المدرسة التفکیکیة الشیعیة المعاصرة

نقد كتاب” المدرسة التفكيكية الشيعية المعاصرة” / بقلم آية الله الشيخ جعفر السبحاني

الاجتهاد: أنتشرت أخیراً فی السعودیة کتاب باسم المدرسة التفکیکیة الشیعیة فیها سموم کثیرة وافتراءات متوفرة قام آية الله الشيخ جعفر السبحاني، بنقد اجمالیٍ ارسله الیکم راجیاً أن یقع النقد بید الکاتب أو الناشر وإلیکم عنوانهما.

بسم الله الرحمن الرحیم
الحمد لله وليّ الحمد، والصلاة والسلام على عباده الّذين اصطفى محمد وآله الطيبين الطاهرين، مصابيح الدُجى، وأَعلام الهدى.

أما بعد

فقد وقفت هذه الأيام عن طريق بعض الإخوة الأفاضل، على كتاب اقتناه من مكتبات مدينة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) المنوّرة، والكتاب بعنوان: «المدرسة التفكيكية الشيعية المعاصرة»، ومؤلفه هو: أحمد قوشتي عبدالرحيم، وناشره: مؤسسة دراسات تكوين.

والكتاب يشتمل على مقدمة وفصول، وموضوعه هو دراسة مسألتين:

إحداهما في الفروع، والأُخرى في الأُصول والعقائد.
أما الأولى، فهي ذهاب الأخباريين من الشيعة إلى عدم حجّية ظواهر الكتاب إلاّ بتفسير من الأئمة (عليهما السلام)، مضافاً إلى عدم حجّية العقل في استنباط الأحكام الشرعية.

وأما المسألة الثانية، فهي بطلان المنهج الفلسفي في استنباط المعارف الدينية.
وقد بسط المؤلف الكلام في هاتين المسألتين بما لا يخلو من تطويل وإسهاب غير لازم.

وأما انطباعنا عن الكتاب، فإليك بيانه ضمن أُمور:

الكتاب من مقولة: «الكلام يجرّ الكلام»
الكاتب الموضوعي الّذي يقدّر ويثمّن عمره والكلمات الّتي يسطّرها في كتابه ويقدّر قيمة الورق والحبر هو أنه إذا أراد تحرير موضوع ما، يحدّد موضوع المسألة ومبانيها وأدلتها، ثمّ يذكر ما أُشكل عليها من جانب الآخرين، فإذا كان صاحب تفكير ومقدرة علمية يقضي بين الطرفين.

وأما الكتاب ـ الّذي بين أيدينا ـ فليس على هذا النمط، فهو مكان أن يطرح كلّ مسألة مستقلةً، فيذكر أدلة القائلين ويقارن بينها وبين أدلة المخالفين ـ مكان هذا ـ طرح مسائل كلامية لا صلة لها بالمسألتين المذكورتين، إلاّ أنّ الجميع من المسائل الدينية.

وإن كنت في شكّ من ذلك فانظر إلى الكتاب، فستجد أنّه طرح المسائل التالية:
الأولى: إنكار ولادة الإمام المهدي (عليه السلام).
الثانية: بطلان البداء الّذي عليه الشيعة.
الثالثة: الرجعة وعدم صحتها.
الرابعة: التقيّة عند الشيعة.

ونحن نسأل المؤلّف عن الصلة بين هذه المسائل الكلامية أو التاريخية مع المسألتين الفقهية والكلامية اللَّتين طرحهما في كتابه، إلاّ أن الجميع يقع تحت مقولة «مسائل دينية».

وما أشبه عمل الكاتب بما روي في القصص من أن قاضيّاً أحضر أحد المتهمين للتحقيق معه، فسأله: اذكر اسمك واسم أبيك، فشرع المتهم بذكر أسماء أجداده البعيدين إلى أن انتهى إلى اسم أبيه وقال إنّ اسمه عبدالرحمن واسمي عبدالرحيم، فقال له القاضي: كان المفروض بك أن تذكر اسمك واسمك أبيك فقط، فقال المتهم: عفوك سيدي القاضي، الكلام يجرّ الكلام.

وبما أن الكاتب طرح هذه المسائل على وجه غير صحيح، فنحن لأجل قلع الشبه عن ذهن الكاتب وقرّاء كتابه، نبحث فيها على وجه الإجمال.

الأولى: ولادة الإمام المهديّ

إنّ ولادة الإمام المهدي (عليه السلام) أمر قطعيّ أقّر به الكثير من علماء السنّة والشيعة، ويكفي في ذلك أن الشيخ العلامة لطف اللّه الصافي (قدس سره) ذكر أسماء علماء السنّة الّذي قالوا بولادة الإمام المهدي (عليه السلام) فبلغ عددهم 62 عالماً.(1)

وذكر السيد ثامر هاشم العميدي (معاصر) في كتابه: «دفاع عن الكافي» أكثر من مئة وعشرين عالماً من علماء السنّة ذكروا ولادة الإمام المهدي(عليه السلام) في كتبهم.(2)

المسألة الثانية: مسألة البَداء

البداء من المعارف القرآنية الّتي لا يشك فيها من له إلمام بالكتاب والسنّة، والعجب أن الكاتب يقول: «ولا يخفى أنّ البداء بالمفهوم الشيعي ضلال مبين، وانتقاص من جلال الربّ سبحانه، وعلمه وعظمته، كما يلزم عنه ما لا يليق إلى جلال الذات الإلهية العليّة وكمالها».(3)

أقول: حقيقة البداء عبارة عن تغيير مصير الإنسان بالأعمال الصالحة أو الطالحة الّتي يقوم بها، وهي حقيقة قرآنية اتّفق على الإيمان بها المسلمون جميعاً.
يقول سبحانه: (إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْم حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(4).
ويقول تعالى في قصّة نبيّ اللّه يونس (عليه السلام): (فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)(5).
وقال سبحانه: (يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)(6)

فالآية تدلّ على أنّ للّه سبحانه لوَحين:
الأوّل: لوح المحو والإثبات.
الثاني: لوح أمّ الكتاب.

فما قدّره سبحانه في اللّوح الأوّل يتطرّق إليه التغيير والتبديل. وأمّا ما قدّره في اللّوح الثاني ـ الّذي عبّر عنه بـ (أُمُّ الكِتاب) لأجل كونه أصلاً للّوح الأوّل ـ فهو مصون من التغيير والتبديل.(7)

نقل السيوطي في «الدر المنثور» عن عليّ (عليه السلام) أنه سأل رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) عن هذه الآية «يَمْحُوا اللّهُ» فقال له: «لأقرّنّ عينيك بتفسيرها ولأقرّن عين أُمّتي بعدي بتفسيرها: الصدقة على وجهها، وبرّ الوالدين، واصطناع المعروف يحوّل الشقاء سعادة، ويزيد في العمر، وبقي مصارع السوء»(8)

ولو كان الكاتب واقفاً على كتب مذهبه ومنهجه لوجد الموضوع بلفظه ومعناه في أحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

روى البخاري عن أبي هريرة أنّه سمع من رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ ثلاثة من بني إسرائيل: أبرص وأقرع وأعمى بداللّه أن يبتليهم، فبعث إليهم ملَكاً، فأتى الأبرص، فقال: أيُّ شيء أحبّ إليك؟ قال: لون حسن…»(9).

إن الّذي أوقع الكاتب ومن على شاكلته هو توهّم أن البداء هو الظهور بعد الخفاء، وهو محال على اللّه سبحانه، ـ لا يقول به أي موحّد وعارف ـ، وعلى هذا فيلزمنا تفسير قول النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)على ما مرّ، أعني قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «بدا للّه» وهو أن حقيقة البداء من اللّه، هو إبداء ما خفيَ على العباد، غير أن تلقّي المخاطب هو البدء والظهور الجديد.

فعلى هذا فيكون قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «بدا للّه» مجازاً، نظير قوله تعالى: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)(10). ومن المعلوم أنّ المجاز من أوسع أبواب البلاغة في اللغة العربية.

وهناك وجه آخر، وهو أن اللاّم في قوله تعالى: «للّه» بمعنى من، فقوله: «بدا للّه» بمعنى: بدا من اللّه للناس، يقول العرب: قد بدا لفلان عمل صحيح، أو بدا له كلام فصيح، كما يقولون: بدا من فلان كذا، فيجعلون اللاّم مقام «من»، فقولهم: بدا للّه أي بدا من اللّه سبحانه.(11)

وعلى كلّ تقدير، فسواء أصحّ التعبير أم لم يصحّ، فالملاك هو المحتوى، لا العبارة.
وقد بسطنا الكلام في هذا الموضوع في كتابنا: «الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف: 3/317 ـ 338». ولا يسع المقام لنقل عُشر ما أوردناه هناك.

المسألة الثالثة: مسألة الرجعة

الرجعة عبارة عن رجوع قوم ممّن تقدّم موتهم إلى الحياة الدنيا، وذلك عند قيام الإمام المهدي المنتظر (عليه السلام)، وقد وردت روايات في هذا الموضوع، وهو ليس أمراً محالاً، ولا بديعاً، بل قد دلت على وقوعه عدد من آيات الذكر الحكيم:

1. قال تعالى: (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّة فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ).(12)
والموضوع في الآية هو حشر فوج من كلّ أُمة، لا حشر الأُمم جميعاً الّذي يتحقّق في القيامة.

أضف إلى ذلك أن الذكر الحكيم دلّ على رجوع عدد من الناس إلى الحياة الدنيا:
2. قال تعالى: (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَة وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ مِائَةَ عَام ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْم قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَام فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ)(13)

وليس هذه الآية هي الوحيدة في المقام، فإنّ إحياء جماعة خرجوا من ديارهم خوفاً من الموت،(14) وإحياء المقتول من بني إسرائيل،(15) من هذه المقولة.

المسألة الرابعة: مسألة التقيّة

التقيّة معرفة قرآنية شهد بها قسم من الآيات الكريمة:

1. تقيّة مؤمن آل فرعون
قال تعالى: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ)(16)

2. قال تعالى: (لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيء إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ)(17).

3. قال تعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)(18).

فقد ذكر المفسرون أنها نزلت في عمار بن ياسر حيث عذبه المشركون حتى يكفر بمحمد، فوافقهم على ذلك مُكرهاً، وجاء معتذراً إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأنزل اللّه هذه الآية.(19)

وأقصى ما يمكن أن يقال هو أن مورد الآية هو اتقاء المسلم من الكافر، دون اتقاء المسلم من المسلم، ولكنّ الجواب واضح فإن المورد ليس بمخصّص، فإنّ الغرض من تشريع التقية هو صيانة النفس والنفيس من الشّرّ، فإذا ابتلي المسلم بأخيه المسلم الذي يخالفه في بعض الفروع ولا يتردد الطرف القوي في إيذاء الطرف الآخر، ففي تلك الظروف الحرجة لا مناص للمسلم الضعيف من اللجوء إلى التقية لصيانة نفسه ونفيسه، وهذا ممّا صرّح به علماء الإسلام في تفسير الآية،

ونقتصر هنا على ثلاث كلمات لكبار المفسرين:

1. قال الإمام الرازي في تفسير قوله سبحانه:(إلاّ أنْ تتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) ظاهر الآية على أنّ التقية إنّما تحلّ مع الكفّار الغالبين، إلاّ أنّ مذهب الشافعي هو أنّ الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والكافرين، حلّت التقيّة محاماة عن النفس.

