الاجتهاد: الثاني من شهر ذي الحجه (۱۳۸۸هـ) ذكرى وفاة آية الله السيد محمد اليزدي المعروف بالمحقق الداماد (قدس سره) الذي أضاء سماء الحوزة العلمية في قم لفترة طويلة لينير قلوب المئات من طلاب العلم والفضيلة.
يروي آية الله العلامة الشيخ عبد الله جوادي الآملي “حفظه الله” في مقدمة كتاب الحج الذي هو تقريرا لأبحاث أستاذه آية الله السيد محمد المحقق الداماد “رحمه الله” السيرة العلمية والأسلوب الفنّي، وكيفية تدريس أستاذه (قدس سره).
يقول آية الله جوادي: لمّا منّ الله عليّ بالهجرة إلى أهم المراكز العلمية (قم المحميّة) لتكمیل ما أنعم به عليّ من العلوم العقلية والنقلية في مدينتَي آمل وطهران، ألهمني الحضور في محاضرات المشايخ والأساطين، في التفسير والحديث والحكمة الإلهية والفقه والأصول؛
وبلغت حوزة قم يومذاك شأواً قاصياً، وصارت مهبطاً للبركات القدسية، ومطمحاً لأنظار الفطاحل العلمية؛ وكان مما وفقني الله تعالى لتعلّم الفقه، هو الحضور في درس فقيه أهل البيت، المتضلع في الفقاهة، آية الله العظمى الحاج السیّد محمّد المحقّق، الشهير بـ (داماد) (قدس سره)، زهاء ثلاث عشرة سنة، إلى أن ارتحل إلى الجنة، عند مليك مقتدر.
ومما ساعدني التوفيق، هو تقييد ما کان (قدس سره) يمليه في الدرس ويلقيه إلى روّاد العلم بالكتابة، وذلك بعد التمهيد والإشراف قبل الدرس، مع تجمّع الخاطر وتحفّظ النقد والتحليل حين الإلقاء والإملاء، والحثّ والفحص بعده، لن يفوت شيء مما أفاده أو يزيد عليه شيء تافه لم يفده.
فإن خطر بالبال نقد، عرضته عليه حتى يضبط ما هو الحاصل من الرأيين أو الآراء بعد الحوار، ويكتب ما هو المحصول من البحث والتظر، بعد التدبّر التام والغور البالغ، ومن ذلك هذا السفر القيم الذي بين يدي القارئ الكريم. (كتاب الحج).
ولنأخذ في تعريفه وكيفية تدريس سيدنا الأستاذ (قدس سره) الكتاب، وسيرته العلمية وأسلوبه الفنّي، وخصائصه في الإملاء، وتضلّعه (قدس سره) في ذلك.
سيرة سيدنا الأستاذ (قدس سره) العلمية:
أ. هو (قدّس سرّه) – بحسب نفسه الزكية – قد منح خلوصاً اعتقادياً ونبوغاً فكرياً، فتجهّز بجهازَي العلم والعمل، وتربى في حوزة سامية، وتلقّى من الجهابذة العظام والفطاحل الكرام، و رُزق الحشر العلمي مع الأساتذة والمحققين الفخام، فصارت حياته الطيبة حياة علم وعدل، فهو (قدس سره) لم يكن ممّن طواه الأجل وصار كأن لم يغن بالأمس، بل له حياة خالدة.
ب. كان تدریسه مشحوناً بالبركة؛ لما تخرّج من لدن محاضراته غير واحد من المجتهدين العظام اُولي التدريس والتأليف، ولهم مآثر وآثار قيمة، كل ذلك من برکات درس سيّدهم ومولاهم الفقيد السّعيد.
ج. وكان أسلوبه الممتاز ومنهجه الفذ في التدريس، طرح المسئلة الفقهيّة وتحريرها أوّلًا؛ وبیان موضع الإبهام والنقاش فيها ثانياً؛ وتشريح الإحتمالات المعقولة فيها ثالثًا؛ ونقل الأقوال المعتمد عليها رابعاً؛ والإستدلال لها أو علبها خامساً؛ ونقد الزائف من تلك الأدلة وتأييد الراجح منها سادساً.
ولم يكن ذلك بالجمود على ما اشتهر بين القوم وصار ميراثاً ممّن تقدّمه زمانًا، بلا نقض أو إبرام.
إذ هو تقليد في زيّ الإجتهاد، وحاشا ساحة تحقيق سيّدنا الأستاذ (قدس سره)، بل كان يدقق فيما أفاده غيره، فإن كان زائفاً أبطله، وإن كان معيباً صحّحه، وإن كان ناقصاً أتمّه، وإن لم يجد هناك شيئاً نافعاً أبدعه وأبداه ممّا رزقه الله، إذ كم ترك الأول للآخر.
د. وكان سبکه (أسلوبه) (قدّس سرّه) في فقه الحديث – بعد البحث عن الصدور وعن جهة الصدور – هو الفحص عن المعاني المتصوّرة والسير فيها، وتضعيف التافه وتقوية الراجح منها، بالسّبر والتقسيم بعد الإنهاء إلى أمرين لا ثالث لهما، حتى يتعيّن أحدهما بإبطال الآخر، ثم الفحص عن المعارض أو المؤيد، إن احتيج إليه.
فإذا تم نصاب التحقيق الداخلي والخارجي، ولم يوجد هناك ما يوهن شيئًا من أركان الحجّية، تحصّل ما هو المراد واطمأنّت به النفس واستقرّ عليه الفتوى.
نعم لم یکن درسه (قدس سره) بهذا النضد الساذج البسيط، حتى يسهل تناوله لكل من حضر درسه وسمع إملائه، بل كان ذلك كنزاً محتجباً في خبايا تحقيقاته وثنايا أماليه الفذّة، فلذا صعب على غير واحد من شركاء بحثه الشّاردين، التّلقّي التام والضبط الكافل، معتذراً بثقل البيان تارة، وفقد النظم الصناعيّ أخرى؛ ولكن السرّ هو ما مرّ، وأمّا من جدّ واجتهد وتدبّر ولم يأل جهداً في تلقي ما كان يمليه، فقد ارتقى مرتقى عالياً، له دروس وأبحاث قيمة قل ما يدانيها.
ه. وكان (قدس سره) متحاشياً عن مزج المباحث الأصولية والإصطلاحات الفنية بالمسائل الفقهية، بعد أن كانت نصوص الباب قائمة عليها، کافلة إيّاها، إلا عند مسیس الحاجة، وحينذاك يتبيّن تضلّعه في الأصول کتضلّعه في الفقه، وقد أوجبت تلك الجامعيّة التامّة أن يضع كلّ شيء في موضعه بلا مزج ولا تهميش.
و. وهو (قدّس سرّه) كان أوحديّاً، قد أنس بالدّراسة وباشرها بقلبه وقالبه، وألقى حبل الرئاسة على عاتقها، لا بالمعنى المذموم منه – وهو انفكاك الدّين عن السياسة – بل بالمعنى المعقول منه – وهو التفرّد بالمطالعة والتفرّغ بالإملاء عند قيام من به الكفاية – ولذا حوت أماليه من الفوائد الجمّة ما كاد أن يخلو عنها أمالي غيره.
المصدر: المجلد الأول من ” كتاب الحجّ ” تقرير أبحاث فقيه أهل البيت آية الله السيد محمد المحقق الداماد” رحمه الله”. قرّره: آية الله الشيخ عبد الله جوادي الآملي. “حفظه الله” .
رابط تحميل الكتاب من شبكة الفكر