‏الشيخ الأنصاري

ابتكارات الشيخ الأنصاري في حقلي الفقه والأصول‏ / آية الله الشيخ جعفر السبحاني

الاجتهاد: لا شكّ انّ النوابغ الذين يندر وجودهم في المجتمع الإنساني لهم سمة الإبداع في مجال العلم و المعرفة، و الشيخ الأنصاري “قدس سره” من نوابغ عصره، فله أفكار أبكار في الفقه و الأصول تعدّ أسسا جديدة في ذينك العلمين لا سيما في علم الأصول لم يسبقه إليها غيره.

و ها نحن نذكر بعض الأسس التي ابتكرها الشيخ في مجال أصول الفقه على وجه الإيجاز.

إنّ أصول الفقه تنقسم إلى مبحثين: لفظي و عقلي، و قد صدر من قلم الشيخ المباحث العقلية، و أسماها نفس الشيخ أو غيره بالفرائد و اشتهرت بالرسائل.

و أمّا مباحث الألفاظ فقد قام بتقريرها و تحريرها تلميذه واسع الباع الشيخ أبو القاسم المعروف بكلانتر (المتوفّى عام 1287 هـ) .

إنّه قدّس سرّه و إن ابتكر أمورا في المباحث اللفظية لكن معظم إبداعه تركّز حول المباحث العقلية، وها نحن نذكر بعض الأفكار الجديدة التي جاد بها في هذا الحقل.

1. أوّل من عقد بحثا أصوليا للقطع‏
إنّ شيخنا الأنصاري أوّل من فتح باب الحديث عن القطع بالمعنى الدقيق للكلمة و نشير إلى رؤوس أهمّ أفكاره:

أ. حجّية القطع حجّية ذاتية.

ب. تقسيم القطع إلى طريقي و موضوعي.

ج. تقسيم القطع الموضوعي إلى طريقي و وصفي.

د. تقسيم القطع إلى قطع تفصيلي و قطع إجمالي. وهذا التقسيم الأخير صار سببا لفتح باب واسع باسم العلم الإجمالي وشكّل مبحثا عظيما في باب الاشتغال.

هـ. وجوب الموافقة القطعية في العلم الإجمالي أو حرمة المخالفة القطعية.

و. قيام الأمارات مقام القطع الطريقي أو الموضوعي.

فانّ بعض هذه العناوين و إن سبقه فيها غيره لكن هذا الترتيب الخاص و ما فيها من الأفكار من ابتكاراته.

2. الشكّ في الحجّية كاف في عدم الحجّية
فتح الأصوليون بابا في جواز التعبّد بالظن و انّ مقتضى الأصل الأوّلي في العمل بالظن ما هو؟!فاستقر نظرهم إلى أنّ مقتضى الأصل الأوّلي هو حرمة العمل بالظن، غير أنّهم تطرّقوا إلى إثبات ذلك الأصل من طرق مختلفة.

و لكن الشيخ الأنصاري ذكر دليلا واضحا و هو انّ الشكّ في الحجّية كاف في عدم الحجّية. و لا نحتاج إلى تجشم دليل آخر، و ذلك لأنّ نسبة مفاد الظن-الذي لم يدلّ دليل على حجّيته-إلى اللّه سبحانه يعدّ بدعة، و البدعة حرام بالأدلّة الأربعة.

قال قدّس سرّه ما هذا حاصله: إنّ حقيقة العمل بالظن هو الاستناد إليه في مقام العمل و الالتزام بكون مؤدّاه حكم اللّه في حقّه، و هذان الأثران لا يترتّبان مع الشكّ في الحجّية، لأنّ الاستناد إلى مشكوك الحجّية في مقام العمل، و كذلك اسناد مؤدّاه إلى الشارع تشريع عملي و قولي، دلّت على حرمة الأدلّة الأربعة، فإذا حرم الاستناد و الاسناد و علم ارتفاعهما في حالة الشكّ يعلم عدم حجّية الظن، إذ لا معنى لوجود الموضوع (الحجّية) مع عدم أثره، (الاستناد و الالتزام بكون مؤداه حكم اللّه) و هذا معنى قولنا: إنّ الشكّ في الحجّية يكفي في القطع بعدمها. (1)

3. تقسيم حالات المكلّف إلى أقسام ثلاثة
إنّ الشيخ الأنصاري قسم حالة المكلّف الملتفت إلى الحكم الشرعي إلى أقسام ثلاثة بأنّه إمّا يكون شاكا في الحكم أو ظانا أو قاطعا.

وهذا التقسيم تقسيم طبيعي حسب حالات المكلّف و لكن جعل التقسيم ثنائيا بإدخال الظن الذي قام الدليل على حجّيته، تحت القطع بالحكم الظاهري، و إدخال ما لم يقم على حجّيته تحت الشكّ، حتّى يصير التقسيم ثنائيا دائرا بين الشكّ في الحكم و القطع به، كما فعله المحقّق الخراساني، على خلاف الحالة الطبيعية التي تعرض المكلّف و إن كان لكلامه أيضا وجه.

4. تبيين مجاري الأصول العملية الأربعة
إنّه قدّس سرّه بيّن مجاري الأصول العملية الأربعة-أعني: البراءة و الاحتياط و التخيير و الاستصحاب-و انّ مجرى الأوّل هو الشكّ في التكليف، و مجرى الثاني هو الشكّ في المكلّف به بشرط التمكّن من الاحتياط، و مجرى الثالث هو الشكّ في المكلّف به حين تعذّر الاحتياط.

كلّ ذلك فيما إذا لم يكن في مورد الشكّ حالة سابقة، و إلاّ فإن كانت هناك حالة سابقة معتبرة فهو مجرى للاستصحاب.

قال قدّس سرّه: الشكّ إمّا أن يلاحظ فيه الحالة السابقة أو لا، فالأوّل مجرى الاستصحاب، و الثاني إمّا أن يكون الشكّ فيه في التكليف أو لا، و الأوّل مجرى البراءة، و الثاني إمّا أن يمكن الاحتياط فيه أو لا، فالأوّل مجرى قاعدة الاحتياط، و الثاني مجرى قاعدة التخيير. (2)

5. المنهجية الجديدة للأدلّة الاجتهادية و الفقاهية
إنّ الشيخ قسّم الأدلّة إلى دليل اجتهادي و إلى دليل فقاهي، و هذا التقسيم و إن كان موجودا في كلمات المحقّق البهبهاني، و لكن التشريح و التبيين و بيان مورد كلّ بنحو واضح من ابتكارات الشيخ، فقد كان القدماء يستدلّون بالخبر الواحد منضما إلى أصل البراءة أو أصالة الاحتياط مع أنّ مجرى الأصول يغاير مجرى خبر الواحد، لذلك لم يكن له بدّ من بيان نسبة الأدلّة الاجتهادية إلى الأصول العملية، و انّ نسبتها إليها من قبيل الحكومة أو الورود.

و مع وجود الدليل الحاكم أو الوارد لا تصل النوبة إلى المحكوم و المورود، فالأمارات كلّها أدلّة اجتهادية من غير فرق بين قول اللغوي و الإجماع المنقول و الشهرة الفتوائية و خبر الواحد على القول بحجّيتها، و ذلك لأنّ هذه الأدلّة بنفسها طريق إلى الواقع، مزيلة للشك عند العقلاء و الشارع أمضى ما بيد العقلاء بهذا الوصف، فبذلك صارت حجّة شرعية و رافعة للشك بحكم الشارع.

و أمّا الأصول فهي أدلّة فقاهية يعمل بها في ظرف الشكّ ومع فرض وجوده والغاية في العمل هو رفع التحير في مقام العمل.

ثمّ إنّ الشيخ ذكر انّ الأدلّة الاجتهادية برمّتها متقدّمة على الأصول، و معها لا تصل النوبة إلى الأصول العملية.

مع أنّ الشائع عند القدماء خلاف ذلك.

6. ابتكاراته في الاستصحاب‏
إنّ للشيخ الأنصاري ابتكارات في الاستصحاب يعرفها كلّ من ألمّ بكتاب الفرائد و لا يسعنا الإشارة إلى بنات أفكاره، غير أنّ أحد ابتكاراته هو تبيين الأصل السببي و المسببي، وانّ الأوّل مقدم على الثاني مع أنّ القدماء يرون الأصلين متعارضين، و هو بذلك نقّح كثيرا من المسائل الفقهية.

7. ابتكاره في تمييز الأصل المثبت عن غيره‏
إنّ للأصل المثبت جذورا في كلمات الفقهاء ممّن تقدّم على الشيخ أو عاصره كما سيوافيك، و لكن تبيين هذا الأصل و تشريحه بمنهجية علمية على نحو يميز المثبت من غيره هي من اختصاصات الشيخ، فترى فيها المباحث التالية:

1. تعريف الأصل المثبت.

2. الدليل على عدم حجّية الأصل المثبت.

3. في حجّية مثبتات الأمارات دون الأصول.

4. استثناء بعض الأصول المثبتة إذا كانت الواسطة خفيّة.

8. ابتكاره في الاستصحاب التعليقي‏
إنّ أوّل من تمسّك بالاستصحاب التعليقي هو السيد الطباطبائي المعروف ببحر العلوم، و ردّ عليه تلميذه السيد علي صاحب الرياض في درسه الشريف، غير انّ الشيخ الأنصاري ذهب إلى جريانه و بيّن المنهج الذي يثبت حجّية الاستصحاب التعليقي و تبعه تلميذه المحقّق الخراساني.

9. استصحاب حكم المخصص‏
اختلف الفقهاء في أنّه إذا ورد التخصيص على عموم و علم خروج فرد من تحته في فترة من الزمان لكن شك في خروجه بعد تلك الفترة، فهل المرجع عندئذ هو عموم العام أو استصحاب حكم المخصص؟فقد أبدع الشيخ الأنصاري هناك قاعدة باسم كون الزمان قيدا أو ظرفا. و بذلك أيضا أجاب عن شبهة المحقّق النراقي المعروفة في باب استصحاب الأحكام الشرعية حيث زعم انّ استصحاب الحكم الشرعي مطلقا يعارض دائما مع استصحاب عدم الجعل.

10. ابتكاره في باب التعادل و الترجيح‏
إنّ باب التعادل و الترجيح من أهم مباحث علم الأصول، إلاّ أنّ معرفة الدليل الراجح و تقديمه على المرجوح أمر يحتاج إلى عقد ضوابط للتقديم، فالشيخ هو أوّل من خاض عباب هذا البحث و خرج منه بصيد شهي.

هل مصطلحا الحكومة و الورود من ابتكارات الشيخ؟
قد اشتهر انّ مصطلح الحكومة و الورود من ابتكارات الشيخ الأنصاري، و الفرق بينهما هو انّ تقديم أحد الدليلين على الآخر إذا كان بلحاظ التفسير كأن يحدّد دليل المحكوم سعة وضيقا فهذه هي الحكومة، مثلا: «من أفطر في شهر رمضان متعمدا فعليه كفارة صيام شهرين متتابعين»

فالمتبادر من المتتابعين صيام ستين يوما متتابعا و لكن ورد هناك دليل آخر يوسّع الموضوع و يفسر التتابع بصيام شهر و يوم، قال: إن كان على رجل صيام شهرين متتابعين، و التتابع أن يصوم شهرا و يصوم من الآخر شيئا أو أياما منه. (3)

فالحكومة قائمة باللسان و هي لسان النظارة و التفسير سواء أكان التفسير جليا أو غير جلي و سواء أكانت النتيجة هي التوسعة في جانبي عقد الوضع و الحمل أو التضييق في كلا الجانبين، و قد أوضحنا حال الأقسام الأربعة في محاضراتنا. (4)

هذه هي الحكومة وأمّا الورود فحاصله هو رفع أحد الدليلين موضوع الدليل الآخر حقيقة لكن بعناية من الشارع بحيث لولاه لما كان له هذا الشأن، فهذا كخبر الواحد بالنسبة إلى الأصول العقلية، فانّ موضوع أصل البراءة العقلية هو عدم البيان، و يكفي في رفعه وجود خبر الثقة حيث إنّه بيان من الشارع بعد ثبوت حجّيته، فمع وروده ينقلب عدم البيان إلى البيان لكن بعناية التشريع، أي لو لا انّ الشارع جعل خبر الثقة حجّة لما انقلب عدم البيان إلى البيان، و من أراد التفصيل فليرجع إلى المصدرين المذكورين. (5)

هذا هو المعروف و انّهما من ابتكارات الشيخ الأنصاريو لكن السبر و التتبع يدلّ على خلاف ذلك، فانّ صاحب الجواهر استخدم كلمة الورود في كتاب القضاء، و قال: في مسألة ما لو ادّعى دارا في يد إنسان و أقام بيّنه انّها كانت في يده أمس أو منذ شهر، قال: إنّ استصحاب الملكية لا يصلح معارضا لما تقضي به اليد الحالية (6) من الملك فعلا، إذ هو وارد على الاستصحاب و قاطع له. (7)

كما أنّه استخدم ذلك المصطلح في كتاب الحدود، فقال في مسألة: من اطّلع على عورات قوم فلهم زجره، فلو أصرّ فرموه بحصاة أو عود فجنى ذلك عليه كانت الجناية هدرا و لو بادره من غير زجر ضمن.

ثمّ أفاض الكلام فيما إذا جهل بأنّ الدافع قد تدرّج حتّى لا يضمنه، أو لا و ادّعى ذلك و أنكر المجني عليه و قال: هنا أصل شرعي مستفاد من الإطلاق المزبور وارد على أصالة الضمان فلا يحكم به حتّى يعلم سبب الضمان. (8)

نعم الظاهر انّ الحكومة على النحو الذي شرحناه من ابتكاراته.

الأصل المثبت ليس من ابتكارات الشيخ الأنصاري
ربما يتصوّر انّ القول بعدم حجّية الأصل المثبت من ابتكارات الشيخ و لكنّه خاطئ.

ويدلّ على ذلك انّ صاحب الجواهر استخدم ذلك الاصطلاح في غير مورد في كتاب الجواهر منها في مسألة ما لو طلق زوجته فوطئت بالشبهة، قال المحقّق: فإن أتت بولد لأقل من ستة أشهر من وطء الثاني و ستة أشهر من وطأ المطلق، ألحق بالمطلّق، أمّا لو كان الثاني له أقلّ من ستة أشهر و للمطلق، أكثر من أقصى مدة الحمل، لم يلحق بأحدهما (لانتفائه عنهما شرعا) ، و إن احتمل أن يكون منهما استخرج بالقرعة.

قال في شرح الفرع الأخير: قال بالقرعة الشيخ الأنصاري في «المبسوط» ، لأنّها لكلّ أمر مشكل، و هذا منه بعد اشتراك الفراش بينهما و أن كان التكون منهما، و تعارض الأصول في إلحاقه بكلّ منهما حتّى أصالة تأخر الحادث التي هي في المقام لو قلنا بها، كانت من الأصول المثبتة. (9)

و قال في مسألة: لو ثبت العنن ثمّ ادّعى الوطأ، فالقول قوله مع يمينه-إلى أن قال: -و استصحاب العجز الثابت سابقا لا يصلح لإثبات العنن ضرورة عدم كون ذلك ممّا يثبت بالاستصحاب، بل هو بالنسبة إليه من الأصول المثبتة التي ليست بحجّة. (10)

الهوامش

(1) . فرائد الأصول: 33.

(2) . الفرائد: 1.

(3) . الوسائل: 7، الباب 3 من أبواب بقية الصوم الواجب، الحديث رقم 9.

(4) . لاحظ المحصول: 4/421-424 و إرشاد العقول: 2/318-321.

(5) . المحصول: 4/419-420؛ إرشاد العقول: 2/316-318.

(6) . وفي المصدر: الحالة و الصحيح ما أثبتناه.

(7) . جواهر الكلام: 40/455.

(8) . الجواهر: 41/662.

(9) . الجواهر: 29/259.

(10) . الجواهر: 30/354 و لاحظ أيضا 32/156 و 270 و لاحظ 31/134 و 364.

 

 

المصدر: كتاب: الشيخ الأنصاري ، رائد النهضة العلمية الحديثة لآية الله الشيخ جعفر السبحاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky