المحقق-الداماد

آية الله السيد محمد المحقق الداماد “ره”.. معلم الفقاهة وأسلوب متميز في التدريس

الاجتهاد: بعد أن ارتحل آية اللّه الشيخ عبد الكريم الحائري إلى جوار ربه، وسّع السيد محمد اليزدي المعروف بالمحقق الداماد “قدس سره” من حلقة دروسه وأصبح محط انظار الجميع، و عجّ درسه بعد فترة وجيزة بأساتذة الحوزة الدينية.

انهمك الأستاذ المحقق الداماد لسنوات طويلة بالقاء المحاضرات في الحوزة الدينية للمرحلة المتوسطة (السطوح)، و كان المستوي العلمي لهذه المحاضرات يوازي مستوي دروس المرحلة العليا بحسب بعض العلماء، و في هذا الصدد يقول المرحوم آية اللّه الشيخ مرتضى الحائري، لقد درست كتاب الكفاية عنده، و كان لتلك الدروس الاثر الكبير في تشكيل تركيبة التفكير الأصولي لدي.

وقد اضاء آية اللّه المحقق الداماد سماء الحوزة العلمية في قم لفترة طويلة لينير قلوب المئات من طلاب العلم و الفضيلة ، فهو بالإضافة إلى أيام الدراسة، كان يواصل القاء محاضراته أيام العطل كذلك، ويقضي ساعاته في التدريس والمطالعة والبحث، وعلي الرغم من جدارته في تقلّد اعلى المناصب في الحوزة العلمية، إلّا أن التدريس و البحث كانا يحظيان بمكانة خاصة لديه، بحيث عزف عن قبول أي مسئولية أو التظاهر بها.

يقول آية الله السيد أبو الفضل مير محمدي “رحمه الله” أحد تلامذة المرحوم المحقق الداماد، في كتاب ” ثلاث دراسات في الفقه والمشتبه “

قد حضرت مجلس درسه الشريف حوالي خمس عشرة سنة، وقد استفدت منه الشئ الكثير، وأستطيع أن أقول : إنني مدين له في أكثر ما استطعت الحصول عليه في سنوات دراستي في الحوزة العلمية.

ولعل ابتداء حضوري لدرسه الشريف كان في سنة ۱۳۲۷ أو ۱۳۲۸ هـ ش (1370 هـ ق)، ورأيت عددا من الشخصيات والعلماء الذين كانوا يحضرون مجلس درسه، واقتنعت بأنّ من الضروري أن أكرس معظم وقتي للاستفادة منه، وهكذا كان فقد درست عنده دورة أصولية كاملة بالاضافة إلى عدد من الكتب الفقهية واستفدت منه بقدر طاقتي ولا يسعني إلا وأن أذكر نبذة موجزه عن حياته قدس سره.

قدراته وطاقاته المتميزة:

ولد أستاذنا السيد محمد المحقق الداماد في إحدى مناطق یزد (في منطقة أحمدآباد في مدينة أردكان التابعة لمحافظة يزد الإيرانية) في سنة ۱۳۲۳هـ ق. ومن الطبيعي أن يبتدئ تدريسه للخارج وهو في حدود سنّ الأربعين.

وقد كان حضوري لدرسه الشريف في هذا السن بالذات، وحيث كان في أوج نشاطه وحيويته حتى أن الموانع التي كانت تعترض طريق دروس الآخرين وتؤدي إلى توقّفها مؤقتا لم تكن قادرة على إيقاف درسه ولا ليوم واحد، حتى أن أحد تلامذته قال له مرة مازحاً: ألا تمرض حتى يتوقف الدرس مؤقتا ونستفيد نحن من هذه العطلة.

اهتمامه بالدرس:

كان رحمه الله” يقدّم الدرس على كل ما عداه من المشاغل، وحين كان يصر عليه تلامذته ومحبوه ليحضر مجالس الفاتحة أو الزواج أو غيرها كان يعتذر عن ذلك من أجل أن يتفرّغ في لياليه للمطالعة والبحث، ولعله لم يدرس ولو یوماً واحداً من دون مطالعة وتحضير.

وقد كان درسه زاخراً بالفوائد العلمية والتحقيقات السنيّة التي هي موضع رغبة المحصلين والباحثين من طلابه وتلاميذه. وبالإضافة إلى الوقت الذي كان يصرفه في المطالعة في مكتبته الخاصة فإنه كان يواصل الفكرة والتأمّل، حتى وهو في الطريق انتهازاً للفرصة، وكثيرا ما صادف أن البعض يسلّم عليه فلا يلتفت لاستغراقه في الفكر والتأمّل،وهذا الأمر من خصال سيدنا الأستاذ المعروفة لدى كل من فاز بصحبته ومعاشرته.

تواجده في الحوزة العلمية:

لقد آثر السيّد الأستاذ آية الله السيد محمد المحقق الداماد”ره” البقاء في الحوزة العلمية إلى آخر عمره، ولأجل ذلك فإن مبانیه وآراءه العلمية بسبب البحث المتواصل والاحتكاك الدائم بالآخرين قدجاءت سليمة وقويمة ليس فيها شذوذ ولا انحراف، فهو قد قضى أيام طفولته وصباه إلى أن بلغ السادسة عشرة من العمر في أردکان ویزد، ثم قدم الى الحوزة العلمية واستفاد من دروس مؤسس الحوزة العلمية في قم المشرفة آية الله العظمى الشيخ عبدالكريم الحائري قدس سره” وبقي في قم إلى أن توفي في ۲ ذي الحجة الحرام سنة ۱۳۸۸ هـ ق.

أسلوبه في التدريس:

كانت له “رحمه الله” طريقته المتميزة في التدريس، وكان يوصي بها تلامذته مرة بعد أخرى، فكان يرد في البحث بعد أن يكون قد أبعد عن ذهنه أي حكم مسبق، ثم يحاول أن ينساق مع الدليل حيثما وجد.

وكان يحذرنا باستمرار من فرض أمر مسلّم أولاً ثم البحث عن أدلته و وجوهه، بل لابد وان ننظر الى الدليل أولًا ونتوجه حيث يوجّهنا حتى يكون هو الذي يعطينا الحكم والنظرية.

وكان يلتزم في بحوثه الفقهية طريقة المرحوم آية الله العظمى السيد البروجردي قدس سره”، فكان يهتم كثيراً بجمع أقوال العلماء في المسألة، وخصوصاً القدماء منهم، ثم يستعرض جميع الأحاديث التي يجدها في المجامع الحديثية كالوسائل ومستدرکاتها، ويدقق في مضامين تلك الأحاديث ولم يحدث في أي وقت أن تمسّك بالإجماع المنقول، كما لم يحدث أن اقتصر على الأحاديث الواردة في كتب الاستدلال بل كان يراجع كتب الحديث ثم يستظهر ما هو الأقوى والأصوب.

أما في بحث الأصول فكان باستمرار يذكرنا بأن لانتأثر بعظمة العلماء الأعلام إلى حد أن نصبح مقلدین لهم ونقبل أراءهم تعبّداً، فكان يهتم بنقل آراء العلماء المشهورين وينقدها من أجل أن لا تمنع عظمتهم من نقد آرائهم.

تربيته لتلامذته:

وممّا ذكرناه آنفا يتضح لك السّرّ في بلوغ تلامذته الدرجات العلمية الرفيعة، بحيث أضحوا من العلماء الكبار المشار إليهم بالبنان، ومن محاور العلم والتدريس – وعلى مستوى الأبحاث العالية في الحوزات العلمية.

وأمر آخر قدساهم في بلوغ تلامذته هذا المقام الشامخ هو صعوبة بيانه التدريسي، وذلك بسبب عمق مطالبه ودقّة تحقيقاته، حيث كان ذا فكر ثاقب وقوي، الأمر الذي جعل فهم مراداته “رحمه الله” على درجة من الصعوبة بالنسبة للكثيرين، فلم يكن بوسع اولئك الذين ليس لديهم طاقة ولاصبر على التحقيق والتتبع، وكذلك أولئك الذين لم يكن لديهم القدرات الفقهية والذهنية الكافية إلا أن يتركوا درسه ليأخذ مكانهم عدد ليس بالقليل من التلامذة الذين ارتبطوا بأستاذهم وأحبوه، وقد نال معظمهم درجات الاجتهاد.

عاطفته وزهده

في الوقت الذي كان لايقبل في مجلس درسه أي نظريّة إلا بصعوبة بالغة، فإنه كان رقيق المشاعر، فبمجرد أن يذكر شي من مصائب أهل البيت “عليهم الصلاة والسلام” في حضوره نجد دموعه تنحدر من عينيه توجّعاً وتألّماً، فيبكي بكاء ًطويلاً وتظهر عليه آثار اللوعة والأسى لما اصابهم “صلوات الله عليهم” من الحوادث المؤلمة، حتى ينتهي الأمر أحيانا بعدم قدرته على إتمام الدرس.

وقد نقل في أحد الأيام حديثاً في مجلس درسه يتضمن أن الإمام الرضا عليه السلام قد خاطب المأمون بكلمة «يا أمير المؤمنين» فتأثّر بشدة وبکی، وعلى ما أذكر فإنه لم يتمكّن من إتمام درسه في ذلك اليوم، هذا ما يتعلق بعاطفته.

وأما زهده قدس سره” فإنه كان يأبى التصدّي للزعامة التي كانت تليق به بحق، ولم يتقدم نحوها ولوبخطوة واحدة، ولم يكتب رسالة عملية إلى حين وفاته. نعم مع ذلك فإننا نجد أنه حين قرأ في أحد مجالس وعظه الآية الشريفة، «تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولافساداً والعاقبة للمتقين» قد غلب عليه التأثر وأخذ بالبكاء والنحيب، الأمر الذي سرى إلى جميع حضار ذلك المجلس.

فهذه بعض الحوادث والوقائع التي عاينتها بنفسي ولمستها منه فرحمة الله تعالى على سيدنا الأستاذ وأسكنه من جنانه أفسحها منزلًا وأفضلها غرفاً، إنه وليّ قدير.

 

المصدر: كتاب ” ثلاث دراسات في الفقه والمشتبه ” والذي يحتوي على البحوث الثلاثة التالية:

البحث الأول حول «قاعدة لاضرر» وهي من تقریرات بحث آية الله السيد محمد المحقق الداماد – قدس سرہ ۔ ألفها سماحة آية الله السيد أبو الفضل مير محمدي الزرندي “ره”. كما قام – رحمه الله- بتحقيق رسالتين أخريين للمولى النراقي – أعلى الله مقامه – الأولى حول «قاعدة لاحرج» والثانية في تصحيح أسماء الرجال.

تحميل الكتاب 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky