الاجتهاد: هذه الدِّراسة عبارةٌ عن محاضرات ألقاها السيد محمد تقي الحكيم(ره) على طلاّب السنة الثالثة في كلِّية الفقه بالنجف الأشرف سنة (1380هـ ـ 1960م)، تناول فيها أبحاث (الاجتهاد والتقليد، ومصدرية القرآن الكريم)؛ وهي تشكّل النواة الأساسية لكتابه الرائد (الأصول العامّة للفقه المقارَن، مدخلٌ إلى دراسة الفقه المقارَن). ومقرِّرها هو الدكتور الشيخ عبد الهادي الفضلي(ر) من طلاّب تلك الدفعة في الكلِّية. تمّ تنظيمها وتقويم نصوصها بعد أن تفضَّلوا بها ـ مشكورين ـ ورثةُ الدكتور الشيخ الفضلي. وهي تنشر لأوّل مرّة بعد مرور أكثر من نصف قرن على إلقائها وتقريرها) (تنظيم وتقويم وتحقيق: الشيخ أحمد عبد الجبّار السميِّن)،
9ـ [مراحل وأدوار التشريع]
وما دمنا قد بلغنا من حديثنا إلى هذا الموضع فإنّ من الحقّ أن نتعرّف، ولو على سبيل الإجمال، على المراحل والأدوار التشريعية؛ لنعرف منها ما يمكن أن ينتظم من أعلامها في بحثنا المقارن وما لا ينتظم.
ولنطّلع على وجهتَيْ نظر مَنْ آمن بضرورة إيقاف حركة الاجتهاد بسدّ بابه وتحريم الرجوع إلى غير المذاهب الأربعة من الأئمة ومَنْ آمن بضرورة إبقاء الباب مفتوحاً أمام الباحثين والمجتهدين حتى عصرنا الحاضر، وتسويغ الرجوع إلى كلِّ مجتهدٍ توفّرت فيه شرائط التقليد، مع بيان حكم المسألة ودليله على أساس مقارن(1).
ويمكننا توزيع هذه المراحل، حَسْب ما مرّت به من عهودٍ تشريعية، إلى ثلاثة:
1ـ مرحلة ولادة الاجتهاد ونشأته
وهي المرحلة التي وجدت قبل أن تحدّد المفاهيم الأصولية، وتشخيص مواضيع جريانها، وأسلوب الجمع بينها عند المعارضة، وتعيين رتبها. وكلّ ما هنالك ألفاظٌ محدّدة لقواعد أصولية، كالقياس والرأي والاستصحاب والعموم والخصوص، كانت تجري على ألسنتهم ـ على شكٍّ في صحّة نسبة جريان بعضها إليهم ـ. وهي المرحلة التي مرّ بها الصحابة والتابعون على الأكثر، ورُبَما استغرقت أكثر من نصف القرن الأول من الهجرة. ومِثْلُ أعلام هذا العهد لا نستطيع أن نعتمد على ما نعثر عليه من آرائهم في مجال المقارنة ما لم يصرِّح بدليله، أو نعثر على ما يصلح للاستدلال له من الأدلّة؛ ليمكن مقارنته بغيره.
2ـ مرحلة تمذهب المذاهب وتأصيل الأصول
وهي المرحلة التي نضج فيها الاجتهاد، وتميَّزت فيه المذاهب الأصولية على يد تلامذة الإمام الصادق”علیه السلام”، من أمثال: (هشام بن الحكم)، و(مؤمن الطاق)، ومَنْ في طبقتهما من أئمة المذاهب، كـ (مالك)، و(أبي حنيفة)، و(أبي يوسف)، ثمّ (الشافعي)، و(ابن حنبل). وقد تطوّرت بعد ذلك وتشعّبت على أيدي تلامذتهم حتّى بلغت أواخر القرن الرابع، حيث ابتدأت:
3ـ مرحلة التقليد الذي وقفت فيه حركة الاجتهاد
وتجمّد الناس، وأصبحوا يدورون في فلك السابقين من أئمة المذاهب، لا يَعْدُونَها بحالٍ. وقد أرجع الأستاذ (خلاّف) أسباب هذا الجمود إلى أربعةٍ، نجملها بما يلي:
1ـ انقسام الدولة الإسلامية إلى عدّة ممالك، وتناحر ملوكها ووزرائها على الحكم؛ ممّا أوجب انشغالهم عن تشجيع حركة التشريع، وانشغال العلماء؛ تَبَعاً لذلك، بالسياسة وشؤونها.
2ـ انقسام المجتهدين إلى أحزاب، لكلّ حزبٍ مدرسته التشريعية وتلامذتها، ممّا دعا إلى تعصُّب كلّ مدرسةٍ إلى مبانيها الخاصة، أصولاً وفروعاً، وهدم ما عداها، (حتّى صار الواحد منهم لا يرجع إلى نصٍّ قرآني أو حديثٍ ليلتمس فيه ما يُؤيّد مذهب إمامه، ولو بضربٍ من التعسُّف في الفهم والتأويل. وبهذا فنيت شخصيّة العالِم في حزبيّته، وماتت روح استقلالهم العقلي، وصار الخاصّة كالعامّة، أتباعاً مقلِّدين)(2).
3ـ انتشار المتطفِّلين على الفتوى والقضاء، وعدم وجود ضوابط لهم، ممّا أدّى إلى تقبُّل سدّ باب الاجتهاد في أواخر القرن الرابع، وتقييد المفتين والقضاة بأحكام الأئمة السابقين، حيث عالجوا الفوضى بالجمود.
4ـ شيوع الأمراض الخُلُقية بين العلماء، من التحاسد والأنانية، (فكانوا إذا طرق أحدهم باب الاجتهاد فتح على نفسه أبواب التشهير به، وحطّ أقرانُه من قَدْره، وإذا أفتى في واقعةٍ برأيه قصدوا إلى تسفيه رأيه، وتفنيد ما أفتى به بالحقّ وبالباطل.
فلهذا كان العالم يتّقي كيد زملائه وتجريحهم بأنّه مقلِّدٌ وناقلٌ، لا مجتهدٌ ومبتكرٌ. وبهذا ماتت روح النبوغ، ولم تُرْفَع في الفقه رؤوس، وضعفت ثقة العلماء بأنفسهم، وثقة الناس بهم، فولّوا وجههم مذاهب الأئمّة السابقين)(3).
وجاء بعد ذلك ـ كما سبق أن ذكرنا في محاضرةٍ سابقة ـ (الظاهر بيبرس البندقاري)، فقصر المذاهب في مصر على الأربعة المعروفة، وحرَّم الرجوع إلى غيرها.
10ـ [إشكاليات وآراء حول الاجتهاد الإمامي]
وهذه العوامل التي ذكرها الأستاذ (خلاّف) لم تؤثِّر على الشيعة الإمامية ليسدّوا على أنفسهم باب الاجتهاد، ورُبَما كان بعضها بالنسبة إليهم غير ذي موضوع، كالتحاسد والتنابذ وفوضى التشريع، إذْ لم نجِدْ في النصوص الصحيحة ما يشير إلى ذلك بوجهٍ عامّ.
ولكنّ عاملاً آخر كاد أن يؤثِّر عليهم، فيسدّ هذا الباب في القرن الخامس، وهو: عظم مكان (الشيخ الطوسي) في نفوس تلامذته؛ حيث استأثر من نفوسهم بالمقام الأسمى، حتّى تركهم يؤمنون بأنّ ما كان يأتي به لا يقبل الجَدَل والنقاش، وقد قيل: إنّ كتبه المعروفة في الفقه والحديث؛ لعظم مكانتها، خَدَّرت العقول، وسدَّت عليها منافذ التفكير في نقدها، قرابة قرنٍ(4).
وقد كان لموقف سبطه (ابن إدريس) منها الفضل الأوّل في إعادة الثقة إلى النفوس، وفسح المجال أمامها؛ لتقييمها ونقدها، والنظر في أصولها وقواعدها.
وبهذا استمرّ فتح باب الاجتهاد بعد أن كاد أن يُغْلَق من الأساس، وظلّ مستمرّاً إلى اليوم، حيث تطوّرت المباني الأصولية وتوسَّعت وتعمَّقت على يد المتأخِّرين إلى حدٍّ لم يسبق له أيّما نظيرٍ.
[الإمامية بين الاجتهادين: المطلق؛ والمنتسب]
والغريب من الأستاذ (أبي زهرة) أن يحاول تأخير رتبة المجتهد لدى هذه الطائفة عن مرتبة الاجتهاد المطلق إلى الاجتهاد المنتسب؛ لاعتقاده بأنّه (رُسمَتْ له المناهج من بيان أحكام النسخ والعموم وطريق الاستنباط والتعارض بين الأخبار وحكم العقل إنْ لم يكن نصٌّ، وكلُّ هذا يقتضي أن يطبِّق في اجتهاده لا أن يرسم ويخطِّط، فهو يسير في اجتهاده على خطٍّ مرسوم، لا يَعْدُوه، ولا يبتعد عنه يمنةً أو يسرةً.
وبهذا النظر يكون في درجة المجتهد المنتسب، ولا يكون في درجة المجتهد المطلق)(5).
وكأنّه لاحظ استدلالهم في كتب الأصول على حجّية بعض المباحث بكلام أئمّتهم، وهو لا يريد أن يعترف لأئمّتهم بالعصمة، ولا بكونهم مُلْهَمين، ولا بقيام الدليل لديهم على حجّية قولهم، كما قام عند غيرهم بالنسبة إلى مذهب الصحابي على الأقلّ، الذي اعتقدوه من الحجج.
بل أراد لهم أن يكونوا كسائر الأئمّة من المجتهدين، وشيعتهم مقلِّدين لهم في الأصول، غافلاً عن تصريحات أئمّتهم بأنهم في أحاديثهم لا يَعْدُون أحاديث رسول الله “صلى الله عليه وآله وسلم” ولا يتجاوزونها بحالٍ، فما يُستَدَلّ به من أقوالهم فإنّما هو من حديث رسول الله”صلى الله عليه وآله وسلم”، وبعضه بإملائه”صلى الله عليه وآله وسلم” وخطّ عليٍّ”علیه السلام” (6).
على أنّ أدلّة الشيعة على الحجج على اختلافها لم تقتصر على أحاديث أهل البيت^ ـ وهم عِدْلُ الكتاب في حديث الثقلين ـ، بل تجاوزتها إلى الكتاب العزيز والسنّة النبوية والسيرة القطعية وبناء العقلاء وحكم العقل، وغيرها ممّا أفاضَتْ به كتب الأصول.
والظاهر أنّ الأستاذ أبا زهرة لم يقرأ من كتب الأصول لدى الشيعة إلاّ ما أُلِّف في قرونٍ سابقة، كما يشهد بذلك ما اعتمده من الكتب، ولم يستطِعْ أن يواصل السير إلى دراسة كتب المتأخِّرين، أمثال: (فرائد الأصول) و(الكفاية) وشروحهما، وكتب التقريرات المتأخِّرة، ورُبَما لم تقع بيده أو وقعَتْ ولم يستطع فهمها؛ لدقّة مبانيها وغموض مصطلحاتها، ولو قرأها وتدبَّرها لصحَّح الكثير من آرائه في كتبه عن اجتهاد الشيعة، وبخاصّة في كتابَيْه: (أصول الفقه الجعفري)؛ و(الإمام الصادق”علیه السلام”).
والذي نرجو أن يَعلم هو وأمثاله من الكتّاب أنّ مجتهدي الشيعة لا يسيغون نسبة أيّ رأيٍ يكون وليد الاجتهاد إلى المذهب ككلٍّ، سواء كان في الفقه أو الأصول أو الحديث، بل يتحمّل كلُّ مجتهدٍ مسؤولية رأيه الخاصّ، بل لا يصحّ نسبة شيءٍ إلى المذهب إلاّ ما كان من ضروريّاته الخاصّة.
11ـ [انسداد الاجتهاد…، مستنداتٌ ومناقشات]
أمّا سدُّ باب الاجتهاد فلم يجِدْ الشيعة ما يسيغه من الأدلّة الشرعية، كما لم يجدوا من الأدلّة ما يحرِّم الرجوع إلى غير جماعةٍ من المجتهدين مهما كان شأنهم. ورُبَما وجدوا في الأدلّة ما يحظر التقليد على غير الأحياء من المجتهدين، مع توفّر شرائط التقليد فيهم.
أمّا أهل السنّة فقد التمس بعضُهم الأدلّة على حرمة الرجوع إلى غير الأئمّة الأربعة، كابن الصلاح، حيث ادّعى إجماع المحقِّقين على عدم جواز الرجوع إلى غيرهم. يقول صاحب الأشباه: (الخامس ممّا لا ينفذ القضاء به: ما إذا قضى بشيءٍ مخالفٍ للإجماع. وهو ظاهرٌ. وما خالف الأئمّة الأربعة مخالفٌ للإجماع، وإنْ كان فيه خلافٌ لغيره.
فقد صرَّح في التحريرات: الإجماع انعقد على عدم العمل بمذهب مخالف للأربعة؛ لانضباط مذاهبهم، وكثرة أتباعهم)(7).
وقد رأينا في المتأخِّرين مَنْ يوافقه على هذا الحكم فتوىً ودليلاً، كالشيخ محمد عبدالفتاح العناني وزملائه في لجنة الفُتيا في الأزهر الشريف(8).
ومثل هذا الإجماع غريبٌ في بابه. وما أحسن ما ناقشه الشيخ المراغي في رسالته عن (الاجتهاد في الشريعة)، صغرى وكبرى!
فمن حيث الصغرى، تساءل أوّلاً عن إمكان تحصيل مثل هذا الإجماع؟ وقال: (إنّ محقِّقي العلماء يرَوْن استحالة الإجماع ونقله بعد القرون الثلاثة الأولى؛ نظراً لتفرّق العلماء في مشارق الأرض ومغاربها، واستحالة الإحاطة بهم وبآرائهم عادةً. وهذا رأيٌ واضحٌ كلّ الوضوح، لا يصحّ لعاقلٍ أن ينازع فيه.
وإذا كان هذا واضحاً بالنسبة إلى إجماع المجتهدين ـ وهم أقلّ عدداً بلا رَيْبٍ من المحقِّقين ـ فكيف عرف إجماع المحقِّقين؟!)(9).
وتساءل ثانياً عن قيمة ابن الصلاح، مدَّعي هذا الإجماع؟ فقال: (ابن الصلاح هذا فقيهٌ مُقَلِّد، فكيف يؤخذ برأي فقيهٍ مقلِّد ليس واحداً من الأئمّة الأربعة؟! وكيف يُنْسَخ الإجماع برأي واحدٍ لا يصحّ تقليده، ولا الأخذ بقوله؟!)(10)، وبخاصّة بعد سدّ باب الاجتهاد.
ثمّ ناقش فيه من ناحية الكبرى بقوله: (ليس لإجماع المحقِّقين قيمة بين الأدلّة الشرعية؛ فهي محصورةٌ: (كتاب الله، وسنّة رسوله، وإجماع المجتهدين، والقياس على المنصوص)، ولم يعدّ أحدٌ من الأدلّة الشرعية إجماع المحقِّقين، فكيف برز هذا الإجماع وأخذ مكانته بين الأدلّة، وأصبح يقوى على نسخ إجماع المسلمين؟!)(11).
وقد أطال في تفنيد هذا النوع من الإجماع على نحوٍ لم يُبْقِ له مقاماً بين الأدلّة، فليراجع.
على أنّ هذا الإجماع ـ كما مرّ ـ معلَّلٌ بعلّتين: بانضباط مذاهبهم وانتشارها، وكثرة أتباعهم.
والإجماع متى عُرف مستنده ـ كما يأتي ـ فَقَدَ حجِّيته كدليلٍ، وتحوّل الكلام إلى مستنده.
وهاتان العلّتان لا تُثبتان حكماً، ولا تنفيان؛ إذ متى كان انضباط المذاهب وكثرة الأتباع من الحجج المانعة من الأخذ بقول الغير؟!
ورُبَما كان الغير أعلم، وأوصل إلى الحكم الواقعي، وفتواه موجودةٌ محرّرة، كما إذا كان معاصراً للمستفتى، يمكنه الرجوع إليه والأخذ منه.
وانضباط هذه المذاهب لو تمّ فهو لا يمنع انضباط غيرها، كما نشاهد اليوم في الكثير من آراء الفقهاء.
فالحقُّ ما ذهب إليه الشيعة ومَنْ تبعهم من العلماء في فتح باب الاجتهاد، كالشيخ المراغي وأضرابه من علماء السنّة المعاصرين.
بقي للشيخ المراغي كلامٌ لا يلتئم مع دعواه في فتح باب الاجتهاد، والتي مهّد لها بقوله: (ليس ممّا يلائم سمعة المعاهد الدينية في مصر أن يقال عنها: إنّ ما يدرس فيها من علوم اللغة والمنطق والكلام والأصول لا يكفي لفهم خطابٍ، ولا لمعرفة الدلالة وشروطها، وإذا صحّ هذا فيا لضيعة الأعمار والأموال التي تنفق في سبيلها!)(12)، إلى أن يقول: (وإنّي مع احترامي لرأي القائلين باستحالة الاجتهاد أخالفهم في رأيهم، وأقول: إنّ في علماء المعاهد الدينية في مصر مَنْ توافرت فيهم شروط الاجتهاد، ويحرم عليهم التقليد)(13). والكلام هو قوله: (والواقع أنّه في أكثر المسائل التي عرضت للبحث وأفتى الفقهاء فيها لم يَبْقَ للمجتهد إلاّ اختيار رأيٍ من آرائهم فيها، أمّا الحوادث التي تجدّ فهي التي تحتاج إلى آراء مُحْدَثة)(14).
وكأنّه فهم من (الاجتهاد) أنّه إحداثُ رأيٍ جديد، وهو لا يكون إلاّ في الأمور المستَحْدَثة؛ لاستيعاب الفقهاء مختلف الأقوال في المسائل المبحوثة غالباً، ووظيفة المجتهد بالنسبة إليها اختيارُ واحدٍ منها. مع أنّ الاجتهاد واستنباط الأحكام من الأدلّة، سواء وافق رأيُ المستنبِط رأيَ الآخرين أم خالفه. وكونهم مستوعبين للأقوال فيها لا يسقط عنه وظيفة إعمال مَلَكَته في مقابلهم، حتّى ينتهي إلى ما ينتهي إليه.
ولماذا يختار رأياً من آرائهم؟! أَلأنّه يعتقد أنّ أولئك السابقين أوصلُ منه وأعرفُ، وأصولهم ومبانيهم بيده وفيها ما رُبَما لم يكن يرتضيه؛ لعدم نهوض الحجّة لديه عليه؟! وهل يسوغ للمجتهد أن يقلِّد وبيده أصول الاستنباط، يستطيع الرجوع إليها متى شاء؟! وهو نفسه يلتزم بحرمة التقليد على مثله، كما هو صريح كلامه السابق!
والذي ننتهي إليه من مجموع هذا البحث أنّ الذي يدخل ضمن بحثنا المقارن من آراء إخواننا أهل السنّة هم المجتهدون المطلقون، أعني أئمّة المذاهب الأربعة ومَنْ عاصرهم أو جاء بعدهم من الأئمّة إلى عهد التقليد، ومن الشيعة نأخذ آراء مجتهديهم على الإطلاق، شريطة أن تكون معلَّلة.
أمّا بقية الأقسام من المنتسبين والمخرجين وغيرهم فحَسْبُنا من اعتمادهم نقل آرائهم الحاكية عن آراء أئمّتهم، وتكون مناقشتها على أساس مباني أولئك الأئمّة لا غير.
12ـ [الحُجَج الاجتهادية…، أقسامها وأنواعها]
وإذا تمّ لنا ما نريده من معرفة أقسام المجتهدين، وما ينتظم منها في مجال بحثنا المقارن، عُدْنا لنتساءل عن محاولات إعمالهم لهذه المَلَكَة.
وأظنّ أنّ الإجابة عن هذا التساؤل تتوقَّف على معرفة أنواع الحجج، من حيث العلم بقيامها. وهي تنقسم تَبَعاً لذلك إلى قسمين:
1ـ ضرورية.
2ـ نظرية.
والمراد بالضرورية منها ما لا يحتاج في حصولها إلى كَسْبٍ ونَظَرٍ وفكرٍ، بخلاف النظرية؛ لاحتياجها إليها.
[حدود الحُجَج الضرورية]
والأولى منهما ـ وهي التي تتعلَّق بضروريات الإسلام، كأصل وجوب الصوم والصلاة المفروضة والحجّ وغيرها ممّا يعتبر إنكارها إنكاراً لأصل الإسلام ـ خارجةٌ تخصُّصاً عن نطاق الاجتهاد؛ لما أُخذ في مفهومه من بذل الجهد والطاقة في تحصيل الحجّة على الحكم أو الوظيفة، والعلم بهذه الأحكام لا جُهْد فيه ليدخل ضمن نطاقه وتشمله أحكامه.
[حدود الحُجَج النظرية]
والثانية منهما هي التي تدخل ضمن نطاقه؛ لاحتياج تحصيل العلم بها إلى كَسْبٍ وفكرٍ، ولا يتفاوت ذلك بين أن تكون مصادرها هي الكتاب والسنّة؛ أو غيرهما.
كما لا يتفاوت أن تكون النصوص التي يستفاد منها الحكم مقطوعة الصدور، كالكتاب العزيز والسنّة المتواترة، والخبر المحفوف بقرائن توجب القطع بصدوره؛ أو مقطوعة المضمون، كما لو كانت نصّاً في مدلولها أو مظنونها إذا كان القطع بها أو الظنّ ممّا يحتاج تحصيله إلى كَسْبٍ ونَظَرٍ وفكرٍ.
[إشكالية الأحكام الظاهرية المُنْتَجة من الأدلة القطعية]
وما يُقال من أنّ الاجتهاد لا يُنتج إلاّ حكماً ظاهرياً، وما تُنهي إليه النصوص القطعية هو الحكم الواقعي، فكيف تدخل ضمن نطاقه؟
فليس بتامٍّ على إطلاقه؛ لعموم التعريف لهما بالنسبة إلى عمل المجتهد؛ لأنّ بذل الجُهْد في تحصيل الحجّة على الحكم لا يفرّق بين العلم الوجداني أو العلم التعبّدي.
نعم، هذا الكلام تامٌّ بالنسبة إلى عمل مقلِّديه، حيث إنّ رأيه بالنسبة إليهم لا يتعدّى الحكم الظاهري؛ لجعله في حال الشكّ وعدم معرفة الحكم معرفةً تفصيلية.
وما يُقال عن النصوص القطعية يُقال عن الإجماع إذا استوجب القطعُ به وبما قام عليه إلى بذل الجُهْد. والكلمة المعروفة (الاجتهاد في مورد النصّ) أو (لا مساغ للاجتهاد في ما فيه نصٌّ قطعي صريح)(15) لا يُراد من كلمة (الاجتهاد) فيها الاجتهاد بمفهومه العامّ، وإنّما يُراد منها الاجتهاد بمفهومه الخاصّ ـ أي إعمال الرأي في مقابل هذه النصوص، وهو الذي يُنْهي إليه القياس والاستحسان وغيرهما، ممّا سبقَتْ الإشارة إليه، ويأتي الحديث عنه مفصَّلاً؛ لجعل حجّيتها بناءً عليها في حالّ الشك ـ.
وإذا تذكّرنا مراتب الأدلّة السابقة عرفنا أيضاً موقع النصوص القطعية أو الإجماع القطعي منها؛ لحكومتها على بقية الأدلّة؛ إذ مع القطع بالحكم الواقعي لا يبقى مجال للقطع التعبُّدي بواسطة الطرق والأمارات؛ لاعتبار حجّيتها في حال الشكّ بالحكم.
ومع وجود العلم به لا يبقى شكٌّ؛ ليجيء دَوْر هذا القسم من الاجتهاد المستند إلى الأمارة أو الأصل.
وكذا مع القطع التعبّدي بواسطة الأمارة لا يبقى مجالٌ للأصل؛ لأخذ الشكّ في موضوعه، وقيام الأمارة يجعل المكلّف غير شاكٍّ تعبّداً، ومع عدم الشكِّ لا موضوع للأصل، وهو معنى حكومة الأمارات على الأصول مطلقاً. وهكذا بقية المراتب.
فما ذكره الأستاذ (خلاّف) من إطلاق القول بأنّ النصوص القطعية والإجماع لا مجال للاجتهاد فيها، وإنّما مجالُه في النصوص الظنّية وفي ما لا نصّ فيه، على أن يكون في النصوص الظنّية ضمن ما يفهم من النصّ، لا يبدو له وجهٌ، وبخاصّة أنه يتحدَّث عن مجالات الاجتهاد بمفهومه العامّ(16).
13ـ [حرمة التشريع…، المعنى والمقصود]
وعلى هذه المسألة تبتني مسألة حرمة التشريع (أعني إدخال ما ليس من الشرع في الشرع). وهو لا يكون إلاّ مع عدم قيام الحجّة. والاجتهادُ ـ بمعنى إعمال الرأي ـ في مقابل النصوص الصريحة أو الظاهرة لا حجّة عليه؛ لتأخُّر رتبة حجِّيته ـ بناء عليها ـ عن هذه النصوص.
وكذا كلّ مرتبةٍ بالنسبة إلى سابقتها؛ لحكومة الحجّية السابقة أو ورودها عليها. والقول بلا حجّةٍ افتراءٌ على الله؛ بحكم ما هو مستفادٌ من المقابلة في الآية الكريمة: ﴿آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ﴾ (يونس: 59)؛ إذ قابلت بين الإذن والافتراء، ومقتضى ذلك أنّه مع عدم الإذن؛ لعدم قيام الحجّة، يتحقَّق الافتراء، وهو من أعظم الكبائر.
على أنّ حرمة التشريع تكاد تكون من الضروريّات، فلا تحتاج إلى إطالة الحديث.
14ـ [أحكام المجتهد لنفسه]
وما دمنا قد عرفنا الاجتهاد وجملةً من ملابساته الخاصّة يبقى علينا أن نبحث عن حكم مَنْ تلبَّس به بالنسبة إلى نفسه.
والحديث عن ذلك يقع في مواضع ثلاثة:
1ـ حجّية رأيه فيما لو أعمل مَلَكَته واستنبط حكمه الفعليّ منها، وعدمها، بالنسبة إلى عمل نفسه.
2ـ جواز إفتائه على وفق ما يرتئيه، وعدمه.
3ـ جواز رجوعه إلى الغير ـ في ما يبتلى به من المسائل، مع عدم إعمال المَلَكَة ـ، وعدمه.
[الحالة الأولى]
أمّا أولاها فالذي يبدو لي في حدود ما رأيتُ أنّ كلمتهم تكاد تتّفق على حجّية رأيه ولزوم العمل به، وعدم جواز رجوعه إلى الغير، في الجملة.
والسرّ في ذلك واضحٌ، بعدما اتّضح من بحوثنا السابقة مفهوم الحجّية، وكونها من اللوازم العقلية القهرية لطريقية العلم. والمجتهد في حدود ما انتهينا إليه من مفهوم الاجتهاد ـ إذا أعمل الاجتهاد وانتهى إلى رأيٍ ـ فهو إمّا عالِمٌ بالحكم الواقعي علماً وجدانياً أو علماً تعبُّدياً بواسطة جعل الشارع للطريقية أو الحجّية؛ أو يكون عالماً بإحدى الوظيفتين الشرعية أو العقلية على نحو ترتُّبها السابق. ومع فرض حصول العلم لا يبقى مجالٌ للتصرّف الشرعي.
فلا يمكن أن يُقال للمجتهد العالِم بالمسألة: إنّك لا يسوغ لك أن تعمل بعلمك، وعليك الرجوع إلى الغير واستشارته في ما تراه حاصلاً لديك من الواقع!
نعم، للشارع أن يرفع بعض الحجج الموقوفة على جعله أو إمضائه، فيذهب علمه المستند إليها.
أمّا مع بقائها وبقاء علمه المستند إليها فإنّ الشارع لا يقوى على التصرُّف فيها؛ لأنها ـ كما سبق أن قلنا ـ غير واقعة تحت تصرُّفه كمشرِّع، وإنْ وقعَتْ تحت قبضته كمُكوِّنٍ وخالقٍ.
وإذا صحّ هذا لم نعُدْ بحاجةٍ إلى التشكيك بشمول إطلاقات جواز التقليد لمثله؛ لعدم إمكان شمولها له من الأساس.
على أنّ الأدلّة ـ مع التنزُّل ـ غير شاملة له؛ لخروجه عنها على نحو التخصُّص، إذ هي واردةٌ في رجوع الجاهل إلى العالم، لا العالم إلى مثله. ولقد حكى كلٌّ من: الآمدي والغزالي الاتفاق على ذلك(17)؛ ففي (المستصفى): (وقد اتفقوا على أنّه إذا فرغ من الاجتهاد، وغلب على ظنّه حكمٌ، فلا يجوز له أن يقلِّد)(18)؛ وفي (مصباح الأصول): (أمّا جواز عمله بفتواه فهو ممّا لا ينبغي الإشكال فيه؛ فإنّه بالإضافة إلى ما استنبطه من الحكم عالمٌ، فلا تشمله أدلّة جواز التقليد، فإنّ قوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ (الأنبياء: 7) والسيرة العقلائية وغيرهما إنّما يدلاّن على لزوم رجوع الجاهل إلى العالم، لا رجوع العالم إلى مثله).
ولا يفرّق في هذا الحكم بين رجوعه إلى مثله أو الأعلم منه؛ لأنّ الأعلمية المفروضة إنْ أوجبت له تشكيكاً في صحّة مستنده، كأنْ يكون قد اطّلع على وجهة نظره فأقرّها، أو أثارت لديه الشكوك، فهو خارجٌ عن الفرض؛ لعدم وصوله إلى الحكم؛ وإنْ لم توجب له التشكيك، وبقي مُصِرّاً على وجهة نظره، فهو في الحقيقة يرى نفسه أوصل منه، فكيف يسوغ له الرجوع إليه؟!
فما يوهم بالتفصيل المذكور في كلمات بعضهم لا يبدو له وجهٌ.
[التفصيل بين الاجتهاد المطلق والمتجزّئ]
نعم، هناك تفصيلٌ رُبَما يذكر بالنسبة إلى التجزيء وعدمه؛ فالذين يؤمنون بإمكان التجزيء ووقوعه اختلفوا على أنفسهم؛ فبعضهم يرى لزوم رجوع المتجزّئ إلى غيره، كصاحب المعالم ووالده وجدّه، في حدود ما رُبَما نستفيده من كلامهم، وخالفهم العلاّمة والشهيد وصاحب الكفاية وغيرهم.
وقد استدلّ صاحب الكفاية بعدم اختصاص أدلّة المدارك بالاجتهاد المطلق. وأضاف الشيخ الرشتي: (كيف يرفض ظنَّه ويأخذ بظنِّ المجتهد المطلق مع أنّه يخطِّئه في ظنِّه؟! وهل هذا إلاّ رجوع العالم إلى الجاهل؟!)(19).
والحقيقة أنّه بعد تسليم إمكان التجزيء ووقوعه لا يبقى مجالٌ للقول بعدم الحجّية؛ لنفس ما قلناه سابقاً، من أنّه بعد فرض الالتزام بكونه عالِماً بما قامت الحجّة عليه كيف يمكن أن يُقال له: إنّ علمك ليس بحجّةٍ عليك، مع أنّ الحجّية من لوازم العلم القهرية؟..
هذا كلُّه بالنسبة إلى الأوّل منهما.
[الحالة الثانية]
أمّا الثاني ـ أعني جواز فتواه على وفقه ـ فهو ممّا لا ينبغي الإشكال فيه، إذ إنّ من اللوازم العقلية للحجّية جواز نسبة مؤدّى ما قامت عليه إلى مصدره، من شارعٍ أو عقل. وليس المراد من الفتوى إلاّ الإخبار عمّا يراه من حكمٍ أو وظيفة. والظاهر أنّ جميع ما ورد من الأدلّة على جواز الإفتاء يكون من قبيل: الإرشاد إلى هذا اللازم العقلي.
[الحالة الثالثة]
وأمّا الثالث ـ أعني ما إذا لم يُعمِل مَلَكَته ولم يستنبط بعد حكمه ـ فهل يلزم إعمال مَلَكَته والعمل على وفقها أو يسوغ له الرجوع إلى الغير؟
هنا موضع الاختلاف؛ فالجبائي لا يسوِّغ الرجوع لغير الصحابيّ، ويرى أنّ تقليده مع ذلك خلاف الأَوْلى. وبه قال الشافعي في رسالته القديمة. وزعم بعضهم الرجوع إلى الصحابة والتابعين دون مَنْ عداهم(20).
وفصَّل محمد بن الحسن بين الأعلم وغيره؛ فأجاز تقليد الأعلم دون غيره، ممَّنْ هو دونه أو مثله.
كما فصَّل قومٌ بين ما يخصّه وما يفتي به؛ فأجازوا في الأوّل؛ ومنعوا في الثاني(21).
وهناك تفصيلٌ آخر في ما يخصّه بين ما يفوت وقته لو اشتغل بالاجتهاد وما لا يفوت؛ حيث أجيز في الأوّل؛ ومنع في الثاني.
بينما أطلق الجواز كلٌّ من: أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، والثوري.
ولأبي حنيفة روايتان(22).
والعمدة في المسألة التماس أدلّة جواز التقليد، والنظر في عمومها وإطلاقها لشمول مثله. ومع عدم جواز الشمول يشكّ في حجِّية قول الغير بالنسبة له.
وعند الشكّ في الحجّية يقطع بعدمها؛ لما سبق أن قلناه من أنّ صحّة احتجاج المولى على عبده أو العبد على مولاه إنّما يتمّ في خصوص الحجّة الواصلة يقيناً، ومع عدم اليقين بها يجزم العقل بعدم صحّة الاحتجاج، كما يجزم بعدم ترتيب لوازمها السابقة عليها، وهو معنى القطع بعدمها.
وأهمّ هذه الأدلّة بناء العقلاء في رجوع الجاهل إلى العالم الممضى من قِبَل الشارع جَزْماً؛ لبداهة أن عهده| ما كان بِدْعاً من العهود، ينفرد فيه جُهَّاله بالنهوض في شؤونهم المعاشية والصحّية وغيرهما دون استرشادٍ بعلمائهم والرجوع إليهم في ما يجهلون، ولا بُدَّ أن يكون المشرِّع| قد أمضى هذا البناء.
ولعلّ من الآيات والأحاديث أمثال: سؤال (أهل الذكر) و(آية النفر)، ما يكفي في تحقيق هذا الإمضاء.
والظاهر أنّ بناء العقلاء يفرِّق بين القادر على إعمال مَلَكَته لسعة الوقت وتوفّر أدوات البحث وبين غير القادر، فهو يأبى على القادر أن يرجع إلى الغير؛ لعدم تصديقه لعنوان الجاهل عليه، ويجيز لغير القادر ذلك. فالطبيب الذي يُصاب ببعض العوارض ويخشى على نفسه من فوات الفرصة فيما لو أراد أن يُعْمِل معارفه الخاصّة في تشخيص مرضه؛ لفقده بعض المعدّات، يرجع عادةً إلى استشارة طبيبٍ آخر. وهكذا بالنسبة إلى المتدرِّج في إعمال مَلَكَته. ولنفرضه جديدَ عهدٍ بالمَلَكَة، فلو قُدِّر لمثل هذا أن لا يصدر إلاّ عن هذه المَلَكَة لتعذَّر عليه استيعاب جميع تكاليفه.
وعليه في هذه الحال، وفي حدود بناء العقلاء، أن يرجع في ما يعجز عنه إمّا إلى الاحتياط أو تقليد الغير، إنْ كان يراهما في عَرْضٍ واحد، وكان الاحتياط غير متعذِّرٍ ولا متعسِّرٍ. أمّا مع تعذُّر الاحتياط أو تعسُّره أو عدم بنائه على جوازه فيتعيَّن عليه الرجوع إلى الغير؛ لتحصيل المؤمّن في ما يقدم عليه أو يتركه من أعمال.
وممَّنْ اختار هذا التفصيل بين الضيق وعدمه صاحب القوانين المحكمة&، حيث عرض رأي المانعين مطلقاً، وحجّتهم، وناقشها، فقال: (ودليلُ المانع مطلقاً وجوب العمل بظنّه، إذا كان له طريق؛ إجماعاً. خرج العامّي بالدليل، وبقي الباقي. وفيه منع الإجماع في ما نحن فيه، ومنع التمكُّن من الظنّ مع ضيق الوقت. فظهر أنّ الأقوى الجواز مع التضييق، واختصاص الحكم به)(23).
وإذا صحّ هذا اتّضحت أوجه المناقشة في جميع هذه الأقوال، فلا حاجة إلى الإطالة بردّها.
ثانياً: التقليد الشرعي، حجِّيته وشرائطه
1ـ [التقليد في اللغة والاصطلاح]
أمّا حجّية قوله بالنسبة إلى الغير فهو موقوفٌ على ثبوت جواز التقليد، وتوفُّر شرائط المفتي الذي يجوز تقليده فيه.
وقبل أن ندخل في تفصيل المسألة يحسن أن نتساءل عن معنى التقليد؛ تمهيداً لالتماس الدليل بعد فرض جوازه في الشريعة الإسلامية.
أمّا التقليد فهو في اللغة: جعل القلادة في العنق.
ومنه التقليد في حجّ القِرَان: أي جعل القلادة في عنق البعير.
وقد عُرِّف باصطلاح الأصوليين والفقهاء بتعاريف عدّة، رُبَما التقَتْ جملةٌ منها في بعض الخطوط العامّة له.
ففي (المستصفى) أنّه: (قبول قولٍ بلا حجّة)(24)؛ وفي (إحكام الأحكام): (عبارة عن العمل بقول الغير من غير حجّةٍ ملزمة)(25)؛ وفي (العروة الوثقى) هو: (الالتزام بالعمل بقول مجتهدٍ معيّن وإنْ لم يعمل بعد)(26)؛ وفي (المستمسك): (هو العمل اعتماداً على رأي الغير)(27).
وهذه التعاريف وما يشبهها مختلفةٌ سعةً وضيقاً؛ فبعضها أخذ فيه عدم الحجّية، كتعريف الغزالي والآمدي ومَنْ وافقهما.
بينما أطلق البعض الآخر التعريف ليعمّ ما قامت عليه الحجّة وما لم تقُمْ.
ورُبَما ظهر من فحوى لسان بعضها تقييدها بما قامت عليه الحجّة، فيكون مفهوم التقليد لديها مبايناً لمفهومه عند الغزالي.
على أنّ الاختلاف في هذه التعاريف لم يقتصر على هذه الناحية؛ فقد أخذ بعضها الالتزام بقول الغير في مفهومه، بينما اكتفى البعض الآخر بالعمل اعتماداً على رأيه، وفرّق بين الالتزام والعمل.
وقد حاول بعض الأعلام أن يجعل مرادهم من الجميع واحداً، بإرجاع بعضها إلى بعضٍ، واعتبار المراد منه هو خصوص العمل.
ولكنّ هذ الاعتبار غيرُ ظاهرٍ، ويأباه ما ذكروه لاختلاف المفهومين من ثمرات، منها:
ما لو التزم بقول مجتهدٍ ولم يعمل بعدُ، ثمّ مات المجتهد، فهو على أحد التعريفين مقلِّدٌ؛ لالتزامه بالعمل على قوله؛ وعلى التعريف الثاني ليس بمقلِّدٍ؛ لأنّه لم يعمل بعدُ بما التزم به.
فلو كنّا نحن ممَّنْ يقول بلزوم البقاء على تقليد الميت لكان علينا أن نُلزم الأوّل بالبقاء على التقليد؛ لصدق التقليد في حقّه، ونلزم الثاني بتقليد الحيّ؛ لعدم صدقه عليه في التزامه السابق؛ لعدم عمله على وفق ذلك الالتزام.
ولكنّ هذه الثمرة ونظائرها إنّما تترتّب لو كان للفظ التقليد موضعٌ من لسان الأدلّة، ولكنّ لفظ التقليد لم يَرِدْ إلاّ في روايةٍ ضعيفة لا تصلح أن تكون مستنداً لحكمٍ شرعي.
والذي يُستفاد من الأدلّة هو لزوم التماس المؤمِّن المعذِّر من قِبَل جميع المكلَّفين في أفعالهم وتروكهم، وهو إنّما يكون بالنسبة إلى الجاهلين ـ بمعونة الأدلّة القاطعة ـ برجوعهم إلى العالِمين والاعتماد على قولهم، ورُبَما ناسبه معنى التقليد اللغوي، أي جعل مسؤولية أعماله قلادةً في عنق مَنْ يرجع إليه ويعتمده في مجالات عمله. وهذا المعنى أجنبيٌّ عن الالتزام.
ومع غضِّ النظر عن هذه الجهة فالمتبادر من لفظ التقليد أنّه الدليل على صحّة العمل، لا أنّه العمل، ولذا يقال: عمل عن اجتهادٍ أو تقليدٍ.
والحاصل أنّ الذي يناسب فحوى الأدلّة هو ما أفاده في (المستمسك) في تعريفه، من أنّه: العمل اعتماداً على رأي الغير.
والأمر بعد ذلك هيِّنٌ ما دامت لفظة التقليد لم تَرِدْ إلاّ في رواية تفسير العسكري: (فللعوامّ أن يقلِّدوه)، وهي ضعيفةٌ؛ لمجهولية راوي هذا التفسير.
2ـ [الحشوية التعليمية وتعيُّن التقليد]
وإذا تمّ هذا عُدْنا إلى مفاهيم التقليد لديهم؛ لنلتمس الأدلّة على حجّيتها.
فتقليد الغزالي والآمدي بعد أخذ عدم الحجّية في مفهومه لا يصلح أن يكون مثاراً لجدالٍ في عدم صحّة الركون إليه؛ إذْ الركون إليه ركونٌ بلا حجّةٍ، كما هو الفرض، ومع عدم الحجّة كيف يأمن العبد من غائلة العذاب؟! وما هو المعذِّر له لو وقع في مخالفة التكاليف الواقعية؟!
والغريب ما نُسب إلى الحَشْوية والتعليمية، من حصرهم معرفة الحقّ بهذا النوع من التقليد، (وأنّ ذلك هو الواجب، وأنّ النظر والبحث حرامٌ)(28). ومثل هؤلاء لا يُحتاج معهم إلى كلامٍ.
والغريب من الغزالي أنه عَقَدَ فصلاً لمناقشة دعاوى هؤلاء وردّها، مع تصريحهم بعدم قيام الحجّة على صحّة مثل هذا التقليد.
وبالإضافة إلى عدم قيام الحجّة عليه قامت الأدلّة القاطعة على الردع عنه. وحَسْبُك منها ما صرَّح به الكتاب من ذمِّ أولئك المقلِّدين الذين اعتمدوا أقوال وأعمال آبائهم في مجال التأثُّر بهم ومحاكاتهم، مع أنّ آباءهم لا يقلّون عنهم جهلاً: ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ﴾ (البقرة: 170)؛ ولأخذ الغزالي والآمدي عدم الحجّية في مفهومه اعتبرا رجوع المقلّد إلى المفتي الجامع لشرائط الإفتاء ليس من التقليد بشيءٍ؛ لخروجه بعد قيام الحجّة عليه من طريق التخصُّص.
هذا، ومن حيث النتائج يتّفق أصحاب التعاريف من هذه الناحية، وإنْ اختلفوا في وضع المصطلح وتعريفه. والأمرُ فيها هيِّنٌ جدّاً.
3ـ [علماء حلب وحرمة التقليد]
وإذا كان في ما نُسب إلى التعليمية من حظر الاجتهاد والنظر مبعث استغرابٍ فإنّ ما نُسب إلى علماء حَلَب، من لزوم الاجتهاد عَيْناً، وحرمة التقليد، لا يقلّ غرابةً عن ذلك إذا حُمل على ظاهره؛
لبداهة أدلّة جواز التقليد بالمعنى الثاني، [هذا] أوّلاً.
ولما يلزم منه من اختلال النظام وشلّ الحركة الاجتماعية لو قُدِّر لها أن تطبّق، [هذا] ثانياً.
فضلاً عن العُسْر والحَرَج، والدين أيسر وأسمح من أن يكلِّف الأمّة بمثل هذه التكاليف.
وما أدري ما يصنع الناس من قبل بلوغهم مراتب الاجتهاد في رأيهم! أيلزمون بالتقليد، وهو محظورٌ عليهم، أم يلزمون بالاحتياط، ورُبَما لا يعرفون موارده، أو لا يرَوْن جوازه، أو لم يكن في حقِّهم، كما في دَوَران الأمر بين المحذورين؟!
والذي أخاله أنّ هذه الدعوى لم يُرَدْ بها ظاهرها، ورُبَما أُريد بها لزوم الاجتهاد عَيْناً على الجميع في أصل مسألة جواز التقليد، لا في جميع المسائل؛ لعدم إمكان التقليد بها؛ للزوم الدَّوْر أو التسلسل. وهذا حقٌّ لو صحّ إطلاق كلمة الاجتهاد على هذه البديهية، والاجتهاد معناه (بذل الجهد)، كما سبق بيانه، والعامّي لا يحتاج إلى بذل جهدٍ ليدرك لزوم رجوع الجاهل إلى العالم، وهو يعيشه في واقعه العملي كلّ يومٍ.
4ـ [جواز التقليد، الأدلّة والمستندات]
ودليل حجّية جواز التقليد بالمعنى الثاني يكاد يكون بديهياً، كما أشَرْنا إليه:
إمّا لكونها ـ أعني الحجّية ـ فطريةً جِبِلِّية، كما يعبّر صاحب الكفاية(29)؛ أو لأنّ بناء العقلاء قائمٌ عليها.
ولعلّ التعبير عنها بـ (الظاهرة الاجتماعية) أَوْلى من التعبير ببناء العقلاء؛ لأنّ وجودها ضرورةٌ لازمة لطبيعة المجتمعات، وُجِد تبانٍ أو لم يوجد، وإلاّ فما أخال أنّ مجتمعاً من المجتمعات، مهما كان شأنه من الحضارة، يستطيع أن ينهض أفراده بالاستقلال بالمعرفة التفصيلية لكلّ ما يتّصل بحياتهم، دون أن يكون فيهم علماء وجهّال؛ ليرجع جهّالهم إلى علمائهم، على نحوٍ يكون كلٌّ منهم مثلاً عالماً بالطبّ والهندسة وأصول الحِرَف والصناعات وغيرها، بحيث يستغني عن الاستعانة بالآخرين في شؤون العلم والمعرفة. وحتّى الأمم البدائية لا يمكن أن تتخلّى عن هذه الظاهرة نسبياً.
والذي نعلمه أنّ مجتمع النبي “صلى الله عليه وآله وسلم” ما كان بِدْعاً من المجتمعات؛ لينفرد أفراده بالاستقلال بالمعرفة التفصيلية لمختلف ما يحتاجونه من شؤون دينهم ودنياهم، بحيث لا يتفاوتون من حيث العلم والجهل؛ ليرجع الجهّال إلى العلماء للأخذ منهم، وفيهم مَنْ كان يشغله الصَّفْق في الأسواق عن تتبُّع المعرفة من منابعها.
وإذا كانت هذه الظاهرة موجودةً على عهد الرسول”صلى الله عليه وآله وسلم”، وهي موجودةٌ حَتْماً في الجملة من قبله بإقرارهم عليها، إذْ لو كان له تشريعٌ على خلافها لأُثِر عن طريق التواتر أو الاستفاضة، وهو ما لم يُنقَل حتّى من طريق الآحاد، فضلاً عنهما.
وممّا يحتمل أن يكون رَدْعاً، من أمثال: الآيات الناهية عن التقليد، لا يصلح لذلك ما دامت الآيات صريحةً في الردع عن رجوع الجاهل إلى الجاهل ـ كما سبق بيانه ـ، وهو أجنبيٌّ عن هذا البناء العقلائي أو هذه الظاهرة، كما أسميناها.
على أنّ أمثال: آيتي (النَّفْر) و(السؤال) ـ بناءً على ظهورهما في التقليد ـ، وعشراتُ الأحاديث التي أمرَتْ بعض أصحاب الأئمّة بالتصدّي للإفتاء، أو أرجعَتْ إلى بعضهم للاستفتاء، صريحةٌ في إمضاء هذا البناء، ولزوم الأخذ به في الجملة.
وهذه الأدلّة ـ في ما أخال ـ ليست من الأحكام التأسيسية ما دام هذا البناء قائماً في ذلك العصر، فلا حاجة إلى الدخول في استعراضها، ورَدِّ ما أُثير حول دلالتها من مناقشاتٍ.
5ـ [حول شرائط مرجع التقليد]
وشرائط المقلَّد التي ذكروها كثيرةٌ، وأهمُّها أربعةٌ:
1ـ الحياة.
2ـ العقل.
3ـ الأعلمية.
4ـ العدالة.
أمّا غيرها، من (الذكورية) و(الحُرِّية) و(البلوغ) وشبهها، فقد ذُكرَتْ أدلّةٌ على اعتبارها. وهي غيرُ ناهضةٍ بالدلالة، إلاّ فيما يُحكى من الإجماع على بعضها. وهو لو تمّ وتمّت حجِّيته في مثل هذا المقام لكان هو الرادع عن بناء العقلاء، الذي لا يفرّق بين مَنْ توفَّرت فيه هذه الصفات ومَنْ لم تتوفَّر.
وما عداه لم يثبت لنا ما يصلح للردع، مع الجزم بوجود مثل هذا البناء على عهده.
6ـ [شرط الحياة في مرجع التقليد]
واعتبار الحياة في حجّية قول المفتي من الشرائط التي وقع فيها الاختلاف كثيراً:
فالأصوليّون من الشيعة اعتبروا هذا الشرط، ومنعوا من تقليد الميت ابتداءً؛ بينما أجاز الأخباريّون منهم ذلك.
أمّا أهل السنّة فقد اختلفَتْ كلمتهم في ذلك؛ فبعضهم أجازوا تقليد الميت ابتداءً، كما سوّغوا الرجوع إلى الحيّ إذا توفّرت فيه شرائط التقليد؛ ومنع البعض الآخر من تقليد الأحياء، بل قصر التقليد على الأئمّة الأربعة، كابن الصلاح.
[تحرير محلّ الخلاف في التقليد]
[1ـ] والظاهر أنّ خلاف الأخباريين لإخوانهم الأصوليين إنّما كان لاختلافهم في وظيفة المجتهد عند الفتيا؛ فالأخباريون يعتقدون أنّ وظيفة المجتهد أن ينقل مضمون الرواية بفتياه، وليس له أن يستند في الفتيا إلى مقدّمات نظرية، فهو مُخْبِرٌ عن المعصوم، ولا يشترط الحياة في حجّية خبر المُخْبِر، باتّفاق الكلمة.
[2ـ] بينما يرى الأصوليون وغيرهم أنّ المجتهدَ مستنبِطٌ للحكم من الأدلّة، وقد يكون بعضها نظرياً، وما دام كذلك فهو ليس بمُخْبِرٍ حين يفتي عن المعصوم، وإنْ أخبر عن الحكم أو الوظيفة. وعلى هذا فدليل الحجّية بالنسبة للمُخْبِر إنّما يتقوّم بخبره، وهو غير مَنُوطٍ ببقاء الحياة؛ ودليل الحجّية بالنسبة إلى المفتي إنّما يتقوَّم برأيه القابل للتطوُّر والتبدّل، وهو يمكن أن يكون منوطاً بالحياة.
فاختلاف الأخباريين مع الأصوليين اختلافٌ في أصل وظيفة المجتهد، لا في شرائط الإفتاء. فخلافهم في هذه المسألة لا يصلح أن يكون خلافاً في موضع الكلام؛ لأنّه بالنسبة إليهم أشبه بالسالبة بانتفاء الموضوع.
[3ـ] وخلاف ابن الصلاح مع إخوانه أهل السنّة، وإصراره على الاقتصار على تقليد الأئمّة، وحرمة تقليد غيرهم، إنّما كان مستنده إجماع المحقِّقين وبعض الأدلّة. وقد علمنا من الشيخ المراغي قيمة هذا الإجماع، كما عرفنا قيمة بقيّة الأدلّة، فيما سبق، فلا نعيد فيها الكلام.
فعمدة الخلاف إذن هو ما بين أكثرية الشيعة والسنّة من الاعتبار وعدمه؛ لأنّ الأقوال الأُخَر إمّا ليست ذات موضوعٍ؛ لاختلافها في مبنى وظيفة المجتهد، أو ليست بذات أهمّيةٍ؛ لعدم ابتنائها على أساس.
[الأصل في المسألة]
وقبل أن نفحص أدلّة الطرفين المتحاورين نودّ أن نتعرّف على الأصل في هذه المسألة لو اعتبرنا أنفسنا على شكٍّ من أمرها.
وأظنّنا إذا تذكّرنا ما قلناه من أنّ الشكّ في الحجّية كافٍ للقطع بعدمها؛ لأنّ الاحتجاج لا يكون إلاّ مع العلم، ومع عدم العلم لا مجال للاحتجاج، اتّضح لنا موقفنا من الرجوع إلى الحيّ الجامع للشرائط ـ نظراً لاتفاقهم ـ بإجزاء مثله وإبرائه للذمّة؛ والشكّ بالنسبة إلى الميت لاختلاف كلمتهم في ذلك.
[أدلة جواز تقليد الميت]
وقد خرج بعضهم عن هذا الأصل بأمورٍ ذُكرَتْ أو تُذْكَر لهم في مقام الاستدلال، وهي:
1ـ التمسّك بإطلاق الأدلّة اللفظية، أمثال: آيتي (النَّفْر) و(سؤال أهل الذكر) من الكتاب العزيز.
وطوائف من الروايات؛ كان بعضها يأمر بعض الرواة بالتصدّي للفُتْيَا، الدالّة بالملازمة على جواز الأخذ منهم؛ وكان بعضها يأمر بالرجوع والاستفتاء إلى بعض أصحاب الأئمّة، دون تقييدٍ بالحياة.
وقد أُجيب عن هذه الأدلّة:
أـ بأنّ طبيعة السؤال والإنذار تقتضي الرجوع إلى شخصٍ معيّن، فتتضمّن اعتبار الحياة، إذ لا معنى لسؤال غير الأحياء أو إنذارهم.
ب ـ ولو سلِّم فإنّ هذه الأدلّة لا يعقل شمولها للمختلفين بالفتوى؛ إذ لا معنى لأن يُعبِّدني الشارع بالمتناقضين، ولو على سبيل البَدَل؛ لأنّ معنى جعل الحجّية لهما تبنّيهما معاً من قِبَله، وكيف يمكن ذلك مع الجزم بمخالفة إحداهما للواقع؟!
وموضع الخلاف هو صورة اختلاف الحيِّ مع الميت بالفتوى؛ إذ مع اتفاقهما لا تبقى ثمرةٌ لتعيين أحدهما بالذات؛ إذ لا موضوعية لهذا التعيين.
2ـ قياسها على عدم اعتبار الحياة في حجّية قول المُخْبِر؛ لأنّ العلّة التي أوجبت حجّية قول المُخْبِر هي حكايته عن الواقع، وهي متوفّرةٌ في المفتي؛ لأنّ وظيفته الإخبار عن الحكم أيضاً.
والجواب: إنّه قياسٌ مع الفارق الكبير؛ فالمُخْبِر إنّما يستند في إخباره عن الواقعة إلى الحسِّ والحدس القريب منه، وبقاء الحياة لا يبدِّل في واقع ما أحسّه إذا كان صادقاً في إخباره، ولذلك قلَّما يختلف الصادقون في إخبارهم إذا أخبروا عن واقعةٍ واحدة.
بينما يستند المفتي أحياناً إلى مقدّمات نظرية، وهي تختلف باختلاف المفتين علماً بأصول الاستنباط، وذكاءً وصبراً على البحث، بل تختلف باختلاف المراحل العلمية التي يجتازها المفتي الواحد. وما أكثر ما عدل المفتون عن فتاوى سابقةٍ؛ لتوفّر الأدلّة على خلافها، أو لزيادة تجاربهم في معرفة كيفيات الاستنباط!
وما يدرينا لو قُدِّر للمجتهدين من الأموات استمرار الحياة لهم ما يُدْخِل الزمنُ على آرائهم وفتاواهم من التطوّر والتغيير! ومع هذا كيف يسلم قياسها على الإخبار مع وجود هذا الفارق الكبير؟!
هذا كلّه بناء على القول بحجّية أصل القياس، وسيأتي لنا حديثٌ فيه في موضعه، إنْ شاء الله تعالى.
3ـ بناء العقلاء، حيث لا يفرّق في رجوع الجاهل إلى العالم بين العالم الحيِّ والميت، فهو مخيّرٌ بينهما بحكم هذا البناء. وهذا البناء لو تمّ في صورة التساوي بينهما من حيث الأعلمية أو صورة ما إذا كان الميت أعلم، إلاّ أنّه يحتاج إلى إمضاءٍ من الشارع المقدّس، أو عدم ردعٍ على الأقلّ.
والإمضاء وعدم الرَدع إنّما يتحقّقان إذا فُرض وقوع مصداقٍ من مصاديق هذه المسألة أمام الشارع فأقرّه أو لم يردع عنه؛ كأنْ نتصوَّر واقعةً وقعت أمام النبي “صلى الله عليه وآله وسلم” أو أحد المعصومين”علیهم السلام” قلّد فيها مكلَّفٌ عالماً ميتاً مع وجود عالم حيٍّ مُساوٍ له أو دونه بالفضيلة، وهما مختلفان بالفتيا، فأقرّه النبي “صلى الله عليه وآله وسلم” على ذلك أو لم يردعه.
ومن أين لنا تصوُّر ذلك أو إثباته تاريخياً، ومثله نادرُ الوقوع عادةً؛ إذ مع علمه بالاختلاف لا تصل النوبة إلى تقليده، مع إمكان سؤال النبي “صلى الله عليه وآله وسلم” عن المسألة والأخذ عنه؟!
فالقول بوجود البناء العقلائي غير المردوع عنه في خصوص هذه المسألة لا يخلو عن افتئاتٍ.
على أنّ هذا البناء ممّا يُشَكّ في وجوده مع الاختلاف حتّى بين الأحياء.
على أنّه لو صحَّتْ استفادة خصوصية الحياة في الأدلّة اللفظية، أو ثبت الإجماع المدّعى(30) على عدم جواز تقليد الميت ابتداءً؛ كان ذلك كافياً في الردع عن هذا البناء لو وُجِد.
4ـ سيرة المتشرِّعة التي يُدَّعى بلوغها إلى عصر المعصومين. وأمرها أهون من ذلك البناء؛ لبداهة عدم قيامها على الرجوع الابتدائي إلى الأموات، وبخاصّة في صورة الاختلاف.
5ـ الاستصحاب، بتقريب أنّ هذه الحجّية كانت ثابتةً لقول المجتهد حال حياته، ويشكّ في ارتفاعها بالموت، فتستصحب.
والجواب عن ذلك: إنّ الاستصحاب تارةً يكون للحجّية الفعلية، وأخرى للحجّية الإنشائية.
أمّا الحجّية الفعلية فهي لم تكن ثابتةً في حقّه؛ لعدم ابتلائه بتقليد هذا المجتهد حال حياته؛ إمّا لعدم معاصرته له؛ أو لأنّ قوله لم يكن حجّةً عليه؛ لوجود مجتهدٍ أعلم منه. ومع عدم اليقين بثبوتها لا تتمّ أركان الاستصحاب بالنسبة إليه؛ بداهة توقّفه على يقينٍ سابقٍ وشكٍّ لاحق؛ ليكون مصداقاً لقوله×: (لا تنقض اليقينَ بالشكِّ).
نعم، يمكن تصوير الحجّية الفعلية بالاستصحاب التعليقي؛ كأنْ يُقال بأنّ هذا المقلِّد لو كان في حياة ذلك المجتهد، وكانت وظيفته الرجوع إليه، لوجب عليه تقليده، فالآن يجب بالاستصحاب. وقد قيل: إنّ إطلاق أدلّة الاستصحاب لا تفرِّق بين الاستصحابين التنجيزي والتعليقي.
ولكنّ التحقيق أنّ الاستصحاب التعليقي ليس بحجّةٍ؛ لابتلائه غالباً بالمعارضة بالاستصحاب التنجيزي؛ فالحجّية الثابتة هنا بالاستصحاب التعليقي معارَضةٌ بعدم الحجّية التي كانت ثابتةً له قبل بلوغه سنّ التكليف، وليس أحدُهما حاكماً على الآخر، خلافاً لبعض أساتذتنا الأجلاّء.
هذا، بالإضافة إلى ما يُذْكَر على أصل جريان الاستصحاب التعليقي من الإشكالات، وموضعُها في الأصول.
وأمّا الحجّية الإنشائية المجعولة على نحو القضية الحقيقية فهي غير معلومة الثبوت في حقّه؛ لجواز إيجادها ضيّقةً لا تتّسع لما بعد موت صاحبها. ومع غضّ النظر عن هذه الجهة فهي معارَضةٌ بعدم استصحاب عدم الجعل الثابت له قبل البلوغ.
وما يُقال عن الحجّية يُقال عن الحكم الظاهري الثابت بها في حال حياته؛ للشكّ في سعة المجعول وضيقه، شأن استصحاب الأحكام الثابتة في الشرائع السابقة، بالإضافة إلى معارضتها باستصحاب عدم الجعل.
وإذا لم تتم هذه الأدلّة على جواز الرجوع إليه كان شكُّنا بحجّية قوله كافياً لأنْ نقطع ـ كما سبق أن قلنا ـ بعدمها، فلا حاجة إلى التماس الأدلّة على عدم جواز الرجوع، من الإجماع وغيره.
على أنّ الأصل العقلي مع عدم الدليل الاجتهادي أو الأصل الشرعي، لو كان هناك ما يساعد على التخيير بينهما، يقتضي تعيين الحيّ؛ لدَوَران الأمر بين التعيين والتخيير؛ إذ الحيُّ إمّا أن يكون معيّناً لو كان للحياة مدخلية أو طرفاً في التخيير، ومع احتمال التعيين في عالم الحجّية يتعيَّن الأخذ بقول الحيّ؛ للعلم ببراءة الذمّة به، والشكّ ببراءتها في الأخذ بالطرف الآخر.
7ـ [شرط العقل في مرجع التقليد]
واشتراط العقل في المفتي يكاد يكون من البديهيات، فلا مجال لإطالة الحديث فيه؛ لبداهة لَغْوية قول المجنون، فلا معنى لجعل الحجّية له.
اللهمّ إلاّ إذا كان الجنون أدوارياً، على نحوٍ يستكمل صَحْوه في آنٍ ويجنُّ في الآن الآخر، ففي حال صَحْوه وتوفّر شرائط التقليد فيه لا مانع من الرجوع إليه والأخذ بقوله؛ لشمول الأدلّة له.
8ـ [شرط الأعلمية في مرجع التقليد]
وأمّا اشتراط الأعلمية في حجّية قوله لدى اختلافهم في الفتوى فقد اختلفت كلمتهم فيه؛ (فمنهم مَنْ لا يتخيّر بينهم حتّى يأخذ بقول مَنْ شاء منهم، بل يلزمه الاجتهاد في أعيان المفتين من الأورع والأدين والأعلم، وهو مذهب أحمد بن حنبل وابن سريج والقفّال من أصحاب الشافعي وجماعة من الأصوليين)(31). واختار الغزالي ذلك حيث قال: (والأَوْلى عندي أن يلزمه اتّباع الأفضل، فمَنْ اعتقد أنّ الشافعي& أعلم، والصواب على مذهبه أغلب، فليس له أن يأخذ بمذهب مخالفه بالتشهّي)(32). وهو المشهور بين أعلام الشيعة، (بل عن المحقِّق الثاني الإجماع عليه، وعن ظاهر السيّد في (الذريعة) كونه من المسلَّمات عند الشيعة)(33)؛ (وذهب القاضي أبو بكر وجماعة من الأصوليين والفقهاء إلى التخيير والسؤال لمَنْ شاء من العلماء، سواءً تساووا أو تفاضلوا)(34). وعن جماعة ممَّنْ تأخّر عن الشهيد الثاني من علماء الشيعة ذلك(35).
[نفي الأعلمية، المستند الشرعي]
وأهمّ ما استُدلّ به لعدم اعتبار الشرط مع الاختلاف في الفتوى:
1ـ إطلاق الأدلّة اللفظية السابقة، حيث لم تفرِّق بين الأعلم وغيره، مع اختلاف المسؤولين عادةً في العلم والمعرفة، وندرة الاتفاق في الفتوى. وحملها على صورة الاتفاق حملٌ على الأفراد النادرة.
ويتّضح الجواب عن هذا ممّا سبق بيانه، من امتناع أن يُعبِّدني الشارع بالمتناقضين، ومع هذا الامتناع لا بُدَّ من حملها على صورة اتفاقهم بالفتوى، وهو ليس بنادرٍ كما يُدّعى، وبخاصّة في مورد الآيتين؛ لأنّ النافرين قلَّما يختلفون إذا كانوا ثقاتٍ في النقل، وهم أشبه بالمخبرين منهم بالمجتهدين؛ لقرب عهدهم بمصدر التشريع. فالقول بندرة اتّفاقهم لا نعرف له وجهاً.
2ـ استقرار السيرة في عهد المعصومين على الأخذ بفتاوى العلماء المعاصرين لهم، مع العلم باختلاف مراتبهم بالعلم والفضيلة، وعدم ردعهم عن ذلك.
والجواب عن ذلك بالتشكيك في وجود مثل هذه السيرة مع العلم بالاختلاف، بل المتعارف في مثل هذه المواضع عادةً أن يفزع السائل مع وجود النبي “صلى الله عليه وآله وسلم” أو الإمام× إليه؛ ليقطع على نفسه طريق التردُّد والتشكيك، ولا يأخذ بأيِّهما شاء.
3ـ بناء العقلاء على التخيير بينهما غير المردوع عنه.
وهذا الاستدلال لا يتمُّ؛ لبداهة أنّ بناء العقلاء على خلافه؛ فالناس لا يرجعون إلى المفضول من أهل الخبرة مع وجود الأفضل، وخاصةً في صورة اختلافهم في الرأي، ويرَوْن العامل على وفق رأي المفضول مقصِّراً إذا أخطأ الواقع. يقول الغزالي: (مَنْ مَرِضَ له طفلٌ، وهو ليس بطبيبٍ، فسقاه دواءً برأيه كان متعدِّياً مقصِّراً ضامناً؛ ولو راجع طبيباً لم يكن مقصّراً. فإنْ كان في البلد طبيبان، فاختلفا في الدواء، فخالف الأفضل عُدَّ مقصّراً)(36)، بينما لا يراه العقلاء مقصِّراً لو قدِّر له استعمال دواء الأفضل، ولو أنهى بمريضه إلى الموت.
وعلامَ يبذل الناس أموالهم الطائلة في اختيار المهندس الأفضل لو أرادوا البناء مثلاً؟ والمعلِّم الأفضل؟ والطبيب الأفضل؟ وهكذا…، لو لم يكن مثل هذا البناء قائماً على الخلاف، وبخاصةٍ في صورة اختلافهم.
وسيأتي أنّ أهمّ أدلّة اعتبار هذا الشرط هو هذا البناء، الذي لم يثبت الردع عنه بشيءٍ من هذه الأدلّة.
4ـ ما استدلّ به (الآمدي) من (أنّ الصحابة كان فيهم الفاضل والمفضول من المجتهدين، فإنّ الخلفاء الأربعة كانوا أعرف بطريقة الاجتهاد من غيرهم، ولهذا قال×: (عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي، عُضُّوا عليها بالنواجذ)، وقال×: (أقضاكم عليٌّ، وأفرضكم زيد، وأعرفكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل)، وكان فيهم العَوَام ومَنْ فرضُه الاتّباع للمجتهدين والأخذ بقولهم لا غير.
ومع ذلك لم يُنْقَل عن أحدٍ من الصحابة والسَّلَف تكليف العَوَام الاجتهاد في أعيان المجتهدين، ولا أنكرَ أحدٌ منهم اتّباع المفضول والاستفتاء له مع وجود الأفضل. ولو كان ذلك غيرَ جائزٍ لما جاز من الصحابة التطابق على عدم إنكاره والمنع منه. ويتأيّد ذلك بقوله×: (أصحابي كالنجوم، بأيِّهم اقتديتُم اهتديتُم). ولولا إجماع الصحابة على ذلك لكان القول بمذهب الخصوم أَوْلى)(37).
وهذا الاستدلال لا يتمّ، صغرىً وكبرىً.
أمّا من حيث الصغرى؛ فلأنّ إثبات الإجماع والتطابق لا يتمُّ بمجرّد عدم النقل؛ لما هو معروفٌ من أنّ عدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود، بل يحتاج إلى نصٍّ على عدم الخلاف من معاصريهم، أو الاطلاع على واقعهم التاريخي تفصيلاً، وهو ما لم يُدوَّن أكثرُه.
وأمّا من حيث الكبرى؛ فلأنّ هذا الإجماع ـ لو تمّت حجّيته ـ فهو لا يعدو كونه من الأدلّة اللبِّية، التي لا إطلاق فيها يشمل صورة المختلفين في الحكم. وحتّى لو كان هناك إطلاقٌ فهو ليس بحجّةٍ، كما سبق في الأدلّة اللفظية في خصوص المختلفين.
والقدر المتيقَّن هو صورة اتّفاقهم في الحكم، أو عدم العلم بالاختلاف على الأقلّ.
على أنّا نشكّ أنّ العَوَام في صدر الإسلام كانوا لا يفرِّقون بين عليٍّ ومعاذ بن جبل ـ مثلاً ـ وبين أبي سفيان ومروان بن الحكم في الرجوع إلى أيِّهم شاؤوا، مع علمهم في الاختلاف في الحكم.
وما يُقال عن هذا الإجماع في عدم شموله للمتناقضين يُقال عن الأدلّة اللفظية التي مرّ ذكرها، لو صحّت سنداً وتمّت دلالةً.
وسيأتي الحديث عنها في حجّية قول الصحابي، واعتباره سنّةً.
5ـ أدلّة العُسْر والحَرَج الرافعة لوجوب الرجوع إلى الأعلم؛ لكون تشخيصه حَرَجياً غالباً.
والمناقشة فيها أيضاً من حيث الصغرى والكبرى.
أمّا من حيث الصغرى فلعدم وجود العُسْر والحَرَج على توفُّر أهل الخبرة في تعيينه، وهل يحتاج تعيينه إلى مؤنة بالنسبة إلى العامّي أكثر من تعيين المجتهدين، وبخاصّة في عصورنا هذه؟
وأمّا الكبرى فلما سبق بيانه من أنّ موضوع أدلّة الحَرَج هو الحَرَج الشخصي، لا النوعي، فوجود الحَرَج النوعي لا يرفع الحكم عمَّنْ لم يتحرَّج من الأشخاص، والحَرَج الشخصي لو كان فهو مقصورٌ على مورده.
على أنّ مسألتنا إنّما هي فيما لو أمكن تشخيص الأعلم، وعدم الاختلاف بينه وبين غيره، وإذا كانت هذه الأدلّة لا تكفي لرفع اليد عن لزوم تقليد الأعلم فهل هناك أدلّةٌ تعيّن اعتبار هذا الشرط؟
[الأعلمية، الأدلّة والمستندات]
ذكر العلماء عدّة أدلّة:
1ـ بناء العقلاء، الذي سبقت الإشارة إليه، ولم يثبت الردع من قِبَل الشارع عنه مع أنّه بمرأىً منه عادةً.
2ـ الإجماع. وهو موضع مناقشةٍ لوجود المخالفين من العلماء، ممَّنْ عرضنا رأي قسمٍ منهم في بداية الحديث.
3ـ بعض الأحاديث الضعيفة، التي نوقش فيها سنداً ودلالةً. وحَسْبُنا من هذه الأدلّة بناء العقلاء لتعيين هذا الشرط.
ومع غضِّ النظر عن ذلك فإنّ شكَّنا في حجّية قول غير الأعلم يكفي للقطع بعدمها.
وإذا تمّ الإجماع على التخيير في المختلفين، واحتملنا التعيين في جانب الأعلمية، كما هو الفرض؛ إذ لا نحتمل التعيين في جانب غير الأعلم، كان مقتضى دَوَران الأمر بين التعيين والتخيير في الحجّية هو التعيين؛ فيتعيَّن الرجوع إلى الأعلم.
9ـ [شرط العدالة في مرجع التقليد]
وشرط العدالة فيما يبدو أمرٌ مفروغ منه عند الجميع؛ لإرساله إرسال المسلَّمات في كلماتهم.
وقد استدلّ له في كلماتهم بـ:
1ـ الإجماع: وقد حكاه غيرُ واحدٍ من الشيعة(38) والسنّة(39)، واعتبره رادعاً لبناء العقلاء ـ لو تمّ ـ على عدم اعتبار هذا القيد.
2ـ بناء العقلاء: لبداهة أنّ العقلاء لا يساوون بين المستهتر في نتائج ما ينتهي إليه وما يؤمن به والمتقيِّد بحرفية ما يقول، فهم أكثر وثوقاً واطمئناناً إلى العامل برأيه، في صورة تساوي أهل الخبرة، حتّى مع الوثوق في صدق ما يخبر به، من نقل رأيه وفتواه.
وهذا النوع من البناء لو نوقش في وجوده بالنسبة إلى مطلق أهل الخبرة في بقية المجالات فلا أظنّ المناقشة تتمّ بالنسبة إلى عالم التعليل؛ فالناس ترى بطبعها في المقلَّد موضعاً للاقتداء والمحاكاة، لا أخذ الرأي فقط. ومن الصعب تفكيكهم بين تمثُّل واقعهم الناشز والإيمان بقوله، فهم في هذا الحال ينساقون إلى الأخذ عمَّنْ توفَّرت جوانب الملاءمة بين فعله وقوله وترك الآخر.
على أنّ الشارع لا يمكن أن يُعبّدني بقول الفاسق ويجعله مقتدىً؛ لعلمه أنّ العامّة أسرع إلى التأثُّر بواقع المقلَّد ومحاكاته منهم إلى الأخذ بقوله، فلو قدّر لمقلَّدٍ أن ينهى عن شرب الخمر لفتواه بحرمتها، وهو يعاقرها ليل نهار، لكان تأثيره على العوامّ في التسامح بشربها أكثر بكثيرٍ من ألف قولٍ يصدر عنه.
ومن هنا قيل: إنّ وظيفة المرجع وظيفة إمامة، وفساد الإمام فساد لرعيّته، وكم حدَّثنا التاريخ عن انهيار مجتمعاتٍ لانهيار حكّامها، الذين اتخذوا من أنفسهم أئمّةً للناس يقتدونهم في أعمالهم؟!
فاعتبار العدالة فيه في جواز الرجوع إليه أمرٌ لا يقتضي أن يكون موضعاً للشكِّ عادةً.
على أنّ هذا البناء على التخيير بينهما، المُدَّعى في ألسنة بعضهم، لو تمَّ لكان محتاجاً إلى عدم ردعٍ. ولستُ أظنُّ أنّ حادثةً واحدة وقعت أمام النبي “صلى الله عليه وآله وسلم” أو أحد الأئمّة اختلف فيها مجتهدان متساويان في العلم ومختلفان في الفسق والعدالة، ورُجِع فيها إلى الفاسق، وتمّ إمضاؤها من قِبَله، أو لم يردَعْ عنها بحالٍ.
فإثبات الإمضاء أو عدم الردع في غاية الإشكال.
أمّا بقيّة الأدلّة التي تُذْكَر على التخيير بينهما، من إطلاقات الأدلّة اللفظية وغيرها، فقد عرفت حالها في ما سبق، من عدم شمولها للمختلفين.
والإجماع على التخيير في المتساويين، المُدَّعى، لو تمَّ فهو في غير هذه المسألة؛ لدعوى الإجماعات من السنّة والشيعة على خلافه، ولا أقلّ من دَوَران الأمر بين التعيين والتخيير، الذي عرفْتَ ممّا سبق ما يقتضيه حكم العقل في عالم الحجّية من التعيين. وفي (المستمسك) أنّ المرتكز عند المتشرِّعة (قدح المعصية في هذا المنصب على نحوٍ لا تجدي عندهم التوبة والندم. فالعدالة المعتبرة عندهم مرتبةٌ عالية لا تُزاحَم ولا تُغلَب. والإنصاف أنّه يصعب جدّاً بقاء العدالة للمرجع العامّ للفتوى، كما يتّفق ذلك في كلِّ عصرٍ أو جماعةٍ، إذا لم تكُنْ بمرتبةٍ قويّة عالية ذات (مراقبة ومحاسبة)؛ فإن ذلك مَزَلّةٌ للأقدام)(40).
على أنّ علماء النفس يشكُّون كثيراً في سلامة استنباط الحكم الشرعي عادةً من أمثال هؤلاء؛ لتحكّم عوامل التبرير في استنتاجاتهم غالباً، وهي عوامل بعضها لا شعوري.
بقيَتْ أدلّةٌ لفظية ذكروها لاعتبار العدالة. وهي غيرُ ناهضةٍ سنداً، ولا دلالةً، فلا حاجة إلى عرضها ومناقشتها، بعد أن كانت نتيجتها موافقةً؛ لما ذكرناه من الأصل العملي لو أمكن إتمامها. وكونُها حاكمةً على هذا الأصل لا يزيد في ثمرات المسألة.
[ثالثاً: القرآن الكريم مصدرٌ للتشريع]
وما دمنا قد عرفنا الاجتهاد وبعض ملابساته وأحكامه، التي تتّصل اتصالاً مباشراً أو غير مباشر بمهمّة الباحث المُقارِن؛، فإنّ علينا أن نعود إلى الأصول العامة والقواعد التي ترجع إليها تلكم الحجج التي أُخذت في مفهوم الاجتهاد، سواء ما يتعلّق منها بالأحكام الشرعية أم بالوظائف الفعلية أو الشرعية. وإنْ شئتَ أن تقول: علينا أن نعود إلى المصادر الأوّلية التي يرجع إليها المجتهد في مقام الاستنباط؛ لنضع أيدينا على مواضع الاتفاق والاختلاف منها، ونلتمس ما يُنهينا إليه الدليل القطعي؛ لنجعله أساساً للمقارنة.
وأوّل هذه المصادر وسيّدها باتّفاق الكلمة:
الكتاب العزيز
[1ـ تعريفه]
والمراد بالكتاب هو كتاب الله عزَّ وجلَّ، الذي أنزله على نبيِّه محمد صلی الله علیه وآله وسلم”، ألفاظاً ومعاني وأسلوباً، دون أن يكون للنبيّ”صلى الله عليه وآله وسلم” دَخْل في انتقاء ألفاظه وصياغته.
فليس منه ما أنزل على النبي “صلى الله عليه وآله وسلم” من الأحكام وأدّاها بأسلوبه الخاصّ. كما ليس منه الحديث القدسي، وهو ما أُثر نزوله على النبي “صلى الله عليه وآله وسلم” ، ولم يثبت نظمه من قِبَله في سلك القرآن. وتفسير القرآن وترجمته ليسا من القرآن في شيءٍ، فلا تجري عليهما أحكام القرآن الخاصّة، لا من حيث التلاوة، ولا من حيث المسّ.
وثبوت الحجّية للتفسير إذا كان صادراً من معصومٍ إنّما هو باعتبار كونه سنّةً، لا باعتباره من الكتاب. وهذه الأمور موضع اتّفاق المسلمين، ولا أعرف مخالفاً في ذلك، إلاّ ما يبدو من أبي حنيفة، حيث جوّز القراءة بالفارسية في الصلاة لمَنْ لا يعرف العربية، ولا يقدر على القراءة بها(41). والظاهر أنّ تسويغه القراءة بالفارسية لا لكونها قرآناً، بل لاعتقاده أنّه ذِكْرٌ يُجزي عن القرآن مع الضرورة، كما وجّه به كلامه. وهي أقرب إلى تطبيقه لقاعدة الميسور في مثل المقام. ولكنّ القاعدة على خلاف الأصل، فلا يُصار إليها إلاّ في الموارد المنصوصة. ومقتضى القواعد في مثل المقام سقوط المشروط لتعذُّر شرطه، ومع وجود الدليل القائل: إنّ الصلاة لا تسقط بحالٍ فإنّ مقتضى القاعدة سقوط شرطية القراءة مع التعذُّر، لا إبدالها بالترجمة؛ لعدم الدليل على لزومها.
ولقد أُحصيَتْ آيات القرآن الكريم فبلغت (6342)، منها خمسمائة آيةٍ تقريباً تتعلّق بالأحكام، وقد انتظمت هذه الآيات في سُوَرٍ بلغ مجموعها (114) سورة، بدأت بالفاتحة وختمت بسورة الناس، وآخر ما نزل منها قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً﴾ (المائدة: 3)، وقد نزلت كما في كثيرٍ من الروايات في اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة، بعد أن نادى| بولاية عليٍّ “علیه السلام في غدير خمّ(42).
[2ـ حجّيته]
أمّا حجّيته فهي أظهر وأكبر من أن يُتَحَدَّث عنها لدى المسلمين، بعد أن ثبت تواتُره المُوجِب للقطع بتبليغ النبي “صلى الله عليه وآله وسلم” له. وثبت بإعجازه صدوره عن الله عزَّ وجلَّ. وإذا لم يُقطَع بحجّية مثله فبأيِّ شيءٍ بعد ذلك يُقطَع؟
وسيأتي أنّه أساس أكثر الحجج الآتية؛ لانتهائها إليه؛ فما كان نصّاً في مدلوله منه كان حجّةً باتّفاق المسلمين، وما احتمل الخلاف فيه، وكان ظاهراً، فحجّيته تنتظم في باب حجّية الظواهر. وقد سبق أن أشَرْنا إلى أنّ حجّية الظواهر أوضح من أن يُطَال فيها الحديث، ما دام البشر قد جرى في تفاهمه على الأخذ بها، بل لو أمكن أن يتخلّى عنها لما استقام له التفاهم بحالٍ.
وقلنا بأنّ عصر النبي “صلى الله عليه وآله وسلم” ما كان بِدْعاً من العصور؛ لينفرد الناس به في أساليب تفاهمهم. ولا كان للقرآن طريقةٌ خاصّة انفرد بها، بل نزل بلغة العرب، وعلى طريقتهم في تداول الأحاديث والأخذ بظواهرها. ولو كانت له طريقةٌ خاصة لبيّنها القرآن للنبيّ”صلى الله عليه وآله وسلم”، ولبلغتنا إمّا من طريق التواتر أو الآحاد على الأقلّ. وهذا ما لم يفُهْ به مؤرِّخٌ على الإطلاق.
وبما أنّنا نعلم أنّ من طريقة الشارع المقدَّس التي سار عليها الاعتماد على القرائن المنفصلة، وأنّ بعضها تكفّلت ببيانها السنّة ـ بحكم كونها مبيّنةً للمراد من الكتاب وشارحةً له ـ، كان علينا قبل أن نعتمد على أصالة الظهور الفحص عن ذلك، حتّى إذا يئسنا من العثور عليه وتمّ انعقاد الظهور أخذنا به؛ نظراً لاكتمال حجّيته. ومتى عثرنا على ناسخٍ من الكتاب أو من السنّة المتواترة، أو عثرنا على مقيّد أو مخصّص منها، رفعنا أيدينا عن حجّية الظهور في حدود ما تقتضيه تلك الأدلّة الخاصّة.
[3ـ حجّية ظواهره]
وما ورد من التشكيك في حجّية ظواهر القرآن أمرٌ لا يستقيم. وغاية ما يمكن أن يُذكر من الأسباب التي تقتضي التوقُّف عن العمل بها أمورٌ، لا تخلو كلّها من مناقشة، وهي:
1ـ ما نُسِب إلى الأخباريين من دعوى التوقُّف عن العمل بها؛ لأمرين:
أـ العلم الإجمالي بطروّ مخصِّصات من السنّة أو مقيِّدات على عموماته وإطلاقاته. ومثلُ هذا العلم يمنع من التمسّك بالأصول الجارية في أطرافه، حتّى اللفظية منها، كأصالتَيْ العموم والإطلاق.
وهذا الإشكال صحيحٌ لو لم نَقُلْ بلزوم الفحص في مظانِّ هذه المقيّدات والمخصّصات، وحلّ العلم الإجمالي بما يعثر عليه منها وبعد اليأس من العثور على غيرها، ومع حلّ العلم الإجمالي لا مانع من جريان الأصول في ما تبقّى من الأطراف؛ لتحوُّل الشكّ فيها إلى شكٍّ بَدْوي.
على أنّ هذه الشبهة لا تختصّ بالكتاب، بل تعمّ حتّى ظواهر السنّة، بعد العلم بأنّ الشارع المقدَّس كان من طريقته التي اتَّبعها في البيان الاتّكال أحياناً؛ ولمصلحةٍ، على القرائن المنفصلة.
ب ـ الأحاديث الناهية عن العمل بالكتاب.
والجواب عنها: إنّ الأحاديث الواردة على قسمين:
قسمٌ منها يردع عن تفسير الكتاب بالرأي والظنون والاستحسان، وهي أجنبيةٌ عن موضع الكلام؛ لخروج العمل بالظواهر عنها تخصُّصاً؛ لأنّها لا تحتاج إلى تفسير، وإنّما تفسّر الغوامض والمعمّيات، لا الظواهر.
والقسم الآخر ينهى عن الاستقلال بالعمل بالظواهر دون الرجوع إلى السنّة. وهذا صحيحٌ، وقد أخذنا به عندما ألزمنا أنفسنا بضرورة الفحص واليأس من العثور على القرينة قبل الأخذ بالظهور.
على أنّ هناك طوائف من الروايات يرجع بعضها إلى الكتاب، ويجعله مقياساً لترجيح بعض الأحاديث على بعضٍ، وبعضها يظهر منه الاستدلال من الأئمّة بما في الكتاب، ممّا يظهر منه المفروغية عن جواز العمل بظواهره.
وعقيدتي أنّ الأخباريين لا يريدون أكثر ممّا أراده إخوانهم من الأصوليين وغيرهم من المسلمين من ضرورة الفحص عن القرائن المنفصلة، وإنْ أوهمَتْ كلماتهم خلاف ذلك.
2ـ ما نُسِب إلى المحقِّق القمّي من اختصاص حجّية الظواهر بمَنْ قصد إفهامه من المخاطبين(43)؛ لاحتمال الاعتماد على القرائن الحالية.
والجواب: إنّ الكتاب لا يختصّ بطائفةٍ دون طائفة، ولا خصوصية للمخاطبين فيه بعد أن عرف بأنّه نزل لعموم البشر. وقضاياه واردةٌ على نحو القضية الحقيقية. واحتمال القرائن الحالية يدفع بالأصول الجارية عادةً، كأصالة عدم القرينة ونظائرها ممّا يرجع إليها في أمثال هذا المقام.
على أنّ هذا الإشكال جارٍ بناءً على تماميّته حتّى على السنّة؛ لاحتمال اختصاص حجّيتها بالمشافَهين بها من نَقَلة الأخبار.
3ـ شبهة التحريف بالنقيصة في آياته، كالذي رُوي في إتقان السيوطي عن الخليفة الثاني من أنّ القرآن (ألف ألف وسبعة وعشرون ألف حرف)، بينما نرى أنّ القرآن الذي بأيدينا لا يبلغ ثلث هذا المقدار(44)؛
والذي رواه عن عائشة من أنّ سورة الأحزاب كانت تُقرأ في زمن النبي “صلى الله عليه وآله وسلم” مئتي آية، فلمّا كتب عثمان المصاحف لم نقدر منها إلاّ على ما هو الآن؛
وما في صحيح مسلم عن عائشة أنّها قالت: (كان في ما أنزل من القرآن: عشر رضعاتٍ معلوماتٍ يحرِّمن، ثمّ نُسِخْنَ بخمسٍ معلوماتٍ، فتوفّي رسول الله”صلى الله عليه وآله وسلم” وهنّ في ما نقرأ من القرآن)(45).
وما ذكره السيوطي عن مصاحف ابن أشتة، عن الليث بن سعد (أنّه قال: أوّل مَنْ جمع القرآن أبو بكر، وكتبه زيد، وإنّ عمر أتى بآية الرجم فلم يكتبه؛ لأنّه كان وحده)(46)؛
إلى أمثال هذه الروايات التي وردَتْ على ألسنة الرواة في جملةٍ من الكتب، كصحيح مسلم والإتقان ومصاحف السجستاني وغيرها من كتب أهل السنّة.
كما ورد في الكافي(47) وقسمٍ من الكتب الأخرى للشيعة بعض ما أُثر عن أهل البيت^ في ذلك.
والجواب عن هذه الشبهة: إنّها شبهة في مقابل البديهة؛ لأنّ كل ما ورد من أخبار التحريف على تضارب مضامينه لا يعدو كونه من أخبار الآحاد، وهي لا تنهض بالوقوف أمام التواتر المُوجِب للقطع بأنّ هذا القرآن الذي بين أيدينا هو القرآن الذي نزل على محمد صلی الله علیه وآله وسلم”، دون أن يُزَاد أو يُنقَص فيه بأسلوبه المعجز وكَلِمه البليغ.
وحَسْبك أن تعرض ما ادُّعي إسقاطه منه ـ كسورتَيْ الخلع(48) والحفد(49)، المنسوبتين إلى مصحفَيْ زيد بن ثابت وأُبَيّ بن كعب، وآية الرجم المأثورة عن الخليفة الثاني ـ على آيات الله لتعرف أثر الوضع عليها؛ للفرق الكبير بينهما من حيث صنعة الأسلوب ورفعته، وسموّ المضامين وسخفها.
على أنّ هذه الزيادة في الكتاب، لو صحّ ما أُثر عن ابن مسعود من اعتقاده بزيادة المعوذتين، والنقيصة فيه لو كانتا لكان المسؤول عنهما في الدرجة الأولى الخليفة الثالث؛ لحرقه المصاحف الكاملة. ومثل هذه المسؤولية لا يمكن أن يسكت عليها المهاجرون والأنصار، وهم الذين أنكروا عليه ما لا يُقاس أعظمُه فظاعةً بالتلاعب في آيات الله، ولكانت خير وثيقةٍ بأيدي الثوّار للتشنيع عليه وتهييج الرأي العامّ. وهذا ما لم يحدِّث عنه التاريخ.
فهذه الروايات، بالإضافة إلى معارضتها بمثلها، لا تصحّ للوقوف أمام هذه البديهة. وحَسْبها وَهْنها وهجرانها من قِبَل جميع أعلام المحقِّقين، شيعة وسنّة.
وأظنّنا مع هذه البديهة لا نحتاج إلى الاستدلال بأمثال: آية: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر: 9)؛ لأنّ الاستدلال بها إنّما يكون مع الشكّ، ومع الشكِّ لا تصلح هذه الآية ونظائرها؛ للزوم الدَّوْر؛ لأنّ دلالتها على عدم التحريف موقوفةٌ على كونها غيرَ محرّفةٍ، وكونها غيرَ محرَّفة موقوفٌ على دلالتها على عدم التحريف، والظاهر أنّ هذا الدَّوْر لا مدفع له مع الشكّ.
نعم، مَنْ آمن بأهل البيت “علیهم السلام”، وآمن بإمضائهم للكتاب الموجود، يرتفع إشكال الدَّوْر عنه؛ لأنّ دلالتها على عدم التحريف تكون موقوفةً على حجّية ظهورها بتوسط إمضائها، لا على عدم التحريف.
والحقيقة أنّ المسلمين في غنىً عن هذا الاستدلال، أخذاً وردّاً، بعد ثبوت تواتر الكتاب. وعلى هذا فحجّية ظواهر الكتاب ممّا لا مجال للمناقشة فيها بعدما ثبت تواتر ما بين الدفّتين، وأنّه هو الكتاب المُنْزَل من السماء، دون أن يدخل عليه أيّما تحريفٍ.
والشُبَه الباقية ليس فيها ما ينهض للوقوف دون الحجّية، ولعلّها شبهةٌ في مقابل البديهة.
الهوامش
[1] هذا المقطع وما قبله كان الشيخ المقرِّر قد ذكرهما في خاتمة (مراتب الاجتهاد)، والأنسب إدراجهما تحت هذا العنوان. (المحقِّق)
(2) عبدالوهّاب خلاّف، خلاصة التشريع الإسلامي: 341.
(3) المصدر السابق.
(4) محمود الشهابي، مقدّمة فوائد الأصول.
(5) أبو زهرة، الإمام الصادق: 540.
(6) رجال النجاشي: 455، ترجمة محمد بن عذافر.
(7) المراغي، الاجتهاد في الشريعة: 357، من مجلة (رسالة الإسلام)، السنة الأولى، العدد 3.
(8) عبدالمتعالي الصعيدي في كتابه (من أين نبدأ): 114.
(9) المراغي، الاجتهاد في الشريعة: 357، من مجلة (رسالة الإسلام)، السنة الأولى، العدد 3.
(10) المصدر نفسه.
(11) المصدر نفسه.
(12) المصدر نفسه.
(13) المصدر نفسه.
(14) المصدر نفسه.
(15) عبدالوهّاب خلاّف، علم أصول الفقه: 216.
(16) المصدر نفسه.
(17) الآمدي، إحكام الأحكام 3: 158.
(18) الغزالي، المستصفى 2: 121.
(19) الشيخ الرشتي، الكفاية وشرحها 2: 351.
(20) الآمدي، إحكام الأحكام 3: 158.
(21) الغزالي، المستصفى 2: 122.
(22) الآمدي، إحكام الأحكام 3: 158.
(23) القوانين المحكمة 2: 163.
(24) المستصفى، الغزالي 2: 123.
(25) الآمدي، إحكام الأحكام 3: 166.
(26) مستمسك العروة الوثقى 1: 8.
(27) المصدر نفسه.
(28) الغزالي، المستصفى 2: 123.
(29) الكفاية 2: 359 (حاشية الرشتي).
(30) مستمسك العروة الوثقى 1: 16.
(31) الآمدي، إحكام الأحكام 3: 173.
(32) الغزالي، المستصفى 2: 125.
(33) مستمسك العروة الوثقى 1: 19.
(34) الآمدي، إحكام الأحكام 3: 173.
(35) مستمسك العروة الوثقى 1: 19.
(36) الغزالي، المستصفى 2: 125.
(37) الآمدي، إحكام الأحكام 3: 174.
(38) مستمسك العروة الوثقى 1: 34.
(39) الخضري، علم أصول الفقه: 371؛ وغيره.
(40) مستمسك العروة الوثقى 1: 34.
(41) عبدالوهّاب خلاّف، علم أصول الفقه: 24.
(42) اقرأ أسانيدها في كتاب الغدير، الجزء 1.
(43) فوائد الأصول 3: 48.
(44) الإتقان 1: 60.
(45) صحيح مسلم 4: 167.
(46) الإتقان 1: 60.
(47) من الغريب أن يتطاول الشيخ أبو زهرة، في كتابه الإمام الصادق: 334 وما بعدها، على الشيخ الكليني لمجرّد روايته لهذه الروايات؛ واستنتاج (الصافي) بأنّها من رأيه؛ لعدم تعقيبه عليها بالنفي مع وثوقه بما يروي. حتّى أنّه ـ أعني أبا زهرة ـ شكَّ في كتابه هذا في أكثر من موضعٍ بإسلام الكليني لذلك. مع أنّ الكليني لم يختلِفْ عن مسلم والسجستاني وغيرهم من أعلام السنّة الذين ردَّدوا أمثالها، ولم يعقِّبوا عليها، وبعض كتبهم في ما يرَوْنها من الصحاح! وأكثر ما رواه الكليني موجودٌ نظيره في قسمٍ من هذه الكتب. وليس بجدّية دفاعه عن السيوطي بأنّه ساقها لبيان أنّها منسوخةٌ تلاوةً، مع أنّ بعضها صريحٌ بإصرار رواتها على الإسقاط، لا النسخ، كما في روايتي عائشة وعمر السابقتين. وفَهْمُ (الصافي) لا يكون حجّةً إلاّ على نفسه. ومجرّد عدم التعقيب في كتاب أخبارٍ لم يُسَقْ لإعطاء الرأي والفتوى لا يدلّ على إيمان صاحبه بمضمونها، وإنْ صرّح بأنّه لا يروي إلاّ ما يثق به. فمجرّد الوثوق بصدور الرواية لا يدلّ على الإيمان بمضمونها، ما دام باب التأويل مفتوحاً أمام الباحثين.
وفي الأخبار العلاجية للجمع بين الأخبار المتعارضة ما يلقي الكثير من الأضواء على ذلك، وإلاّ أفمن المعقول أن يعتقد بأنّ الكليني كان يؤمن باجتماع النقيضين؟! مع أنّه ـ أعني أبا زهرة ـ روى أخباراً متناقضة في دلالتها في كتابه هذا، ومنها: روايته بالإضافة إلى تلك الروايات: (وكان من نبذهم الكتاب أنّهم أقاموا حروفه وحرَّفوا حدوده)، وهي صريحةٌ بنسبة التحريف إلى عدم العمل، لا الإسقاط. وما أغنى العلماء عن التهاتر ما دام رائد الجميع هو الوصول إلى الحقيقة!
وحَسْبُ الكليني وغيره من أعلام السنّة والشيعة أن جمعوا لنا كلّ ما وقع بأيديهم من الأخبار على تناقض مضامين بعضها؛ ليفسحوا المجال أمام الباحثين والمستنبطين للاستفادة منها. ولكلٍّ اجتهاده في كيفية الاستفادة وتصحيح الحديث.
(48) سورة الخلع: (اللهُمَّ إِنَّا نَسْتَعِينُكَ وَنَسْتَغْفِرُكَ، وَنُثْنِي عَلَيْكَ الْخَيْرَ وَلا نَكْفَرُكَ، وَنَخْلَعُ وَنَتْرُكُ مَنْ يَفْجُرُكَ).
(49) سورة الحفد: (اللهُمَّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَلَكَ نُصَلِّي وَنَسْجُدُ، وَإِلَيْكَ نَسْعَى وَنَحْفِدُ، نَرْجُو رَحْمَتَكَ وَنَخْشَى عَذَابَكَ الْجِدَّ، إِنَّ عَذَابَكَ بِالْكُفَّارِ مُلْحَقٌ). (البلاغي، آلاء الرحمن 1: 23، نقلاً عن: الإتقان؛ والدرّ المنثور).
المدخل إلى دراسة الفقه المقارن .. تقريرات بحث السيد محمد تقي الحكيم
تحميل الجزءين بصيغة وورد ف ملف واحد
المصدر: مجلة الاجتهاد والتجديد العدد 51 – 52