الاجتهاد: اذا اردنا ان نجدد حضارة الاسلام فلا بد ان نهتم بالحوزات العلمية والمعاهد الدينية، مستمدين منها القوة والتوجيهات والتعاليم لحياتنا: هذه التعاليم التي استطاعت عبرها المحافظة على جوهر الاسلام و روحه خلال تلك الانعطافات التي كانت في مسيرة المسلمين على امتداد الف واربعمائة عام.
بسم الله الرحمن الرحيم
تعيش امتنا الاسلامية آفاق التحدي الحضاري، ومع تنامي الصحوة الاسلامية يزداد هذا التحدي عمقاً واتساعا.
فلا تزال آلة الحضارة الغربية الضخمة تواصل ضغوطها الثقافية، والاقتصادية، والسياسية وحتى العسكرية ضد الامة، وفي هذا الجو المحموم، تتصدر القضايا الاساسية قائمة الاولويات، ومن ابرزها البحث عن العلاقة بين الاصالة والانتاج.
ثم ان الغرب بهجماته المستمرة ضد الاصالة، شجع ويشجع المسلمين على الانطواء والانكفاء، ذلك لانهم يخشون ان تذهب تلك الهجمات بشخصيتهم المتميزة وتذوبهم في مصهرة الحضارة الحديثة.
وفي ظروف مشابهة، حيث كان المسلمون قد تعرضوا للهجمات الصليبية، ثم للاعصار التتري، انغلقوا على انفسهم وقاوموا أي تطور، بل و جمّدوا حركتهم الحضارية حفاظاً على شخصيتهم، ولكن السؤال؛ هل يمكن للمسلمين ان يفعلوا اليوم، ما فعله أسلافهم بالأمس، كما يحلو للبعض، حيث يبالغون في تكريم السلف الى حد التقديس، ويتشبثون بتقاليد الماضي الى حد الجمود؟ وبالمقابل؛ هل يمكن ذلك في هذا العصر المجنون في تطوره والعملاق في قوته التقنية والعملية، والنافذ في اغرائه وارهابه؟!
الحوزات والمعاهد.. الدور المفصلي
ويأتي الحديث عن المعاهد والحَوزات العلمية، لتعاظم تأثيرها في الحياة بعد ان تفاعلت اكثر من اي يوم مضى، مع الظروف وتصدت لقيادة الامة في اكثر من بقعة. وقد تميزت المعاهد والحوزات العلمية بالاصالة حيث تخصصت في فقه الشريعة الاسلامية والعلوم التي تتصل به. وفي الظروف الصعبة التي مرت على الامة بعد تعرضها لهجوم غربي شامل، وقف العلماء ومن ورائهم الحوزات العلمية، يذودون عن حرمات الدين كالطود الشامخ، حتى انحسر الهجوم وعادت الامة الى وعيها وشخصيتها.
وفي ذلك اليوم كانت الحاجة الى الاصالة اكثر من الحاجة الى الانفتاح والتطوير، أما اليوم حيث قررت الامة النهوض من سباتها ودخلت معركة التيار الحضاري، فان على المدارس الاسلامية ان تقوم بدورها الريادي في وضع البرنامج الرسالي الذي يواكب العصر واعطاء الزخم الحضاري اللازم لتنفيذ ذلك البرنامج.
وهكذا فان الحاجة الى التطوير والانفتاح على مكاسب ومعطيات العصر تزداد للقيام بهذا الدور، وكان لزاما على الحوزات العلمية، ان تقوم بدورين متكاملين: الاول: دور المحافظة على حدود الشريعة واصالة الامة، والثاني: تطوير الحياة وتنمية المجتمع، ومعروف مدى صعوبة الجمع بين هذين الدورين المختلفين، لكن ثراء تراث الامة ومرونة برامج الحوزات العلمية، كل ذلك كفيل بتجاوز هذه الصعوبة بعد التوكل على الله سبحانه.
وفي اطار فهم منطلقات المعاهد والحوزات العلمية، لابد من التأكيد على ان للحضارة الاسلامية خصائصها وقنواتها، ومن ثم علينا ان نتعرف عليها من خلال هذه الخصائص والقنوات. اذ لا يمكننا ان نجزئ حضارة قامت على اساس رسالات الله تعالى، فنأخذ منها بعضا ونترك البعض الآخر، او نلتزم بمحتواها دون الحدود، كما لا يمكن ان نعكس الامر فنتمسك بالظواهر دون المحتويات.
ومن ابرز خصائص الحضارة الاسلامية، هذه الحوزات العلمية التي لا ندعي انها التطبيق الوحيد لتعاليم الاسلام والافتراض الوحيد لاحتواء التعاليم. كما اننا لسنا ممن ينسب الكفر الى المعاهد والجامعات الاكاديمية، اذ ليس من مذهبنا التكفير واتهام الناس بالنفاق، بمجرد ان يخالفوا آراءنا او سلوكنا وطرقنا، فالاسلام دين السماحة، كما لا يجوز ان نحلل ونحرم حسب اهوئنا، فمن أعظم الذنوب ان ننسب حكماً الى الله تعالى، ونفتري عليه مالم ينزل به سلطاناً.
ومع ذلك فان ما نستوحيه من مجمل تعاليم الاسلام وسيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وآله واهل بيته عليهم السلام، هو ان الحوزات العلمية تمثل الوعاء الافضل لهذه التعاليم، والتطبيق الانسب لها، وان خريجي هذه المراكز المباركة قد نالوا الحظ الاوفر من الروايات الشريفة على لسان المعصومين عليهم السلام.
عن ابي عبد الله الصادق عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: “من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا الى الجنة، وان الملائكة لتضع اجنحتها لطالب العلم رضىً به، وانه يستغفر لطالب العلم من في السموات ومن في الارض حتى الحوت في البحر، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم في ليلة البدر، وان العلماء ورثة الانبياء وان الانبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، ولكن ورثوا العلم، فمن اخذ منه اخذ بحظ وافر”.
وعنه عليه افضل الصلاة والسلام: “انظرو علمكم هذا عمن تأخذونه، فان فينا اهل البيت في كل خلف عدولا ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين”.
وبالطبع، لا ندعي ان هذه المعاهد والحوزات الدينية منزهة عن الاخطاء والنقص وانها قد بلغت الكمال المطلق، ولانها على اية حال تمثل ارادة الانسان، ومن هنا انبرت الروايات الشريفة لوضع الشروط والحدود واطلاق التحذيرات ممن يدعي العلم والدين.
عن محمد بن يعقوب، عن علي بن ابراهيم، رفعه الى ابي عبد الله الصادق عليه السلام انه قال: (طلبة العلم ثلاثة فاعرفهم بأعيانهم وصفاتهم، صنف يطلبه للجهل والمراء؛ وصنف يطلبه للاستطالة والختل؛ وصنف يطلبه للفقه والعقل.
فصاحب الجهل والمراء مؤذٍ ممار، متعرض للمقال في اندية الرجال، بتذاكر وصفة الحلم، قد تسربل بالخشوع، وتخلى عن الورع، فدق الله من هذا خيشومه، وقطع منه حيزومه. وصاحب الاستطالة والختل، ذو خبّ وملق، يستطيل على مثله من اشباهه، ويتواضع للاغنياء من دونه، فهو لحلوانهم هاضم، لدينهم حاطم، فاعمى الله على من في هذا خبره، وقطع من آثار العلماء اثره. وصاحب الفقه والعقل ذو كآبة وحزن وسهر، وقد تحنك في بُرنسه، وقام الليل في حندسه، يعمل ويخشى، وجلاً، داعياً، مشفقا مقبلا على شانه، عارفا باهل زمانه، مستوحشا من اوثق اخوانه، فشد الله من هذا اركانه، واعطاه يوم القيامة امانه”.
من هنا؛ اذا اردنا ان نجدد حضارة الاسلام فلا بد ان نهتم بهذه الحوزات والمعاهد الدينية، مستمدين منها القوة والتوجيهات والتعاليم لحياتنا: هذه التعاليم التي استطاعت عبرها المحافظة على جوهر الاسلام و روحه خلال تلك الانعطافات التي كانت في مسيرة المسلمين على امتداد الف واربعمائة عام، ففي خلال تلك التطورات الهائلة التي حدثت عن المسلمين، والانحرافات التي غزت ادمغتهم، كانت الحوزات العلمية تتحدى وتقاوم وتبلور النظرية الاسلامية الصحيحة، ومن ثم فانها كانت تحافظ على جوهر الاسلام.
المواكبة مع تطورات العصر
مازال يدور في خلد الكثيرين ضرورة تنظيم الحوزات وفق الاسس التي تتطلبها المرحلة الراهنة، مواكبةً مع تطورات العصر وتقدم الزمان، ومنذ اكثر من خمسين سنة مضت، تتردد هذه الدعوة من قبل كبار العلماء ومازالت تتكرر مرات ومرات.
ومن هنا كان على كل منأوتي حظاً من الحكمة ونصيباً من العلم، ان يُدلي بدلوه في هذا المجال، ويبدي خبرته وفكرته ورأيه بمايتناسب واهمية هذا الموضوع عسى ان يتحقق باحسن وجه.
فقهاؤنا في الحوزات كانوا يصنعون المعاجز، او ما اشبه المعاجز في معالجتهم لأدق المسائل العلمية والفلسفية والفقهية والتشريعية والاصولية، ومن يقارن بين الفقه الاسلامي الذي تطور على ايدي فقهائنا الاجلاء، وبين الفقه الغربي، يجد البون الشاسع بينهما، كما ان من يدرس علم النفس او علم الاخلاق عند علمائنا، يدرك ان فهم الغربيين في علم الاجتماع او النفس او العلوم الانسانية لايمكن ان يبلغ فهم علمائنا.
من هنا؛ فان اهتمامنا بتنظيم الحوزات العلمية لا يعني ابدا الانتقاص من قيمة هذه الحوزات، او تجاهل دورها الكبير والفعال في تطوير العلم وفي الابقاء على جوهر الحضارة الاسلامية.
وهنا نود ان نشير الى بعض آفاق التجديد والتطوير في الحوزات العلمية:
أولاً: الاستقلالية عن أصحاب النفوذ والثروة
رغم ان هذا الافق، من الآفاق الاصيلة والعميقة تاريخياً في عمر الحوزة العلمية، الا انه مازال ينبض بالحيوية، ويخضع بين الفينة والاخرى للجدل والنقاش والدعوة الى اعادة صياغته وبلورته من جديد. ويكتسب أفق استقلالية الحوزات اهمية كبيرة،نظراً الى ان مرتكزات العلم والتفقه والبحث في هذه المؤسسة، ترتبط بشكل مباشر وشبه مباشر بكتاب الله المجيد وبصائر الوحي ومن هنا فان اي عامل سياسي او اقتصادي او ما شابه يمارس ضغطا على مناهج وسلوكيات الحوزة ورجالاتها، فهو بمنزلة ناقوس خطر قد يهدد الدين ومقوماته برمته.
أما على صعيد معاهدنا في عالمنا الاسلامي، فينقل آية الله الشهيد مرتضى المطهري (رحمه الله) عن احد علماء ايران، الذي انتخب ضمن لجنة التقريب بين المذاهب الاسلامية، انه زار مصر بعد (ثورة يوليو) عام 1952 في مصر، ولدى دخوله الى مكتب امام الازهر الشريف الشيخ محمود شلتوت، تفاجأ برؤية صورة جمال عبد الناصر معلقة في غرفة امام الازهر، وفوق رأسه، فسأله: سماحة الشيخ..! كيف تعلق هذه الصورة وانتم و مقامكم الديني وما تعرفون من صراع زعيم القومية العربية جمال عبد الناصر مع الاسلاميين في مصر..؟! فأجاب الشيخ شلتوت:متبسماً و ملوحاً باصابعه، القضية، فلوس..!! فأجابه رجل الحوزة الشيعي قائلا: وهذا هو الفرق بيننا وبينكم،نحن الشيعة، نوفر المال من بركات فريضة الخمس، ومنها نغطي حاجة حوزاتنا وطلابنا مالياً، ونمنع تدخل الحكومات في شؤوننا!
ولكن عاد الجدل بعد انتصار الثورة الاسلامية في ايران حول هذا الموضوع، فقد أوصى مؤسس الجمهورية الاسلامية الراحل آية الله العظمى السيد روح الله الموسوي الخميني بضرورة بناء الحوزة ومناهجها المألوفة بعيدة عن الحكومة، وكذلك تأكيده على ربط موقوفات المذهب السني ومدارسه في ايران ضمن نطاق قانون الوقف، واستمرار صرف رواتبهم، ويرى بعض الفقهاء ان الوضع يختلف بعد انتصار الثورة الاسلامية.
بينما نقرأ رأياً آخر لأحد علماء الدين في ايران.. ففي معرض اجابته على سؤال وُجه له من مجلة «البصائر» الفصلية عام 1985بشأن العلاقة الصحيحة التي ينبغي ان تقوم بين الدولة الاسلامية، والحوزة العلمية، وعلاقة علماء الدين بمؤسسات الدولة يقول سماحةآية الله العظمى الشيخ جعفر السبحاني ما نصه: «هذا السؤال كان من المنطقي طرحه قبل نجاح الثورة الاسلامية في ايران، أما بعد نجاحها فلا مجال لطرحه..! اذ ان الحوزة العلمية تعد الان وفي ظل الوضع الجديد، جزءاً من الدولة الاسلامية، والذراع الفكري لها، خاصة اذا عرفنا ان الدولة الاسلامية يقودها فقيه اسلامي جامع الشرائط، وان نظام الدولة هو الاسلام، وهو يحتاج،خاصة في جملة مؤسساتها ومرافقهاـ الى مختصين في العلوم الاسلامية كمجلس الشورى والقضاء وقسم الاعلام وغير ذلك).
اما سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي،فقد أخذ منحى آخر بالاجابة على نفس السؤال: «اننا نعتقد ان الحوزات العلمية ينبغي ان تكون دائما مستقلة عن الدولة، حتى عن الدولة الاسلامية، وان تحتفظ بطابعها الشعبي، وهذا لا يحول دون اعداد العلماء والفضلاء لاحراز المناصب السياسية في الدولة الاسلامية».
طلبة الحوزة وأموال النفط العراقي
وبعد سقوط الصنم في العراق بتاريخ 9/4/2003 م وصياغة نظام جديد لإدارة الموقوفات والشؤون الدينية، بقي هذا الهاجس يراود الكثيرين،نظراً الى ان الاخوة في الوقف السني يعنون بمجمل الشؤون من الموقوفات والمزارات والمساجد وكذلك المدارس الدينية وطلابها. فيما انبرى الوقف الشيعي للاهتمام بشؤون المزارات والموقوفات دون الحوزات وطلابها، كون المرجعية الدينية في العراق احدى مقومات الامة وصمام أمانها، ولايمكن ربطها بدائرة حكومية.
غير ان وضع طلاب العلوم الدينية بقي كما هو عليه، فالطلبة في مدارس ابناء العامة يصلهم من واردات النفط العراقي، الى جانب ريع الموقوفات التابعة للوقف السني، بينما طلاب الحوزات العلمية حرموا حتى من كونهم فئة اجتماعية مستحقة كباقي الفئات من الحقوق والاستحقاقات، مثل توزيع الاراضي والضمان الصحي والاجتماعي. والمشكلة تكمن في الخشية من احتمال هيمنة الحكومة على شؤون الحوزة والتدخل في منهاجها وضرب استقلالها.
ثانياً: ضرورة تعميق الصلة بالقرآن الكريم والنصوص الدينية
ينبغي ان يكون الاتجاه في الحوزات والمعاهد الاسلامية على نحو الاتصال الاعمق والاقوى بالنصوص الشرعية، فنحن لا نريد ان ننزع انفسنا من واقعنا المتخلف لنعلقها في الفراغ، انما ننتشلها من هذا الواقع الفاسد، لنربطها بالواقع الحضاري المتكامل، وهو واقع القرآن الكريم وسيرة الرسول الكريم واهل بيته عليهم افضل الصلاة والسلام.
علينا ان نتمثل سيرة نبينا (ص) واصحابه المخلصين وسيرة ائمتنا وحوارييهم، فنستلهم هذه السيرة ونحاول تطبيقها في حياتنا، كما علينا ان نعود الى النصوص القرآنية ونكثر من قراءتها ونحاول تفسيرها والتدبر فيها والاتعاظ بها، فنجعل القرآن شعارنا، ونعيش في واقعنا معه، لا ان نتخذ منه دثاراً نتدثر به في اوقات الحاجة، وكذلك الحال بالنسبة الى الاحاديث.
ان دراسة المتون المتداولة قد شغلت حوزاتنا عن دارسة المتون الاخرى، وكأننا لسنا بحاجة الى دراسة نهج البلاغة او الصحيفة السجادية.. وكأن وصايا ائمتنا عليهم السلام ووصايا السابقين من علمائنا التي من شأنها صياغة الشخصية الاسلامية والايمانية المتكاملة، لا تعنينا اساسا.
ثالثاً: توثيق العلاقة بين النظرية والتطبيق:
لابد من ايجاد العلاقة الوطيدة بين ما يدرس في الحوزة، وما تتطلبه الظروف الجديدة والامور المستحدثة، فليس كل علم نافعا، وليس كل تعليم مطلوبا، فلابد ان نجعل الحاجات العلمية اساسا للتعلم، فلكي نعمل علينا ان نتعلم، ولذلك لا يجب ان نتعلم الا ما ينفع عملنا.
إن من أولى واجبات المدارس الدينية لدى استقبالها لطالب العلم، أن تدعوه ومنذ اليوم الاول، الى الارتباط بالناس والبدء بنشر العلوم الدينية في منطقته، لا ان يعد السنوات تلو السنوات، حتى يفكر بالتبليغ، لان هذا التسويف هو مدعاة للتقصير ونسيان العلم والتواني والتكاسل في العطاء للامة، ثم ان التبليغ ينبغي ان يبدأ من مستوياته البسيطة على الناس لكي يتمرن الطالب ويكتشف الاسلوب الامثل للدخول في قلوب المجتمع لاسيما الصغار في السن.
رابعاً: الاهتمام بالبحوث الاستراتيجية والدراسات العليا
من الضروري الاهتمام بالبحوث والدراسات العليا التي تحتاجها الامة الاسلامية، وثمة عناوين أساس ومثيرة في هذا المجال: هل للإسلام القدرة على ردم الفجوة القائمة بين العالم الثالث والعالم المتقدم؟ وكيف يمكن تحقيق التنمية الاقتصادية في هذا العالم المتداخل اقتصاديا؟
ازاء هذا الوضع نرى اهتمامات علمائنا انصبت على مسائل فرعية لا تخلو من اهمية، ولكنها قد اشبعت بحثا ودراسة من قبل علمائنا السابقين، كالبحث عن الحقيقة الشرعية، واجتماع الامر، والنهي، والدلالات اللفظية وما اشبه ذلك من موضوعات لايمكن ان يضيف اليها الباحثون الجدد الا القليل، في حين ان مسائل اخرى اكثر اهمية ظلت مهملة في حوزاتنا، من قبيل التنمية الاقتصادية والتربية الاسلامية، وإضافة الى ذلك،وهنالك تساؤل اخر: هل للاسلام اسلوب وطريق معينان لاسقاط الطاغوت واقامة حكم الله في الارض؟ لقد قدمت دراسات معدودة حول هذا الموضوع، بل حتى بعد انتصار الثورة الاسلامية في ايران، لم تصدر دراسة وافية وعميقة في هذا الشأن.
لو اتجهت الحوزة العلمية بهذا الاتجاه، لافادت العالم الاسلامي الكثير، ولو تأملنا الرواية الشريفة عن الامام الحجة عجل الله فرجه، وبالذات عبارة «واما الحوادث الواقعة…» لوجدناها واقعية في قوله عجل الله فرجه:
«واما الحوادث الواقعة فارجعوا بها الى رواة احاديثنا»،فالمشاكل المستحدثة والجديدة، والقضايا التي لم تحصل سابقا، تحتاج الى استنباط كما قال الله تعالى:»واذ إِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلً» (سورة النساء /83). فالاستنباط لايكون إلا في الامر الجديد وفي القضايا الحديثة التي تطرح لاول مرة، او القضايا التي نحن بحاجة ماسة الى تحديد حكمها.
خامساً: الاهتمام بروح المبادرة
ينبغي ان نخلق قدوات صالحة للمجتمع، فالذي يؤثر في الانسان، هو القدوة الحسنة لا الحديث والموعظة: «كونوا دعاة لنا بغير السنتكم»، كما يقول الحديث الشريف،ولاريب ان الحوزات والمعاهد العلمية كانت ناجحة في هذا المجال، ولكن ينبغي الاهتمام اكثر، كالاهتمام بتزكية النفس والاخلاق الحسنة كالتواصي والتكافل وما شابه ذلك من امور، لو اهتمت الحوزات العلمية بها، فإن ثورة ثقافية بل موجة حضارية سوف تنبعث من تلك الاراضي المباركة التي احتضنت الحوزات العلمية.
ومن اجل النجاح في هذا المسعى، لن نكون بحاجة الى قانون يصادق نواب البرلمان، انما نحن بحاجة الى ثورة تنبع من داخل الحوزات العلمية.
في كثير من الاحيان نجد انفسنا بحاجة الى حركة ذاتية، والى روح المبادرة، فالحوزات العلمية بحاجة الآن الى حركة جذرية ذاتية تنبع من ضميرها، وتسد النقائص الموجودة فيها، اما اذا انتظرنا الآخرين لكي يأتوا الى الحوزات ويصلحوها، وعلى حساب استقلالها، فهذا ليس بالعلاج الجذري؛ لان استقلال الحوزات، اهم إرث ورثته الاجيال السابقة من فقهائنا الابرار (رضوان الله عليهم).
المصدر: مجلة الهدى/ وهي مجلة ثقافية تصدر عن دار الهدى للثقافة والاعلام