الغناء

دراسة تطبيقية لبعض بحوث جواهر الكلام .. الغناء نموذجاً / الدكتور أميدي فر

الاجتهاد: بحث الغناء ذو تعقيد خاص، ولازال يستدعي بحوثاً أكثر عمقاً، فهو من جهة ذو علاقة بعدّة أبوابٍ فقهية، مثل القراءة في الصلاة وباب الشهادات وباب المتاجر، ومن جانب آخر تشكِّل وسائل الاعلام اليوم جزءً من حياة البشر، وهي لاتخلو عن الغناء والموسيقى.

واعتاد بعض الناس مشاهدة الأفلام التي لا تخلو من الأغاني، وبعض آخر اعتاد سماع الاشرطة والأقراص والراديو والتلفاز والقنوات الفضائية و… وهي جميعاً لاتخلو من الأغاني، ولأجل ذلك يعدُّ بحث الغناء من متطلبات العصر بل في كل الأزمان.

في البداية ننقل باختصار إفادات الشيخ النجفي في باب الشهادات والمكاسب تحت العنوان التالي:

مفهوم الغناء

في باب الشهادات يرتضي صاحب (الجواهر) تعریف صاحب (الشرائع) للغناء، وهو: «مدّ الصوت المشتمل على الترجيع المُطرِب» (۱) ويعتبره من مقولات الألفاظ والأصوات، ولایری دخلاً للمحتوى في معنى الغناء، لذلك يقول وفاقاً مع صاحب المتن:

” سواء استعمل في شعر أو قرآن أو دعاء أو تعزية ولو علی سیدنا الحسين “عليه السلام” أو غيرها؛ لاطلاق النهي عنه»(2).

وفي باب المكاسب يعتبر الغناء من مقولات الصوت بكيفية خاصة، لكنه يذكر عبارة تتنافى مع هذا المعنى، لا يعتبر فيها الصوت غناء. في البداية يقول: «إنّه من مقولات الأصوات أو كيفياتها من غير مدخلية لأمر آخر»(3)، ثم يقول: «إنه کيفية خاصة للصوت بأي لفظ كان»(4).

وفي صدر باب الغناء يذكر ما ورد في هذا الباب من آراء وتفاسير للغناء، منها: ما ورد عن بعض الأصحاب: «إنه مدّ الصوت المشتمل على الترجيع المطرب، بل ربما قيل: إنّه المشهور»(5).

وفي (قاموس اللغة): «غناء ككساء، من الصوت ما طرّب به».

وفي كتب لغوية أخرى: «ترجيع الصوت ومدّه».

وعن الشافعي: «إنه تحسين الصوت وترقيقه».

وفي (النهاية): «إنّ كل من رفع صوتاً ووالاه فصوته عند العرب غناء».

وفي (السرائر) و(الايضاح): «إنه الصوت المطرب».

وعن بعض: «مدّ الصوت».

وفي (المصباح المنير): «إنّه الصوت».

ثم يستنتج من جميعها: «…. إلى غير ذلك من كلمات أهل اللغة التي يقطع الماهر بملاحظتها بكون المراد منها بيان أن الغِناء من هذا الجنس نحو قولهم: سعدانة نبت…».

لكنه يقول في بيان حلّيّة هلهلة النساء: «نعم لا بأس بالهلهولة على الظاهر، لكونها صوتاً من غير لفظ، والغِناء من الألفاظ »(6).

ويقول في بيان (الحوارب) الذي يستخدم للتشجيع في الحروب، والذي سعى لإخراجه عن الغِناء من حيث الموضوع:

وأما الحوارب في عرفنا فربما ظهر من بعض مشايخنا: (معلومية حليّته في حال الحرب، وحثّ الرجال على القتال المحلل) وفيه: أنّه مع فرض عدم اندراجه فيه فيشكل جوازه فيه (حرب) فضلاً عن غيره من الأحوال؛ الاطلاق أدلة النهى»(7).

ومما يمكن استفادته من هذه العبارة دخل اللهو واللعب في مفهوم الغناء، أي أن اللَّهو واللعب يشكل جزءا من مفهومه. فعندئذ يمكن الجمع بين كلاميه اللذين يبدوان متنافيين بأنَّ مراده: لا دخل للمحتوى في مفهوم الغناء، أي عكس ما عليه البعض، حيث لم يعتبر الغناء غناءً إذا كان محتواه يتضمن تذكيراً بالآخرة أو قرآناً وما شابه، فقد جعل هؤلاء للألفاظ والمحتوى دوراً في تحقق مفهوم الغناء.

موضوع الغِناء

يرجع صاحب (الجواهر) تحديد موضوع الغِناء إلى العرف، إذ ورد عنه:
” والتحقيق الرجوع في موضوعه إلى العرف الصحيح الذي لاريب في شموله للمقامات المعلومة وشُعبها المعروفة عند أهل فنِّها، بل لاريب في تناوله لغير ذلك مما يستعمل سواد الناس من الكيفيات المخصوصة»(8)

حكم الغِناء
الغناء حرام على الاطلاق من وجهة نظر صاحب (الجواهر) إلا بالنسبة إلى الجارية وسيأتي توضيحه.

يستدل على حرمة الغناء بالاجماع والسنة المتواترة والقرآن الكريم بل يكتب: «بل يمكن دعوی کونه ضرورياً في المذهب»(9).

كما أنه يعتبر حرمة الغناء ذاتية، أي بحدِّ ذاته حرام لا لاقترانه بمحرمات، ويرفض الجمع العرفي الوارد إعماله بين أدلة تحريم الغناء وجوازه في القرآن والحداء وعزاء الإمام الحسين “عليه السلام” ويحكّم أدلة التحريم العام؛ حيث يقول:

“ودعوى التزام جواز ذلك (الغناء) فيها (في القرآن والدعاء وتعزية الإمام الحسين)، وإن كان غناءً في غيرها.. واضحة الفساد، لمعلومية تحكيم النهي في أمثال ذلك، وليس من تعارض العموم و الخصوص من وجه المحتاج إلى ترجيح، بل فهم أهل العرف کافٍ فيه، نحو العام والخاص والمطلق والمقيد، وإلّا لتحقَّق التعارض من وجه بین ما دلَّ على قضاء حاجة المؤمن مثلا والنهي عن اللواط والزنا والكذب وغيرها من المحرمات،
والمعلوم بطلانه؛ بضرورة الشرع، أنَّه لايُطاع من حيث يُعصى…»(10).

سعى الشيخ النجفي لأن يخرج الموارد المجوّزة من الغِناء في الروايات أو كلمات الفقهاء عن موضوع الغناء لا عن حكمه فقد تردَّد و توقف في الحداء (11) الذي ورد في كلام الماتن (12) أو أنه سعى في إخراجه عن موضوع الغناء لا حكمه،

فقد كتب:
«هو قسيم الغِناء ، أو المراد ما لم يصل إلى حد الغناء، وحينئذ هو كغيره من أنواع الانشاد»(13)

وكتب كذلك: «بل ربما ادعى أن الحداء قسيم للغناء بشهادة العرف، وحينئذ يكون خارجاً عن الموضوع لا عن الحكم، ولابأس به»(14).

وبرغم ذلك يذكر الوجوه الآتية في ردّ الروايات المعارضة للتحریم:

١- اضطراب متن بعض الأخبار، من قبيل خبر على بن جعفر في (قرب الاسناد) فقد نقل بانحاء مختلفة مثل: «ما لم يعص به» و «ما لم يزمر به».

۲ – الحمل على التقية.

۳- المراد: جوازه في الأعراس في خصوص العيدين.

4 – الحمل على قراءة الشعر بنحو التغنّي دون بلوغه الغِناء ، وتبريرات أخرى(15).

وإذا عجزنا عن الجمع بين الطائفتين من الروايات طرحنا الطائفة المجوّزة؛ باعتبار قوة المعارض.

وفي نهاية المطاف يرى مصير الروایات، التي يستشمّ منها حرمة الغِناء بسبب ما يقترن به ولاتتعلّق الحرمة بذات الغِناء ، ذات مصير الروايات المجوّزة، كما أنّ ما يبدو من كلمات الشيخ الطوسي في (الاستبصار) من أن حرمة الغِناء ليس لذاته بل لمقارناته، يراه قابلاً للردّ بلحاظ مجموع کلمات الشيخ في مجمل آثاره(16).

الرخصة في الجارية المغنية
باعتبار التزام صاحب (الجواهر) بالنصوص بشدِّة يقبل ما ورد في بعض الروايات من تجویز غناء الجارية في الأعراس، ويبني هذا الحكم على الخبر الثالث من الباب الذي ورد فيه:
” المغنية التي تزف العرائس لابأس بكسبها»(17).

لكن هذا المضمون ورد في روايات أخرى صحيحة السند. وعلى كل حال، ينبغي الاقتصار على ما ورد في النصوص وتجويز الغِناء للجارية في الاعراس دون غيرها من المغنيات ودون غير الأعراس من المناسبات والاحتفالات.

من البديهي أنَّ الروايات إذا دلت على جواز غناء الجارية لزم تجویز کسبها (عملها) وحلّيّة ما تأخذه قبال غنائها؛ فإنّه لا يمكن أن يكون الكسب محرماً واجرته محللة… وفي النتيجة يدافع الشيخ النجفي عن هذا المورد الذي جوّز فيه الغناء ويقول: “وقد عرفت أنّ الأقوى الجواز، للنصوص السابقة المعتضدة بالشهرة المحكية، خلافاً للمحكي عن الحلي والفخر»(18).

 

الهوامش

1- جواهر الكلام 41 : 47.

2- جواهر الكلام 41: 49.

3- جواهر الكلام 22 : 46

4- جواهر الكلام 22 : 46

5- جواهر الكلام 22 : 45

6- جواهر الكلام 22 : 51

7- جواهر الكلام 22 : 51

8- جواهر الكلام 22 : 47

10- جواهر الكلام 22 : 44

11- جواهر الكلام 22 : 46

12- جواهر الكلام 22 : 50

13- جواهر الكلام 22 : 49 حسث قال: لا بأس بالحداء”

14- المصدر السابق.

15- جواهر الكلام 22 : 51

16- جواهر الكلام 22 : 45

17- جواهر الكلام 22 : 45

17- وسائل الشيعة ، الباب 15 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.

18- جواهر الكلام 22 : 49

المصدر: كتاب: الفقه الشيعي التقليدي – الفقه الجواهري نموذجاً – تأليف: الدكتور عبدالله أميدي فر

تحميل الكتاب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky