محمد حسين فضل الله

المنهج الفقهي عند العلامة السيد محمد حسين فضل الله”ره” / السيد محمد الياسري الحسيني

الاجتهاد: لا يمكن لباحثٍ أو مؤرخ أو فقيه أن يغفل دور العامليين في إغناء الحركة الثقافية، وبالأخص في جانبها الديني، وإسهامهم على مستوى التأسيس والتطوير والتنمية، لتبرز أسماء لامعة وكبيرة ملأت دنيا العلم والمعرفة، لن تمر عليها السنون إلا هي تتجدد وتكبر، من أمثال الشيخ محمد بن مكي المعروف بالشهيد الأول، والشيخ زين الدين بن علي المعروف بالشهيد الثاني، والشيخ علي بن عبد العالي الكركي المعروف بالمحقق الثاني، والشيخ محمد بن الحسين المعروف بالشيخ البهائي، مرورًا بالسيد محمد صاحب (المدارك) والشيخ حسن نجل الشهيد الثاني والشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي، وانتهاءً بالمعاصرين من أمثال السيد عبد الحسين شرف الدين، والسيد محسن الأمين، والشيخ محمد جواد مغنية، والإمام المغيّب السيد موسى الصدر والسيد محمد حسين فضل الله والشيخ محمد مهدي شمس الدين. / بقلم: محمد السيد طاهر الياسري الحسيني

أسماءٌ لامعة تركت بصماﺗﻬا بوضوح في عالم المعرفة، إن في حقل الفقه أو التفسير أو الحديث أو علم الرجال، فضلًا عن الإسهام المتنوع في حقول معرفية أخرى.

وفي هذا السياق يأتي الحديث عن الفقيه الكبير السيد محمد حسين فضل الله “رحمه الله” كونه يمثل تواصلًا مع هذه الأسماء ومتصلًا ﺑﻬا، ليكون رمزًا لمرحلة شديدة الحساسية بما تمثله من تطور الاتصالات وتقديم التكنولوجيا، بما جعل العالم قرية واحدة تضج بالتفاعل المتواصل، ليكون السيد الكبير اﻟﻤﺠدد والمبدع والحارس الأمين على رسالة الإسلام، دونما تعصّب أو انكفاء.

وإذا كان السيد محمد حسين فضل الله مجددًا مبدعًا، فإن ذلك لا يمثل خروجًا على الثوابت والقواعد، لأن التجديد لا يعني القطيعة معها، كما أنه لا يمثل إبتداعًا أيضًا، بقدر ما يعني التفكير ﺑﻬذه القواعد والثوابت، دونما اعتراف بسلطة الماضي وذهنيته، وإلا فإن السيد تقليدي إن صحّ التعبير في أدواته الموروثة التي أنجزت تاريخياً وأصبحت بحكم المقطوع به، فهو فقيه يحتفظ بالمنهج التقليدي ويستضيء بما أنتجه العقل الفقهي “الإمامي الاثنا عشري ” على مدى الزمن، ليضيف لبنة هنا وينتزع لبنة أخرى هناك .. بدأت تتآكل على مدى الأيام، وهو أي السيد في إطار المعاصرة متفرد لا ينازعه فيها منازع ولا يباريه معها مبارٍ.

والسيّد، كأي فقيه إسلامي، يعتبر القرآن الكريم المصدر “الدليل” الأول في جملة مصادره الفقهية باعتباره الأساس التشريعي الأول عند المسلمين كافة.

ولكنه مع ذلك لاحظ على الأسلوب الاجتهادي تأخره عن مواكبة الكتاب الكريم في الجانب التشريعي، على خلفية الاعتماد في هذا اﻟﻤﺠال على الآيات القرآنية التي عالجت جوانب تشريعية بشكل مباشر، دون غيرها، إلى درجة حصر معها الفقهاء آيات الأحكام في خمسمائة آية فقط.

وهو منهج لم يوافق عليه السيد محمد حسين فضل الله ، لأن القران في نظره ” انطلق في حركة الدعوة ليؤصل القواعد في دائرﺗﻬا الواسعة”(1)، ولذلك عدّ جملة من الآيات الكريمة في القواعد العامة كوﻧﻬا تشكل من وجهة نظره مرجعًا تشريعيًا لعدد من الأحكام من قبيل استدلاله بقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا}، على حرمة التدخين بتقريب أن مفادها يعني: أن كل ما كان ضرره أكثر من نفعه فهو حرام، واستدلاله بقوله تعالى: {فِإمْسَاكٌ ِبمَعْرُوفٍ َأوْ تَسْريحٌ بإحْسَان}، كوﻧﻬا قاعدة قرآنية تضبط علاقات الرجل بالمرأة، على نحو لايسوغ للرجل أن يجمّد حياﺗﻬا كما يحلو له ذوقه ومزاجه.

ولذلك، نظّر السيد لمسألة إمكانية تصدي الحاكم الشرعي لتطليق المرأة التي غاب عنها زوجها وإن بذل لها ولي الزوج النفقة (2).

وبخصوص المصدر الثاني للتشريع، فإن شأن السيد محمد حسين فضل الله شأن أي فقيه إسلامي، إلا أنه لاحظ على السُنة الشريفة أﻧﻬا “وردت في غالبيتها لتحاكي تطبيقات ولتجيب عن أسئلة”(3)، ولذلك لابدّ من التعاطي معها بما يضعها في إطارها الصحيح خشية جعلها في مواجهة القرآن الكريم، في وقت لابدّ من عرضها عليه ما لم تكن في مقام التخصيص مثلًا، وخشية النظر إلى هذه الروايات كأشلاء متفرقة لاترجع ِإلى ضابط، بحيث يجعل كل نصٍ في مورد خاص على أن له شخصية خاصة تختلف عن شخصية النص الآخر الوارد في مورد آخر، ولذلك تبنّى ولا تفكيك بينهما، ما لم تقم قرائن على خلاف ذلك (4).

وفي السياق نفسه، يحتفظ السيد محمد حسين فضل الله على طريقة بعض الفقهاء في النظرة الى النصوص المتعارضة بدوًا ومحاولة إضفاء علاقة التقييد أو التخصيص عليها، كما يظهر ذلك في عدد من الموارد الفقهية، ومن جملتها عدم جواز (زواج أبو المرتضع في أولاد صاحب اللبن ولادًة ورضاعًا)، كما ورد في بعض الروايات، مع أن هذه الروايات (بناءً على استفادة الحرمة) لا تتفق مع القاعدة العامة في الرضاع مما روي عن رسول الله (ص): يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب”، إذ اعتبر بعض الفقهاء بل مشهورهم أن الروايات المشار إليها مخصصة للقاعدة المذكورة في الرضاع، مع أن الملاحظة التي سجلها السيد على مثل هذا التفسير تستند إلى استبعاد صدور تخصيص أو تقييد في مثل هذا المقام، لأنه تخصيص أو تقييد لا يتقبله العرف وطريقة العقلاء، لأن هذه الروايات قد صدرت في فترة متأخرة جدًا، وبالتحديد عن الأئمة المتأخرين “الرضا والجواد والعسكري (ع)”، في وقت لم يصدر فيه روايات من هذا القبيل عن الإمام الباقر والصادق (ع)، على كثرة ما صدر عن الإمام الصادق (ع) خصوصًَا.

وبانتماء السيد إلى مذهب أهل البيت (ع)، جاءت آليات فقيهنا هي نفسها آليات الفقيه الشيعي أيِّ فقيه، فلم يعبأ بالأدلة الظنية التي لم يُحرز إمضاؤها من الشارع واعتبارها حجة في الكشف عن الحكم الشرعي، كما هو شأن الاستحسان والقياس وما شابه ذلك.

ولكنه مع ذلك، لاحظ شدة الحساسية الفقهية لدى فقهاء الشيعة تجاه القياس مثلًا ، في وقت يفترض فيه أن يصار إلى ضابط دقيق للتمييز بين ما هو من القياس وما هو ليس منه، بحيث يمكن معه التعدي من مورد إلى آخر في مقام، وعدم التعدي في مقام آخر (5) حذرًا من الوقوع في الاشتباه بين ما أسماه الشيخ محمد حسن النجفي “القياس الجائز والقيام الممتنع”(6)، وهو محذور يقع فيه فقهاء كبار كما لاحظه الشيخ محمد حسن علي الشيخ الكركي، الذي استغرب منه وقوعه في القياس مع شدة حذره ومحافظته عن الوقوع فيه (7)، وعندئذ يكون السيد على حقٍ في الدعوة إلى التوفر على ضابط ينقذ من هذا المحذور، مع كثرة الموارد التي يقال إﻧﻬا خاصة لا يجوز التعدي منها إلى غيرها، في وقت لا يعتبرها فقهاء آخرون موارد خاصة، بل مجرد نماذج أو مجرد مثال يمكن التعدي منه ِإلى أمثاله.

وللوقوف على مورد مختلف فيه، يمكن أن نشير ِإلى مسألة جواز دفع الخراج إلى الفقيه أو عدمه، إذ الذي ورد في الروايات جواز دفع الخراج إلى الحاكم الجائر وبراءة ذمة الدافع، فوقع الخلاف بين الفقهاء في التعدي إلى مسألة دفع الخراج إلى الفقيه، فاعتبر بعضهم أن التعدي من القياس الممنوع، لأن ما ورد من الجواز فهو مخصوص في الدفع ِإلى الحاكم الجائر، ومنهم من اعتبر التعدي إلى الفقيه مما يقطع به الفقيه بأدنى نظر وتأمل، كما عن الشيخ صاحب الجواهر (8)

الملامح العامة للمنهج الفقهي عند السيد محمد حسين فضل الله :

في ضوء المقدمة، يمكن تحديد الملامح العامة للمنهج الفقهي عند السيد فضل الله في نقاط عدة:

أولًا: الطابع العرفي

يتعاطى الفقيه مع الأدلة الشرعية التي يفترض أﻧﻬا صادرة عن الشارع المقدّس، في محاولة منه لفهمها واقتناص المدلول الشرعي منها. ولا إشكال أن قراءة الفقيه للنص الشرعي لا تختلف عن قراءة النصوص الأخرى الصادرة باللغة العربية، ولا يختلف فهم النص الشرعي عن فهم أية وثيقة مكتوبة باللغة العربية، وذلك لجهة أن الشارع في أسلوبه البياني اللغوي يجري وفقًا لأصول وقواعد المحاورات عند العرف.

ولذلك دأب الفقهاء على فهم هذه النصوص وفقًا لما عليه العرب، ِإلى درجة يمكن أن تكون معها مرتكزات العرف قرائن للتعميم تارًة وللتخصيص تارة أخرى، كما هو الحال في ما يعرف بقاعدة “مناسبات الحكم والموضوع” مثلًا، ولكن مع ذلك نجد هناك اتجاهًا لا يستهان به أخذ يميل ِإلى قراءة النصوص الشرعية بطريقة فلسفية، ودخلت معها ليس لغة الفلسفة والمنطق فحسب، بل وآلياﺗﻬا وقواعدهما أيضًا.

وقد لاحظ السيد محمد حسين فضل الله على هذا الاتجاه أنه استغرق وبغيبوبة طولية في ضباب الألفاظ، وبمزيد من الحذلقة والمماحكة اللفظية، فيما هيمن الأسلوب الفلسفي والطريقة العقلية المحضة على طريق الاستدلال الفقهي.

وإزاء هذا الاتجاه، لا يُخفي السيد امتعاضه من هكذا طريقة في التفكير وطغياﻧﻬا في المدرسة الفقهية، وهو غالبًا ما يلاحظ على أكابر الفقهاء دقتهم العلمية وتكييفاﺗﻬم الفنية الصناعية، ويثني على مقدرﺗﻬم الفذة في هذا اﻟﻤﺠال، إلا أنه مع ذلك لا يجد مبررًا ﻟﻤﺠاراﺗﻬم في هذا الاتجاه، لأنه يؤكد أن فهم (النصوص) يجب أن يتم بعيدًا عن الطريقة الفلسفية، بل إن الاستغراق فيها قد يورّط الفقيه بنتائج بعيدة تمامًا من الفقه والشريعة.

وقد يكون من الطريف الإشارة ِإلى تعليق وموقف عدد من الفقهاء على مسألة فقهية ذكرها السيد كاظم اليزدي في كتابه (العروة الوثقى) من باب الإجارة، إذ ورد التالي :” إذا قال: إن خطت هذا الثوب فارسيًا أي بدرزٍ فَلَكَ درهم، وإن خطته روميًا بدرزين فلك درهمان”، والموقف الفقهي تجاه هذه المسألة هو البطلان، وذلك للجهالة، إذ اشترط الفقهاء أن يكون العوضان معلومين، وليس الأمر كذلك في الفرض.

والظريف في توجيه البطلان بطريقة فلسفية كما ذكره السيد الخوئي موافقًا لأستاذه الفيلسوف الشيخ محمد حسين الأصفهاني، ” إن هذه الإجارة قد يفرض انحلالها إلى إجارتين متقاربتين؛ على عملين بأجرتين؛ كل منهما في عرض الأخرى، ولا ينبغي الشك حينئذٍ في بطلان كلتا الإجارتين، لعدم قدرة الأجير على الجمع بين هاتين المنفعتين في وقت واحد.

وعليه، فوجوب الوفاء ﺑﻬما متعذر، ومعه لا يمكن الحكم بصحتها معًا، ولا مرجّح لأحدهما على الآخر، وقد يفرض تعلقهما بأحد هذين المردّد، ولا تعيّن له لدى التحليل، لا بحسب الواقع ولا في علم الله سبحانه وتعالى، وذلك لأن من الجائز أن الخياط لا يخ ط هذا الثوب أصلًا ولا يصدر منه العمل في الخارج بتاتًا”.

وقد عّلق السيد محمد حسين فضل الله على رأي أستاذه “الخوئي ” بالقول: “إن عالم المعاملات هو عالم العقلاء، والعقلاء يجرون معاملاﺗﻬم على حسب حاجاﺗﻬم، سواء من خلال الخصوصيات التي تختلف فيها الرغبات أو من دوﻧﻬا، فقد يحدد المتعامل الخصوصيات بشكل لا يحتمل أي ترديد، وقد لا يهمه مثل هذا التحديد، ويكتفي بأصل الموضوع بشكل لا يحتمل أي ترديد، وقد لا يهمه مثل هذا التحديد، ويكتفي بأصل موضوع المعاملة تاركًا للأجير بحسب خبرته تحديد هذه الخصوصيات، إذ قد لا تكون مثل هذه الخصوصيات ضرورية إلى حد كبير بحيث لا يقدم على المعاملة لولاها، فإذا كانت المسألة كذلك تكون المعاملة صحيحة.. ” (9).

ومن نظير هذا التكييف العقلي – الفلسفي ما ورد على لسان السيد الخوئي في مورد فقهي آخر، وبالتحديد في شرطية الطهارة في الصلاة والطواف، حيث وقع البحث بين الفقهاء في مدى اشتراط هذه الطهارة في تمام الصلاة والطواف أو عدم اشتراطها على هذا النحو، بحيث ذكر السيد الخوئي تكييفًا أقرب ما يكون ِإلى عالم الفلسفة منه ِإلى عالم الفقه والتشريع، حيث ذكر أن غاية ما يستفاد من أدلة الاشتراط هو اقتران أجزاء الصلاة والطواف، وأما الأكوان المتخللة بين هذه الأجزاء، فلا يشترط فيها الطهارة ما لم يدل دليل على خلاف ذلك (10).

وقد لاحظ السيد على أستاذه الخوئي أن ما ذكره خلاف الفهم العرفي جدًا، وما ورد في دليل اشتراط الطهاة لا يمكن أن يفهم بمثل هذا الفهم الدقي، الذي لا يلتفت إليه المخاطب العرفي، حيث إن ما يفهمه هو أن يكون متطهرًا حالة الصلاة والطواف، بحيث تكون صلاته وطوافه عن طهور أو معه، بلا فرقٍ بين أجزائه وأكوانه، فيكون المناخ الذي يكون فيه المصلي أو الطائف مناخ التطهر، وهو عمل مركب واحد، لا يمكن التفكيك بين أجزائه وأكوانه ﺑﻬذه الطريقة (11).

وعلى خلفية هذه الذهنية، اخترع ما ادعي من عدم فعلية بعض الأحكام، على نحو تكون صادرة في زمن النبي (ص) مع عدم فعليّتها وتنجزّها في ذمة المكلف، وبذلك يفسّر صدور بعض الروايات التي تشكل تقييدًا أو تخصيصًا، كما أشرنا إليه في روايات تحريم زواج أبي المرتضع في أولاد صاحب اللبن، مما اعتبره السيد على خلاف الطريقة العرفية، ولا دليل على عدم فعلية بعض الأحكام، بل الدليل على خلاف ذلك.

ثانيًا: مرجعية القرآن

من المسائل المهمة التي يبلغ البحث فيها مداه، مسألة تحكيم مرجعية الكتاب الكريم، ولا نعني به كونه المصدر الأساس للتشريع، فإن ذلك مما لا ريب فيه عند المسلمين جميعهم، بل نعني به مرجعية الكتاب الكريم في فهم الأخبار والروايات.

وبمعنى آخر، فإن السنة الشريفة من وجهة نظر السيد ينبغي أن تفهم وتحدد دلالاﺗﻬا في إطار المنظومة القرآنية، إذ لا يكمن فهم السنة بمعزل عن المرجعية الأساسية للقرآن ، خصوصًا وأن هناك سياقًا واضحًا لبعض الروايات يتصدى فيها (المعصوم) للإشارة فيه إلى العناوين القرآنية، كما سنشير إليه.

ويلاحظ الباحث على منهج السيد محمد حسين فضل الله الحضور الفاعل لهذه المرجعية، وفي موارد فقهية عديدة، ومنها موارد حرجة وتشكّل إشكاليات على مستوى الروايات في وقت يمكن فيه تجاوزها مع تحكيم المرجعية القرآنية،

ومن هذه الموارد:
١- يلاحظ الباحث على الفقه التقليدي أن هناك إشكاليات واضحة بصدد صياغة العلاقة الزوجية ومفاعيلها، ويبرز ذلك بوضوح في مسألة سلطة الرجل الزوج على المرأة /الزوجة، وطبيعة الوفاء بحقوق كل منهما تجاه الآخر، بل وتبرز الإشكالية بشكل أعمق في مسألة حل الخلافات وبلوغها الذروة، حيث تصل ِإلى النهاية.

وبتحديد أكبر، يمكن الإشارة ِإلى حق الزوجة الجنسي الذي لا يرى بعض الفقهاء أن لها حقًا أكثر من أن يكون مرة واحدة كل أربعة أشهر، وذلك تبع ًا لروايات في هذا اﻟﻤﺠال، وفي وقت لا يمكن من وجهة نظر السيد فيه قبول هذه الروايات وفق الرؤية القرآنية، كما في قوله تعالى: {وعْاشروْهُنَّ ِبالمَعْرُوفِ}، وقوله تعالى : {وََلهُنَّ مِثل الَّذِي عَليْهنَّ ِبالمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَال عََليْهنَّ دَرَجَة} وقوله تعالى: {فِإمْسَاكٌ بمَعْرُوفٍ َأوْ تَسْريحٌ ِبِإحسَْانٍ}.

وفي ضوء هذه الآيات الكريمة، عالج السيد مسائل شديدة الحراجة، كما في طلاق المرأة التي يغيب عنها زوجها، إذ يرى السيد إمكان طلاقها في ضوء المفهوم القرآني، وإن أنفق عليها ولي الزوج، لأن مثل هذا الإنفاق لا يفي بحاجات الزوجة الأخرى (12)

٢- ومن الموارد التي وقع فيها الجدل، مسألة إرث الزوجة من العقار، حيث إن المشهور عند الإمامية حرماﻧﻬا من الأرض وأخذها قيمة العقار من غير الأرض، وذلك لعددٍ من الروايات، إلا أن السيد لاحظ على ذلك أن مثل هذه الروايات مخالفة للقرآن الكريم، بل إن ما ورد في خبر ابن أبي يعفور من كوﻧﻬا ترث من الزوج من أي شيء كما يرث منها هو الموافق للقرآن الكريم، فيكون مقدمًا على الأخبار الأخرى، بل لا يمكن الإذعان لروايات الحرمان في وقتٍ لم يشر فيه القرآن الكريم إلى شيء من ذلك، ولو كان ثمة تخصيص للقرآن، لكان صدر عن النبي (ص). وليس هناك ما يشير إليه، خصوصًا وأن المسألة ابتلائية جدًا، والدواعي كثيرة على النقل (13).

٣- ومن الموارد الفقهية، التي اختلفت فيها الروايات، مسألة حرمة أو حلية السمك الذي لا فلس ولا قشر له، إذ اختار المشهور روايات الحرمة في ضوء بعض الترجيحات، إلا أن السيد لاحظ على هذا الموقف عدم الوضوح، وأنه أغفل الإشارة ِإلى مرجعية القرآن، فيما ورد في بعض الروايات، حيث روى محمد بن مسلم عن الصادق (ع) أنه سأله عن الجر ي والمرماهي والزمير وما ليس له قشر من السمك أحرام هو؟ قال لي: يا محمد . اقرأ هذه الآية التي في الأنعام : { ُ قل لاَّ َأجدُ فِي مَا ُأوْحِيَ ِإَليَّ مُحَرَّمًا}، قال: فقرأﺗﻬا حتى فرغت منها، فقال : “إنما الحرام ما حرّم الله ورسوله في كتابه، ولكنهم قد كانوا يعافون أشياء فنحن نعافها”(14).

وقد ترقى السيد لاحقا – وبالتحديد – في العام ١٤٣٠ هـ إلى الإفتاء بحلية صيد البحر وطعامه مطلقًا، وذلك لجهة اطلاقات القرآن.

٤- وفي ضوء هذا المنهج القرآني، رجّح السيد روايات بلوغ الأنثى بالحيض على روايات بلوغها بالسن وأﻧﻬا تبلغ با لتاسعة من العمر، وذلك على أساسين أحدهما : عرض الروايات على القرآن الكريم والذي أناط تسليم الأموال ِإلى غير البالغين ببلوغهم ونضجهم الجنسي، إذ قال الله تعالى : {وَابْتَلوْا اليَتَامَى حَتَّىَ ِإذا بَلغُوْا النِّكاحَ َ فِإن آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا َ فادْفعُوْا ِإَليْهمْ َأمْوَاَلهُمْ}، حيث إن عالم الأموال وعالم التكليف واحد.

كما هو مسلَّم به عند جمهور الفقهاء، وثانيهما : عرض الروايات بعضها على بعض، لكون روايات البلوغ بالحيض مفسّرة وناظرة ِإلى الروايات الأخرى (15).

٥- وفي ضوء هذا المنهج نفسه، عالج السيد روايات الغناء، حيث استفاد الفقهاء منه حرمة الغناء مطلقًا، وبعنوان أنه غناء، في وقت لاحظ فيه السيد على الفقهاء إغفالهم الإشارة ِإلى المنهج القرآني في تفسير بعض الروايات . حيث استدل الإمام (ع) نفسه على حرمة الغناء بعنوان أنه من قول الزور في إشارة إلى قوله تعالى: {وَاجْتَنبُوا َ قوْل الزُّوِر}، وبعنوان أنه من لهو الحديث الذي يراد به الإضلال عن سبيل الله، في إشارة إلى قوله تعالى : {وَمنَِ النَّاس مَن يَشْتَ ري َلهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبيل اللَّه }. وبذلك حكم السيد بحرمة ما كان من الغناء مصداقًا لهذه العناوين، دون ما ليس منه، كما لو كان مضمونه حقاً(16).

٦- ولعل من أهم الموارد الفقهية التي حاول أن يعالجها السيد في ضوء المنهج القرآني، مسألة الخلع وكونه واجبًا على الرجل حين بذلالزوجة أوْ لا؟ ومن الجدير بالذكر أن هناك عددًا من فقهاء الإمامية وفي مقدمتهم الشيخ الطوسي اختاروا وجوب الخلع، واستدلوا له بأن النهي عن المنكر واجب، وإنما يتم ﺑﻬذا الخلع فيجب.(17)

أما السيد محمد حسين فضل الله فقد حاول التنظير له بعيدًا عن استدلال الشيخ الطوسي وأمثاله، وردّه ِإلى المنهج القرآني، حيث إن قوله تعالى : { َ فإنْ خِفتُمْ َألاَّ يُقِيمَا حُدُود اللهِ َ فلا جُنَاحَ عََليْهمَا فِيمَا افتَدَتْ ِبه}، يعني أن الحل مما يريده الله على كل حال في حالةٍ من هذا القبيل، بحيث يخشى ألا يقيما حدود الله، ويتم تجاوزها أو انتهاكها، ولو ترك للرجل بأن يمتنع على نحو يكون كالطلاق فعندئذٍ يكون الأمر عديم الفائدة، هذا فضلا عن أن روايات شروط البذل ، إذ يمكن أن يستفاد منها أﻧﻬا تؤكد على أن الطلاق واقع على كل حال.

ثالثًا: الطابع الواقعي

يتسم فقه سماحة السيد فضل الله بالواقعية في النظر ِإلى المسائل الفقهية بعيدًا عن النظرة التجريدية أو الافتراضية التي لا واقع لها، كما دأب على ذلك بعض الفقهاء حيث سادت الفقه أجوبة جاهزة(معّلبة) لا مبرر لها إلا كوﻧﻬا صحيحة فنيًا وصناعيًا.

ويمكن أن نشير ِإلى مورد فقهي يتراءى منه بوضوح هذا الحس، إذ اعتبر جماعة من الفقهاء أن الحاجّ يجب عليه أن يأكل شيئًا من الهدي ويهدي ثلثه إلى بعض الناس ويتصدق بثلثه على بعض الفقهاء، مع اشتراط أن يكون الفقير والمهدى إليه مؤمنًا، مع ندرة هذا الفرد، إذ كيف يمكن للحاج العثور على هذا الفرد في ذلك المكان ؟ ولذلك ذكروا أن بالإمكان أن يتوكل الحاج عن فقير ولو في بلده، فيقبض الحاج ثلثه نيابة عنه، وبذلك يؤدي الوظيفة الشرعية.

وبغضَّ النظر عن المناقشة في أصل الحكم بالوجوب أو المناقشة في شرط الإيمان في الفقير، فإنه كيف يتع ّ قل انطباق عنوان الإطعام الوارد في القرآن عرفًا على هذا الفرض، بحيث يتقبّل الحاج الثلث المذكور نيابة عن الفقير وهو لا يحصل على شيء منه؟

إذ إن الوارد في القرآن الكريم هو عنوان الإطعام، لا مجرد الإنشاء ليحصل التمليك به، ولو على نحو الافتراض، ومحاولة التصحيح فنيًاوإن كان ذلك بعيدًا عن الواقع، وهذا المورد مما يلتقي عليه الشهيد الصدر والسيد فضل الله.

ومن الموارد التي يغفل فيها بعض الفقهاء البعد الواقعي للمسألة، ما أفتى به البعض بصحة تزويج الصغيرة من الولي لغرض رفع الكلفة وتحليل النظر ِإلى أمها، ثم تصدي الولي لتطليقها من الزوج المفترض، لتكون أمها حرامًا على الأخير الذي أنشأ القبول بالزواج لهذا الغرض بينه وبين الولي.

وقد لاحظ السيد على مثل هذا الزواج أنه غير صحيح، لأنه لم ينظر ِإلى واقع الحال، حيث إن مثل هذه الزيجات زيجات غير جادة ولم يقصد فيها الزواج فع ً لا، مع أنه لم ينفِ أن يكون هناك قصد جدي في بعضالحالات، إلا أن معظم هذه الحالات لا تتوفر على هذا القصد الجدي.

وثمة مورد فقهي آخر تبرز فيه هذه الإشكالية بوضوح، وهو مورد ما إذا أقدم عدد من الشركاء على تأسيس (بنك ربوي )، فإنه لا إشكال أنه عمل غير مشروع، ولكن بعض الفقهاء كما عن السيد الخوئي أجاز شراء أسهم هذه الشركة (البنكية) التي أسست لغرض العمل بالحرام، لأﻧﻬا لم تعمل بالحرام فعلا، وذلك ربما بدعوى : إن الأسهم و زاﻧﻬا وزان البضاعة أو السلعة التي يجوز التعامل ﺑﻬا وتداولها من حيث هي بضاعة وسلعة وأموال حلال، ولذلك فيجوز بيع وتداول هذه الأسهم في السوق قبيل الشروع في العمل الحرام.

وقد لاحظ السيد على فتوى أستاذه الخوئي : أنه لاحظ طبيعة السهم من حيث إنه مال نظير أية سلعة أو بضاعة، إلا أنه لحاظ لا ينسجم مع واقع الحال، لأن السهم المذكور لا قيمة له إلا من جهة كونه حصة في الشركة المذكور، وليس وزانه وزان أية سلعة أو بضاعة في السوق، فيكون شراء السهم هو عبارة عن الاشتراك في تأسيس الشركة أو البنك الربوي، وعندئذ لا يبقى فرق بين التأسيس والشراء،  فإذا كان التأسيس محظورًا، فكذلك يكون الشراء محظورًا أيضًا، ويكون جواز شراء سهم شركة ما فرع صحة هذه الشركة، إذ لا قيمة لهذا السهم ما لم تكن ثمة شركة، فإذا كانت الشركة باطلة، فأي معنى للتفكيك بين جواز شراء السهم وعدم جواز الاشتراك بقاءً في الشركة التي تتعامل في المستقبل بما هو محظور شرعًا(18).

رابعًا: النزعة التاريخية

وثمة نزعة تاريخية طبعت المنهج الفكري للسيد عمومًا، والمنهج الفقهي بشكل خاص، وهي نزعة ليست علمية على المستوى المنهجي وحسب، بل يمكن أن تلقي بظلالها على النتائج موضوع البحث التي يصبو إليها الفقيه، أي فقيه، فقد تبدو للفقيه نتائج قد يقتنع ﺑﻬا، إلا أﻧﻬا لا تثبت أمام النقد من وجهة نظر تاريخية، أو ما يمكن تسميته بالمناسبات التاريخية على حد تعبير الشهيد الصدر.

هنا، يمكن أن نلفت النظر إلى أن غياب البعد التاريخي في التفكير الفقهي، قد يؤدي ِإلى نتائج وخيمة قد تقلب النتائج المرجوة فقهيًا، وتبدو بصورة مغايرة تمامًا لما هو الواقع.

ويمكن أن أشير ِإلى أهم القراءات للسيد في هذا اﻟﻤﺠال، حيث إن هناك تسالمًا عند الفقهاء الإمامية من أنه لا يجوز الإحرام للحاج إلا منالمواقيت التي و ّ قتها رسول الله (ص)، بحيث إذا نزل الحاج بالطائرة في جدة فإنه لا بدّ وأن يرجع إلى أقرب ميقات وهو الجحفة للإحرام منه،

وذلك للروايات التي ورد في بعضها ” لا ينبغي لحاج أو معتمر أن يُحرم قبلها ولا بعدها “، و “لا تجاوزها إلا وأنت محرم…” بحيث استفاد منها الفقهاء أﻧﻬا مطلقة بحيث تشمل كل حاج . أما السيد، فإنه لم يستفد منها الإطلاق، بل قرأها في ضوء ما أسميناه بالمناسبات التاريخية، حيث إن هذه المواقيت مو زعة على الطرق المعروفة يومذاك، فكل من مرَّ عليها فإنه يلزمه الإحرام منها، أما لمن لم يمرّ عليها كلية كما إذا نزل بالطائرة في جدة، فإنه لا إطلاق لهذه الأدلة بحيث تلزمه الرجوع إلى الجحفة مث ً لا والإحرام منها.

هذا فض ً لا عن مناقشته في عددٍ من صور حمل الروايات على التقية للتخلص من التعارض، مع أن الواقع التاريخي لا يساعد عليه (19).

خامسًا: المعطى العلمي

في ظل التطور العلمي والتقني في العالم، تقفز ِإلى ساحة البحث العلمي الفقهي عدة مسائل، تفتقر إلى أجوبة شرعية شافية وواضحة، وسيكون الفقيه ملزمًا بتقديم الحلول الشرعية تجاه هذه الصيغ والأوضاع المستجدة التي لا يمكن تجاوزها والقفز عليها، لأﻧﻬا أوضاع بدأت تفرض هيمنتها على حياة المسلمين.

وهناك عدد كبير من المسائل المستجدة التي طرحت على بساط البحث الفقهي من قبيل : التلقيح الصناعي، أطفال الأنابيب، تنظيم الأسرة عن طريق بعض الوسائل الطبية، مثل اللولب وعقد الرحم، والتشريح، ومني المرأة والاستنساخ، وثبوت الهلال بالوسائل الفلكية…

وللسيد حضور كبير فاعل في بحث هذه المس ائل ومتابعتها ومحاولة الإفادة منها، ولعل دوره الأساس في (بحث مسألة ثبوت الهلال بالوسائل الفلكية)، مما لا يخفى، إذ إنه وإن لم يكن الأول في طرح هذه المسألة، إذ كان للشهيد محمد باقر الصدر إسهام في الإشارة إليها مطلع السبعينات، إلا أنه لم يُعرف فقيه خ صوصًا في المدرسة الشيعية الإمامية أنه طرح المسألة ﺑﻬذا العمق والوضوح كما طرحها السيد، على مستوى النظرية وعلى مستوى التطبيق . أنوّه بما سمعته من السيد نفسه وربما سمعه غيره كثير عن دور للسيد المغيّب السيد موسى الصدر في محاولة إثارة البحث الفقهي حول (ثبوت الهلال فلكيا) عبر توجيه الاستفتاء ِإلى مرجعية السيد محسن الحكيم في النجف الأشرف يومذاك.

سادسًا: البُعد اﻟﻤﺠتمعي

ينظر السيد ِإلى الفقه الإسلامي كإطار تشريعي منظم للفرد واﻟﻤﺠتمع، وهو بذلك يتجاوز الفرد إلى الاجتماع الإنساني، مما يجعل هذا الإطار التشريعي صالحًا للوفاء بمتطلبات هذا الاجتماع، وهو ما يغفل عنه عدد من الفقهاء، أو على الأقل لا يشعرون بضرورته .

ولذلك دعا السيد في جملة عدد من الفقهاء المتنورين، ِإلى ضرورة إعادة النظر في مناهج الفقيه في مقام استنباط الحكم الشرعي، والكشف عنه من أدلته المعتبرة شرعًا، وهي مناهج تت حدد أساسًا طبقا لهدف الاجتهاد نفسه الذي يمكن تلخيصه برفد حركة المسلمين أفرادًا ومجتمعًا ودولة.

وربما تساعد هذه الرؤية على حل بعض الإشكاليات القائمة لفهم بعض النصوص، وفي اﻟﻤﺠالات الحيوية تحديدًا . وعلى سبيل المثال نشير إلى مسألة حصر الزكاة في (الغلات الأربع) وهي مسألة خطيرة جدًا، إذ تستثني الغلات الأخرى على أهميتها، ودورها الاقتصادي والمالي في رفد الميزانية العامة.

والموقف الفقهي السائد في مدرسة أهل البيت (ع) يميل ِإلى حصر الزكاة في هذه الغلات الأربع دونما تعدّ إلى غيرها إلا بالعناوين الثانوية، فيما ينظر السيد فضل الله لموقف آخر يقوم على قراءة النصوص الواردة في الحصر بالغلات الأربع على أﻧﻬا أحكام ولايتية، بقرينة ما ورد في بعضها بقوله : “وعفا رسول الله (ص) عما سوى ذلك”، على نحو يفيد أن كلمة (العفو ) في الروايات ظاهرة في أﻧﻬا حكم مؤقت على خلاف التشريع العام ، ما يعطي القوة والرجحان للروايات المعارضة والتي تؤكد شمول الزكاة لغير الغلات الأربع.

وعلى هذا الأساس، حذر السيد من محاولات تقزيم الشريعة تبعًا للاتجاه النفسي للفقيه، عندما يتّجه نفسيًا نحو الأحكام التي تتصل بالسلوك الخاص للأفراد على حساب الجانب الاجتماعي وما يتصل بالدولة. وفي غمرة هذا الاتجاه، سادت النظرة التغليبية للطابع التعبدي للموارد الفقهية و إن خارج المسائل العبادية، لتتعدى إلى الجان الاجتماعي المالي والاقتصادي، في وقت يبعد أن يتصدى الشارع لتنظيم حياة الناس وفقًا لمقولاتٍ ملغّزة وأسرار لا يمكن للإنسان الوقوف عليها.

فأي معنى من وجهة نظر السيد لقصر حكم شرعي على الموارد التي تعرّضت لها الروايات، فإذا كانت الروايات مثلا تعرَّضت في موضوع الإجارة للنهي عن إجارة العين المستأجرة بأجرة أكبر من الأجرة التي دفعها المستأجر ما لم يكن قد أحدث فيها حدثًا ما ، كما ورد ذلك بخصوص السفينة والرحى… فاقتصر الفقهاء على هذه الأمثلة بدعوى أﻧﻬا موارد خاصة ولا يمكن التعدي إلى غيرها إلا بدليل خاص.

وفي موضوع الإجارة أيضًا يلتزم الفقهاء بثبوت حق المشتري الجاهل بالفسخ أو الإمضاء في حالة ما إذا كان قد أقدم على إجارة العين دون أن يعلم بأن العين مسلوبة المنفعة، دون أن يثبت له التعويض، وذلك بدعوى أن التعويض كحكم شرعي ثبت بدليل شرعي، وبالتحديد في العيوب الحقيقية وكون العين مسلوبة المنفعة لا يبرر التعويض لأنه عيب غير حقيقي.

وقد لاحظ السيد محمد حسين فضل الله على هذا الموقف أنه يميل ِإلى التجزئة، وأن دعوى الفقهاء ثبوت التعويض في العيوب الحقيقية بدليل خاص محل تأمل، إذ الروايات الواردة وإن اختصت بالعيوب الحقيقية دون الحكمية فلأﻧﻬا مورد أسئلة المستفتين، ولذلك تقتضي مناسبات الحكم والموضوع التعدي منها ِإلى العيوب الحكمية لأن الارتكاز العقلائي لا يجد فرقًا بينهما.

وفي غمرة غلبة النظرة الفردية للفقه والشريعة، شاع الموقف الاحتياطي على نحو أصبح الفقيه أقرب منه ِإلى الإفتاء بالاحتياط منه ِإلى الموقف الحقيقي، دونما التفات ِإلى الآثار السلبية التي يتركها هذا الموقف على المستوى الفردي عبر خلق أحكام شرعية لا واقع لها سينظر لها الفرد على أﻧﻬا أحام الله، وعلى المستوى الاجتماعي الإنساني، وهي أي الأحكام قد تتصل بالناس على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم، فيتحمل الإسلام عبء هذه الآثار دون أن يلتفت الفقيه ِإلى هذا المردود السلبي الذي أفرزه منهجه الفقهي الفردي . ولعل في مقدمة هذه الأ حكام ما يتصل بالطهارة والنجاسة، وبالتحديد في مسألة التعاطي مع غير المسلمين.

 

الهوامش

1- الاجتهاد وإمكانيات التجديد مجلة المنطلق، ص ٦٦ ، عدد ١١

2- رسالة في الرضاع، تقريرًا لأبحاث السيد فضل الله، بقلم الشيخ محمد قبيسي، ص ٣١ ، كتاب النكاح، تقريرًا لأبحاث السيد فضل الله، بقلم الشيخ جعفر الشاخوري، ج ٢ / 25، و ص 168.

3- المنطلق، ص ٦٦

4- كتاب النكاح ج1 / 53.

5- مجلة المنطلق ٦٨ ، 69.

6- الجواهر ج 29 / 324.

7- الجواهر ج 29 / 320.

8- الجواهر ج 22/ 195.

9- فقه الإجارة، تقريرًا لأبحاث السيد فضل الله، بقلم السيد محمد الحسيني، ص ٦١ وما بعدها.

10- راجع شرح المناسك ج ٧ / 29.

11- من دروس الحج، تقريرًا لأبحاث السيد فضل الله، بقلم السيد محمد الحسيني، مخطوط.

12- رسالة في الرضاع، المرجع السابق، ص 31.

13- فقه المواريث ج ٢ / 261، 270.

14- بحوث فقهية، بقلم السيد محمد الحسيني، مخطوط.

15- بحوث فقهية، المرجع السابق، مخطوط.

16- بحوث فقهية، المرجع السابق، مخطوط، رسالة في الرضاع ص 32.

17- مختلف الشيعة، العلامة الحلي، ج 7 / 382 ، ط قم.

18 – فقه الشركة، تقريرًا لأبحاث السيد فضل الله، بقلم السيد محمد الحسيني، ص ٥٥ وما بعدها.

19- كتاب الصيد والذباحة، ص 23.

 

المصدر : كتاب : فقهاء ومناهج بقلم: محمد السيد طاهر الياسري الحسيني

تحميل الكتاب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky