الدراسات الإسلامية

إلى أين تتجه الدراسات الإسلامية المعاصرة؟ / أ.د. مسفر بن علي القحطاني

الاجتهاد: هناك رغبة جامحة للتطوير ومواكبة الاحتياجات الراهنة نادت بها -ولا تزال تنادي بها- كثير من أقسام وكليات الدراسات الإسلامية في جامعاتنا ومراكزنا البحثية، هذه الدعوات الغيورة تظهر بقوة بعد كل حدث يظهر في الساحة الإسلامية نتهم فيها المناهج والخطاب الديني بأنه وراء هذا الخلل الفكري أو ذاك الجنوح المنهجي؛

فمنذ أحداث 11 سبتمبر حتى ظهور الحركات الدينية المتطرفة والمسيسة بعد الخريف العربي، وهذه الأحداث تلقي بظلالها على عمل تلك الجهات التعليمية من خلال الاستعجال في صنع البدائل، ومحاولة التغيير كردّة فعل للتهم الموجّة لمجتمعنا ومناهجنا التعليمية، مع استمرارنا في القيام بعمليات جراحية تبتر كل ماله صلة بموضوع أو مجال فيه محذور أمني وديني.

واعتقد أننا تخلصنا من ركام ثقيل لكثير من المعارف والأدبيات التي باتت أشبه بأدوات بالية لصناعات قديمة في عصر التقنية والنانو، ولكن القصة لم تنته عند هذا الحد؛ بل ظهرت ثغرات معرفية لم تسدّ، وانكشفت لنا بيئة خصبة لم تستثمر، واعترى طموحنا عقبات قد تؤخرنا عن تحقيق حلمنا في 2030، أمام هذه الإشكالية التعليمية والتي تخص مجال الدراسات الإسلامية؛ أضع بعض الأفكار على النحو الآتي:

أولا: لا يزال هناك إقبال كبير ومتجدد الموضوعات نحو الدّراسات الإسلامية، وفي أمريكا وأوروبا وأستراليا واليابان وروسيا والصين مئات الأقسام والمراكز والكراسي التي تبحث تفاصيل ومستجدات عالمنا الإسلامي وحتى تراثه وماضيه وشخصياته وتأثيراته؛ التي قد لا تجدها إلا بالمجهر في ثقافتنا المحلية، بينما تنجز فيها كتب ورسائل جامعية ويتخصص فيها علماء كبار، وحسب دراسة منشورة في موقع وزارة الخارجية هناك 1200 جهة علمية تقدم رأيا حول المشرق الإسلامي: (http://usinfo,state.gov/journals/itps/1102/Ijpa/haass.htm)،

وأذكر في جامعة لايدن بهولندا أني وجدت متخصصا بلهجة المهرة؛ وهي إحدى قبائل الربع الخالي، وقد عاش معهم عشرين عاما، وله في أحوالهم ولغتهم عدة كتب وأبحاث، وقسّ على ذلك الكثير من الموضوعات التفصيلية التي يشتغل بها الغربيون،

وقصدي من هذا الإيراد أن موضوعات الدرس والبحث في كلياتنا باتت بعيدة عن الاحتياج، ومنشغلة بإعداد مدرسين حفظة وباحثين نقلة؛ نرسخ من خلالهم منهجية باردة تميت القلق البحثي أو الشغف التجديدي، وكثيرا ما يُستهجن من يخرج عن هذا النسق الرجعي.

ومما يؤسف له أيضاً أن يتحوّل بعض الأكاديميين التنفيذيين في جامعاتنا إلى شخصيات أقرب لتجّار السلع الرخيصة، فتمتلأ بعض كلياتنا العلمية أو مراكزنا البحثية بأساتذة أجانب في غاية البساطة من حيث العمق والتمكّن؛ تحت تأثير خدعة (cv) مثقل بإنجازات متوهمة، ليعمل منظرّا أو مرجعا علميا في قضايانا الخاصة؛ تراثية أو معاصرة.

ثانيا: كتب إدوارد سعيد كتابه حول «الاستشراق» ثم أكمل وائل حلاق نقد سعيد والمستشرقين في كتابه «قصور الاستشراق»، وهناك الكثير من التفاصيل حول ضرورة نقد منتجات الاستشراق؛ ولكن لأسباب كثيرة تأخر هذا النقد الموضوعي لأكثر من نصف قرن، ومع ذلك لا تزال تلك العقلية الغربية تبهرنا من ناحية الكشف عن موضوعات جديدة، ومنهجية محترمة في تناول الكثير من الدراسات،

ومع هذا الابهار الذي قد يعمينا عن فحص المشهد كاملا، نجزم أن هناك دراسات غربية من مراكز مرموقة؛ هي في غاية الضعف والبساطة، وتستنتج من مقدمات هشّة قطعيات مسلّمة، خصوصا في مجال الدراسات السوسيولوجية لمجتمعنا السعودي، أو موضوعات ذات علاقة بالوحي والتراث وفلسفة الدين والرؤية للمذهب الحنبلي والسلفية،

وهذه الموضوعات الغربية التي يتزايد الاهتمام بها يوما بعد يوم؛ تفشل في بيئتنا الشرعية والاجتماعية بسبب اختلاف المنهجية ونمطية التفكير (البردايم) لدى تلك المراكز القائمة على فكرة اللاهوت المسيحي، أو متشبعة بنظريات فيبر ودوركايم المنطلقة من محاولات البحث عن موضع للدين في الشأن العام؛ بعدما توغلت الشكيّة الديكارتيه والتجريبية العلومية في تفسير كل الظواهر والقضايا العقلية وحتى الغيبية،

أما اليوم فمنطق الدراسات الإسلامية -كحقل معرفي غربي- أصبح أكثر اعتمادا على استجلاب علم الكلام بكل نظرياته وأدواته القديمة، ولم تعد أدواته خاصة بالحِجاج والمناظرة؛ بل تدرّس كمنهج للاستدلال والنظر، وهو ما يجعل لكل باحث نظرته الخاصة في طبيعة نصوص الوحي وصفات الرب وآثار أفعاله على الكون والطبيعة، دون تمييز للخلفية الفكرية المتباينة التي يقررها القاضي عبدالجبار والنظّام والعلّاف، أو ما يقابلها عند أبي الحسن الأشعري والغزالي وابن تيمية وغيرهم،

وكل واحد من هؤلاء وغيرهم له طريقته الخاصة في قبول أو رد ما تم جلبه من علم الكلام خلال القرون الهجرية الأولى والوسطى، وهذا ما يسوّغ أن فكرة الاستشراق الكولونيالي القديم لا يزال يمتد حتى في عصرنا الحديث رغم العاطفة والتواضع الذي يظهره الاستشراق الجديد في توظيفاته لعلم الكلام.

ثالثا: بناءً على ما سبق من وجود اهتمام غربي كبير في حقل الدراسات الإنسانية التي تخص مجتمعنا السعودي، يصيب بعضها ويخطأ بعضها الآخر، نتساءل: هل لدى مؤسساتنا الأكاديمية والبحثية ما يقابل هذا الاهتمام، ونحن أصحاب الشأن والأولى به؟

وحتى نجيب على هذا السؤال، نحتاج أن نعرف ماهي اهتمامات الباحث والأكاديمي السعودي، فحملة شهادة الدكتوراه في السعودية حتى 2017م حسب هيئة الإحصاء بلغوا: (36869)، وهذا العدد كبيرٌ جدا على مستوى العالم، ويفترض في الدكتور أن يكون باحثا أكاديمي أو على الأقل يشتغل بالمعرفة بحثا وكتابة، ومع ذلك نجد أن مخرجات البحث الأكاديمي ضعيفة للغاية خصوصا في مجال الدراسات الإنسانية،

وللدكتور علي الخليفة دراسة حول المنتج البحثي لعدد 38 أستاذا متخصصا بعلم الاجتماع في أهم ثلاث جامعات سعودية، أظهر بحثه نتائج محبطة تؤكد ضعف تلك الأبحاث في مجالات مهمة ومتعلقة بالجانب الفلسفي والأبستمولوجي في علم الاجتماع؛ حيث لم يوجد سوى 2% من الأبحاث من مجموع (1037 بحثا) تهتم بهذه الجوانب الجوهرية من هذا العلم ( انظر بحث الدكتور عبدالله البريدي، مجلة إضافات العدد 43، و44 خريف 2018)،

وقد اطلعت مؤخرا على ببليوغرافيا لأبحاث فقهية محكّمة نُشرت في مجلات علمية بالمملكة، وجدتُ أن أكثر من 80% منها لا يخرج عن موضوعات مكررّة، أو قديمة لم يعدّ لها اثر معاصر، أو مجرد مقارنات بين عصرين أو إمامين أو مذهبين، أو تجميع لمتفرق، أو تنظير بلا تنزيل، مما يجعلها موضوعا غير دافعٍ للإبداع والتجديد، علما أن كل مجلة تشترط في قبول البحث وتحكيمه أن يكون بحثا جديدا وفيه إضافة وإبداع،

ومع كامل التقدير لهذه الموضوعات ومن بحثها، إلا أنها بعيدة أيضا عن احتياجنا الواقعي الذي يتطلب نقدا ومراجعة وفحص من جديد لكثير من المقولات والأحكام والمنهجيات (انظر: فهرس الموضوعات الفقهية في المجلات العلمية المحكمة، إشراف الدكتورة صباح فلمبان، نشر جامعة أم القرى 1438-1439هـ).

رابعا: ماذا ننتظر من الباحث في الدراسات الإسلامية؟ اعتقد أن المقدمات السابقة تؤكد أن هناك خللا ظاهرا في نوعية البحث وجودته، وأن هناك فرصا كبيرة تدعونا للبحث المستمر في موضوعات جديرة بالاهتمام لا نجد لها باحثا مهتما سوى من يأتينا من الخارج!،

وهذه الفرص وما يقابلها من تحديات في مجال الدراسات الإسلامية يتطلب أن نعيد النظر، في اختيار موضوعات الدراسات العليا، وضوابط الموافقة على نشر البحوث العلمية، والتأكيد على الجدّة والابداع في التناول والتنزيل على واقعنا الحالي، مع ربط ذلك بمؤشرات دقيقة لقيمة هذا المنتج العلمي.

وهذا الأمر يتطلب حزما إداريا ومتابعة من وزارة التعليم، ونأمل مع الوقت أن نرتقي للطموح البحثي الذي نصبوا إليه، فالثغرات المعرفية لدينا هائلة، والشغف المعرفي هو ما يدفع الباحث لخوض تلك المجالات المسكوت عنها دهرا طويلا، ودمج وتطوير هذه الفرص والإمكانات هو مهمة الإداري الناجح في جامعاتنا والوزارة.

وأخيرا.. ونحن ننظر لمستقبلنا بعيون ملؤها الفأل والطموح بالتميز والتقدم، يبقى الدور الأكبر في هذه الآمال الواعدة لحجر الزاوية وهو تفوقنا العلمي الذي نراهن عليه في تحقيق أهدافنا في 2030، والأكاديمي السعودي ليس رقما هامشيا في صناعة هذا الإنجاز؛ بل يمكن أن يقود هذه القاطرة التقدمية أسوة بكل علماء الدول في العالم، فالأمم لا تتقدم إلا وعلماؤها في الصفوف الأولى بيدهم محراث العمل وفي الأخرى قلم العلم، وعلى قدر تقديرهم وتمكينهم يظهر قدْرنا وموقعنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky