الاجتهاد: السؤال: نحن في هذه الأيّام في انتظار عاشوراء الحرام، فما هو المفروض تحقّقه من عاشوراء؟ وما هو المتحقّق حالياً؟ وجزيتم خيراً (جعفر الزنكي،البصرة، العراق).
الجواب: نعيش اليوم في عصر نحتاج فيه بشدّة إلى كلّ مفهوم يمكنه أن ينهض بالأمّة، ولا يجوز لنا التفريط بأيّ مفهوم ناهض، فكلّ مفهوم من تراثنا له قدرة التأثير النهضوي فهو ضروري، وكلّ مفهوم معطّل له قدرة التثبيط وبث اليأس والخمول فهو ضارّ، من هنا وعندما ننظر إلى المناسبة العاشورائية السنوية نجد أنّ لديها قدرات كبيرة على تقديم مفاهيم نهضويّة تحتاجها الأمّة اليوم أيّما حاجة، ولعلّ من أجلى هذه المفاهيم ما يلي:
المفهوم الأّول: مفهوم المفاصلة مع الظلم واللاشرعية، فإنّ هذه الثورة الحسينية يمكنها لو وظّفناها توظيفاً صحيحاً أن تمدّنا بمفهوم بالغ الأهميّة اليوم. إنّه المفاصلة مع اللاشرعية، هي تقول لي: لا يمكن أن أنضوي تحت لواء غير شرعي، يجب أن أبحث عن انتماء مشروع في قضاياي السياسية والاجتماعية وغيرها. لا يمكن أن أعيش المخالطة مع الظلم طالما كانت لديّ القدرة على الوقوف في وجهه بإعلان مقاومته والتبرّي منه، ولو لم أتمّكن من تغيير الواقع كلّه.
عندما يكون الحسين عليه السلام مستعدّاً لهجر الوطن (المدينة المنوّرة) لأجل رفض الخضوع لما هو غير شرعي، ولأجل تصويب الانتماءات، فهذا يعني أنّه من الممكن أن يكون من واجبي أن أتقبّل النفي باختياري والهجرة عن موطني أو أسرتي أو عائلتي أو محيطي كخطوة حصريّة لإعلان مفاصلتي مع الانحراف الاجتماعي والسياسي.
لهذا ستبدو مفارقة غريبة عجيبة الجمع بين الروح الحسينية وبين الرضا بالظلم واللاشرعيّة. عندما نشارك اليوم في مجالس الحسين عليه السلام فعلينا أن نسأل أنفسنا ونحن نرجع إلى بيوتنا سؤالاً: أين أنا من قضايا الظلم اليوم في العالم؟
وما هي مساهماتي؟ ماذا فعلت ـ بحدود إمكاناتي ـ ضدّ ظلم الإنسان المستضعف، وضدّ الاحتلال، وضدّ الطبقية الجائرة، وضدّ ظلم الطفولة، وضدّ العدوان على المرأة، وضدّ سلب الحقوق، وضدّ استغلال السلطة والموقع، وضدّ تعمية الحقائق، وضدّ التجهيل، وضدّ الفساد المالي، و.. وأين أنا من الشعارات التي أطلقها الحسين عليه السلام؟
وفي هذا السياق يصبح الحسين قيمةً إسلاميّة عامّة يلتقي عليها جمهور المسلمين، لاسيما منهم من يؤمن ـ من حيث المبدأ ـ بثقافة الخروج أو الرفض مثل الإمامية والإسماعيلية والزيدية والإباضيّة والتيارات الجهادية (المعتدلة)، بل يصبح قيمة إنسانيّة تصل إلى اليسار الجديد في عصرنا الحاضر ولو كان خارج الاطار الديني، وبهذا نخرج حركة الإمام الحسين من أن تكون صراعاً شخصيّاً أو قبليّاً أو عشائريّاً أو أسريّاً أو طائفيّاً، لتصبح صراعاً دينيّاً إسلاميّاً إنسانيّاً أخلاقيّاً ضدّ كل انحراف في الداخل والخارج، مهما كان ثوبه.
المفهوم الثاني: مفهوم التضحية والشهادة، هذا المفهوم الذي يقدّم لي أولوية الأمّة على الفرد، وأولوية الإسلام على المسلم، وأولوية الوطن على الذات، شخصٌ بهذه المكانة يقدّم نفسه وأهل بيته قرابين لله تعالى في سبيل تصحيح مسارات أمّة، وفي سبيل الإصلاح الديني والاجتماعي والأخلاقي والمفاهيمي و..
يريد أن يقول لنا بأنّ كلّ شيء يمكن أن يرخص أمام القضايا الكبرى، والتي منها الأمّة نفسها ومصالحها العامّة. مفاهيم من نوع التفاني والإيثار والتضحية والبذل والعطاء والشهامة ونكران الذات كلّها يمكن أن نثوّرها في حدث بارز من هذا النوع، ليس على مستوى السرد القصصي لقصّة التفاني فقط، بل على مستوى الربط الواقعي بين القصّة بوصفها تاريخاً وبين المفهوم الأخلاقي والديني بوصفه قيمةً قائمة باستمرار في حياة الإنسان وحاجةً ملحّة.
إنّ استذكارك الحسين يعني استذكار هذه المجموعة المتماسكة من هذه القيم، وإعادة تظهيرها بصورة عصرية قادرة على تحريك الراكد من واقعنا وخلق نفوس عصاميّة يمكنها أن تزهد بكلّ شيء في سبيل القضايا الكبرى للأمّة والدين.
وكلامي هذا ليس تنظيراً في الهواء الطلق، بل لقد شهدنا واقعه في تجارب حقّقت نجاحات كبيرة مستعينةً بمفاهيم الثورة الحسينية، مثل أكثر من حركة جهادية ضدّ الاحتلال الإسرائيلي وضدّ الأنظمة الفاسدة.
ماذا تعني لنا تلك الوصايا التي سمعناها أو قرأناها لشهداء الجهاد ضد الكيان الصهيوني الغاصب؟ ألم نسمع فيها دوماً اسم الحسين وزينب والأصحاب؟ هذا يعني أنّ الوعي الجهادي والاستشهادي صار مندمجاً بوعي التاريخ الحسيني، وأنّ أشخاصاً مثل الإمام الخميني والإمام محمد باقر الصدر والإمام موسى الصدر وغيرهم نجحوا في توظيف الثورة في خلق وعي واقعي زمني متواصل لها، فمفاهيمها لا تنفصل عن تضحياتنا اليومية، وعن الشهداء وعوائلهم الصامدة. ونحن مسؤولون عن ديمومة هذا الوعي وعدم تلاشيه.
المفهوم الثالث: فاعلية المرأة، فالحدث الزينبي وما حاطه من وقائع نسويّة هو بالتأكيد رسالة ضمنيّة للنصف الآخر من المجتمع أنّ بإمكانك أن يكون لك دور في اللحظات الحرجة على الأقلّ، فعندما أقدّم في المشهد التاريخي دور المرأة في لحظات الانهيار بشكل معاكس تماماً للنواح والعويل، ليبدو وكأنّه عصامية غير عادية، تقف في وجه أكبر حكّام العصر ـ عنيت يزيد بن معاوية وغيره من رجالاته ـ فهذا يعني أنّ المرأة ليست وظيفتها في الحياة النوح على القتلى من الرجال، بل خلق الحدث في لحظات الحزن، الحدث الإعلامي والسياسي والاجتماعي، هذا مفهوم بالغ التأثير اليوم يمكنه النهوض بالمرأة لتلعب دوراً في لحظات الشدّة، بدل أن نعلّمها النحيب واللطم على الوجه على ما افتقدت من أسرة وعيال.
إنّ الثورة الحسينية هنا تعيد تظهير المشهد بصورة مختلفة، فقد كان من المتوقّع أن تنهار تلك المرأة (زينب) وكلّ من معها من نسوة وبنات، لكنّ الأمور وقعت بطريقة مختلفة تماماً، هذا يعني أنّ المرأة في عصرنا إذا أرادت أن تمثل الدور الزينبي فعليها في لحظات الشدّة التي تمرّ بها أمتنا اليوم أن تستنفر طاقاتها في رباطة جأش ليكون لها دورها في الفعل والتأثير، لا أن نطالبها بالسكوت والخضوع والجلوس في البيت لا دور لها في الوقوف بوجه الظلم والعدوان والاحتلال والاغتصاب للأرض والعرض والوطن والقيم والمفاهيم.
المفهوم الرابع: الشجاعة، ولا أقصد بالشجاعة تلك الصفة الفردية فقط بما لها من تطبيق محدود، بل أعني مواجهة أزمة الإرادة في الفرد والجماعة والأمّة، ففي كثير من الأحيان لا يواجه الفرد أو الأمّة أزمة معرفة؛ لأنّ الأمور واضحة، بل يواجه أزمة إرادة وأزمة شعور بالخمول اللامتناهي، إنّها أخلاقيات الهزيمة أو موت الضمير كما كان يسمّيها السيد محمد باقر الصدر، عندما تتغلغل في الأمّة تنهي أمرها إلى الأبد، فكلّ واحد يرصد مصالحه ويبني علاقاته تبعاً لها، وعندما تتشابك العلاقات يصعب عليه الفرار من قبضتها.
إنّ شجاعة الحسين وأصحابه وأهل بيته سلام الله عليهم تكمن في وجود إرادة وسط إحباط عام في الأمّة، هذا موضوع جادّ، الحديث عن خلق إرادة وسط مناخ إحباط وخمول وتكاسل عامّ شيء مهم للنهوض، وشيء ليس بسهلٍ أبداً، وهذا هو ما يقوم به المصلحون عبر التاريخ.
ألا يمكنني بهذه الثورة العظيمة أن أعيد إنتاج مفهوم الإرادة المقدّسة والحديث عن مكوّناته وكيفيات صنعه وتأثيراته ونتائجه وغير ذلك؟! بالتأكيد يمكن ولديّ الكثير من المواد التاريخية الخام في هذه الثورة التي تساعدني في توظيفها لهذا الغرض الشريف.
هنا يظهر مفهوم «قلوبهم معك وسيوفهم عليك» أو مفهوم «قلوبهم معك وسيوفهم في أغمادها»، حيث تهيمن ثقافة التثبيط بلغات متعدّدة، يقولون لك: لا فائدة من العمل؟ أمّة لن يصلح أمرها؟ شعوبنا لن تستجيب؟ لن تجرّ سوى الويلات على نفسك والنقد والتجريح والهجوم والاعتداء.
هذه هي نفس الثقافة التي احتواها الحوار التاريخي بين الإمام الخميني وأحد العلماء البارزين رحمهما الله، وعلى أبعد تقدير يتكلّم المثبّطون بلسان الحرص على الحسين عليه السلام: لا تخرج فإنّك مقتول، لا تخرج فسوف يغدر بك أهل الكوفة، لا تخرج…
المفهوم الخامس: صدق الولاء أو السلامة الأخلاقية للانتماء، هذا موضوع ضروري جدّاً، فقد رأينا الكثير من الحركات الدينية وغير الدينية كيف عانت من النفعيين والوصوليين في صفوفها، ورأينا كيف يمكن للشخص الضعيف أن يحرف ولاءه من جهة إلى جهة ثانية تحت ضغط الواقع والمصالح الخاصّة.
إنّ تجربة أصحاب الحسين وأهل بيته عليهم السلام تعطي درساً رهيباً في صدق الولاء، ليس بمعنى التضحية فقط، بل بمعنى أنّني عندما أنتمي لفكر أو عقيدة أو مدرسة أو تيار ما في الدين أو الاجتماع أو السياسة فإنّني صادق الولاء سليم الانتماء، وهذا يعني أنّني مخلص لهذا الاتّباع الواعي، ولست وصولياً أو متخلّياً في لحظة حسّاسة عن ولائي هذا.
إنّ صناعة مجموعة مخلصة يبقى ضرورة عظيمة لقيامة أمّة ونهضة وكيان، فما لم تكن هناك مجموعة مخلصة صادقة فإنّ السواد الأعظم يمكن أن تضيع به السبل عبر تحريكه بأيدي المنافقين والوصوليين. إنّ الحركة الإسلامية والنشاط الديني معنيٌّ اليوم بصنع الصدق في الولاء؛ لأنّ هذا الصدق الذي يقوم على مجموعة مفاهيم عقدية وإيمانية وأخلاقية وتربوية يمكن أن يشكّل ضمانة سلامة المسيرة وعدم انحرافها في المستقبل، وهو ما تستطيع السيرة الحسينية أن تساهم في زرعه في الثقافة الاجتماعية العامّة.
المفهوم السادس: الصبر وعدم استعجال النتائج، فكثير منّا لا يصبر للوصول إلى الهدف، وكم من مشروع أجهضناه لأنّنا لم نعطه الوقت الكافي والطبيعي لكي يُنتج ثماره، فحالنا حال مزارعٍ جاهل قطع أشجاره في الشتاء؛ لأنّها لم تثمر، ولم ينتظر إلى الربيع أو الصيف كي يرى الثمر الطيّب.
نحن عجولون، نحرق المراحل ونستعجل النتائج وإلا أصبنا باليأس والإحباط، ونحسب أعمار الشعوب والأمم على عمر الفرد العادي، فالفرد العادي يحتاج لعشرين سنة حتى يصبح في عنفوان شبابه، لكنّ الأمم قد تحتاج أحياناً لخمسين أو سبعين سنة أو أكثر حتى تصل إلى هذه المرحلة.
إنّ ثورة الحسين عليه السلام تعلّمنا أنّ النتائج قد لا تكون في حياتك، بل قد تكون بعد رحيلك. إنّها تعلمنا أحياناً أنّ رحيلنا مقدّمة لتغيّر الأوضاع، وأنّ ثورةً وقعت في 61هـ آتت ثمارها بعد عقود وما تزال.
يقولون بأنّه عندما سئل الإمام الخميني: كيف يمكن لك أن تسقط الشاه؟ وهل لك بهذا طاقة وقوّة وفرصة ووقت وأنت في هذا العمر؟ قال بكلّ هدوء: إذا لم أوفّق فسيأتي الجيل اللاحق ليكمل المسيرة.
هذا مفهوم بسيط لكنّه منتج وناهض، نحن العرب بالخصوص مصابون ـ كبني الإنسان ـ بالعجلة، نؤسّس مشروعاً ونريد نتائجه في الغد. نفكّر بطريقة التاجر الذي يربح في صفقة واحدة، ولا نفكّر بطريقة العامل الذي يربح بالتدريج.
هذه كلّها مفاهيم معطّلة ومعيقة للنهوض، ويمكن للسيرة الحسينية اليوم أن تساعدنا على تفتيت هذه المفاهيم من وعينا الاجتماعي، وخلق نفوس قويّة صابرة غير مستعجلة، تسير ببطء متواصل بدل أن تسير بعجلة متقطّعة. إنّ خطابات السيدة زينب فيها ما يشير إلى المستقبل، وأنّ القضية ليست في هذا النهار فقط، وإنّما في المستقبل الذي ننظر إليه بعيون أخرى.
المفهوم السابع: مفهوم الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على المستوى الاجتماعي والسياسي العام، كما جاء في خطبة الإمام الحسين عليه السلام التي حدّد فيها أهداف الثورة والخروج، وليس إبقاء الإصلاح في إطار الفرد، ولا حصر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في إطار التدخّل لمنع أغنية يضعها سائق أجرة في سيارته أو شعر من مقدّم الرأس يظهر من امرأةٍ في الطريق.
إنّه تحويل مسارات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وثقافة مفهوم الإصلاح من الأبعاد الفردية إلى الأبعاد العامّة المجتمعيّة، إلى الإعلام والثقافة والتربية والتعليم والسياسة والاقتصاد والظلم الطبقي وسوء الاستهلاك وتبديد الثروات وغير ذلك. لقد كان هذا هو الخلاف بين الإمام الحسين وبعض الصحابة في عصره.
وعندما تفكّر الأمّة ـ بقواعدها ونخبها ـ بهذه الطريقة فيمكن لنا أن نتصوّر النهوض والبناء والقيامة، أمّا لو حصرنا الوظائف بالنمط الفردي وتخلّينا عن فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح العام في المجتمع، ودخلنا في نهج اللاأبالية فلن نتمكّن من الإمساك بزمام أمورنا يوماً.
المفهوم الثامن: مفهوم إنسانيّة الدين وإنسانيّة الحرب، وهو المفهوم الذي تجلّى في غير موقع في المسيرة الحسينية، في ثقافة العفو وقبول التوبة مع الرياحي، وفي ثقافة الماء وتوزيعه على الأعداء، في مقابل الثقافة غير الإنسانية التي انتهجها الخصوم، وهنا يمكن التركيز على تأثيرات الثقافة الإنسانية في الدين من خلال تأثيرها في الحرّ بن يزيد الرياحي وغيره.
إنّ لغة الحسين ولغة خصومه هي لغة الإنسان ولغة الوحش القابع في النفس الإنسانيّة، فأيّ مراجعة للنصوص من كلا الطرفين سوف تعطينا هذا الأمر، وقد جاء في الحديث عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام مخاطباً عمار بن أبي الأحوص: «أما علمت أنّ إمارة بني أمية كانت بالسيف والعسف والجور، وإنّ إمارتنا بالرفق والتألّف والوقار والتقية وحسن الخلطة والورع والاجتهاد، فرغّبوا الناس في دينكم وفيما أنتم عليه» (الخصال: 354 ـ 355).
كم نحن بحاجة اليوم لما بات يسمّى بـ «إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين»، حيث بتنا نشهد تديّناً عدوانيّاً صدامياً لا يعرف الرحمة ولا الشفقة ولا المودّة ولا الرقّة، حريّ بنا أن نستخرج إنسانيّات الثورة الحسينية لنضيء عليها مقدّمةً لإحياء النزعة الإنسانيّة في حياتنا.
المفهوم التاسع: مفهوم القيادة الصالحة، حيث أراد الحسين عليه السلام فضح زيف القيادة غير الصالحة ولو كان من حولها من ينسج لها التبريرات الدينية ويبايعها على السمع والطاعة. لقد رفض الحسين تبريراتهم، وقال لهم بأنّ مثل هذا الإنسان لا يمكن أن يتولّى منصب خلافة الرسول الأعظم صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم.
حركة الحسين تفرض عليّ النظر في زماني، ففي هذا العصر أيضاً يزيدٌ وحسين، وذلك عندما أؤمن باستمراريّة المفاهيم التي بعثت ثورة الحسين، وعَليَّ أن أبحث عن يزيد لأواجهه وأرفضه، وعن الحسين لأنتمي إليه، فالحسين ليس تاريخاً فقط، بل هو واقعٌ إنساني مستمرّ في صراع البشر، وفي صراع الميول والقيم، ليس في السياسة والسلطة العسكرية والأمنية فحسب، بل في الاقتصاد، وفي الاجتماع، وفي حياتنا المدنية، وفي عيشنا الديني، توجد نماذج متنوّعة يزيدية وحسينيّة، وعندما أبكي الحسين فإنني أبكي واقعاً مؤلماً لتكون دمعتي شعلةً للتغيير نحو الأفضل، وإلا فسيكون من التناقض أن أبكي الحسين في التاريخ وأوالي يزيد العصر في الحاضر والمستقبل.
المفهوم العاشر: مفهوم العقل المبدئي في مقابل العقل البراغماتي النفعي، لقد قلت يوماً الجملة التالية: «يوماً ما لم أفهم بعقلي البراغماتي (فقه المصلحة القائم على نظرية التزاحم) تصرّفات بعض الشخصيات الكبرى كالإمامين علي والحسين عليهما السلام، لكن عندما عايشت تجارب الانحراف الأخلاقي المجتمعي الذي يقع داخل الوسط الديني بحجّة المصلحة والضرورات، أدركت أنّ بعض الخطوات المنتفضة على الواقع والمتصادمة معه لا تحتاج لأن تكسب نتائجها المصلحيّة، بقدر ما يكفيها أن تهزّ الوجدان، وتخلق شعوراً بعدم الرضا عن الأنا الفردية والاجتماعية.
يجب أن لا يبقى الانحراف متنعّماً بسكينة باطنية ومتحرّراً من عذاب الضمير، هذه خطوة مهمّة للتغيير المستقبلي، حتى لو لم يقع التغيير أساساً في لحظتك» (إضاءات في الفكر والدين والاجتماع 2: 577).
كثيرون عابوا ضعف السياسة عند الإمام علي والإمام الحسين عليهما السلام، لكنّني أجد أنّ الثبات على المبدأ ولو بطريقة حادّة، يظلّ ضرورة أحياناً لاسيما في المناخ الديني؛ لأنّ هيمنة الثقافة المصلحية التي توازن المصالح ـ ولست ضدّ فقه المصلحة من حيث المبدأ ـ قد يقدّم المبادئ يوماً ما قرابين على مذبحها، وهذه نقطة خطرة، فحركة علي والحسين هي حركة المبدأ حيث يحتاج إلى صدمة وإلى زوايا محدّدة كي يبقى في الذاكرة الجماعية وفي الضمير المدفون، مقابل حركة المصلحة التي قد تذيب كلّ شيء بزواياها المدوّرة لأجل حساباتها الخاصّة، ولو كانت حسابات ملوّنةٍ بالدين أحياناً.
أكتفي بهذا القدر؛ لأنّ الكلام طويل جدّاً، والفرصة غير مؤاتية، ولو أراد الإنسان أن يقف مع نصوص وكلمات هذه الحادثة ووقائعها واقعةً واقعة وكلمةً كلمة، لأمكنه أن يستخرج عدداً كبيراً من المفاهيم العمليّة والبنائيّة التي تجعل حياتنا حسينيةً بالمعنى الأفضل، فالحسين يُقرأ جزءاً من كلّ، لا يمكن أن تقرأه بعيداً عن العقيدة والشريعة والقيم والمفاهيم، هو ليس حدثاً مستقلاً عن المنظومة الدينية والأخلاقيّة، بل هو جوهرها وخلاصتها، فلابدّ من التفتيش عنها فيه.
لكنّني أشير في نهاية الكلام إلى نعمة الاجتماع والتواصل في عاشوراء، فهذه الحشود العظيمة التي تتلاقى كلّ يوم في المجالس والمراقد والحسينيات وفي كلّ مكان، هي بنفسها مظهر تواصل اجتماعي، كيف أستثمره؟ كيف يمكن لأهل البصيرة أن يستثمروا كلّ هذا الحشد الهائل للناس وكلّ هذا الاستعداد للسماع؟
من الصعب أن تجمع كلّ هذا العدد ليستمع في أيام معدودة، فكيف يمكنني أن أستفيد من هذا الاجتماع البشري مترامي الأطراف؟ إنّ عاشوراء فرصة لإيصال الرسائل، فلو يكون هناك مجلس عالمي أو وطني للخطباء الحسينيين أو غيرهم ممّن لهم نشاط في هذه الأيام، وتكون هناك خطط استراتيجية لتحديد الموضوعات والأولويات العامّة والمناطقيّة لتداولها، فستكون لدينا قدرة تأثير كبيرة جدّاً، لأنّ طاقة الاستماع عند الناس مضاعفة في هذه الأيّام.
عندما يتحدّث المئات من الخطباء في هذا البلد أو ذاك عن مشاكل هذا البلد السياسية أو الاجتماعية أو الأخلاقية وتتنوّع طرائق بيانهم وأساليبهم، فسيكون لذلك وقعٌ كبير. إنّ عاشوراء تقدّم لي مجاناً مجموعة كبيرة من الناس أتت باختيارها إليّ لتستمع بأذن صاغية، فكيف لي أن أستغلّ هذه الآذان لإيصال رسائلي التوعوية؟ و
كيف لي أن أنبّه في هذه الأيام على مشاكل محدّدة ودقيقة وبشكل جماعي متنوّع ومدروس؟ هذه فرصة تاريخيّة سنويّة توفّرها عاشوراء ويمكن الاستفادة منها أيضاً لتداول مشاكل الأمّة خلال العام كلّه.
نسأل الله تعالى لكلّ القيمين على هذه المجالس الكريمة ولكلّ الداعمين ولكلّ الخطباء والمشاركين التوفيق لإقامة عاشوراء ناصعة مهيبة، تساهم كلّ المساهمة في قيامة ديننا وإنساننا قيامةً صالحة في هذا الزمن العسير، والله الموفّق والمعين.