الاجتهاد: يذكر آية الله السيد محمد المحقق الداماد “قدس سره” في بحثه حول البراءة، شرطاً ذكره الأصحاب وهو أن لا يكون موجباً للضرر على الناس، وبهذه المناسبة يتناول “رحمه الله” حديث وقاعدة لا ضرر ولا ضرار ويبحث فيها عن جهات ثلاث، الأولى فيما يستند اليه في حجيتها من الأحاديث، والثانية في بيان مدلول هذه الأحاديث المستند إليها، والثالثة في بيان نسبة القاعدة مع الأدلة الأولية ووجه تقدمها.
وبعد البحث عن مفردات القاعدة ضمن الجهة الثانية (بيان مدلول الحديث) يتناول مفاد الجملة التركيبية لقاعدة لا ضرر ولاضرار
يقول”ره”: فيه أقوال أربعة:
القول الأول: أن النفي هنا بمعني النهي مدّعياً بأن المسلم المطيع اذا علم بأن الضرر حرام لم يتحقق منه الضرر فلاضرر، كما أن الجملة الخبرية الموجبة قد يراد منها الوجوب؛ كقول الإمام عليه السلام فيمن لزمت عليه الإعادة لصلاته: يعيد الصلاة.
وكأن من كان مطيعاً لربّه اذا علم بوجوب الإعادة اعادها، أويقال بأنّ خَبَر لا النافية للجنس محذوف وهو: مجوّز أو جايز، فصار المعنى: لاضرر مجوّز أو جایز فهو حرام. أو يقال: ان الضرر الذي ليس له الجواز كأنّه منفي، كما أن رجلا فاقداً لأوصاف الرجال انه لا رجل.
ثم إن شيخ الشريعة قد اختار هذا المعني اي ارادة النّهي من النفي، وقال بشيوع هذا المعىي في أمثال هذه الجملة، خلافًا للمحقق الخراساني القائل بأن هذا المعنى لم يعهد من مثل هذا التركيب.
ثم أورد موارد كثيرة يراد النهي من النفي فيها، وهي قوله تعالى «لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج »(۱)، وقوله تعالى: «فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس » (۲).
قال في مجمع البيان: معنی لامساس أي لايمسّ بعضنا بعضاً فصار السامريّ يهيم في البريّة مع الوحش والسّباع لايمسّ أحداً ولايمسّه أحد عاقبه الله تعالى بذلك.
وكان اذا ألقي أحداً يقول لا مساس أي لا تقربني ولا تمسّني.
وقوله صلى الله عليه وآله: لاجلب ولا جنب ولا شغار في الإسلام. وقوله صلى الله عليه وآله: لا إخصاء في الإسلام ولابنيان كنيسة. وقوله صلى الله عليه وآله: لاحمى في الإسلام ولا مناجشة.
وقوله صلى الله عليه وآله: لاحمى في الأراك، وقوله صلى الله عليه وآله: لاحمی الّا ما حمي الله ورسوله، وقوله صلى الله عليه وآله: لاسبق الا في حق أو حافر أو نصل، وقوله صلى الله عليه و آله: لا صمات يوم إلى الليل، وقوله صلى الله عليه وآله: لا صرورة في الإسلام، وقوله صلى الله عليه وآله: لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق، وقوله صلى الله عليه وآله: لا هجر بين المسلمين فوق ثلاثة أيام، وقوله صلى الله عليه وآله: لاغشّ بين المسلمين (1).
أقول: إنه “رحمه الله” قد اتعب نفسه الشريفة في تتبع الموارد التي استعملت «لا» فيها في الأحكام التكليفية على زعمه، لكنها ليست شاهدةً بأن «لا» تستعمل في انحاء هذا التركيب في التكليف فقط، وذلك لاحتمال أن يكون الانحصار لجهة عدم حکم وضعي في المورد لا لجهة أن «لا» موضوعة لنفي التكليف، وهذا بالاضافة إلى أن «لا» لم تستعمل في الموارد كلها في نفي التكليف بل في بعضها وسيأتي.
هذا ما ورد عليه إجمالا، وأما تفصيله فهو أن قوله تعالى: «لارفث ولافسوق ولا جدال في الحج» المستعمل في التكليف فلعلّه لجهة عدم حكم وضعي لهما لا لجهة أن «لا» وضع لنفي التكليف، وذلك لدليل يدل على أن الرفث والفسوق حرام في الحج لامبطل له، وكذا قوله تعالى في قصة سامري “لا مساس” حيث انه استعمل في التكليف أي لا تقربني ولا تمسّني لجهة انه ليس للمسّ حکم وضعي.
وكذا قوله “صلى الله عليه وآله” «لاجلب ولاجنب»(۱)، بمعنى أن الزكاة تؤخذ في محل الأنعام ولا يجب إحضارها عند رسول الله صلى الله عليه وآله ليختار الزكاة، فليس هنا ايضا حكم وضعي بحيث اذا حملت الأنعام لكانت الزكاة باطلةً.
وأما قوله “صلى الله عليه وآله” «لاشغار» فهو على خلاف مطلوبه يدلّ، لأن الشغار ليس حراماً تکليفاً بل لا تأثير له في النكاح، فهنا كان النفي ناظراً للحكم الوضعي وهو الصحة فقط .
وأما قوله صلى الله عليه وآله: «ولا بنيان كنيسة » فيمكن أن يراد منه کلا الحكمين وضعاً وتكليفاً. بمعنى انه اذا بنى المسلم بناءً بقصد الكنيسة فعل حراماً ولم يقع البناء كنيسةً.
ثم إنه لايخفى أن النهي تعلق بالبناء فكان بناء الكنيسة حراماً، وأما اجارة محل للكنيسة فالحديث ساكت عن حكمها.
وأما قوله “صلى الله عليه وآله” «لاحمي في الإسلام» فالنهي فيه يرجع إلى الحكم الوضعي، يعني أن المسلم اذا حمى أرضاً لم تقع حمی، بحيث اذا حماها صارت له فقط، ولا يشرك فيها غيره كما صنع اشراف الجاهلية، وأما في الإسلام فلا.
وأما قوله صلى الله عليه وآله «لاحمى ولا رهبانية في الإسلام » فالظاهر منها ترخیص التصرف في الأول ومنع الرهبانية في الثاني فهما ناظران إلى التكليف.
ثم إن ما استظهره من حديث «لاضرر ولا ضرار» من انه راجع الى نفي الحكم التكليفي، خلاف الظاهر من الحديث.
بل الظاهر منه في قصة سمرة على نقل ابن بكير عن زرارة من قوله صلى الله عليه وآله للأنصاري: «اذهب فاقلعها وارم بها إليه، فإنه لاضرر ولا ضرار» نفي سلطنة المالك في ابقاء النخلة في محلها؛ لمناسبة كون لاضرر علة لقوله صلى الله عليه وآله « اقلعها » بخلاف ؟ وارید منه إرادة التكليف، فان حرمة الضرر لايوجب جواز القلع، الا ان يقال، أن الأضرار حيث كان حراماً وهو يحصل بوجود النخلة، فاللازم إفناء النخلة عملاً بفريضة النهي عن المنكر.
وهذا كمثل أن يقال: انه يجب او يجوز قطع لسان المرتکب للغيبة، حتى لا تتحقق الغيبة حتماً لمادة الفساد، وعملاً بالنهي عن المنكر، ومن المعلوم انه مما لا يلتزم به أحد.
ويؤيد ما استظهرناه من استفادة الحكم الوضعي من الحديث، أن العلماء رضوان الله عليهم تمسكوا في إثبات الخيار فيما كان اللزوم ضرورياً، وفي نفي وجوب الوضوء فيما كان ضرريًّا بالحديث، وكذا تمسكوا في عدم وجوب سبك الدراهم المغشوشة؛ لتعيين مقدار الزكاة اذا استلزم الضرر به، فراجع كتبهم.
الثاني من الأقوال حول مفهوم حدیث لا ضرر ولا ضرار، ما نقله الشيخ الأنصاري عن بعض الفحول، وهو أن الضرر المنفي في الحديث هو الضرر المجرد لا الضرر المتدارك. فكما ان مايحصل بازائه نفع لايسمّی ضرراً، كدفع مال بازاء عوض مساوٍ له أو زايد عليه، كذلك الضرر المقرون بحكم الشارع بلزوم تداركه، إلى أن قال: فإتلاف المال بلا تدارك، ضرر على صاحبه، فهو منفي. فاذا وجد في الخارج فلابد أن يكون مقروناً بلزوم التدارك.
ثم أورده عليه بامور ثلاثة:
الأول: أن الضرر الخارجي لا ينزّل منزلة العدم الا بالتدارك فعلا، وامّا الضرر الذي حكم الشارع بلزوم التدارك لايقال انه منفي.
الثاني: أن ظاهر قوله “صلى الله عليه وآله: «لاضرر في الإسلام» کون الاسلام ظرفاً للضرر، فلايناسب أن يراد به الفعل المضرّ، وانّما المناسب الحكم الشرعي الملقى للعباد، نظير قوله «لا حرج في الدين».
الثالث: أنه لو كان معنى الحديث لزوم التدارك على الضرر الواقع في الخارج، فلا يشمل الاضرار بالنفس فيما اضرّ انسان نفسه، بأن يتوضأ مع أنه ضرر عليه.
ومن المعلوم ليس هذا حكم بلزوم التدارك من احد، فاذن لابد من الفرق بين الأضرار بغيره، والاضرار بنفسه، مع أن العلماء – رضوان الله عليهم – لم يفرقوا بين الموردين في الاستدلال بالحديث فيهما(۱).
ولا يخفى أن هذه الموارد واردة على هذا التفسير، اذا كان المراد من نفي الضرر نفيه خارجاً، واما اذا كان المراد منه نفي الضرر ادعاءً، فلا؛ وذلك كمثال أنه اذا أوقع شخص ضرراً على غيره، وجب عليه من الشارع أن يتداركه فيصح أن يدّعي أن الضرر منفي.
وبعبارة أخرى انه يكفي في ادّعاء النفي، الحكم بلزوم التدارك ممّن يدّعي أن الضرر منفي، فاذن لا يرد ایراده الأول، وكذا الثاني من الإيرادات؛ لأن كلمة “في الاسلام” في قوله: لاضرر في الإسلام، وان كان ظاهره قيداً للضّرر لا الفعل المضرّ، لكنه يصح أن يدّعى انّ الضرر بمعنى الفعل المضر منفی ادعاءً في الإسلام، وهو مناسب بلا اشکال.
وأما الاشكال الثالث، فوارد من دون دفع، فانّ الوضوء الضرري الذي هو غير محکوم بالتدارك، فليس مورداً للحديث على هذا التفسير، وفرض دلالته على وجوب التدارك، نعم يمكن أن يقال بتدارك هذا الوضوء، باعطاء الثواب في الآخرة، لكنه غير صحيح، فانه لا يصحّ نفي الضرر الخارجي باعتبار اعطاء الثواب عليه في الآخرة عرفاً، الذي هم المعيار في فهم العبادات.
الثالث من الأقوال قوله – رحمه الله- في الكفاية من أنّ الظاهر هنا أنّ «لا» لنفي الحقيقة، كما هو الأصل في هذا التركيب حقيقةً او ادعاءً، كناية عن نفی الآثار، کما هو الظاهر من مثل «لا صلاة لجار المسجد الا في المسجد» (۲)
وقوله : «يا أشباه الرجال، ولا رجال »(۳) فان قضية البلاغة في الكلام هو إرادة نفي الحقيقة ادعاءً، إلى أن قال: ثم الحكم الذي اريد نفيه بنفي الضرر، هو الحكم الثابت للأفعال بعناوينها، أو المتوهّم ثبوته لها كذلك في حال الضرر، لا الثابت له بعنوانه؛ لوضوح انه العلّة للنفي، ولا يكاد يكون الموضوع يمنع عن حكمه وينفيه، بل يثبته ويقتضيه، انتهی(۱).
أما قوله – رحمه الله-: انّ الظاهر انّ «لا» لنفي الحقيقة. كما هو الأصل في هذا التركيب حقيقة او ادعاءً…، فهو لو نسلّمه في هذه الأمثلة، لم نسلّّمه في قوله – صلى الله عليه وآله -: «لاضرر» بل لايمكن ارادة هذا المعنى منه، فان هذا التفسير يسلتزم أن يكون ما بعد «لا» امراً وجودياً، غاية الأمر أنه حيث لم يكن في بعض الموارد مطلوباً للشرع او للعرف، لنفوا وقالوا: هذا الوجود غیر موجود بلحاظ فقدان بعض الآثار، وهذ كمثال قوله عليه السلام : یا اشباه الرجال ولارجال»؛ لعدم ماكان مطلوباً من الرجال فيهم.
أو مثل قوله صلى الله عليه وآله :«لاصلاة لجارالمسجد إلا في المسجد” حيث إنّ صلاة جار المسجد اذا فعلها في بيته، لا في المسجد، ليست مطلوبةً للشارع.
وهذا بخلاف قوله: «لاضرر»، فانه لوقيل أن الضرر الصادر من زید الواقع على عمرو، أنه ليس ضرراً بل افرضوه معدوماً، وهذا كما تراه لم يكن صحيحاً، حيث أنه مخالف للامتنان ومنافِ للرأفة الكاملة الموجودة في الخالق المتعال بالنسبة إلى عباده.
نعم هذا المعنى في المثالين، أو في مثل البيع الغبني، ممّا يكون في نفيه امتنان فلابأس به.
أما قوله : ثم الحكم الذي اريد نفیه بنفي الضرر، هو الحكم الثابت للأفعال بعناوينها لا الثابت له بعنوانه… فهو نظير قوله في حديث الرفع من أنه رافع للآثار التي للأفعال بعناوينها الأولية، وأما الآثار التي كانت للأفعال بعنوان الضرر أو الخطأ والنسيان فلا.
وسيأتي انه غير صحيح، وان النفي في حديث «لاضرر» عام شامل للأحكام الضررية أيضاً، كمثال الخمس والزكاة ونحوهما، لكنّها خرجت تخصيصاً لاتخصّصاً.
الرابع من الأقوال ما قاله الشيخ -رحمه الله-:
من أن المراد منه نفي الحكم الشرعي الذي يلزم منه ضرر على العباد. وبعبارة أخرى أنه ليس مجعول ضررّي في الاسلام يلزم من العمل به ضرر على العباد، وذلك مثل أن يقال: ان الحكم بلزوم البيع مع الغبن ضرر على المغبون، فهو منفي في الشريعة.
وكذلك وجوب الوضوء مع الضرر المالي ضرر، فمنفي في الإسلام، وكذلك تجویز الإضرار بالغير ضرر، فمنفي أيضاً(1).
أقول: إن هذا الوجه ربّما يوجّه بتوجيهات:
منها: ما قال المحقق الخراساني في التعليقة: من ذكر المسبب وارادة السبّب وهو الحكم. ولكنه هذا النحو من المجاز، لم يكن شايعاً في المحاورة. ولايخفى أنّ هذا وارد عليه نفسه أيضاً حيث قال -رحمه الله- بنفیه ادعاءً لجهة نفي آثاره، فان نفي المسبب، وهو الضرر، بلحاظ نفي السبب، وهو الحكم لم يكن متداولًا في المحاورة أيضاً.
ومنها: أن يقال بتقدير الحكم، بمعنى لا حكماً ضررياً، كما يقدّر العمل في قوله “صلى الله عليه وآله”: «بعثت على الشريعة السهلة »(۲) وهذا لجهة أن الشريعة لم تكن متصفاً بالسهلة، بل المتّصف بها هو العمل، وهذا شایع.
ومنها: أن يقال: بأن اسناد النفي الى الضّرر، اسناد مجازي، بل المسند اليه حقيقة هو الحكم الذي كان سبباً للضرر، وهذا شایع أيضاً.
ثم إنّه تظهر الثمرة بين ما قاله الشيخ: من تعلق النّفي بالحكم الموجب للضرر، وبين ماقاله المحقّق الخراساني: من تعلّق النفي بمتعلقه وهو الفعل الضرري باعتبار نفي الآثار، والحكم انه لو كان متعلق التكليف غير ضرري، ولكن الجمع بين محتملاته ضرري، وذلك فيما اذا تعلق العلم الإجمالي بشيء اشتبه بين أفراد كثيرة، وكان الجمع بينها ضررياً، فعلى ما قال الشيخ، كان المورد من موارد لاضرر؛ لأن الحكم بوجوب الأحتياط ضرري، وعلى ما قاله المحقق الخراساني ليس منها؛ لأن الفعل بما له الحكم ليس ضرورياً.
وتظهر الثمرة أيضا في البيع الغبني وأمثاله مما يكون اللزوم فيه ضررياً لا اصله، وكذا فيما كان الوجوب فيه ضررياً لا الاستحباب والجواز، فعلى قول الشيخ -رحمه الله – لا ينفي الاستحباب والجواز لعدم كونهما ضررياً، وأما على قول المحقق الخراساني فمنفيان لما سبق من أن الفعل – وهوالبيع – لجهة استلزامه ضرراً منفي، فلا يصح.
والذي يظهر لنا أن هذا الوجه في مفاد الحديث هو الأقوى، لما سبق في مقالنا سابقاً، من أنّ الشارع اذا اخير بعدم الضرر في الخارج، فليس معناه انّه معدوم تكويناً، فلا يتحقق في الخارج، لأن ايجاد الضرر أو عدمه في الخارج وتكويناً، ليس تحت قدرته وباختياره، فاذن كان اخباره بعدم الضرر، فلابد ان يكون لجهة منعه وتحرمه كما هو المراد من قوله تعالى: «ماجعل عليكم في الدين من حرج»(۱) بمعنى أن الحرج غير مجعول تشريعاً لا تكويناً.
هذا اذا كان الحديث غير مذيل بكلمة «في الإسلام» والا كان المناسب تقدير الحكم الذي هو احد المحتملات التي ذكرت وجهاً لكلام الشيخ وقد سبقت.
المصدر: كتاب ” ثلاث دراسات في الفقه والمشتبه ” والذي يحتوي على البحوث الثلاثة التالية:
البحث الأول حول «قاعدة لاضرر» وهي من تقریرات بحث آية الله السيد محمد المحقق الداماد – قدس سرہ ۔ ألفها سماحة آية الله السيد أبو الفضل مير محمدي الزرندي “ره”. كما قام – رحمه الله- بتحقيق رسالتين أخريين للمولى النراقي – أعلى الله مقامه – الأولى حول «قاعدة لاحرج» والثانية في تصحيح أسماء الرجال.