الاجتهاد: هناك الكثير من الأخبار التي تدلّ على أن الإمام العسكري (عليه السلام) كان يتابع بدقة ما يجري على الساحة الفكرية، فيلاحق الأفكار المنحرفة والشبهات التي تطرح هنا وهناك في مواجهة الفكر الاسلامي الأصيل، خصوصاً تلك التي تعمد إلى تهديم الاسس الاسلامية على المستوى العقائدي أو الفقهي، فكان يواجهها بالحجة والاسلوب العلمى والجدل الموضوعي.
أ ـ من ذلك ما نقله ابن شهر آشوب عن أبي القاسم الكوفي في كتاب التبديل: أن إسحاق الكندي (١) ، كان فيلسوف العراق في زمانه، أخذ في تأليف تناقض القرآن، وشغل نفسه بذلك، وتفرّد به في منزله، فسلّط الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) عليه أحد طلابه بكلامٍ قاله له، مما جعله يتوب ويحرق أوراقه.
وملخص الفكرة التي أبداها الإمام (عليه السلام) للتلميذ، هي احتمال أن يكون المراد بالآيات القرآنية غير المعاني التي فهمها وذهب إليها، باعتبار أن اللغة العربية مرنة متحركة، فقد يفهم بعض الناس الكلام على أنه الحقيقة وهو من المجاز، وقد يفهم أن المراد هو المعني اللغوي والمقصود هو المعني الكنائي.
وطلب الإمام (عليه السلام) من تلميذ الكندي أن يتلطّف في مؤانسة استاذه قبل إلقاء الاحتمال، ووصفه (عليه السلام) بقوله: « إنّه رجل يفهم إذا سمع ». فصار التلميذ إلى الكندي، وألقى إليه ذلك الاحتمال، فتفكر في نفسه، ورأى أن ذلك محتمل في اللغة، وسائغ في النظر.
فقال: « أقسمت عليك إلا اخبرتني من أين لك هذا ؟ فقال: إنه شيء عرض بقلبي فأوردته عليك. فقال: كلا، ما مثلك من اهتدى إلى هذا ، ولا من بلغ هذه المنزلة، فعرفني من أين لك هذا؟
فقال: أمرني به أبو محمد. فقال : الآن جئت به، وما كان ليخرج مثل هذا إلا من ذلك البيت. ثم إنّه دعا بالنار وأحرق جميع ما كان ألفه » (2).
وفي هذا الخبر دلالات مهمة جديرة بالذكر:
١ ـ إن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) كان يتابع حركة الثقافة في زمانه ، وكان يتحرك على كلّ الاتجاهات المضادة التي تنطلق في مواجهة الاسلام ، فلم يكن خارج نطاق الواقع الثقافي ، وهذا ينطلق من مسؤولية الإمام عن تصحيح المسار الاسلامي في كلّ ما يمكن أن يعرض عليه من الانحرافات.
٢ ـ يُستوحى من هذه القصة أنك عندما تريد أن تحاور إنساناً وتجادله ، فلا يكن العنف سبيلك إلى ذلك ، ولا يكن القلب القاسي وسيلتك إلى الانفتاح عليه ، بل حاول أن تتلطف به أولاً وان تؤانسه ثانياً ، حاول أن تربح قلبه قبل أن تخاطب عقله ، لأن أقرب طريق إلى عقل الانسان هو قلبه.
٣ ـ الأسلوب الذي اتبعه الإمام (عليه السلام) في مخاطبة هذا العالم هو الانفتاح على علمه وتفكيره ، حيث ألقى إليه الفكرة على سبيل الاحتمال ليدفعه إلى التأمّل.
٤ ـ إن قول الكندي « لقد علمت انه لا يخرج هذا إلا من أهل هذا البيت » يدلّ على الثقة العلمية العالية التي كان يحملها الفلاسفة والمثقفون في علم أهل البيت (عليهم السلام) ، مما يوحي أنهم كانوا قد بلغوا القمة في العلم حتى خضع الآخرون لعلمهم ، وانحنوا لهذا المستوى الكبير من الثقافة.
ب ـ وهناك حديث آخر يحال الإمام العسكري (عليه السلام) أن يرد فيه بعض الشبهات ، رواه ثقة الاسلام الكليني باسناده عن إسحاق بن محمد النخعي ، قال : « سأل الفهفكي أبا محمد (عليه السلام) : ما بال المرأة المسكينة الضعيفة تأخذ سهماً واحداً ويأخذ الرجل سهمين ؟
فقال : أبو محمد (عليه السلام) : إنّ المرأة ليس عليها جهاد ولا نفقة ولا عليها معقلة ، إنّما ذلك على الرجال ، فقلت في نفسي : قد كان قيل لي : إنّ ابن أبي العوجاء سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن هذه المسألة ، فأجابه بهذا الجواب ، فأقبل أبو محمد (عليه السلام) عليّ.
فقال: نعم، هذه المسألة مسألة ابن أبي العوجاء، والجواب منّا واحد إذا كان معنى المسألة واحداً، جرى لآخرنا ما جرى لأوّلنا، وأوّلنا وآخرنا في العلم سواء، ولرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) فضلهما »(3).
ج ـ لقد أثيرت مسألة خلق القرآن منذ زمان المأمون، وانقسم العلماء فيها إلى قسمين، فمنهم من قال بقدم كلام الله سبحانه، ومنهم من قال بحدوثه، مما أدّى إلى خلق فتنة ومحنة راح ضحيتها الكثير من الأعلام، وكان جواب الأئمة (عليهم السلام) المعاصرين لتلك المحنة واضحاً، يقوم على أساس التفريق بين كلام الله تعالى وبين علمه، فكلامه تعالى محدث وليس بقديم، قال تعالى:(مَا يَأْتِيهِم مِن ذِكْرٍ مِن رَبِّهِم مُحْدَثٍ) (4)، وأما علمه فقديم قدم ذاته المقدسة، وهو من الصفات التي هي عين ذاته.
ونرى بعض امتدادات هذه المسالة في زمان الإمام العسكري (عليه السلام)، فقد روي عن أبي هاشم الجعفري أنه قال: «فكّرت في نفسي، فقلت: أشتهي أن أعلم ما يقول أبو محمد (عليه السلام) في القرآن؟ فبدأني وقال: الله خالق كلّ شيء، وما سواه وفهو مخلوق »(5).
د ـ تقدمت الاشارة إلى أن الإمام العسكري (عليه السلام) تصدى لكشف واحدٍ من أهم وسائل التموية والتلبيس على أذهان العامة ، حين حاول أحد الرهبان تضليل العقول الضعيفة وتشكيكهم في دينهم ، فكشف الإمام (عليه السلام) زيف ذلك الراهب وكذبه وبيّن وسائل تمويهه ، وذلك في حادثة الاستسقاء الشهيرة التي تواطأت على نقلها الكثر من المصادر (6).
ه ـ تصدّىٰ الإمام العسكري (عليه السلام) لبعض الاتجاهات العقائدية المنحرفة والفرق الضالة ومنهم الغلاة الذين كانوا في زمانه ، وهم الذين خرجوا عن الجادة ووصفوا الأئمة (عليهم السلام) بصفات الالوهية ، فتبرأ أهل البيت (عليهم السلام) منهم ولعنوهم وحاربوا مقالاتهم الباطلة.
ومن هؤلاء إدريس بن زياد الكفرتوثائي، قال: « كنت أقول فيهم قولاً عظيماً ، فخرجت إلى العسكر للقاء أبي محمد (عليه السلام)، فقدمت وعليّ أثر السفر ووعثاؤه، فألقيت نفسي على دكان حمام فذهب بي النوم ، فما انتبهت إلا بمقرعة أبي محمد (عليه السلام) قد قرعني بها حتى استيقظت، فعرفته فقمت قائماً اُقبّل قدميه وفخذه وهو راكب والغلمان من حوله ، فكان أول ما تلقاني به أن قال: يا إدريس ( بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) (7). فقلت : حسبي يا مولاي ، وإنّما جئت أسألك عن هذا. قال: فتركني ومضى » (8).
ويبدو من بعض الأخبار أن الإمام العسكري (عليه السلام) كان لا يترحّم على الغلاة ولو كانوا من الوالدين، وذلك لكي يؤدّب أصحابه للوقوف بشدة ضدّ هذه النزعة الهدامة، فقد نقل الحميري في الدلائل عن أبي سهل البلخي، قال: «كتب رجل إلى أبي محمد يسأله الدعاء لوالديه، وكانت الاُمّ غالية، والأب مؤمناً، فوقّع (عليه السلام): رحم الله والدك» (9).
ومن هؤلاء أيضاً الواقفة، وهم الذين وقفوا على الإمام الكاظم (عليه السلام) بسبب بعض النوازع المادية، حيث تجمعت لديهم أموال طائلة من الحقوق المالية في وقتٍ كان فيه الإمام (عليه السلام) في سجن الرشيد، فطمعوا فيها وادعوا بعد شهادة الإمام (عليه السلام) أنه حيّ لم يمت، واصبح الوقف تياراً فكرياً يتبناه بعض من لم تترسخ لديه مبادئ العقيدة الحقة ، فيقف عند بعض الأئمة (عليهم السلام). وقد صرح الإمام العسكري (عليه السلام) بالبراءة منهم، ودعا أصحابه إلى أن لا يعودوا مرضاهم ولا يشهدوا جنائزهم ولا يصلوا عليهم.
ومنه ما رواه الإربلي والقطب الراوندي بالاسناد عن أحمد بن محمد بن مطهر ، قال : « كتب بعض أصحابنا إلى أبي محمد (عليه السلام) من أهل الجبل، يسأله عمّن وقف على أبي الحسن موسى (عليه السلام) أتولاهم أم أتبرا منهم؟
فكتب (عليه السلام): أتترحّم على عمّك؟ لا رحم الله عمك. وتبرّأ منه، أنا إلى الله منهم بريء، فلا تتولاهم، ولا تعد مرضاهم، ولا تشهد جنائزهم، ولا تصلّ على أحدٍ منهم مات أبدأ.
من جحد إماماً من الله، أو زاد إماماً ليست إمامته من الله، كان كمن قال إنّ الله ثالث ثلاثة، إن الجاحد أمر آخرنا جاحدٌ أمر أولنا، والزائد فينا كالناقص الجاحد أمرنا … » (10).
وروى الكشي بالاسناد عن إبراهيم بن عقبة، قال: «كتبت إلى العسكري (عليه السلام): جعلت فداك، قد عرفت هؤلاء الممطورة ، فأقنت عليهم في الصلاة ؟ قال (عليه السلام) : نعم، اقنت عليهم في صلاتك» (11).
وتصدّى الإمام (عليه السلام) لمقالات الثنوية ، فقد روى ثقة الاسلام الكليني بالاسناد عن محمد بن الربيع الشائي ، قال : « ناظرت رجلاً من الثنوية بالأهواز ، ثم قدمت سرّ من رأى وقد علق بقلبي شيء من مقالته، فإنّي لجالس على باب أحمد بن الخضيب إذ أقبل أبو محمد (عليه السلام) من دار العامة يوم الموكب، فنظر إليّ وأشار بسبّابته: أحد أحد فرد، فسقطت مغشياً عليّ » (12).
وأدّب أصحابه على عدم الترحّم عليهم ولو كانوا ذوي قربى، فقد نقل الإربلي عن دلائل الحميري بالاسناد عن أبي سهل البلخي، قال: « كتب رجل يسأل الدعاء لوالديه ، وكانت الأمّ مؤمنة، والأب ثنوياً، فوقّع: رحم الله والدتك، والتاء منقوطة » (13).
ووقف الإمام العسكري (عليه السلام) بوجه بعض الوضّاعين والصوفية المتصنعين ، وعرّف أصحابه بسوء نواياهم ، وأمرهم بالبراءة منهم لئلا يفسدوا عقائدهم ، ومنهم عروة بن يحيى الدهقان الذي كان يكذب على الإمام (عليه السلام) وعلى أبيه من قبله ، ويختلس الأموال التي ترد على الإمام (عليه السلام).
روى الكشي بالاسناد عن محمد بن موسى الهمداني، قال: «إن عروة بن يحيى البغدادي المعروف بالدهقان (لعنه الله) كان يكذب على أبي الحسن علي بن محمد ابن الرضا (عليه السلام) وعلى أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام) بعده، وكان يقتطع أمواله لنفسه دونه، ويكذب عليه حتى لعنه أبو محمد(عليه السلام) وأمر شيعته بلعنه، ودعا عليه بقطع الأموال لعنه الله» (14).
وفي المناقب لابن شهر آشوب : « كان عروة الدهقان كذب على علي بن محمد ابن الرضا ، وعلى أبي محمد الحسن بن علي العسكري بعده، ثمّ أنه أخذ بعض أمواله فلعنه أبو محمد (عليه السلام) ، فما أمهل يومه ذلك وليلته حتى قبض إلى النار » (15).
ومنهم أحمد بن هلال العبرتائي ، الذي عدّه الشيخ الطوسي من الوكلاء المذمومين (16) ، وكان يتظاهر بالتدين والورع والزهد ، ويخفي الانحراف في العقيدة والعمل وسوء الطوية ، فأطلق عليه الإمام (عليه السلام) لفظ ( الصوفي المتصنّع ) وكتب إلى أصحابه يحذرهم إياه ويبيّن سوء سيرته وفساد مذهبه في أكثر من توقيع.
قال الشيخ الطوسي: « روى محمد بن يعقوب، قال: خرج إلى العمري في توقيع طويل اختصرناه: ونحن نبرأ إلى الله تعالى من ابن هلال لا رحمه الله، وممن لا يبرأ منه، فأعلم الاسحاقي وأهل بلده مما أعلمناك من حال هذا الفاجر، وجميع من كان سألك ويسألك عنه » (17).
وروى الكشي بالاسناد عن أبي حامد أحمد بن إبراهيم المراغي، قال: « ورد على القاسم بن العلاء نسخة ما كان خرج من لعن ابن هلال، وكان ابتداء ذلك أن كتب (عليه السلام) إلى قوّامه بالعراق: احذروا الصوفي المتصنع.
قال: وكان من شأن أحمد بن هلال أنه قد كان حجّ أربعاً وخمسين حجة، عشرون منها على قدميه، قال: وكان رواة أصحابنا بالعراق لقوه وكتبوا منه، فأنكروا ما ورد في مذمّته، فحملوا القاسم بن العلاء على أن يراجع في أمره، فخرج إليه: قد كان أمرنا نفذ إليك في المتصنّع ابن هلال لا رحمه الله بما قد علمت، لم يزل ـ لا غفر الله له ذنبه ولا أقاله عثرته ـ يداخل في أمرنا بلا إذن منا ولا رضىً، يستبد برأيه، فيتحامىٰ من ديوننا، لا يمضي من أمرنا إياه إلا بما يهواه ويريد، أرداه الله في نار جهنم، فصبرنا عليه حتى بتر الله عمره بدعوتنا، وكنا قد عرّفنا خبره قوماً من موالينا، في أيامه، لا رحمه الله، وأمرناهم بالقاء ذلك إلى الخاص من موالينا ونحن نبرأ إلى الله من ابن هلال لا رحمه الله وممن لا يبرأ منه … الى أن يقول (عليه السلام) : فإنّه لا عذر لأحدٍ من موالينا في التشكيك فيما يؤديه عنا ثقاتنا ، قد عرفوا بأنّنا نفاوضهم سرنا ونحمله إياه إليهم … » إلى آخر التوقيع (18).
الهوامش
(١) كذا، واسم الكندي إذا أريد به فيلسوف العراق فهو يعقوب بن إسحاق، وكان معاصراً للإمام (عليه السلام) حيث توفي سنة ٢٦٠ ه، وقيل: إنّه همّ بأن يعمل شيئاً مثل القرآن: ثم أذعن بالعجز. راجع: سير أعلام النبلاء ١٢ : ٣٣٧ / ١٣٤، الاعلام للزركلي ٨ : ١٩٥.
(2) المناقب / لابن شهر آشوب ٤ : ٤٥٧.
(3) الكافي ٧ : ٨٥ / ٢ ـ باب علة كيف صار للذكر سهمان وللانثىٰ سهم ، من كتاب المواريث.
(4) سورة الأنبياء : ٢١ / ٢.
(5) الثاقب في المناقب : ٥٦٨ / ٥١١ ، الخرائج والجرائح ٢ : ٦٨٦ / ٦.
(6) راجع آخر الفصل الثاني من هذا الكتاب.
(7) سورة الأنبياء : ٢١ / ٢٦ ـ ٢٧.
(8) المناقب / لابن شهر آشوب ٤ : ٤٦١.
(9) كشف الغمة ٣ : ٣٠٦ ، بحار الأنوار ٥٠ : ٢٩٤ / ٦٩.
(10) رجال الغمة ٣ : ٣١٢ ، بحار الأنوار ٥٠ : ٢٧٤ / ٤٦ عن الخرائج والجرائح.
(11) رجال الكشي ٢ : ٧٦٢ / ٨٧٥.
(12) أصول الكافي ١ : ٥١١ / ٢٠ باب مولد أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام) من كتاب الحجة.
(13) أصول الكافي ١ : ٥١١ / ٢٠ باب مولد أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام) من كتاب الحجة.
(14) رجال الكشي ٢ : ٨٤٢ / ١٠٨٦.
(15) المناقب ٤ : ٤٦٧.
(16) راجع : الغيبة : ٣٥٣ / ٣١٣.
(17) الغيبة : ٣٥٣ / ٣١٣.
(18) رجال الكشي ٢ : ٨١٦ / ١٠٢٠.
المصدر: كتاب: الإمام الحسن العسكري عليه السلام سيرة وتاريخ، الفصل السادس، المبحث الأول للكاتب والمحقق في التراث الإسلامي: الدكتور علي موسى الكعبي