موسى بن جعفر

أسباب سجن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) / العلامة الشيخ باقر شريف القرشي

الاجتهاد: يتحدث العلامة المؤرخ الشيخ باقر شريف القرشي في كتابه “حياة الإمام موسى بن جعفر دراسة وتحليل (المجلد الثاني)” عن الأسباب التي دعت الرشيد لسجن الإمام موسى (عليه السلام)، واعتقاله في غياهب السجون، وظلمات الطوامير بعيداً عن أهله ووطنه. ويذكر بالتفصيل ثمانية أسباب لسجن الإمام عليه السلام.

يقول المؤرخ: نعتقد بأن القراء يهمهم الإطلاع – قبل كل شيء – على الأسباب التي سجن من أجلها الإمام، والتعرف على دور محنته الكبرى أيام اضطهاده في سجن الطاغية هارون، وسنذكر ذلك كله مشفوعاً بالتفصيل، وفيما يلي بعض علل اعتقاله.

1 – سمو شخصية الإمام (عليه السلام)

الإمام موسى (عليه السلام) من ألمع الشخصيات الإسلامية في ذلك العصر فهو من أئمة المسلمين، وأحد أوصياء الرسول (صلى الله عليه وآله) على أمته، كما دان بإمامته جمهور كبير من المسلمين، وقد أجمع المسلمون على اختلاف مذاهبهم على أكبار الإمام وتقديره.

وقد تحدث الناس في عصره عن علومه وتقواه وورعه ومكارمه، وكان هارون نفسه ممن يجله ويعتقد بأن الخلافة الإسلامية هو أولى بها منه كما حدث بذلك المأمون، فقد قال لندمائه:
أتدرون من علمني التشيع؟
فانبروا جميعاً قائلين: لا والله ما نعلم.
علمني ذلك الرشيد.
فقالوا: كيف ذلك؟ والرشيد كان يقتل أهل هذا البيت!!
قال: كان يقتلهم على الملك لأن الملك عقيم.

ثم أخذ يحدثهم عن ذلك قائلاً: لقد حججت معه سنة فلما انتهى إلى المدينة قال: لا يدخل عليَّ رجل من أهلها أو من المكيين سواء كانوا من أبناء المهاجرين والأنصار أو من بني هاشم حتى يعرّفني بنسبه وأسرته.

فأقبلت إليه الوفود تترى وهي تعرّف الحاجب بأنسابها، فيأذن لها، وكان يمنحها العطاء حسب مكانتها ومنزلتها.

وفي ذات يوم أقبل الفضل بن الربيع حاجبه وهو يقول له: رجل على الباب، زعم أنه موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام).
فلما سمع ذلك هارون أمر جلساءه بالوقار والهدوء، ثم قال لرئيس تشريفاته: ائذن له، ولا ينزل إلا على بساطي.

وأقبل الإمام (عليه السلام) وقد وصفه المأمون فقال: إنه شيخ قد انهكته العبادة كأنه شن بال قد كلم السجود وجهه.

فلما رآه هارون قام إليه وأراد الإمام أن ينزل عن دابته، فصاح الرشيد لا والله إلا على بساطي فمنعه الحجاب من الترجل، ونظرنا إليه بالإجلال والإعظام، وسار راكباً إلى البساط، والحجاب وكبار القوم محدقون به، واستقبله هارون، فقبل وجهه وعينيه، وأخذ بيده حتى صيره في صدر مجلسه وأقبل يسأله عن أحواله ويحدثه، ثم قال له:

ثُمَّ قالَ لَهُ: يا أَبَا الحَسَنِ ما عَلَيْكَ مِنَ العِيالِ؟

فَقالَ: يَزِيدُونَ عَلَى الخَمْسِمِائَةٍ،

قالَ: أَوْلادٌ كُلُّهُمْ؟

قالَ: لا، أَكْثَرُهُم مَوالِيّ وَحَشَمٌ، أَمَّا الوَلَدُ فَلِي نَيِّفٌ وَثَلاثُونَ، الذُّكْرانُ مِنْهُمْ كَذا، وَالنِّسْوانُ مِنْهُمْ كَذا،

قالَ: فَلِمَ لا تُزَوِّجُ النِّسْوانَ مِنْ بَني عُمُومَتِهِنَّ وَأَكْفائِهِنَّ؟

قالَ: اليَدُ تَقْصُرُ عَنْ ذلِكَ،

قالَ: فَما حالُ الضَّيْعَةِ؟

قالَ: تُعْطي وَقْتٍ وَتَمْنَعُ فِي آخَرَ؟

قالَ: فَهَلْ عَلَيْكَ دَيْنٌ؟

قالَ: نَعَمْ، قالَ: كَمْ؟

قالَ: نَحْوُ عَشَرَةَ آلاْفِ دِينارٍ.

فَقالَ لَهُ الرَّشِيدُ: يا ابْنَ عَمِّ أَنَا أُعْطِيكَ مِنَ المالِ ما تُزَوِّجُ الذُّكْران وَالنِّسْوانَ وَتَقْضِي الدَّيْنَ وَتَعْمُرُ الضِّياعَ،

فَقالَ لَهُ: وَصَلَتْكَ رَحِمٌ يا ابْنَ عَمِّ وَشَكَرَ اللَّهُ لَكَ هذِهِ النِّيَّة الجَمِيلَةَ، وَالرَّحِمُ ماسَّةٌ وَالقَرابَةُ وَاشِجَةٌ وَالنَّسَبَ واحِدٌ، وَالعَبَّاسُ عَمُّ النَّبِيِ‏ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، وَصِنْوٌ أَبِيهِ، وَعَمُّ عَلِيِّ بْنِ أَبي طالِبٍ‏ عَلَيْهِ السَّلامُ وَصِنْوٌ أَبِيهِ، وَما أَبْعَدَكَ اللَّهُ مِنْ أَنُ تَفْعَلَ ذلِكَ، وَقَدْ بَسَطَ يَدَكَ وَأَكْرَمَ عُنْصُرَكَ، وَأعَلَى مُحْتَدَكَ،

فَقالَ هارون: أَفْعَلُ ذلِكَ يا أَبَا الحَسَن وَكِرامَةً.

فَقالَ له الامام: يا أَمِيرُ الْمُؤْمِنينَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ فَرَضَ عَلَى وُلاةِ عَهْدِهِ أَنْ يَنْعَشُوا فُقَراء الاُمَّةِ وَيَقْضُوا عَنِ الغارِمِينَ، وَيُؤَدُّوا عَنِ المُثْقَلِ، وَيَكْسُوا العارِيّ وَيُحْسِنُوا إِلى العانِي فَأَنت أَوْلى‏ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ، فَقالَ: أَفْعَلُ يا أَبَا الحَسَنِ.

ثم انصرف الإمام (عليه السلام). فقام هارون تكريماً له فقبّل ما بين عينيه ووجهه ثم التفت إلى أولاده فقال لهم: قوموا بين يدي عمكم وسيدكم، وخذوا بركابه وسووا عليه ثيابه وشيعوه إلى منزله، فانطلقوا مع الإمام بخدمته وأسرّ (عليه السلام) إلى المأمون فبشره بالخلافة وأوصاه بالإحسان إلى ولده.

ولما فرغوا من القيام بخدمة الإمام وإيصاله إلى داره، قال المأمون: كنت أجرأ ولد أبي عليه، فلما خلا المجلس قلت له:
يا أمير المؤمنين، من هذا الرجل؟ الذي عظمته وقمت من مجلسك إليه فاستقبلته وأقعدته في صدر المجلس، وجلست دونه ثم أمرتنا بأخذ الركاب له.

قال هارون: هذا إمام الناس وحجة الله على خلقه وخليفته على عباده.

قال المأمون: يا أمير المؤمنين أو ليست هذه الصفات كلها لك وفيك؟
قال هارون: أنا إمام الجماعة في الظاهر بالغلبة والقهر وموسى بن جعفر إمام حق، والله يا بني إنه لأحق بمقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) مني ومن الخلق جميعاً، ووالله لو نازعتني هذا الأمر لأخذت الذي فيه عينيك فإن الملك عقيم.

وبقي هارون في يثرب مدة من الزمن، فلما أزمع على الرحيل منها أمر للإمام بصلة ضئيلة قدرها مائتا دينار، وأوصى الفضل بن الربيع أن يعتذر له عند الإمام.

فانبرى إليه المأمون وهو مستغرب من قلة صلته مع كثرة تعظيمه وتقديره له قائلاً:
يا أمير المؤمنين: تعطي أبناء المهاجرين والأنصار، وسائر قريش وبني هاشم، ومن لا يعرف نسبه خمسة آلاف دينار، وتعطي موسى بن جعفر وقد عظمته وأجللته مائتي دينار أخس عطية أعطيتها أحداً من الناس.

فثار هارون وصاح في وجهه قائلاً: اسكت، لا أم لك، فإني لو أعطيت هذا ما ضمنته له ما كنت آمنه أن يضرب وجهي بمائة ألف سيف من شيعته ومواليه، وفقر هذا وأهل بيته أسلم لي ولكم من بسط أيديهم(1).

ودلت هذه الرواية بوضوح على اعتقاد هارون بإمامة الإمام موسى (عليه السلام) وأنه خليفة الله في أرضه وحجته على عباده، وأن الخلافة الإسلامية من حقوقه الخاصة، وأنه ليس هناك أحد أولى بها منه، ولكن الذي دعاه ودعا غيره إلى سلبها منه ومن آبائه هو حب الدنيا فالملك عقيم، كما كشف هارون بحديثه عن السبب في حرمانه للإمام من عطائه حسب منزلته، وهو خوفه من انتفاضة الإمام وخروجه عليه إن تحسنت حالته الاقتصادية، وهذه هي الحرب الاقتصادية التي تستعملها بعض الدول مع خصومها لأجل إنهاكها وإضعافها.

لقد كان الرشيد يعلم بمكانة الإمام، ويعتقد أنه خليفة الله على عباده وأنه وارث علوم الأنبياء، وكان يسأله عما يجري بعده من الأحداث فكان (عليه السلام) يخبره بذلك، وقد سأله عن الأمين والمأمون فأخبره بما يقع بينهما فحزّ ذلك في نفسه، وتألم أشد الألم وأقساه.

فقد روى الأصمعي قال: دخلت على الرشيد، وكنت قد غبت عنه بالبصرة حولاً فسلمت عليه بالخلافة، فأومأ لي بالجلوس قريباً منه فجلست قريباً، ثم نهضت، فأومأ لي أن أجلس فجلست حتى خف الناس ثم قال لي: يا أصمعي ألا تحب أن ترى محمداً وعبد الله ابني؟

قلت: بلى يا أمير المؤمنين، إني لأحب ذلك، وما أردت القصد إلا إليهما لأسلم عليهما..

وأمر الرشيد بإحضارهما، فأقبلا حتى وقفا على أبيهما وسلما عليه بالخلافة، فأومأ لهما بالجلوس، فجلس محمد عن يمينه، وعبد الله على يساره ثم أمرني بمطارحتهما الأدب فكنت لا ألقي عليهما شيئاً في فنون الأدب إلا أجابا فيه، وأصابا..

فقال الرشيد: كيف ترى أدبهما؟

فقلت: يا أمير المؤمنين ما رأيت مثلهما في ذكائهما، وجودة فهمهما وذهنهما، أطال الله بقاءهما، ورزق الله الأمة من رأفتهما وعطفهما.

فأخذهما الرشيد وضمهما إلى صدره، وسبقته عبرته فبكى حتى انحدرت دموعه على لحيته، ثم أذن لهما في القيام فنهضا، وقال:

يا أصمعي كيف بهما إذا ظهر تعاديهما، وبدا تباغضهما، ووقع بأسهما بينهما، حتى تسفك الدماء، ويود كثير من الأحياء أنهما كانا موتى…؟!

فبهر الأصمعي من ذلك وقال له:

يا أمير المؤمنين هذا شيء قضى به المنجمون عند مولدهما أو شيء أثرته العلماء في أمرهما!!

فقال الرشيد وهو واثق بما يقول:
لا بل شيء أثرته العلماء عن الأوصياء عن الأنبياء في أمرهما…
قال المأمون: كان الرشيد قد سمع جميع ما يجري بيننا من موسى بن جعفر(2).

إن علم الرشيد بمنزلة الإمام، وبما تذهب إليه طائفة من المسلمين من القول بإمامته هو الذي أثار أحقاده وأضغانه عليه، ودعاه إلى زجّه في ظلمات سجونه.

2 – حقد هارون

كان الحقد من مقومات ذات الرشيد، ومن أبرز صفاته النفسية، فكان يحمل حقداً لكل شخصية مرموقة لها المكانة العليا في عصره، فلم يرق له بأي حال أن يسمع الناس أو يتحدثوا عن أي شخص يتمتع بمكانة علياً في المجتمع، والسبب في ذلك لئلا يزهد الناس فيه، وقد حاول أن يحتكر الذكر الحسن لنفسه ولذاته.

لقد حسد الرشيد البرامكة لما ذاع اسمهم، وتحدثت الناس عن مكارمهم فقد أخذ الحقد ينخر في قلبه حتى أنزل بهم العقاب الأليم فمحا وجودهم وأزال ظلهم في الأرض.

وكان من الطبيعي أن يحقد على الإمام موسى (عليه السلام) لأنه ألمع شخصية في عصره، فقد تناقل الناس فضائله، وتحدثت جميع الأوساط عن علمه ومواهبه، وذهب جمهور غفير من المسلمين إلى إمامته وأنه أحق بمنصب الخلافة منه، وكان يذهب إلى فكرة الإمامة كبار الموظفين في سلك دولته كعلي بن يقطين، وابن الأشعث وغيرهما.

وكان هارون نفسه من الذين يؤمنون بأن الإمام هو أولى منه بهذا المنصب الخطير، كما أدلى بذلك.

لم يرق لهارون أن يرى في المجتمع من هو أفضل منه، ولم يهدأ له فكر أن ينظر إلى الجماهير وسائر الأوساط الشعبية وهي تؤمن بأن الإمام هو أولى بالأمر من غيره، وأنه في القمة العليا علماً وفضلاً ومأثراً وأن المسلمين قد أجمعوا على تعظيمه وتناقلوا فضائله وعلومه، فساءه ذلك، فقدم على ارتكاب الجريمة فأودع الإمام في ظلمات السجون وغيبه عن الناس.

3 – حرصه على الملك

كان هارون حريصاً على ملكه متفانياً في حب سلطانه، فهو يضحي في سبيله جميع المقدسات والقيم، وقد عبر عن مدى حرصه على سلطته بكلمته المعروفة التي تناقلتها الأجيال والأحقاب وهي: لو نازعني رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأخذت الذي فيه عيناه.

أجل إنه لو نازعه رسول الله (صلى الله عليه وآله) في ملكه لأخذ الذي فيه عيناه ومع هذا الحرص الشديد والتهالك على السلطة، كيف يخلي عن سراح الإمام وكيف تطيب نفسه وقد رأى الناس قد أجمعوا على حب الإمام وتقديره.

لقد كان هارون يقظاً، فكان يخرج بغير زيّه متنكراً ليسمع أحاديث العامة، ويقف على اتجاهاتهم ورغباتهم، فكان لا يسمع إلا الذكر العاطر للإمام والثناء عليه، وحب الناس له، ورغبتهم في أن يتولى شؤونهم فلذلك أقدم على ارتكاب الموبقة، وأنهى به الحرص والحقد إلى قتله له.

4 – بغضه للعلويين

لقد أترعت نفس هارون ببغض العلويين، فقد ورث عداءهم من آبائه وسلفه الذين نكلوا بالعلويين، وصبوا عليهم وابلاً من العذاب الأليم، وساقوهم إلى القبور والسجون، وطاردوهم حتى هربوا هائمين على وجوههم خائفين يلاحقهم الرعب والفزع.

وزاد هارون على أسلافه في إرهاق العلويين، فدفنهم وهم أحياء وأشاع في بيوتهم الثكل والحزن والحداد، واستعمل جميع إمكانياته للبطش بهم، ففرض عليهم الإقامة الجبرية في بغداد، وجعلهم تحت المراقبة، ولم يسمح للاتصال بهم، وحرمهم من جميع حقوقهم الطبيعية.

وكان أبغض شيء إليه أن يرى عميد العلويين وسيدهم الإمام موسى (عليه السلام) في دعة واطمئنان وأمان، فلم يرق له ذلك دون أن ينكل به فدفعه لؤمه وعداؤه الموروث إلى سجنه وحرمان الأمة الإسلامية من الاستفادة بعلومه ونصائحه وتوجيهاته.

5 – الوشاية به

وعمد فريق من باعة الضمير والدين الذين انعدمت من نفوسهم الإنسانية إلى السعي بالإمام (عليه السلام) وبالوشاية به عند الطاغية هارون ليتزلفوا إليه بذلك، وينالوا من دنياه، وقد بلي بهم الإسلام والمسلمون.

وبهؤلاء الأوغاد يستعين الظالمون في جميع مراحل التاريخ على تنفيذ خططهم الرامية إلى إشاعة الظلم والجور والفساد في الأرض.
وكانت وشاية هؤلاء المجرمين بالإمام ذات طوابع متعددة، وهي:

أ – جباية الأموال له:

وانطلق بعض الأشرار، فأخبر هارون بأن الإمام تجبى له الأموال الطائلة من شتى الأقطار الإسلامية، وأنه قد اشترى بها ضيعة تسمى: (البسرية) اشتراها بثلاثين ألف دينار، فأثار ذلك كوامن الغيظ والحقد في نفس هارون،

فإن سياسته كانت تجاه العلويين تقضي بفقرهم ووضع الحصار الاقتصادي عليهم، فإن فقرهم أحب إليه من غناهم – كما قال لولده المأمون – وقد ذهب ابن الصباغ إلى أن هذه الوشاية من جملة الأسباب التي دعت لسجن الإمام(3).

ب – طلبه للخلافة:

لقد بلى المجتمع الإسلامي منذ فجر تاريخه بطائفة من باعة الضمير الذين لا يقدسون سوى المادة وما يحقق رغباتهم الرخيصة، فنكلوا بالمسلمين وأضرّوهم إلى حد بعيد وذلك بنكايتهم بالمصلحين الذين يطالبون بالصالح العام لأوطانهم وأمتهم.

لقد كان تاريخ الإسلام حافلاً بالشيء الكثير من أعمال هؤلاء المخربين الذين هم من أقوى عوامل الشر والفساد ولولاهم لما تمكنت السلطة على الظلم والجور، وقد سعى فريق من هؤلاء بالإمام موسى (عليه السلام) إلى هارون فأوغروا صدره عليه وأثاروا كوامن الحقد عليه،

فقد قالوا: إنه يطالب بالخلافة، ويكتب إلى سائر الأقطار والأمصار الإسلامية يدعوهم إلى نفسه ويحفزهم إلى الثورة ضد حكومته.

وكان في طليعة هؤلاء الوشاة يحيى البرمكي وكان السبب في وشايته – فيما يقول الرواة – هو أن الرشيد قد جعل ولي عهده محمد بن زبيدة عند جعفر بن محمد بن الأشعث، فساء ذلك يحيى وأحاطت به هواجس مريرة، وخاف أن تنقضي دولته ودولة ولده إذا أفضى الأمر إلى محمد، وأن زمام الدولة سيكون بيد جعفر، وكان يحيى قد عرف ميوله واتجاهه نحو العلويين وأنه يذهب إلى إمامة موسى (عليه السلام)، فاختلى به وعرفه بفكرته وأن له ميولاً نحو العلويين فسر جعفر بذلك وعرفه بفكرته.

ولما علم يحيى ذلك منه سعى به إلى الرشيد فتأثر منه، ولكنه لم يوقع به أي مكروه لأنه تذكر أياديه وجميل آبائه على العباسيين.

ودخل جعفر على الرشيد فوسع له في مجلسه، وجرى بينهما حديث استطابه هارون، فأمر له بعشرين ألف دينار، فغضب يحيى، فلما كان اليوم الثاني دخل عليه فقال له:
يا أمير المؤمنين، كنت قد أخبرتك عن جعفر ومذهبه، فتكذّب ذلك – وهاهنا أمر فيه الفيصل -.

قال الرشيد: ما هو؟

قال يحيى: إنه لا يصل إليه مال من جهة من الجهات إلا أخرج خمسه فوجه به إلى موسى بن جعفر، ولست أشك في العشرين ألف دينار أنه وجه خمسها إليه.

قال هارون: إن في هذا لفيصلاً.

فأرسل في الوقت خلف جعفر، فلما انتهى إليه الرسول عرف سعاية يحيى به فلم يشك في أن هارون إنما دعاه في غلس الليل ليقتله، فأفاض عليه الماء واغتسل غسل الأموات، وأقبل إلى الرشيد فلما وقع بصره عليه وشم منه رائحه الكافور قال له:
ما هذا؟

فقال: يا أمير المؤمنين، قد علمت أنه قد سعى بي عندك، فلما جاءني رسولك في هذه الساعة لم آمن من أن يكون قد انقدح في نفسك ما يقال علي، فأرسلت إلي لتقتلني.

قال هارون: كلا، ولكن قد أخبرت أنك تبعث إلى موسى بن جعفر من كل ما يصير إليك بخمسه، وأنك قد فعلت ذلك في العشرين ألف دينار التي وهبتها لك، فأحببت أن أعلم ذلك؟

قال جعفر: الله أكبر يا أمير المؤمنين، تأمر بعض خدمك ليذهب فيأتيك بها بخواتيمها.

فأمر الرشيد بعض خدمه فأتاه بها على ما هي عليه لم يؤخذ منها شيء، فبدا السرور على سحنات وجهه وقال له:

هذا أول ما نعرف كذب من سعى بك إلي، صدقت يا جعفر انصرف آمناً، فإني لا أقبل فيك قول أحد.

فخجل يحيى، وباء بالخزي والخسران، وازداد غيظه وحنقه وأخذ يعمل جاهداً في إسقاط مكانة جعفر وزوال نعمته، فرأى أن يسعى بالإمام موسى (عليه السلام) ليتوصل بذلك إلى النكاية به، فقال ليحيى ابن أبي مريم: ألا تدلني على رجل من آل أبي طالب له رغبة في الدنيا فأوسع له منها؟

فقال له: نعم، ذاك علي بن إسماعيل بن جعفر، فأرسل خلفه يحيى وكان آنذاك في الحج، فلما اجتمع به قال له يحيى: أخبرني عن عمك موسى، وعن شيعته وعن المال الذي يُحمل إليه

فقال: عندي الخبر، وحدثه بما يريد، فطلب منه أن يرحل معه إلى بغداد ليجمع بينه وبين الرشيد فأجابه إلى ذلك فلما سمع الإمام موسى (عليه السلام) بسفره مع يحيى بعث خلفه فقال له:

بَلَغَني أنَّك تريدُ السَفَر؟
– نعم.
– إلى أين؟
– إلى بغداد.
– ما تصنع؟
– عليّ دين وأنا مملق.
– أنا أقضي دَينك، وأَكفِيكَ أُمورَكَ.

فلم يلتفت إلى الإمام ووسوست له نفسه وأجاب داعي الهوى فترك الإمام وقام من عنده،

فقال (عليه السلام) له: لا تؤتم أولادي،

ثم أمر (عليه السلام) له بثلاثمائة دينار وأربعة آلاف درهم، وقال (عليه السلام): والله ليسعى في دمي ويؤتم أولادي.

فقال له أصحابه: جعلنا الله فداك، فأنت تعلم هذا من حاله، وتعطيه؟!
فقال (عليه السلام): نعم حدثني أبي عن آبائه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: إنَّ الرَّحِمَ إذا قُطِعَتْ فَوُصِلَتْ قَطَعَها اللهُ.

وخرج علي يطوي البيداء حتى انتهى إلى بغداد، فدخل على الرشيد فقال له بعد السلام عليه: ما ظننت أن في الأرض خليفتين حتى رأيت عمي موسى بن جعفر يسلم عليه بالخلافة.

وقيل: إنه قال له: إن الأموال تحمل إليه من المشرق والمغرب، وإن له بيوت أموال، وإنه اشترى ضيعة بثلاثين ألف دينار، وسماها (البسرية).

فلما سمع ذلك الرشيد فقد صوابه وأحرقه الغيظ، وأمر لعلي بمائتي ألف درهم على أن يستحصلها من بعض نواحي المشرق فمضت الرسل لجباية المال إليه فدخل بيت الخلاء فزحر فيه وسقطت أمعاؤه فأخرج منه وهو يعاني آلام الموت

فقيل له: إن الأموال قد وصلتك فقال: ما أصنع بها وقد أتاني الموت.

وقيل: إنه رجع إلى داره فهلك فيها في تلك الليلة التي اجتمع بها مع هارون(4) وقد باع آخرته بدنياه ولم ينتفع بها وباء بالخزي والعذاب الأليم.

وذكرت بعض المصادر أن من جملة الوشاة بالإمام يعقوب بن داود(5)

وهذا القول ضعيف للغاية فإن يعقوب قد سجنه المهدي في المطبق لإطلاقه بعض العلويين، وبقي في السجن طيلة خلافة المهدي والهادي، فلما ولي هارون الخلافة توسط في إطلاق سراحه البرامكة، فأخرج من السجن وقد فقد بصره فخيّره الرشيد بين المقام في بغداد أو السكنى في بعض الأقاليم الإسلامية، فاختار سكنى يثرب، فمكث فيها بعيداً عن السياسة مشغولاً بنفسه حتى وافاه الأجل المحتوم، وبعد هذا فكيف يظن بوشايته بالإمام؟

6 – احتجاج الإمام

من الأسباب التي حفزت هارون لاعتقال الإمام وزجّه في غياهب السجون احتجاجه (عليه السلام) عليه بأنه أولى بالنبي العظيم (صلى الله عليه وآله) من جميع المسلمين فهو أحد أسباطه ووريثه، وأنه أحق بالخلافة من غيره، وقد جرى احتجاجه (عليه السلام) معه في مرقد النبي (صلى الله عليه وآله) وذلك حينما زاره هارون وقد احتف به الوجوه والأشراف وقادة الجيش وكبار الموظفين في الدولة، فقد أقبل بوجهه على الضريح المقدس وسلم على النبي (صلى الله عليه وآله) قائلاً:
(السلام عليك، يا بن العم).

وقد اعتز بذلك على من سواه وافتخر على غيره برحمه الماسة من النبي (صلى الله عليه وآله) وأنه إنما نال الخلافة لقربه من الرسول (صلى الله عليه وآله) وكان الإمام آنذاك حاضراً فسلم على النبي (صلى الله عليه وآله) قائلاً: (السلام عليك يا أبت).

ففقد الرشيد صوابه واستولت عليه موجات من الاستياء حيث قد سبقه الإمام إلى ذلك المجد والفخر فاندفع قائلاً بنبرات تقطر غضباً:
لم قلت إنك أقرب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) منا؟
فأجابه (عليه السلام) بجواب لم يتمكن الرشيد من الرد عليه أو المناقشة فيه قائلاً:
(لو بُعثَ رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) حَياً وخَطَبَ منك كَريمَتَكَ هل كُنتَ تُجِيبُهُ إلى ذلك؟
فقال هارون: سبحان الله!! وكنت أفتخر بذلك على العرب والعجم.

فانبرى الإمام مبيناً له الوجه في قربه من النبي (صلى الله عليه وآله) دونه قائلاً:
(لكنَّهُ لَا يَخطِبُ مني ولا أزوجه لأنه والدنا لا والدكم فلذلك نحن أقرب إليه منكم).

وأراد (عليه السلام) أن يدعم قوله ببرهان آخر فقال لهارون: (هل كان يجوز له أن يدخل على حرمك وهن مكشفات؟).
فقال هارون: لا.

فقال الإمام: (لكِن لَه أن يَدخُل عَلى حَرَمِي ويَجوزُ لَهُ ذَلكَ فلذلكَ نَحن أقرَبُ إليه مِنكُم)(6).

وكان دليل الإمام (عليه السلام) حجة دامغة أذهل به خصمه ولم يترك له منفذاً يسلك فيه للدفاع عنه، فقد ألبسه ثوب الفشل والخزي وأبان لمن حوله بطلان ما ذهب إليه هارون، فالإمام أولى بالنبي منه وأحق بالخلافة فهو سبطه ووارثه.

واندفع هارون بعد ما أعياه الدليل إلى منطق العجز، فأمر باعتقال الإمام (عليه السلام) وزجه في السجن(7).

7 – تعيينه لفدك

ومن الأسباب التي ملأت نفس هارون بالحقد على الإمام (عليه السلام) ودعته إلى اعتقاله والعزم على قتله، تعيينه (عليه السلام) لفدك بأنها تشمل أكثر المناطق الإسلامية، وذلك حينما سأله هارون عنها ليرجعها إليه، فأبى (عليه السلام) أن يأخذها إلا بحدودها،

فقال الرشيد: ما حدودها؟
فقال (عليه السلام): إن حددتها لم تردها.
فأصر هارون عليه أن يبينها له قائلاً: بحق جدك إلا فعلت.
ولم يجد الإمام بداً من إجابته، فقال له: (أما الحد الأول فعدن).

فلما سمع الرشيد ذلك تغير وجهه، واستمر الإمام (عليه السلام) في بيانه قائلاً: (والحد الثاني سمرقند).

فأربد وجه الطاغية، واستولت عليه موجة من الغضب الهائل، ولكن الإمام (عليه السلام) لم يعتن به فقد أخذ يستمر في بيانه قائلاً: (والحد الثالث إفريقيا)،

فاسود وجه هارون وقال بنبرات تقطر غيظاً (هيه) وانطلق الإمام يبين الحد الأخير قائلاً: (والحد الرابع فَسَيفُ البَحر مِمّا يَلي الجُزُرَ وَأَرمِينيا).

فثار الرشيد ولم يملك أعصابه دون أن قال: لم يبق لنا شيء.
فقال الإمام (عليه السلام): قَد عَلِمتُ أنكَ لا تَرُدَّها.

وتركه الإمام والكمد يحز في نفسه، فعزم حينئذ على التنكيل به(8).

لقد بين (عليه السلام) له أن العالم الإسلامي بجميع أقاليمه من عدن إلى سيف البحر ترجع سلطته له، وأن هارون ومن سبقه من الخلفاء قد استأثروا بالأمر وغصبوا الخلافة من أهل البيت (عليهم السلام).

8 – صلابة موقف الإمام

كان موقف الإمام موسى (عليه السلام) من الطاغية هارون موقفاً سلبياً تمثلت فيه صرامة الحق وصلابة العدل، فقد حرم على شيعته التعاون مع السلطة الحاكمة بأي وجه من الوجوه، فكره لصاحبه صفوان الجمال أن يكري جماله لهارون مع أنها تكرى لحج بيت الله الحرام،

فاضطر صفوان لبيع جماله، ففهم هارون، فملئ قلبه بالحقد على صفوان وهمَّ بقتله، وكذلك منع زياد بن أبي سلمة من وظيفته وقد شاعت في الأوساط الإسلامية فتوى الإمام بحرمة الولاية من قبل هارون وأضرابه من الحكام الجائرين، فأوغر ذلك قلب هارون وساءه إلى أبعد الحدود.

إن الإمام (عليه السلام) لم يصانع هارون ولم يتسامح معه فكان موقفه معه صريحاً واضحاً فق دخل عليه في بعض قصوره المشيدة الجميلة التي لم يُر مثلها في بغداد ولا في غيرها، فانبرى إليه هارون وقد أسكرته نشوة الحكم قائلاً:

ما هذه الدار؟
فأجابه الإمام غير معتن بسلطانه وجبروته قائلاً له:
هذه دار الفاسقين، قال الله تعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا)(1)

ومشت الرعدة في جسم هارون، واستولت عليه موجة من الاستياء فقال للإمام: دار من هي؟
– هي لشيعتنا فترة، ولغيرهم فتنة.

– ما بال صاحب الدار لا يأخذها.
– أخذت منه عامرة ولا يأخذها إلا معمورة.
– أين شيعتك؟
فتلا الإمام (عليه السلام) قوله تعالى: (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكّين حتى تأتيهم البينة).

فثار هارون، وقال بصوت يقطر غضباً:
أنحن كفار؟
– لا، ولكن كما قال الله تعالى: (الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار).
فغضب هارون وأغلظ في كلامه على الإمام(9).

إن موقف الإمام (عليه السلام) كان مع هارون موقفاً لا لين فيه، فإنه يراه غاصباً لمنصب الخلافة ومختلساً للسلطة والحكم.

إلى هنا ينتهي بنا الحديث عن بيان بعض الأسباب التي دعت الرشيد إلى اعتقال الإمام (عليه السلام).

 

عن كتاب حياة الإمام موسى بن جعفر” عليه السلام” دراسة وتحليل

باقر شريف القرشي

 

يحتوي هذا الكتاب الفذ على عرض واف ودراسة مستفيضة لجوانب سيرة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع) وما بذله من تضحية وعطاء لخير الإنسان ومواقفه من حكام زمانه التي كلفته الغالي والنفيس فكانت حياته هي الثمن الذي بذله وهو راض مطمئن في سبيل مجتمع انساني تتحقق فيه العدالة ويعم فيه الخير والرخاء. ولقد وقف مؤلف الكتاب حيث اقتضت الضرورة والحاجة من بعض الروايات والأحداث التاريخية التي لم تسلم من أيدي الدساسين ملتزماً الحياد والتجرد في كل ما كتبه.

 

رابط تحميل الكتاب 

الجزء  الأول 

الجزء الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky