة بيوم معين، هكذا نجح الدين.
اليهوديون كذلك لديهم فكرة التسامح، وحتى يرسخوا فكرة التسامح لابد أن يرسخوها في عقل جمعي لذلك من المبادئ اليهودية هو الاغتسال يوم الجمعة بالماء؛ لأن هذا الاغتسال يعلمهم على نوع من التواضع والتسامح، ويغذي فيهم هذه الفكرة.
تنقل مجلة وول ستريت أن الكنيسة الكاثوليكية في سنة معينة صرفت سبعة وتسعين بليون دولار، صرفتها على أنشطة دينية واجتماعية لمسيحي العالم المنتمين لهذه الطائفة، وهذه المبالغ الضخمة تُصرف حتى تشكل عقل جمعي، والعقل الجمعي يجمع هؤلاء الملايين من البشر تحت اسم المسيح وتحت اسم الكنيسة الكاثوليكية تحت مبادئ موحدة؛ لأجل أهمية العقل الجمعي صرفت هذه الأموال، بينما في الزيارة المليونية وفي اليوم العاشر من المحرم لا تبلغ مصاريف العراق 5% مما تصرفه الكنيسة الكاثوليكية على أنشطتها من أجل تشكيل العقل الجمعي، إذن تشكيل العقل الجمعي الهادف والواعي والفاعل يحتاج إلى جهود وأموال وطاقات حتى يضم هذه الملايين تحت مبادئ معينة.
المفردة الثانية: الدلالات الرمزية
«إنسانيات» مجلة جزائرية تعنى بالأنثروبولوجيا والعلوم الاجتماعية، يوجد مقال في هذه المجلة بعنوان «الطقوس وجبروت الرموز، قراءة في الوظائف والدلالات»، وفي هذا البحث يُنقل سؤال عن الباحثة الاجتماعية مارتن سيغلان، وهو: هل العصر الحاضر عصر العلمنة ينسجم مع الطقوس؟ نحن الآن في عصر سيطرت عليه العقلانية ولغة الأرقام والإحصاءات الدقيقة، عصر التقدم التكنولوجي، عصر التحول الرقمي، فهل هذا العصر ينسجم معه أن تمشي حافياً من النجف إلى كربلاء؟ هل ينسجم مع عصر العلم والتكنولوجيا أن تعقد مأتماً فيه بكاء ودموع وصراخ؟ هل الطقوس تنسجم مع عصر العلم وعصر المعرفة؟ ألا تعد هذه الطقوس ترف وإهدار للمال والوقت والجهد؟
وكان في جوابها عن هذا التساؤل أن نقلت عن عالم من علماء الاجتماع وهذا العالم يتحدث عن هذه النقطة بالذات يقول: الإنسان كائن طقوسي بامتياز مهما بلغ من العلم والعبقرية، ولا يوجد إنسان لا يمارس في حياته طقوس معينة سواء كانت دينية أو اجتماعية أو عرفية، بالنتيجة أن الإنسان كائن طقوسي بامتياز.
ما هي ماهية الطقس؟ وما هي دلالته الرمزية على الحياة الاجتماعية؟
الطقس هو عبارة عن كيفية تضم أنشطة جماعية في إطار احتفالي منتظم زماناً ومكاناً، وهذا الأمر ينطبق على وقوف المسلمين على أرض عرفة يوم التاسع من شهر ذي الحجة؛ فهو طقس لأنه كيفية تضم أنشطة جماعية في إطار احتفالي منتظم زماناً وهو يوم عرفة، مكاناً وهو أرض عرفة.
والطقس يعتمد على عناصر ثلاثة: التقعيد، التكرار، الشحنة الرمزية.
العنصر الأول: التقعيد؛
لا يوجد طقس ليس له آداب وقواعد معينة.
العنصر الثاني: التكرار؛
تكرار الطقس سنوياً في يوم معين وفي وقت معين، ميرتشا إلياده عالم من علماء الاجتماع يتحدث عن عنصر التكرار يقول أنه العود الأبدي لزمن البدايات، ومعنى هذا أنك خلال وقت واحد تجمع بين يومين وزمانين، أنت عندما تحتفل بذكرى يوم الأربعين فأنت في زمانين في آن واحد، تعيش الزمن الفيزيائي وتعيش الزمن المتخيل، يوم العشرين من صفر عام 1444 هـ هو الزمن الفيزيائي الذي تعيش فيه، ولكنك في هذا اليوم تعيش أيضاً يوم العشرين من صفر عام 61 هـ ، إذن أنت تجمع زمانين في آن واحد وهذا هو معنى عنصر التكرار الذي هو دخيل في الطقس وقوامه.
العنصر الثالث: الشحنة الاجتماعية؛
يذكر العلماء أن الطقس يعطيك دلالة على بُعْد الترابط الاجتماعي وبُعْد التعاون وبُعْد إحياء القيم التي من أجلها عقد هذا الطقس الاجتماعي، يقول البعض أن من يمشي من النجف إلى كربلاء لا يعيش عقلانية بل هو ما زال يعيش في غياهب القرن السابع لأنه منصهر بالخيال والعاطفة، ومن يحضر المأتم ويتفاعل معه بكاء ودموعاً هو يعيش خيال وعاطفة، وهذا الكلام غير صحيح حيث لا يوجد إنسان عقلاني محض، وإنما كل إنسان يعيش بعقل وخيال، ولا يستطيع أن يتحرك بدون خيال، يمتلك قوتين ويعيش بهما ولولاهما ما استطاع أن يعمل أي من الأعمال، لابد أن يعتمد على العقل والخيال، لا يمشي إلا بخيال يرسم له الطريق ثم يمشي على ضوئه.
من هنا يأتي دور الدلالة الرمزية، يقول علماء البلاغة أن الدلالة الرمزية أبلغ من الدلالة الواضحة والصريحة، الدلالة الرمزية هي شفرة توحي معنى من المعاني، الرمز شفرة تبعث تفاعل في نفس الإنسان وروحه، مثلاً عندما تدخل ألمانيا وترى منارة تستغرب من رؤيتها لأن المنارة رمز لعبادة إسلامية، وهي تعطيك دلالة عن المسلمين أبلغُ من إخبارك بوجود مسلمين في هذا البلد، أيضاً الفتاة عندما تتحجب في الدول الأوروبية والحجاب رمز للمبادئ والحضارة الإسلامية، فهذا يعطي دلالة أكبر عن إسلامها مما لو قالت أنا مسلمة، فالرمز أبلغ من التصريح في جميع الدلالات.
ولو طبقنا هذه المفردة في الحج، فإن الطواف بالبيت الحرام هو رمز لمحورية السماء، الدوران حول الكعبة رمز لمحورية الله ومركزيته تبارك وتعالى.
دلالات زيارة الإمام الحسين
بالنتيجة الزيارة المليونية لقبر الحسين بن علي صلوات الله وسلامه عليه استثمار للخيال ولكن بدلالة رمزية بأبلغِ صورة وأعمق تفاعل، هذه الزيارة المليونية والزحف نحو قبر الحسين رمز لعدة دلالات:
الدلالة الأولى:
الترابط الاجتماعي؛ مجموعة من البشر مع اختلاف لغاتهم وألوانهم يعطف بعضهم على بعض ويحن بعضهم على بعض، يتعاملون بلغة إنسانية لا حقد فيها ولا كراهية ولا غل، ترمز إلى عمق إنساني بليغ.
الدلالة الثانية:
التعاون؛ ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2]، المأتم الذي نحن فيه الآن هو رمز للتعاون، مجموعة من الشباب يمتلكون الطاقات فهذا لديه طاقة فنية، وهذا طاقة تقنية، وهذا طاقة صوتية…. إلخ، تكامل من الطاقات يرمز لهم هذا الطقس وهو هذا المأتم الحسيني، زيارة الحسين رمز لتعاون ملايين من البشر على إحياء مبادئ معينة.
الدلالة الثالثة:
الرمزية لهذا الطقس العظيم؛ أن هؤلاء يجتمعون ليتشربوا المبادئ ويستلهموا تلك القيم، ويجددوا صوت الحسين بن علي صلوات الله وسلامه عليه.
المسلون جميعهم بلا استثناء يحبون الحسين ويعشقون الحسين ويقدسونه صلوات الله وسلامه عليه، وهذا ليس حصراً في الشيعة، المسلمون كلهم عندما يحتفلون بذكرى الحسين عبر هذه الطقوس المعينة فهم يؤكدون مفردتين العقل الجمعي والدلالة الرمزية لهذه الطقوس المهمة.
المحور الثالث: لماذا نختار طقوس معينة ملونة بلون الحزن والأسى؟
لماذا اخترتم هذه الطقوس الملونة بالحزن والأسى، طقوس الدمعة، طقوس المأتم، احتفلوا بذكرى الحسين بن علي عبر طقوس أخرى، عبر الموسيقى أو الغناء أو الأناشيد التي تتلو اسم الحسين، لماذا اخترتم هذه الطقوس المعينة؟
الجواب:
من أجل تجسيد الفكرة بصورة حسية؛ يقال في الفلسفة الوجود متقوّم بالصورة، يستحيل أن يوجد شيء بدون صورة، كل الموجودات في عالم المادة تحتاج إلى مادة وصورة وبدون صورة لا توجد، إذن الصورة دخيلة في قوام الوجود، ولولا الصورة لما تحقق الوجود، بل إن الإنسان لا يمكن أن يفهم شيء بدون صورة، لا يمكن لك أن تعقل معنى أو مفهوماً أو فكرة بدون أن يؤطرها ذهنك بصورة حسية، حتى الله سبحانه وتعالى الذي لا أعظم منه ومجرد عن المادة، ومجرد عن المادة وأبعاد المادة ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11] ولكن بمجرد أن يقال «الله» يذهب ذهنك إلى صورة، لا تستطيع أن تتعقل شيء بدون صورة.
طبيعة ذهن الإنسان بُرْمج على أن يتلقى الأفكار عبر صورة معينة يرسمها ذهنه، حتى الأشياء التي لا صورة لها يتعقلها من خلال صورة ويفهمها من خلالها، هكذا هي طبيعة الإنسان، الإنسان كما يقول الفلاسفة المحدثون مخلوق إحساسي يعتمد على أحاسيسه، الدماغ يعتمد على الحواس الخمس حتى يفهم ويفكر ويحلل، والإنسان مخلوق إحساسي لا يتعقل فكرةً بدون صورة حسية.
الصور الراسخة للإيمان
من هنا نقول بأن الطقوس هي تجسيد أفكارٍ عبر صورة حسية حتى يعتنقها الإنسان ويتفاعل معها، لأنه لا يستطيع التفاعل مع الأفكار بشكل مباشر حتى تتجسد في صورة حسية فيتفاعل معها، يقول علماء العرفان أن الإيمان لا يكون راسخاً إلا بصور ثلاث: صورة فطرية، صورة فكرية، صورة حسية.
الصورة الفطرية:
الميل نحو الله، يقول القرآن الكريم: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ [الروم: 30].
الصورة الفكرية:
هي التي يقول عنها القرآن الكريم: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران: 191].
الصورة الحسية:
ما لم يكن الإيمان عبر صلاة، صوم، حج، صدقة لا يتحول إلى إيمان، الإيمان يعني سلوك صورة حسية تتجسد على الأرض، ولا يكون الإيمان حقيقياً حتى يتجسد عبر صورة حسية ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [البقرة: 43]، ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ «1» الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ «2»﴾ [المؤمنون: 1 – 2] الصورة الحسية هي التي تغرس الفكرة وتحققها تحقيقاً كاملاً، لذلك تحتاج في كل أفكارك إلى صورة حسية حتى ترسخ هذه الأفكار.
من هنا مبادئ الحسين وصوت الحسين ومعركة البطولة التي خاضها الحسين لا يمكن أن تعتنقها جماهير البشر إلا إذا تجسدت عبر صورة حسية، لذلك نحوّل هذه المعركة إلى طقوس حتى يتقبل الإنسان فكرة المعركة عبر الصورة الحسية.
ولابد أن تكون الصور الحسية مناسبة للحدث، مثلاً في يوم العاشر من ذي الحجة عندما تأتي لرمي جمرة العقبة، فلو وقف إنسان عند جمرة العقبة وعبر عن المبدأ بعزف العود مثلاً، فأي مبدأ هذا الذي عبر عنه هنا؟ مبدأ رمي جمرة العقبة هو التخلص من الشيطان، ويكون التعبير عن ذلك بصورة حسية تتناسب مع هذا المبدأ، والصورة الحسية التي تتناسب مع مبدأ رفض الشيطان هي رمي الحصيات، وقد اختار الإسلام هذا الطقس لأنه صورة حية منسجمة مع هذا المبدأ ألا وهو التخلص من الشيطان وحبائله.
نفس القضية في كربلاء وفي معركة كربلاء، لابد أن نختار طقوس مناسبة لمعركة كربلاء وليس أي طقوس، معركة كربلاء دماء ودموع، وصرخات، ولهفات، وركض، ومشي حفاة، هذه هي معركة كربلاء، معركة ضمت هذه الألوان المتعددة، فلابد أن يكون التعبير عن هذه المعركة عبر طقوس تنسجم معها، والطقس المناسب معها هو طقس الدمعة، طقس المأتم، طقس الصرخة، طقس الزيارة، طقس الزحف إلى قبر الحسين، طقوس تنسجم مع الحكاية والتعبير عن معركة كربلاء وعما جرى على أرض كربلاء.
لذلك نختار هذه الطقوس ولهذا ترى الأئمة الطاهرين يحثون على هذه الطقوس لأنها تعبير رمزي حي عما جرى على أرض كربلاء، ورد عن الإمام الرضا : ”من ذكر مصابنا وبكى لما ارتكب منا كان معنا في درجتنا يوم القيامة“، ”من ذكرنا عنده فسال من دمعه مقدار جناح بعوضة غفر الله له ذنوبه ما تقدم منها وما تأخر“.
الزيارة العظيمة
وتجد بعض النصوص تنص على هذه الزيارة العظيمة ألا وهي زيارة الحسين والزحف نحو قبر الحسين ، ففي رواية عبدالله بن حماد البصري عن الصادق قال لي: إن عندكم لفضيلة ما أوتي أحد مثلها وما أحسبكم تعرفونها كنه معرفتها ولا تحافظون عليها ولا على القيام بها، وإن لها لأهلاً خاصة قد سموا لها وأعطوها بلا حول منهم ولا قوة إلا ما كان من صنع الله لهم وسعادة حباهم الله بها، قلت: جعلت فداك وما هذه؟ قال: زيارة جدي الحسين بن علي فإنه غريب بأرض غربة، يبكيه من زاره ويحزن له من لم يزره، ويحترق له من لم يشهده، ويرحمه من نظر إلى قبر ابنه عند رجله، وقد بلغني أن قوماً يأتونه من نواحي الكوفة وناساً من غيرهم، ونساء يندبنه، فبين قارئ يقرأ وقاص يقص، ونادب يندب، وقائل يقول المراثي، قلت: نعم جعلت فداك شهدت بعض ما تصف. قال: الحمد لله الذي جعل في الناس من يفد إلينا ويمدحنا ويرثي لنا وجعل عدونا من يطعن عليهم في قرابتنا وغيرهم يهدرونهم ويقبحون ما يصنعون.
ورواية معاوية بن وهب، قال: استأذنت على أبي عبد الله الصادق فقيل أدخل، فدخلت فوجدته في مصلاه وجلست حتى قضى صلاته وسمعته يناجي ربه ويقول: اللهم يا من خصنا بالكرامة ووعدنا بالشفاعة وخصنا بالوصية وجعل أفئدة من الناس تهوي إلينا، اغفر لي ولإخواني وزوار قبر أبي عبدالله الحسين الذين أنفقوا أموالهم وأشخصوا أبدانهم رغبة في برنا ورجاء لما عندك في صلتنا، وسروراً أدخلوه على نبيك وإجابة منهم لأمرنا، وغيظاً أدخلوه على عدونا. ثم يقول: اللهم ارحم تلك الوجوه التي غيرتها الشمس وارحم تلك الخدود التي تتقلب على حفرة أبي عبدالله، وارحم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمة لنا، وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا، وارحم تلك الصرخة التي كانت لنا.
المصدر: موقع المنير