وقال: التقيّة جائزة لصون النفس، وهل هي جائزة لصون المال؟ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقوله(صلى الله عليه وآله وسلم): «حرمة مال المسلم كحرمة دمه» وقوله(صلى الله عليه وآله وسلم):«من قتل دون ماله فهو شهيد».(20)

2. قال الإمام مرتضى اليمانيّ المعروف بإبن الوزير في كتابه «إيثار الحقّ على الخلق» ما هذا نصه: «وزاد الحق غموضاً وخفاءً أمران: أحدهما: خوف العارفين ـ مع قلّتهم ـ من علماء السوء وسلاطين الجور وشياطين الخلق مع جواز التقيّة عند ذلك بنصّ القرآن، وإجماع أهل الإسلام، وما زال الخوف مانعاً من إظهار الحقّ، ولا برح المحقّ عدوّاً لأكثر الخلق، وقد صحّ عن أبي هريرة أنّه قال في ذلك العصر الأوّل: «حفظت من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وعاءين، أمّا أحدهما فبثثته في الناس، وأمّا الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم».(21)

3. قال العالم الأزهري أحمد مصطفى المراعيّ ويدخل في التقية مداراة الكفرة والظلمة والفسقة، وإلانة الكلام لهم، والتبسّم في وجوههم، وبذل المال لهم، لكفّ أذاهم وصيانة العرض منهم…(22)

وحصيلة الكلام: إن التقية سلاح الضعيف في مقابل الخصم الغاشم القوي الّذي لا يرحم، ولو سادت الحرية، لما اتّقى أيّ ابن انثى، فالتقية أمر تقضي به فطرة الإنسان في كل عصر تُصادر فيه الحرية، فلم يجد مسلوب الحرية إلاّ اللّجوء إلى التقية.
إن خروج الكاتب عن موضوع الرسالة لا ينحصر بالامور الأربعة، بل هو أطال الكلام في مواضيح لا تمتّ إلى موضوع كتابه بصلة.

تطويل بلا طائل

تقدّم الإيعاز إلى أنّ الكاتب الموضوعيّ لا يخرج عن حدود الموضوع إلا لضرورة، وإلاّ صار التأليف من مقولة «تطويل بلا طائل»، وممّا يؤسف له أن مؤلف كتاب «المدرسة التفكيكية الشيعية المعاصرة» لم يتبع تلك الضابطة، ونهج منهج من يتنقل من غصن إلى غصن دون صلة واضحة بين المواضيع الّتي تطرّق إليها.

وإن كنت في شكٍّ من ذلك، فلاحظ: طريقة تعاطية للموضوعات التالية:
أ. الإمامة عند الإثني عشرية، وأنها أصل الدين وركنه الأهمّ.
ب. مات الإمام الحادي عشر، فافترضوا وجود ابن له، وأنّه تولّد وغاب.
ج. قضية غيبة المهدي (عليه السلام) سبب ظهور الاتجاه التالي، أعني ولاية الفقيه، الّتي بلغت أوجها على يد الخمينيّ.

ثم إنّه بعدما جال في هذه المواضيع انتقل إلى أمر رابع وهو:
موقف المدرسة التفكيكية من ولاية الفقيه.

فنقول ما هي الصلة بين دراسة المدرسة التفكيكية وما تقدّم من المواضيع الثلاثة، فلو صحّ هذا النوع من الترتب لصحّ ترتب مسائل أُخرى، بأن يقال:

موقف الأخباريين من ولاية الفقيه، فإنّ المدرسة الأخبارية نظيرة المدرسة التفكيكية في عدم حجّية العقل مطلقاً أو العقل الفلسفي.

بل يمكن أن يقال ما هو موقف الذين يقولون بعدم حجّية الخبر الواحد من ولاية الفقيه.
كلّ ذلك يُعرب عن أن الكاتب بصدد إطالة الكلام.

وهناك مناقشة تعرب عن أن المؤلف لم يفهم ولم يدرك ولاية الفقيه عند الشيعة الإمامية، حيث زعم أن الفكرة تولّدت في زمان الغيبة أي بعد ما غاب الإمام الثاني عشر، وواجه العلماء مسائل فقهية، اجتماعية، سياسية، فصار ذلك سبباً لإيجاد فكرة ولاية الفقيه.

أقول: إنّما يقول ذلك من لم يقرأ صفحة واحدة من أدلّة ولاية الفقيه، فإنّ الفقيه الجامع للشرائط صار منصوباً لهذا المقام في عصر الإمام الصادق (عليه السلام) (83 ـ 148 هـ) وذلك أنّ الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) كان مقيماً بالمدينة المنوّرة، وكان الشيعة متفرّقين في أمصار بعيدة، فصار الفقيه الجامع للشرائط في ذلك العصر ذا ولاية، حيث يتصدى للأمور الحكومية والقضائية، وإليك ما قاله الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: «انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فارضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا ولم يقبله منه، فإنما بحكم اللّه استخفّ، وعلينا ردّ، والرادّ علينا رادّ على اللّه، وهو على حدّ الشِّرك باللّه»(23).

وليست هذه الرواية منفردة في موضوعها; بل لها نظائر ربّما تبلغ عشر روايات، فلو أراد الكاتب أن يقف على أدلة ولاية الفقيه فليرجع كتابنا «أحكام البيع في الشريعة الإسلامية الغرّاء: 2/162 ـ 200).

وفي نهاية المقال، نعطف نظر الكاتب إلى أمر مهمّ، وهو:
أن فقهاء مذهب أهل البيت(عليهم السلام)مجمعون على ولاية الفقيه من غير فرق بين الأخباريين والأُصوليين والتفكيكيين وغيرهم، غير أن الاختلاف هو في مساحة الولاية وصلاحيات الفقيه.

***
عدم اختصاص النزاع بالشيعة

نبدأ كلامنا بالمثل المعروف: «رمتني بدائها وانسلّتِ» إن اسم الكتاب هو «المدرسة التفكيكية الشيعية المعاصرة» يوهم بأن نظرية التفكيك تختص بالشيعة، مع أن هذا العنوان (التفكيك) بمفهومه وواقعه موجود عند علماء السنّة، ففكرة التفكيك لا تختصّ بطائفة دون طائفة، بل هي موجودة على صعيد عامّ، بيان ذلك:

إن دعاة التفكيك يرفضون حجّية العقل الفلسفي في المعارف الإلهية فقط وفي الوقت نفسه يحتجّون بحكم العقل في مجال التحسين والتفبيح، فإنّ مؤسس منهج التفكيك فقيه أُصولي يحتجّ في الفقه وأُصوله بالتحسين والتقبيح.

وأما أهل الحديث والأشاعرة فرفضوا حجيّة العقل مطلقاً في المجالين: النظريّ والعمليّ.

توضيحه:
إنّ الفلسفة وإن شئت قلت: الحكمة إمّا نظرية أو عملية.

أمّا الأُولى، فيراد منها دراسة طبايع الأشياء وعللها ومعاليلها إلى أن تنتهي إلى الواجب عزّ اسمه.

وأمّا الثانية فيراد منها دراسة حُسن الأفعال وقُبحها، وما يجب أن يفعل وماذا يفعل، من غير فرق بين كون الفاعل ممكناً أو واجباً.

إذا تبيّن ذلك فنقول: أمّا الحكمة النظرية فأهل الحديث والأشاعرة يفرّون من الاحتجاج في المعارف الإلهيّة بالعقل فرار المزكوم من المسك، وما في البيت التالي هو منطقهم في كتبهم الدراسية:
ومَن يقل بالطبع أو بالعلّة *** فذاك كفر عند أهل الملّة

وأما الثانية فهؤلاء رفضوا أيضاً الاستدلال بالعقل في ذلك المجال، وأوضح دليل على ذلك أنهم قالوا بأنّ الإنسان مسيّر لا مخيّر، وأنه يجوز التكليف بما فوق القدرة، وأجازوا على اللّه أن يأمر بأيّ شيء، وينهى عن أيّ شيء، بناءً على نفيهم التحسين والتقبيح العقليين، ونفيهم الحِكَم والغايات، وعلى ذلك فالشِّرك عندهم ليس قبيحاً في ذاته وسائر المحرّمات كذلك، وإنّما اكتسبت صفة القبح بنهي اللّه عنها، ولو أمر اللّه تعالى بالشِّرك وبسائر المحرّمات لكانت حسنة، وجوّزوا على اللّه ذلك،

كما أنهم يرون أنّ التوحيد وسائر الطاعات ليست حسنة في ذاتها، وإنما اكتسبت صفة الحسن بأمر اللّه بها، ولو نهى اللّه تعالى عن التوحيد وسائر الطاعات لكانت قبيحة، وأجازوا عليه ذلك، كما أجازوا على اللّه فعل كلّ شيء ممكن لذاته، فله أن يعذّب أنبياءه وأولياءه ويجعلهم في سجّين، وينعّم شياطين الإنس والجنّ ويجعلهم في علّيين، ويكون ذلك عدلاً وحسناً، وذلك بناءً على نفيهم الحِكَم والغايات»(24)

مع أن حكم العقل في هذه المواضيع على خلاف ما قالوا به. وعلى هذا فأهل الحديث والأشاعرة أشدّ في التفكيك من أصحاب التفكيك في الشيعة، فالطائفة الأولى عزلوا العقل مطلقاً وأما الثانية فإنّما عزلوه في الجانب النظريّ، وهم يطلقون العقل ويريدون به الفلسفة اليونانية، فالمورد من مصاديق: يرى في عيني القذى، ولا يرى في عينه الجِذع.

وبذلك ظهر أن إقحام عبارة «الشيعية المعاصرة» في عنوان البحث واسم الكتاب شيء زائد، بل البحث لا يختصّ بالشيعة ولا بغيرهم فقط.

المنهج الأخباري لا يختصّ بالشيعة

إن التمسك بالأخبار فقط وعدم حجّية الكتاب لا يختصّ بالشيعة، بل هو قائم في غير الشيعة، فإنّ ما يفترق به الأخباري عن الأُصولي هو عدم حجية الكتاب المجيد في الفروع إلا بالسنّة، فيمكن أن يقال: إن كلامهم ناظر إلى أن التمسك بالمطلقات والعمومات الواردة في الكتاب رهن الفحص عن المخصِّص والمقيِّد الواردين في السنّة، فالذكر الحكيم حرّم الربا على وجه الإطلاق، وقال: (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)(25) ولكن في السنّة الشريفة لا ربابين الزوج وزوجته.

ولو قيل إنّ كلامهم ناظر إلى غير هذا المورد، وإنّهم يقولون إنه لا يصحّ الاستدلال على الحكم الشرعيّ بالقران إلا بمساعدة السنّة،

فنقول: إن هذا المنهج نفسه موجود في المدرسة السنّية، وهاك مثالاً على ذلك:

قال أبوبكر البيهقي: والحديث الّذي روي في عَرض الحديث على القرآن، باطل لا يصحّ، وهو ينعكس على نفسه بالبطلان، فليس في القرآن دلالة على عرض الحديث على القرآن.(26)

وقال الإمام الاشعري في عقائد أهل الحديث وأهل السنة: إنّ السنّة لا تُنسخ بالقرآن، وقال: السنّة تنسخ القرآن وتقضي عليه، والقرآن لا ينسخ السنّة ولا يقضي عليها.(27)

ونقل ابن عبدالبرّ عن مكحول والأوزاعي أنهما قالا:
القرآن أحوج إلى السنّة، من السنّة إلى القرآن.
وهكذا قال البر بهاريّ في كتابه «شرح السنّة»(28)

فهؤلاء عند التعارض بين ما يدلّ عليه القرآن و ما تدلّ عليه السنّة، يأخذون بالسنّة القاضيّة، لا بالقرآن.

وأيّ كلام أظهر من قولهما: القرآن أحوج إلى السنة، من السنّة إلى القرآن.

نعم، هنا فرق واضح بين الطائفين وهو أنّ المنهج الأخباري قد قضى عليه الزمن ولم يبق منه إلا لون باهت، بخلاف منهج أهل الحديث وحتى الأشاعرة، فهم على تقديم السنّة على القرآن، وعدم صحة الاحتجاج بالقرآن بلا سُنّة.

فعن عبدالرحمن بن مهدي، قال: الزنادقة والخوارج وضعوا ذلك الحديث ـ يعني ما روي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: (ما أتاكم عنّي فأعرضوه على كتاب اللّه، فانّ وافق كتاب اللّه فأنا قلته، وإن خالف كتاب اللّه فلم أقله، وإنما موافق كتاب اللّه وبه هداني اللّه».

وهذه الألفاظ لا تصحّ عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) عند أهل العلم بصحيح النقل من سقيمه.(29)
وموضع الحديث هو الرواية المخالفة للقرآن.

هذا ما نقدمه إلى الكاتب عسى أن يصحّح مواضع الخطأ ولا يعتمد في بيان عقيدة الشيعة على رماة القول على عواهنه، فإنّ كتابه حافل بالنقل عنهم.
***
تمت الرسالة صبيحة
يوم الاثنين 13 محرم الحرام 1445 هـ
والحمد لله الّذي بنعمته تتم الصالحات
جعفر السبحاني

 

الهوامش

1: منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر: 2/371 ـ 392; ولاحظ: تقديمنا لكتاب «مناظرات شيخ الشريعة مع محمود شكري الآلوسي: الصفحة 10 ـ 31.
2: دفاع عن الكافي: 1/569 ـ 592.
3. انظر الصفحة: 135، من الكتاب.
4. الرعد: 11.
5. الصافات: 143 ـ 144.
6. الرعد: 39.
7. لمزيد من الاطلاع، راجع تفسيرنا: منية الطالبين في تفسير القرآن المبين: 15/152.
8. الدر المنثور: 4/661.
9. اقرأ بقية الحديث في صحيح البخاري: 4/172، كتاب الأنبياء، باب حديث أبرص وأعمى وأقرع في بني إسرائيل.
10. الأنفال: 30.
11. لاحظ: أوائل المقالات: 53.
12. النمل: 83.
13. البقرة: 259.
14. انظر: الآية 243 من سورة البقرة.
15. انظر: الآيتين 72 و 73 من سورة البقرة.
16. غافر: 28.
17. آل عمران: 28.
18. النحل: 106.
19. لاحظ: تفسير ابن كثير: 2/587.
20. مفاتيح الغيب: 8 / 13 في تفسير الآية.
21. إيثار الحق على الخلق: 141 ـ 142، دار الكتب العلمية ـ بيروت الطبعة الثانية، 1407 هـ . ومعنى ذلك أنّ أبا هريرة اتّقى وترك الواجب، أي لم يبثّ قسماً من حديث الرسول تقية وحفظاً لنفسه.
22. تفسير المراغي: 3/136.
23. الكافي: 1/67 باب اختلاف الحديث من كتاب فضل العلم، الحديث 10.
24. لاحظ: موقف المتكلمين: 1/331.
25. البقرة: 275.
26. دلائل النبوّة: 1/26.
27. مقالات الإسلاميين: 1/324، وج 2/251.
28. انظر: طبقات الحنابلة: 2/25.
29. دلائل النبوّة: 1/26.
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky