السلطة-المذهبية

السلطة المذهبية: التقليد والتجديد في الفقه الإسلامي لوائل حلاق / عرض وتحميل

الاجتهاد: توجه الكاتب لدراسة السلطة المذهبية، باعتبارها الأساس الذي ترتكز عليه الشريعة. وترتكز السلطة المذهبية على مساري التقليد والتجديد، ولا يرى حلاق أن التقليد هو طاعة عمياء أو انصياع بليد لآراء الآخرين، بل يراه إصرار متعقل ومتعمد لتحقيق الالتزام بعقيدة شرعية ومرجعية محددة. ويسعى حلاق الى فهم التقليد بحيث يزيل التناقض الظاهري بين التغيير المستمر والتقليد.

تقديم: إن لكل كتاب سؤال دفع صاحبه لاقتطاع وقته ومجهوده لمحاولة التوصل للإجابة عليه. والدكتور وائل حلاق واحد من أولئك الذين حاولوا التصدي للإجابة على أسئلة طرحت في الغرب بالأساس. فقد قام حلاق بحفر تاريخي ساعده في تمييز الخطوط الفاصلة بين الثابت والمتغير في الشريعة الإسلامية.

وقد أسهم هذا الحفر في تقديم فهم جديد “للتقليد” باعتباره الامتداد الطبيعي “للاجتهاد”. وقد برهن الكاتب على أن الشريعة كانت نظريًا وعمليًا صالحة لمختلف الأزمنة والأمكنة بقدرتها على التغير دون الذوبان والتلاشي.

ولذلك نجد أن كتاب “السلطة المذهبية” يعمل بالأساس على الاشتباك مع الجمهور الأكاديمي الغربي، للرد على الخطاب الاستشراقي الذي يتهم الشريعة ومنظومتها بالعطب والعفن، وهذا في محاولة لاستبدالها بالمنظومة التشريعية الحداثية كتمهيد لاحتلال بنية العقل الإسلامي ومنظومته القيمية.

وقد توجه الكاتب لدراسة السلطة المذهبية، باعتبارها الأساس الذي ترتكز عليه الشريعة. وترتكز السلطة المذهبية على مساري التقليد والتجديد، ولا يرى حلاق أن التقليد هو طاعة عمياء أو انصياع بليد لآراء الآخرين، بل يراه إصرار متعقل ومتعمد لتحقيق الالتزام بعقيدة شرعية ومرجعية محددة. ويسعى حلاق الى فهم التقليد بحيث يزيل التناقض الظاهري بين التغيير المستمر والتقليد.

يستهدف الكتاب الى إجراء تحقيق دقيق في جوهر وأبعاد مساري التقليد والتجديد وعلاقتهما بالسلطة المذهبية، ولبلوغ هذا الهدف قام بفحص البناء المنطقي الخاص بمراتب الفقهاء، وفقًا لمستويات النشاط التأويلي، وذلك لأن الوصول بنتائج خاصة بالسلطة المذهبية لابد أن يبدأ بقراءة المكتوب في التقاليد الفقهية ذاتها ومن أهلها، وليس من المراقبين من الخارج. وينتج عن ذلك تفكيك بنية الخيال والمبتكرات التاريخية التي كانت ضرورية لبناء الصرح المرجعي للمنظومة الشرعية والعقيدية.

وقد اختار الكاتب الإجابة على سؤال: كيف أنشئت السلطة المذهبية للأئمة؟ وما هي المراحل التي مرت بها المذاهب الفقهية لترسيخ سلطتها في نفوس أتباعها؟

وتفيد المعطيات التاريخية أن صورة المؤسسين الأربعة للمذاهب كانت نتاجًا لمراحل تاريخية لاحقة، بداية من التأطير للبعد التأسيسي للمذهب المتمثل في طبقات الفقهاء، مرورًا بالطريقة التي تم بها بناء السلطة المرجعية تشييدًا على إسهامات مؤسس المذهب، وقد ركزت جهود اللاحقين على توكيد مكانة المؤسس، ولذلك لا يمكن النظر إلى قضية اختزال الآراء المتنوعة داخل المذهب، إلا أنها أحد محاولات ترسيخ السلطة المرجعية للمؤسس ورفض ما يعارضه، لتحقيق الهدف المحوري المتمثل في حماية المذهب، ومنحه الفعالية التي تجعله قادرًا على التجدد والحضور في الممارسات الاجتماعية المستمرة.

كما يتناول الكتاب ما يسميه بالمصطلحات الإجرائية التي كانت وظيفتها تحديد أي الآراء التي تحكم قضية ما وتتمتع بالمستوى الأعلي للسلطة المذهبية. وذلك لأن بحث الآليات الداخلية للآراء الشرعية أحد أهم عوامل التكيف التي قد تنقل رأي شرعي ما من مستوى هامشي إلى مستوى أعلى، والعكس صحيح. وقد نتج عن الفكرة السابقة أن قضية التغيير الشرعي لم تكن عارضًا على الشريعة الإسلامية، وتمكًن حلاق من إثبات أن التغيير الشرعي جزء لا يتجزأ من بُنى الشريعة ذاتها.

الفصل الأول: طبقات الفقهاء

يتناول حلاق في هذا الفصل قضية أدب الطبقات الفقهي، وكيف نظر كل مذهب لسؤال ما هي مؤهلات الفقيه/ المفتي؟ وهو سؤال تأسيسي ساهم في ترسيخ السلطة المرجعية للمذاهب حيث تأسست البنية الطبقية لكل مذهب بناءًا على إجابتهم على هذا السؤال، ذلك من خلال وضع ترتيب طبقي لكل العناصر المنتمية للمذهب والتي أعلنت الولاء له.

ويعد الفقيه المالكي أبوالوليد محمد بن رشد أول من ساهم في علم الطبقات بإجابته عن السؤال الخاص بمؤهلات المفتي، بقوله أن جمهرة الفقهاء في المذهب المالكي تتألف من ثلاث مجموعات: الأولى، قبلت صحة المذهب المالكي باتباعها إياه دون معرفة بالأدلة التي قامت عليها تعاليم المذهب، وقد حصرت تركيزها على حفظ وجهات نظر الإمام مالك في المسائل الشرعية ووجهات نظر أصحابه.

أما المجموعة الثانية، فهي التي توصلت إلى صحة المذهب المالكي من بوابة القواعد الأساسية للشرع، إلا أنهم غير قادرين على استنتاج الأحكام الشرعية الجزئية. بينما تتميز المجموعة الثالثة بالفهم العميق والشامل لمذهب مالك وتعاليم أصحابه، ولذلك فهي قادرة على استنباط الأحكام الشرعية الجزئية من النصوص المنزلة والقواعد العامة للمذهب.

اختلفت طريقة التأطير عند الشافعية، والتي قدمها الفقيه أبو عمرو عثمان بن الصلاح، حيث قسم المفتين إلى فئتين، مستقلين وغير مستقلين، أما المجموعة الأولى فيُعرفون بالمجتهدين المطلقين، ويتميزوا باطلاعهم الواسع على أصول الفقه ومناهج استنباط الأحكام، فهم لديهم علم في مجالات الشريعة كلها، لذلك فهم لا يتبعون أحد ولا ينتمون لمذهب، بل هم مؤسسي المذاهب، الذين شكلوا السلطة المذهبية بما لديهم من أدوات شرعية مكنتهم من تأسيس قواعد استنباط الأحكام الجزئية، كي يتحول الوحي إلى أداة لتوجيه الواقع وتقديم إجابات حول أزماته المتجددة.

والفئة الثانية الذين يسمون بغير المستقلين، هم الذين أعلنوا الولاء لمؤسسي المذاهب، ورسخوا سلطتهم المذهبية لدى الأتباع لتكون المذاهب بمثابة المسطرة التي تقيس كل اجتهاد/ تقليد وتسكنه في البنية الطبقية الهرمية للمذهب، بما يملكه صاحبها من أدوات شرعية وذخيرة فقهية.

ويتنوع غير المستقلين عند ابن الصلاح بين أربع أنواع رسمية وخامسة غير رسمية، فأما الأول فهو يتشابه مع المجتهد المستقل في كل المؤهلات تقريبًا، ولكنه اختار الانتساب للمذهب. بينما النوع الثاني يعرف بالمجتهد المقيد، المؤهل تأهيلًا تامًا للتصديق على آراء المجتهد المطلق وتعزيزها، ولكن مؤهلاته لا تجيز له الخروج عن القواعد التي أرساها إمام مذهبه.

أما النوع الثالث فهم أصحاب الوجوه والطرق، وهم الذين يحفظون إرث الإمام الفقهي عن ظهر قلب، وطرق استنباط الأحكام، ولكن مؤهلاتهم الشرعية أقل من المجموعات السابقة. في حين أن النوع الرابع، هم الذين يفهمون القضايا الواضحة والإشكالية فهمًا كاملًا، ولكنهم ضعفاء في التفكير الشرعي.

وأخيرًا النوع الخامس الذي يرى ابن الصلاح أنه لا يملك المكانة لتخصيص مكان رسمي له في البنية الطبقية الفقهية للمذهب، وهو الذي لم يدرس سوى كتاب أو أكثر من كتب المذهب. وقد استهدف ابن الصلاح من ذكر هذا النوع الأخير تحقيق هدفين: الأول هو استبعاده رسميا من الطبقات بصورة تظهر هشاشته وضرورة عدم الأخذ منه، ولكن تظهر أهميته إذا اضطر المسلم العامي أن يلجأ له في واقعة ولم يجد غيره، حينها يمكن الرجوع إليه.

وقد تميزت نسخة ابن الصلاح بكونها أكثر وضوحًا وتفصيلًا من طبقات ابن رشد، ولذلك فقد ساهمت في التأثير في تقاليد المذاهب عامة، وليس الشافعية وحدها، وهو ما ظهر في تصنيف شيخ الإسلام العثماني أحمد بن كمال باشا زاده، الذي وضع تصنيفه بعد ابن الصلاح بثلاثة قرون، حيث قسم الطبقات إلى سبع، وهي تتشابه إلى درجة كبيرة من تصنيف ابن الصلاح.

ولعل السمة الأبرز لهذه الطبقات، هي أنها ترسم خطوط التاريخ الشرعي الإسلامي من زاوية السلطة المرجعية ومجال الفاعلية التأويلية، وهما ميدانان منفصلان لكنهما مع ذلك متداخلان تداخلًا صميميًا من زاوية الاجتهاد والتقليد، الذي يعد أحد أهم أسباب الكاتب لتأليف هذا العمل لمواجهة الخطاب الاستشراقي الذي يستهدف تقويض وحصار الفاعلية التأويلية للشريعة وقدرتها على التجديد التفسيري باختلاف الزمان والمكان.

وهنا يرى حلاق أن الأبعاد الإيجابية للتقليد تتخطى عالم التقليد نفسه بتعريفه الضيق، لأنه إذا كان للاجتهاد صورة إيجابية فهو فعل خلاق ومستقل، فإن التقليد في نهاية المطاف هو الذي يدعمه، فهو الذي يمنح الديمومة للاجتهاد. فالطريقة الوحيدة التي كان ممكنا بواسطتها أن يُنظر الى الأئمة كمؤسسين لمذاهبهم هي الاجتهاد المطلق، إلا أنه لو قُيض للاجتهاد أن يستمر في عمله بالطريقة المطلقة ذاتها في ظل غياب التقليد، لما كانت هناك في هذه الحال أية مذاهب، بل حشد غفير من المجتهدين المستقلين. بالتالي فإن التقليد كان الضامن لبقاء المذاهب الأربعة.

ثم ينتقل حلاق الى طبقات النشاط الفقهي التي تتضمن كل منها مشاركة نوع أو أكثر من أنواع الفقهاء، وتمكننا من تحديد اللاعبين الأربعة الكبار: المقلد والمفتي والمجتهد والفقيه-المصنف:

الاجتهاد: ويقع ضمن دائرة اختصاص جميع الفقهاء باستثناء أولئك الذين ينتمون الى الطبقات الدنيا والفئات الأدنى مرتبة في الطبقات الوسطى.

التخريج: وهو نشاط خلاق يتضمن شكلا محددا من أشكال الاجتهاد يناقش به الفقيه آراء الإمام الراسخة وآراء أتباعه المباشرين من المجتهدين. وشغل هذا النشاط الفقهاء الذين جاؤوا في أعقاب الأئمة والمعلمين الأوائل.
الترجيح: كان هذا النشاط مسؤولا عن تحديد الآراء المرجعية للمذهب، وكان هذا التحديد، الذي تغير من فترة لأخرى، عاملا مساعدا في إحداث التغير الشرعي.

التقليد: ويتضمن المحافظة على الولاء للمذهب والدفاع عنه، وهو ما كان يشغل الفقهاء من الطبقات من الأنساق الدنيا والمتوسطة.

التصنيف: الفقيه-المصنف هو لاعب مهم في مجال التأويلات الفقهية، سواء أكان مجتهدا مطلقا أم مجتهدا مقيدا، أو حتى مجتهدا من الأنواع الوسطى.

الفصل الثاني: بداية ظهور الاجتهاد وتأصيل مرجعيته لاحقًا

يبدأ حلاق هذا الفصل بتوصيف المجتهد المطلق الذي يتم ربط معرفته الشرعية، التي يفترض أنها شاملة وإبداعية، ربطا سببيا مع تأسيس مذهب ما. والسمة البارزة لنشاط المؤسس الاجتهادي هي الاتصال المباشر مع النصوص المنزلة مسلحا بمعرفة عميقة بأصول الفقه والتأويل القرآني ونقد الحديث والناسخ والمنسوخ واللغة الشرعية والأحكام الجزئية وعلم الاختلاف الفقهي.

ورغم أن الأئمة المجتهدين أصحاب المذاهب قد شكلوا استمرارية مع اللاحقين وكانوا بالضرورة من نتاج السابقين لهم، إلا أن الإيمان الشرعي اللاحق أوجد قطع تاريخي عن أسلاف المؤسس المجتهد. فقطع الصلة مع منجزات ماضيهم لم يكن سوى وسيلة لزيادة هيبتهم ولبناء سلطتهم المرجعية الأسمى.

ثم انطلق حلاق في عملية إثبات أن الكثير من آراء المجتهدين المؤسسين للمذاهب كانت متوارثة عن سلطات مرجعية أخرى. وقام بهذا التحليل في كلٍ من المذهب الحنفي والشافعي والحنبلي.

ثم انتهى حلاق الى أن بناء المرجعية حول الشخصيات البارزة للمؤسسين ينبغي أن ينظر اليها في السياق الأكبر لتطور الشريعة الإسلامية، فما من أحد من هؤلاء المؤسسين الفقهاء شيد مذهبه الخاص منفردا كما تريدنا كتب الطبقات أن نعتقد. إلا أن حلاق يعترف أن المرجعية الشرعية خلال القرنين الأولين كانت متناثرة، فقد كان هناك فقهاء كثر لدرجة أن المرجعية الفقهية لم تكن قادرة على تلبية شروط ومتطلبات التقدم الشرعي. وهنا جاء دور المذاهب من خلال عملية العزو المرجعية.

وقد أكد حلاق على أن عددا كبيرا من الفقهاء اللاحقين اعتادوا عزو نتائج أبحاثهم الفقهية للمؤسسين، ويفسر حلاق هذا الأمر باعتبار أنه قد تم التوصل الى هذه الآراء على أساس منهجية الاستنباط الشرعي التي بناها المؤسس للمذهب، بحيث أن المؤسس كان سيتوصل بنفسه الى هذه الآراء لو أنه انكب على دراسة المسائل التي واجهت أتباعه المتأخرين. وهنا يشير حلاق الى عنصرين يعززان مرجعية المؤسس أكثر على حساب أتباعه.

فأولا يرى حلاق أن اجتهاد الأتباع في المذهب يبدو استنباطيا ميكانيكيا. والعنصر الثاني هو أن تنسب الى الإمام المؤسس عملية إنشاء نظام كامل للمنهجية الشرعية التي تشكل الأساس القضائي للمذهب. إلا أن النظرية الشرعية ومنهجية التشريع ظهرت ككينونة عضوية متماسكة بعد وفاة الشافعي بقرن تقريبا، وبعد نصف قرن من وفاة آخر الرموز الذين استمرت مذاهبهم وهو أحمد بن حنبل. إذن فالنظرية الشرعية أو أصول الفقه خضعت لتطورات تدريجية بدأت قبل الأئمة المؤسسين واستمرت لتبلغ نضجها التام بعد رحيلهم بزمن طويل.

الفصل الثالث: نشأة وتمكن المرجعية للمذاهب الفقهية

ناقش حلاق في أول هذا الفصل موضوع المجتهدين المستقلين أمثال المزني والطبري والنيسابوري وغيرهم الذين كانت إنجازاتهم الاجتهادية أرفع منزلة وإبداعا من إنجازات بعض مؤسسي المذاهب ولكنهم مع ذلك لم يجدوا الاعتراف بهم كمذاهب.

ثم يستكمل المؤلف في هذا الفصل المراحل التي مرت بها المذاهب الفقهية لترسيخ مرجعيتها، حيث يشير إلى المرحلة التي أخذت فيها المذاهب تتشكل بصورة أقرب لبنية رسمية نتيجة كثرة الأتباع، وهو ما حدث في القرن الرابع الهجري.

ثم ينتقل حلاق لدراسة تطور المذاهب من خلال معياري الاجتهاد والتقليد، ذلك لأن إتباع المذهب والالتزام به باعتباره كينونة عقيدية كان أحد تجليات التقليد، كما أن دراسة دور المفتي والقاضي وارتباط وظائفهما الفقهية بالاجتهاد والتقليد هي القضية التي تبين نشوء المذهب وتطوره بوصفه مذهبا رسميا وملزما.

وبعد منتصف القرن الرابع، اتجهت جهود المنتمين للمذاهب لترسيخها أكثر، بعدما أصبح شرط الحصول علي مباشرة مهنة شرعية أن يكون صاحبها منتمي لمذهب ما. وبدخول القرن الخامس الهجري، أصبحت المصطلحات أكثر حدة ووضوحًا في التعبير عن الولاء للمذهب، ولذلك ففي البداية كانت توصف الخلافات بين المقلدين والأئمة المؤسسين بالتفردات، كتفردات المزني عن الشافعي، إلا أنها أصبحت تسمى بالغرائب، وأصبح اختلاف الفقيه مع إمامه بمثابة آراء غريبة تستتبع القول بعدم توثيق مرجعيته كمصدر في بعض الأبواب.

وفي المقابل كان يوصف الفقيه المنتمي بالكامل في أرائه للإمام بأنه “برع في المذهب”، وبهذا التطور أصبح المذهب موضوعًا يُدرس ويحفظ ويبرع فيه، ويحكم فيه على الفقهاء بالثقة أو عدمها، وذلك لأن التقليد أصبح هو معيار الانتماء للمذهب.

إذن المسار الذي توصل التقليد عن طريقه الى الصدارة كان دال على بروز المذهب وبلوغه مرحلة النضج النهائية. فإنشاء مرجعية الإمام والتضييق على الإمكانيات الاجتهادية الفردية التي كانت منتشرة في القرنين الثالث والرابع الهجري والصعود الأخير للتقليد بوصفه تعبيرا عن الولاء للمذاهب، كلها ظواهر تشترك في قاسم مشترك واحد وهو استقطاب المرجعية الفقهية بحيث يصبح المذهب التجسيد الحقيقي لهذه المرجعية.

الفصل الرابع: التقليد: المرجعية والقياس والوظيفة

يناقش حلاق في هذا الفصل، من خلال نماذج وأمثلة عديدة من التاريخ الفقهي، آليات التقليد، التي قد تتاخم أحيانا حدود النشاط الفقهي المقترن بالاجتهاد، وفي أحيان أخرى تعني فقط إعادة إنتاج تعاليم الأسلاف. وفعالية التقليد يمكن في أغلب الحالات أن توضع بين هذين الحدين، حيث نجد هناك فعالية إبداعية لا يمكن وصفها بالاجتهاد ولكن يمكن أن يقال عنها أنها أعلى تجليات التقليد.

فهو ليس اجتهادا لأنه ليس فعل استنباط وتفسير مستقل، بل هو تعبير عما اصطلح على تسميته الاتباع. والاتباع هو نوع من التقليد الذكي والمبدع الذي تتم بواسطته إعادة تشريع اجتهاد سابق والدفاع عنه وإدخال التحسينات عليه.

وأشار حلاق هنا الى أن الانشغال بالقواعد والدفاع عن رأي المذهب هما قلب التقليد وروحه. ولكن هناك أيضا جزء لا يتجزأ من فعالية التقليد عبَر عن نفسه من خلال التعميم الاستقرائي، ففي حين اتصف عمل المؤسسين بميل قوي نحو الإفتاء في المسائل الفردية، رتب المقلدون أمثلة الإفتاء اللانهائية ترتيبا منهجيًا ضمن مجموعات من القواعد العامة التي حكمت القضايا الكبرى التي يشملها كل قطاع من قطاعات الشرع. وفي حين لا يكون الرابط المنطقي بين المسائل واضحا في الأعمال المبكرة، فإن الرابط بين التعميمات والمسائل الفردية واضح تماما في العروض المتأخرة.

ولم تتوقف إنجازات التقليد عند هذا الحد، بل حدث تطور آخر بعد القرن الخامس الهجري يتمثل في بروز أساليب جديدة للخطاب الشرعي، كالقواعد والأشباه والنظائر. كذلك يؤكد حلاق ضرورة عدم إغفال جانب هام من جوانب التقليد الذي مثلت آليته وطبيعته الحيوية ألا وهو إعادة صياغة أساليب القياس والاستنباط وتمثيل الشواهد النصية التي تبناها الإمام.

إذن يمكننا القول –كما يرى حلاق- أن التقليد بعيد تماما عن الانصياع الأعمى لسلطة مرجع بعينه كما يزعم عدد من المستشرقين الكبار.

الفصل الخامس: المصطلحات التطبيقية والأثر الفعال للمذاهب الفقهية

لقد أنتجت المذاهب الفقهية عددا هائلا من الآراء، وهي نتيجة منطقية للسمة المعرفية والبنيوية في الشريعة الإسلامية، وهي السمة التي حددت مسار التطور الشرعي، وذلك بسبب غياب قوة تشريعية مركزية تقوم بهذا الدور كالدولة/ الخلافة، وبدلًا من ذلك تُرك الأمر منذ البداية للمتخصصين الشرعيين والفقهاء، الذين تولوا مهمة تطوير الدلالة الشرعية للنصوص المنزلة، وهم من أرسوا في النهاية أسس المعرفة الشرعية التي اتكأت بكليتها على افتراض مقدمة منطقية تقول بالتفسير الفردي للشريعة.

وقُيض لهذه السمة أن تكسب الشريعة الإسلامية، في العلم الحديث، لقب شرعة “الفقهاء”. وكان التجلي النهائي لهذه الفعالية التأويلية الفردية المبدأ القائل إن كل مجتهد مصيب، وكان من نتائج هذه السمة البارزة أيضا أن أصبح عدم الاتفاق الفقهي المعروف باسم الخلاف أو الاختلاف، يعرف بوصفه أحد أهم مجالات التعليم والبحث.

وقد أصبحت هذه السمة لما يمكن أن نطلق عليه “التعددية الاجتهادية” عنصرًا معرفيًا شكَل جزءًا لا يتجزأ من البنية الكلية للشريعة. وتشهد على استمراريتها حقيقة أن التعددية لم يكن كبحها ممكنًا، حتى بعد التطور النهائي للمذاهب: ليس فقط تعددية الرأي القديمة التي برزت قبل ظهور المذاهب، بل أيضًا التعددية التي طفت على السطح عند كل منعطف من منعطفات التاريخ الإسلامي، فالشافعي مثلا اشتهر بتطوير مجموعتين من التعاليم، واحدة خلال حياته المبكرة، وتعرف بالمذهب القديم، والثانية أواخر أيامه، وتعرف بالمذهب الجديد.

كما تميز المذهب الحنفي بوفرة الآراء، وهو ما أحدث مشكلة لدى المتأخرين في التعامل مع الآراء المتضاربة المنسوبة إلى أبي حنيفة، وهو ما أصبح موضوع دراسة وبحث دقيقين، وكان علي الباحثين الأحناف أن يتعلموا ويتعاملوا مع ثلاثة مستويات من التعاليم، ظاهر الرواية، والنوادر، والنوازل.

والمحصلة، أن تلك التعددية كانت سمة أثبتت أنها غير قابلة للترويض نهائيًا. بيد أن اجتثاث جذورها الذي حصل فعلا خلال القرن التاسع عشر، كان يعني تدمير الخصائص البنيوية والمعرفية المميزة للشريعة الإسلامية.

ويرى حلاق أن النظام نفسه الذي أنتج التعددية الشرعية وحافظ عليها أنتج أيضًا وسائل التعامل مع الصعوبات التي طرحتها هذه التعددية. ولرسم صورة أكمل للآليات التي أنشئت لزيادة القدرة على التحديد الشرعي، لابد أن ننظر إلى مستويين من مستويات الخطاب الشرعي، ينبثق الأول من التطوير النظري لهذه القضية، ويأتي الثاني من الصياغات الشرعية الوضعية. وكأن المستويان متداخلين ومترابطين مفهوميًا، وقد شكلا حالتين متعايشتين فعليًا. فالنظرية اعترفت بحقيقة التعددية الاجتهادية، في حين أن الممارسة قدمت المادة للصياغات النظرية.

وجاءت النظرية الشرعية لتؤكد على ضرورة أن تخضع التعددية الى عملية تأويلية يقلص التعدد فيها الى الحد الأدنى، فوضعت الآراء في مسألة ما مقابل بعضها بعضا لتبين أيها الأصح والأهم معرفيا، وهذا الحذف عن طريق المقارنة سمي في الخطاب النظري باسم الترجيح.

وتضع التراتبية المعرفية للمصادر الشرعية (الإجماع، القرآن، الأحاديث المتواترة، الأحاديث الآحد، القياس، المناهج الاستدلالية المستخدمة في القياس الشرعي) تسوية مسبقة لأي نزاع حول أي الآراء ينبغي أن يعتبر راجحا. ويأتي الإجماع في المركز الأسمى معرفيا لأن التفسير المتفق عليه بالإجماع تفسيرا يكتسب اليقينية.

وأصبح الترجيح هو الحقل المنهجي الذي تمرس الفقهاء فيه على التعامل مع الإمكانيات المتصورة للتضارب في الشواهد النصية وفي طرق القياس الشرعي. وقدم حلاق في هذا الفصل تحليلا مطولا عن مفهوم الترجيح في المذاهب الأربعة والفرق بينه وبين مفهوم التصحيح.

وأكد على أن المذاهب الأربعة، لكي تقلص التعدد وتزيد فرص تحديد الآراء المرجعية لجأت الى مصطلحات إجرائية كانت كالتالي: الراجح، الظاهر، الأوجه، الأشبه، الصواب، والمذهب، والمفتى به، والمعمول به، والمختار، هذه المصطلحات مع مفاهيم الصحيح والمشهور ومشتقاتهما مثلوا العمود الفقري للخطاب الفقهي السائد.

الفصل السادس: المفتي والفقيه- المصنف والتغيير الفقهي

يؤكد حلاق في بداية هذا الفصل أن الفقهاء المسلمين والثقافة الفقهية الإسلامية لم يختبروا فقط التغيير الفقهي، بل أيضا وعوا التغيير بوصفه أحد الملامح المميزة للشريعة. وقد عبروا عن هذا الوعي بعبارات من مثل: “تغير الفتوى بتغير الزمان”.

ولتحديد كيفيات التغيير الفقهي والقائمين به، لابد من التمييز بين أهم أربعة أدوار شرعية سادت الثقافة الإسلامية الفقهية، تحديدًا القاضي والمفتي والفقيه- المصنّف والأستاذ. ونادرًا ما وجدت هذه الأدوار بمعزل عن بعضها البعض، بل غالبا ما كان يجمع شخص واحد بين أغلبهم.

ثم تناول حلاق بإسهاب ومن خلال نماذج فقهية متعددة دور كل من من هذه الفئات الأربعة في مهمة صياغة الاستجابة الفقهية للتغيرات الاجتماعية. وقد أكد حلاق على أن الفقه قد حافظ على صلته بالواقع الاجتماعي بوساطة الفتاوى. لكن الفعالية الشرعية الكاملة للفتاوى لم تتحقق الا بدمجها ضمن سياق الفقه الأوسع من خلال عمل الفقيه-المصنف وإلا ستبقى هذه الفتاوى والآراء منقوصة الاعتراف الرسمي وبالتالي منقوصة الشرعية.

وانتهى حلاق الى أن المفتي والفقيه-المصنف هما اللذان تجاوبا مع الحاجة للتغيير الفقهي بوساطة توضيح وصياغة وتقنين مظاهر الممارسة الفقهية العامة. وقد احتلت آراء المذهب مكانتها الحجية المرجعية لأنها كانت تستخدم معياريا كأساس للفتاوى. ويساهم القضاة بوصفهم جماعة مزاولة للفقه في تطبيق الآراء الجديدة.

إن قدرة المفتي والفقيه-المصنف على صياغة التغيير الفقهي وشرعنته ووضعه في النهاية موضع التنفيذ لم تكن صفة عرضية ذاتية الغرض، بل كانت معلما بنيويا اندرج في قلب الشريعة الإسلامية.

 

الكتاب: السلطة المذهبية: التقليد والتجديد في الفقه الإسلامي.

المؤلف: وائل حلاق.

المترجم: عباس عباس.

مراجعة: فهد بن عبد الرحمن الحمودي.

الطبعة: ط. 1.

مكان النشر: بيروت.

دار النشر: المدار الإسلامي.

تاريخ النشر: 2007.

عرض:

أ. طارق جلال

باحث ماجستير في العلوم السياسية

 

رابط قراءة كتاب السلطة المذهبية: التقليد والتجديد في الفقه الإسلامي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky