القتل-العمد

أركان القتل العمد ومصاديقه عند المذاهب الإسلامية / فضيلة الشيخ يحيى السعداوي

الاجتهاد: القتل العمد في الاصطلاح الفقهي: الفقه الإسلامي يختلف بحسب اختلاف المذاهب الفقهية الإسلامية في اجتهاداتها وأدلتها ورؤاها، ومن هنا كان لزاماً أن نتعرف على المقصود بالقتل العمد عند أشهر المذاهب الفقهية الإسلامية، وهي الإمامي والمالكي والحنفي والشافعي والحنبلي، ونكتفي بذكر المقصود عند هؤلاء على أنهم يمثلون الفقه الإسلامي عند عامة المسلمين من جهة، وعلى أنهم مرجع في الأحكام القضائية الإسلامية من جهة أخرى.

تتكون مقالة ” القتل العمد بين الفقه الإسلامي وقانون العقوبات” لفضيلة الأستاذ الشيخ يحيى السعداوي، التي جاءت في العددين التجريبيين الثاني والثالث من مجلة دراسات علمية * – من تمهيد وثلاثة فصول.

الفصل الأول: القتل العمد في المذاهب الفقهية الإسلامية

الفصل الثاني: القتل العمد في قانون العقوبات العراقي الخاص.

الفصل الثالث: المقارنة بين القتل العمد في المذاهب الفقهية الإسلامية و قانون العقوبات العراقي الخاص.

ففي الفصل الأول الذي يأتي في ثلاثة مباحث، يوضح القتل العمد وعقوبته في المذاهب الإسلامية. فتطرق إلى تقسيمات القتل العمد وتوضيحه وأركانه و وتطبيقاته والعقوبات المقرّرة لها في المذاهب الفقهية الإسلامية.

ما نأتي هنا، هو المبحث الثاني من الفصل الأول وهي بعنوان أركان القتل العمد ومصاديقه وتطبيقاته عند المذاهب الإسلامية

بداية تعريف القتل العمد

 القتل العمد في الاصطلاح الفقهي: الفقه الإسلامي يختلف بحسب اختلاف المذاهب الفقهية الإسلامية في اجتهاداتها وأدلتها ورؤاها، ومن هنا كان لزاماً أن نتعرف على المقصود بالقتل العمد عند أشهر المذاهب الفقهية الإسلامية، وهي الإمامي والمالكي والحنفي والشافعي والحنبلي، ونكتفي بذكر المقصود عند هؤلاء على أنهم يمثلون الفقه الإسلامي عند عامة المسلمين من جهة، وعلى أنهم مرجع في الأحكام القضائية الإسلامية من جهة أخرى، وكما يأتي:

عند الإمامية:

الفقهاء في المذهب الإمامي يعرّفون (القتل العمد) بأنه: إزهاق النفس المعصومة المكافئة عمداً وعدواناً.
هذا هو التعريف المشهور عندهم، في حين يذهب بعض آخر إلى أن (القتل العمد) هو قتل النفس المحترمة المكافئة عمداً وعدواناً.

عند المذاهب الأخرى:

التعريف المشهور عند المذاهب أن القتل العمد (هو أن يعمد الرجل إلى الرجل فيضربه حتى تفيض نفسه المعصومة المكافئة الحية الآدمية على وجه العدوان).

القتل العمد في الاصطلاح القانوني:

قانون العقوبات العراقي لم يعرف القتل العمد في نصوصه ولكنه ذكر عقوبته مباشرة، وهذا لا يثير أية صعوبة في التعريف لأننا نرى أن المشرّع العراقي يعد القتل العمد من المسلّمات، بل ادعي بعض الشرّاح: أن تعريف القتل العمد مجمع عليه، فقال: (فالإجماع على أن كل إزهاق لروح إنسان تعمداً يدعی قتلاً عمداً).

والظاهر أن هذا التعريف ليس مجمعة عليه عند شرّاح القانون العراقي فحسب، بل تری شراحين آخرين لقانون العقوبات القسم الخاص لبلدان أخرى يعرّفونه بالتعريف نفسه أيضاً، فيقولون: (القتل العمد هو إزهاق روح إنسان حی عمداً بفعل إنسان آخر وبدون وجه حق).

أما أركان القتل العمد عند المذاهب الإسلامية:

من خلال ما تقدم من التفاصيل في مناقشة فقرات التعريف للقتل العمد يمكننا أن نذكر أركان القتل العمد المقومة له، التي بوجودها يتحقق القتل العمد، سواء كان موضوعا للقصاص أم لم يكن.

فأركان القتل العمد عند الإمامية بحسب الظاهر ثلاثة:

الأول: الفعل المادي، أو الامتناع المؤدي إلى إزهاق الروح.
الثاني: وقوع الفعل المادي على محل القتل العمد، وهو نفس معصومة مكافئة عدواناً.
الثالث: القصد الجنائي، وهو الركن المعنوي، وهو قصد القتل، أو ما يظهره کاستعمال آلة قاتلة عادة أو غالباً.

هذا ما يمكن استظهاره من کلات فقهاء الإمامية..

وأما أركان القتل العمد عند المذاهب الأخرى فهي (ثلاثة أيضا):

الأول: أن يكون المجني عليه آدمياً حياً، وهذا هو محل الجريمة.

الثاني: الفعل المادي المؤدي إلى القتل، وهذا هو الركن المادي.
الثالث: القصد الجنائي، وهو قصد الجاني إحداث الوفاة، وهذا الركن الثالث هو الركن المعنوي في القتل العمد، وينبغي أن نضيف إلى محل الجريمة ما ذكر من أوصاف في التعريف، وهي كونها معصومة مكافئة.

 

مصادیق القتل وتطبيقاته عند المذاهب الإسلامية:

١- القتل بالمحدد: والمحدد: هو كل آلة محددة جارحة أو طاعنة لها مور في البدن، أي تفرق أجزاء الجسم، ولا يشترط أن يكون المحدد من مادة معينة، فيصح أن يكون من الحديد أو النحاس أو الرصاص أو الذهب أو الفضة أو الزجاج أو الخشب أو القصب أو العظم أو غير ذلك، ومثله السكين والرمح والبندقية والمسلة والسهم والقنبلة والسيف.

وهذه الآلات بطبيعتها قاتلة غالباً بل معدّة للقتل، والذي عند الإمامية أن هذه الآلات إذا استعملت يتحقق القتل العمد، سواء قُصد القتل ابتدءاً أم لم يقصد.

ولذلك يقول السيد الخوئي “قدس سره”: (ويتحقق العمد بقصد البالغ العاقل القتل، ولو بما لا يكون قاتلاً غالباً فيما إذا ترتب القتل عليه، بل الأظهر تحقق العمد بقصد ما يكون قاتلاً عادة، وإن لم يكن قاصداً القتل أبتداءاً ) (1)

ويستدل على ذلك بصحيحة الفضل بن عبد الملك عن أبي عبدالله “عليه السلام” أنه قال:( إذا ضرب الرجل بالحديدة فذلك العمد)، والحديدة من المحدد.

ويعلّق السيد الخوئي “قدس سره” على هذه الرواية بقوله: (فإنها تدل على أن الضرب بالحديدة التي يترتب عليه القتل عادة من القتل العمدي وإن لم يقصد الضاربُ القتل ابتداءاً)۔

وتتفق المذاهب الأربعة مع الإمامية في أن القتل بالمحدد قتل عمد(۲)، لتحقق أركانه.

٢- القتل بالمثقل، وهو ما ليس له حدّ کالعصى والحجر، فالإمامية يشترطون فيها التكرار والاستمرار إذا لم يقصد القتل، فيتحقق القتل العمد بالتكرار والاستمرار، وأما إذا قصد القتل فهو عمد وإن لم يستمر بالضرب بالمثقل.

ولذلك قال السيد السبزواري “قدس سره” : (إذا ضربه بآلة واستمر على ضربه بها حتى مات، أو شدد في الضرب بما لا يتحمله فمات، أو كان لا يتحمل أصل الضرب لعارض فيه فمات بأصل الضرب، كل ذلك من العمد)، – لصدق تعمد القتل في ذلك عرفاً – (وأما إذا ضربه بعودٍ خفیف، أو رماه بحصاة فاتفق موته لم يتحقق به موجب القصاص)(3).

ويتفق مع الإمامية مالكُ والشافعي وأحمد في أن الضرب بالمثقل قتل عمد (4)، بخلاف أبي حنيفة حيث يعدّه قتلاً شبه عمد.

٣- الإلقاء في مهلكة: فقهاء الإمامية يفرّقون بين ما إذا كان المجني عليه متمكناً من التخلص أو الفرار ولكنه لم يفر ولم يتخلص تكاسلاً فلا عمد، وبين ما إذا ألقاه في المهلكة ولم يمكنه الفرار أو التخلص، کما لو كتّفه وألقاه فهو عمد.

ويقول السيد السبزواري “قدس سره” : (لو ألقاه في منجم فحم مهلك، أو في حقل كهربائي خطر، أو في محل فيه حية قاتلة أو سبع كذلك، أو نحوها من المهالك، فإن أمكنه الخلاص أو الفرار ولم يفر أو لم يتخلص تكاسلاً فلا قود ولا دية)، لأنه أقدم على قتل نفسه باختياره فیکون دمه هدراً.

(وإلا) أي إذا لم يمكنه التخلص ولا الفرار (ففيه القصاص) وكذا لو كتفه وألقاه في المهلكة) (5)، يذهب مالك إلى أنه – على كل حال – قتل عمد.

وأما أحمد فيعدّه عمداً إذا فعل به السبع فعلاً يقتل مثله، وأمّا الشافعي فهو يفرّق بين الصبي والبالغ، وبين كون السبع ضارياً أم لا، وعنده القتل شبه عمد. وأما أبو حنيفة فلا يرى مسؤولية على الجاني في كل الصور المحتملة.

٤- الإغراق والإحراق: وهما الإلقاء في الماء، سواء كان نهراً أم بحراً أم غيرهما، وأما الإلقاء في النار فهو الإحراق، سواء كانت كبيرة أم صغيرة، والإمامية يميّزون في هاتين الواقعتين بين حالة تمكن المجني عليه من التخلص وعدمها، حيث يقول السيد السبزواری (6)”قدس سره”، في ذلك: (إذا طرحه في النار أو ألقاه في البحر فأعجزه عن الخروج حتى مات، أو منعه عن ذلك فمات قُتل به، لصدق التعمد إلى قتله بذلك، فيشمله إطلاق أدلة القتل العمدي.

فظاهر کلامه “قدس سره” أن منشأ صدق القتل العمد على هاتين الحالتين هو إعجاز المجني عليه ومنعه من الخروج، وإلا فإذا كان غير عاجز عن الخروج ولم يمنعه منه فلم يصدق عليه القتل العمد، ويتفق الشافعي وأحمد مع الإمامية في التفصيل المتقدم، ويعدّاه عمداً في حالة عدم إمكان التخلص، ومع إمكانه فلا مسؤولية، وأما مالك فيعدّه قتلاً عمداً سواء أمكنه التخلص أم لا، وأما أبو حنيفة فيراه قتل عمد إذا كان الإحراق مما يقتل غالباً فهو قتل عمد وإلا فهو شبه عمد، وأما الإغراق فهو شبه عمد دائماً.

5- الخنق، والمقصود به منع خروج النَّفَس بأي وسيلة، سواء شنق الجاني المجني عليه بحبل، أو خنقه بيده، أو بحبل، أو غمه بوسادة، أو بأي شيء وضعه على فيه أو أنفه.

والخنق عند الفقهاء الإمامية مما يقتل غالباً، فيكون مصداقاً للقتل العمد وركناً مادياً له، وعلى هذا فهو عندهم يُثبت القتل العمد.

ويقول السيد الخوئي (7)”قدس سره” : (ومن هذا القبيل ما إذا خنقه بحبل ولم يرخه عنه حتى مات.. فهذه الموارد وأشباهها داخلة في القتل العمدي، وملاكُ العمد في القتل هو إيجاد عمل يقصد به القتل أو يترتب عليه الموت غالباً، وهو متحقق في جميع هذه الموارد).

وكذلك يقول السيد السبزواری (8) “قدس سره”: (فلو خنقه بحبل ولم يرفعه عنه حتى مات.. أو غير ذلك من الأسباب المختلفة، كل ذلك من العمد يكون فيه القود، ولا فرق في ذلك كله بين أن يموت بنفس هذا العمل بلا تخلل زمان أو مات موتاً مستنداً إليه) لصدق استناد الموت إلى فعله عرفا مع كون الفعل مما يقتل وان تخلل زمان بينها غالبة أي أن الختق مصداقي للعمل حتى لو تخلل زمان بينه وبين الموت.

والشافعي وأحمد يفرّقان بين ما إذا كان الخنق لمدة يموت في مثلها فهو قتل عمد وبين ما إذا كانت مدّة لا يموت في مثلها فهو شبه عمد، وأما مالك فعنده الخنق عمد في كل الأحوال، وأما أبو حنيفة فيعد اختق في كل الأحوال شبه عمد.

6- الحبس ومنع الطعام والشراب: الظاهر إجماع الإمامية على أن هذا المورد من موارد القتل العمدي لصدق تعمد القتل عرفاً، والى هذا أشار السيد الخوئي (9)”قدس سره” ، بقوله: (أو حبسه في مكان ومنع عنه الطعام والشراب حتى مات.. فهذه الموارد وأشباهها داخلة في القتل العمدي).

ويضيف إلى ذلك قوله: (وملاك العمل في القتل هو إيجاد عمل يقصد به القتل أو يترتب عليه الموت غالباً وهو متحقق)(10).

وكذلك السيد السبزواري”قدس سره” حيث قال (11): (لو منعه عن الطعام والشراب مدّة لا يتحمل مثله فيها عن ذلك عادة فمات فهو عمد لصدق تعمد القتل عرفاً)، فاشترط السيد السبزواري “قدس سره” لذلك عدم التحمل لتلك المدّة، وعليه فإذا كانت المدّة التي منع عنه الطعام والشراب تتحمل عادة فهنا يفرقون بين حالتين أيضاً، وهما حالة كون الجاني قاصداً للقتل ولو رجاءاً فيكون عمداً (12)، والأخرى حالة عدم قصد القتل فهو شبه العمد.

ويتفق الشافعي وأحمد مع الإمامية في أن المدّة التي منع عنها إذا كان يموت في مثلها فهو عمد وإلا فلا، وأما مالك فيعدّها عمداً على كل حال، وأما أبو حنيفة فلا يرى مسؤولية الجاني أصلاً.

٧- التسميم: الإمامية يفرقون بين عدّة صور للتسميم، حيث أنهم يفرقون بين علم الآكل وجهله، وكذلك بين كون السم مما يقتل عادة وما لا يقتل عادة، ويمكن جعلها أربع صور على النحو الآتي:

1- أن يكون السم مما يقتل عادة، والآكل على علم به وكان مميزاً ومع ذلك أكله، فلا يتحقق القتل العمد؛ وذلك لان الآكل أعان على نفسه.

۲- أن يكون السم مما يقتل عادة، وكان الآكل لا يعلم به ومميزاً، فيتحقق القتل العمد.

۳- أن يكون السم مما يقتل عادة، وكان الآكل يعلم به ولكنه غير مميز، فيتحقق القتل العمد.

4- أن يكون السم مما يقتل عادة، والآكل لا يعلم به وغير مميز، فيتحقق القتل العمد أيضاً، وهذه الصور أشار إليها السيد الخوئي “قدس سره”بقوله(13): (لو أطعمه عمدا طعاما مسموما يقتل عادة فإن علم الآكل بالحال وكان مميزاً ومع ذلك أقدم على أكله فمات فهو المعين على نفسه فلا قود ولا دية على المُطعم، وإن لم يعلم الآكل به أو كان غير مميز فأكل فمات فعلى المُطعم القصاص بلا فرق بين قصده القتل به وعدمه)، لصدق القتل العمدي وإن لم يكن القتل مقصوداً له ابتداءاً.

وهنا أمور يمكن الإشارة إليها إجمالاً وهي: أن الإمامية تُميّز بين ما إذا قال الجاني للمجني عليه (إنّ فيه سماً غير قاتل) وبين قوله (إنّ فيه سماً)، أي: بين علم المجني عليه بأوصاف السم وإطلاقه، لاعتبار أن قول الجاني (غير قاتل) تغرير بالمجني عليه.

والفقهاء الإمامية يعدون وضع السم غير القاتل مع قصد القتل- ولو احتمالاً – عمداً، ويتفق معهم مالك بأن التسميم قتل عمد إلا إذا علم المجني عليه، وكذلك أحمد والشافعي فهما يفترقان بين المميز وغيره وكون السم مما يقتل عادة أو لا، وأما أبو حنيفة فلا يعدّه قتلاً عمداً ويعزّر الجاني عنده.

۸- القتل بوسيلة معنوية: الفقهاء الإمامية يعدّون الخوف والرعب وغيرهما مما يُعد من الوسائل المعنوية التي ليست لها واقعية قتلاً عمداً، سواء كانت تقتل غالباً أم لا.

والى ذلك أشار السيد الخوئي”قدس سره” بقوله(14): (کما لو سحره فتراءى له أن الأسد يحمل عليه فيات خوفاً كان على الساحر القصاص)، ويقول : (ليس للسحر حقيقة موضوعية بل هو إراءة غير الواقع بصورة الواقع).

ويتفق معهم مالك في أن القتل بوسيلة معنوية قتل عمد، وأما أحمد فيعدّه قتلاً شبه عمد، والشافعي يتفق مع أحمد في ذلك، وكذلك أبو حنيفة فإنه يراه قتلاً شبه عمد.

9- القتل بسبب شرعي: وذلك عندما يشهد شخص أمام القاضي على أن فلاناً مرتد أو زَنا بالمحصنة أو غير ذلك فيحكم عليه بالقتل فيقتل، ثم يتضح كذب الشهود بعد تنفيذ الحكم عليه، فهل يعد عمداً أم لا؟
وكذلك الحاكم، فالحاكم إذا حكم بالإعدام على شخص ظلماً وهو عالم بذلك ومتعمد له عُدّ قاتلاً للمحكوم عليه عمداً.

وكذلك ولي الدم إذا قتل المحكوم عليه بالقصاص ظلماً وهو عالم أنه مظلوم يعدّ قاتلاً له عمداً.

وإلى هذا المعنى أشار السيد السبزواري “قدس سره” بقوله(15): (العمد أعم من المباشرة والتسبيب)، لتحقق موضوع العمد في كل منهما عرفاً، فيشمله إطلاق الأدلة قهراً، ويقول: (لو تمت الشهادة عند الحاكم على ثبوت موجب القتل على شخص من ارتداد أو زنا بمحصنة أو نحوهما وبعد استيفاء الحد ظهر أن الشهود كانوا زوراً فالضمان على الشهود دون الحاكم والمأمور)، إجماعاً ونصوصاً، كما في معتبرة ابن محبوب عن الصادق عليه السلام : ( في أربعة شهدوا على رجل محصن بالزنا ثم رجع أحدهم بعدما قتل الرجل، فقال: إن قال الرابع: وهمتُ ضُرِب الحد وغرم الدية وإن قال : تعمدتُ قُتِل) (16)

ويقول السيد السبزواری (17): (لو علم الولي بأن الشهادة شهادة زور وباشر القصاص كان عليه القود)، لتحقق السبب بالقتل عدوانا من غير غرور في البين، ولا فرق في العالم بالتزوير أو بفسق الشهود بين الولي الشرعي للقصاص أو الحاكم، لجریان عموم دليل القصاص في كل منهما، والمذاهب الأربعة جميعاً يعتبرون الشاهد قاتلاً عمداً(18)، ولكن أبا حنيفة لا يرى فيه القصاص وكذلك الحاكم وولي الدم.

۱۰- رضا المجني عليه بالقتل: والسؤال المتوجه: هل أن رضا المجني عليه بالقتل يجعل الجريمة مباحة أم لا؟

المذهب الإمامي يفرّق بين البالغ العاقل وغيره، وعنده أن الإذن بالقتل لا يبيح القتل، وتبقى الحرمة، أي أن رضا المجني عليه ليس ركناً في القتل، بخلاف السرقة حيث إن رضا المجني عليه ركنٌ فيها، والى ذلك أشار السيد الخوئي “قدس سره” بقوله(19): (لو قال: اقتلني، فقتله، فلا ريب في أنه قد ارتكب محرماً) فإن حرمة القتل لا ترتفع بإذن المقتول.

وكذلك السيد السبزواري “قدس سره” بقوله(20): (لو قال بالغ عاقل لشخص آخر اقتلني وإلا أقتلك) يحرم عليه قتله، ولا يجوز له ذلك، للإجماع، ولأن الإذن لا يرفع الحرمة الشرعية في الدماء، أما العقوبة المقررة لذلك فهل هي ثبوت القصاص أو الدية أو التعزير؟

الظاهر عند الإمامية وجهان:

الوجه الأول : ما اختاره المحقق وهو الأشهر – عدمُ ثبوت القصاص و استدلوا على ذلك بأن الآمر قد أسقط حقه بالإذن فلا يتسلط عليه الوارث، ومورد کلام المحقق وان كان هو الإكراه إلا أن تعليله يعم صورة الاختيار، بحسب ما نسبه إليه السيد الخوئي”قدس سره” (21)، ويذكر السيد السبزواري “قدس سره” مورد الاختيار بقوله: (وأما لو قتله بمجرد الإيعاد يكون آثماً وفي ثبوت القصاص أو الدية إشكال بل منع)(22)، أما الإثم فلأصالة بقاء الحرمه من غير دلیل حاکم عليها، وأما عدم القصاص والدية فللشك في ثبوتها في المقام الذي أذن فيه الشخص بقتل نفسه وهتك حرمتها، فيرجع إلى أصالة البراءة عنهما ولا يجوز التمسك بإطلاق دليلهما لأنه تمسك بالدليل في الموضوع المشكوك.

الوجه الثاني: ما ذكره السيد الخوئي”قدس سره”، بقوله: (وهل يثبت القصاص عندئذ أو لا؟ الأظهر ثبوته، هذا إذا كان القاتل مختاراً أو متوعداً بها دون القتل)(23)، فإن الإنسان غير مسلط على إتلاف نفسه ليكون إذنه بالإتلاف مسقطاً للضمان کما هو الحال في الأموال، فعمومات أدلة القصاص محكمة، ويتفق معهم أبو حنيفة في أن الإذن بالقتل لا يبيح القتل فيعدّه قتلاً عمداً (24)، وكذلك مالك (25)، وفي رأي للشافعي أنه عَمد ولكن عليه الدّية لا القصاص، وأما أحمد فيرى أنْ لا عقاب على الجاني وهو يتفق مع رأي آخر للشافعي (26).

11- الشراكة في القتل: بأن يشترك اثنان أو أكثر بقتل شخص أو أكثر فيقول السيد السبزواري”قدس سره” (27):

(إذا اشترك اثنان أو أكثر في قتل واحد اقتص منهم الولي إن شاء مع ردّ ما فضل من دية المقتص منه) للعموم و الإطلاق والاتفاق وقاعدة (نفي الضرر).

وصحيح الفضيل بن يسار قال: ( قلت لأبي جعفر “عليه السلام”عشرة قتلوا رجلاً، قال: إن شاء أولياؤه قتلوهم جميعاً وغرموا تسع دیات، وإن شاءوا تخيروا رجلا قتلوه وأدى التسعة الباقون إلى أهل المقتول الأخير عشر الدية كل رجل منهم، ثم الوالي بعد يلي أدبهم وحبسهم(28)

ويقول السيد السبزواري”قدس سره” (29): الاشتراك في القتل على قسمين:

الأول: أن يفعل كل منهم ما يقتل لو انفرد مثل أن يجرحوه بجراحات كل واحدة منها تكفي في القتل أو يلقوه في النار أو من شاهق أو في البحر أو نحو ذلك من المهالك)، لتحقق السببية بالنسبة إلى كل واحد منهم، ويصح إسناد القتل إلى كل واحد منهم عرفاً، فيجري حكم القصاص بالنسبة إلى الجميع، فيُخيّر ولي الدم بين قتلهم جميعاً ودفع دیات تسعة منهم بينهم بالسوية، أو يختار بعضهم فيدفع دية الزائد والباقون يدفعون إلى المقتص منهم بالنسبة.

والثاني: الشركة في السراية مع قصد الجناية، فلو اجتمع عليه جمع فجرحه كل واحد منهم بما لا يقتل منفرداً ولكن سرت الجميع فمات بسبب السراية فعليهم القود بالنحو المتقدم، لتحقق التسبب إلى القتل بالسراية مع قصده الجناية والسرابة توجب الموت وإزهاق الروح.

هذه التطبيقات جميعها تحقق أركان القتل العمد باعتبارها الفعل المادي أو المعنوي المؤدي إلى إزهاق الروح مع تحقق القصد الجنائي أو استعمال ما يقتل غالباً أو عادة، وبتحقق أركان القتل العمد جميعها يتحقق موضوع القصاص فيوجب القود عليهم.

ومن المتفق عليه بين المذاهب الأربعة أن تعدد الجناة لا يمنع من الحكم عليهم بالقصاص ما دام كل منهم قد باشر الجنائية (30)، وقد اختلفوا في حالة الإعانة على القتل أو التحريض عليه. ولا خلاف في أن القاتل في الحالتين – أي: حالة التوافق وحالة التوافق السابق – يقتص منه ولو تعدد المباشرون سواء كان اجتماعهم على القتل نتيجة اتفاق سابق أو توافق غير منتظر.

ولكن الخلاف (31)، في حكم من اتفق ولم يحضر القتل أو أعان عليه ولم يباشر، فأبو حنيفة والشافعي وأحمد يرون القصاص من المباشر فقط وتعزير مَن لم يباشر، ومالك يرى قتل مَن حضر ولم يباشر ومَن أعان ولم يباشر، أما مَن اتفق ولم يحضر فعليه التعزير في الراجح،

وأما من أمسك رجلاً وقتله آخر فإن أمسكه بقصد القتل فعلى المباشر القصاص، وأما الممسك؛ فمالك يرى قصاصاً، ويرى أبو حنيفة والشافعي تعزير الممسك ولو امسكه بقصد القتل، وأحمد يرى القصاص من الممسك على رأي.

وأما مَن آمَر آخر بالقتل، فإن كان المأمور صبياً غير مميز أو مجنوناً فيري مالك والشافعي وأحمد القصاص من الآمر لأنه هو المتسبب، ولا يرى أبو حنيفة القصاص من الآمر، وأما إذا كان المأمور بالغاً عاقلاً ولا سلطان للآمر عليه فمالك والشافعي وأحمد يرون القصاص من المأمور، وأما الآمر فعليه التعزير، ویری مالك القصاص من الآمر أيضاً إذا حضر القتل.

وأما إذا كان المأمور بالغاً عاقلاً وكان للآمر سلطان عليه بحيث يخشى أن يقتله لو لم يطع، فيقتص من الآمر والمأمور معاً عند مالك، ويتفق احمد مع مالك والشافعي، وأما أبو حنيفة فعنده يقتص من الآمر في حالة الإكراه فقط .

وإلى هنا بيّنا آراء الفقهاء المسلمين في هذه الجرائم وأنها تحقق أركان القتل العمد عندهم بحسب ما ذكرناه من كونها أفعال مادية أو معنوية تؤدي إلى الوفاة وبقصد القتل.

 

الهوامش

(۱) مباني تكملة المنهاج:2 / 3 /- 4.
(۲) التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي: ۲/ 64.
(3) مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام: 28 / ۲۱۲.
(4) مباني تكملة المنهاج:2 / 4.
(5) التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي: 2 / 64.
(6) مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام: 28 / 214 .
(7) مباني تكملة المنهاج: 2/ 3-4
(8) مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام: ۲۸ / 21 و ۲۱۳.
(9) مباني تكملة المنهاج: 2/ ۵
(10) میان تکملة المنهاج:2 / ۵
(11) مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام: ۲۸ / 21 و ۲۱۳.
(12) مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام: ۲۸ / 21و ۲۱۳۔
(13) مباني تكملة المنهاج:2 / 7 -۸.
(14) مباني تكملة المنهاج : 2 / 7.
(15) مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام: 28/ 210۔
(16) وسائل الشيعة إلى مسائل تحصيل الشريعة: ب63 من أبواب القصاص في التنفس، ج۱۹ ص۹۷.
(17) مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام: ۲۸/ ۲۳۳ – ۲۳4
(18) التشريع الجنائي الإسلامي مقارنة بالقانون الوضعي:2 / 74.
(19) مباني تكملة المنهاج: 2 / 16.
(20) مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام: 28 / 228.
(21) مباني تكملة المنهاج: 2 / 16.
(22) مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام: 28 / ۲۲۹.
(23) مباني تكملة المنهاج: 2 / 62.
(24) التشريع الجنائي الإسلامي مقارنة بالقانون الوضعي: ۲/ ۸4
(25) التشريع الجنائي الإسلامي مقارنة بالقانون الوضعي: 2 / 84.
(26) التشريع الجنائي الإسلامي مقارنة بالقانون الوضعي: ۲/ ۸۵
(27) مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام: ۲۸/ ۲۳۸ و ۲4۰-۲4۱.
(28) وسائل الشيعة إلى مسائل تحصيل الشريعة: ب ۱۲ من أبواب القصاص في التفس، ج 61 ص۳۰.
(29) مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام: ۲۸/ ۲۳۸ و ۲4۰-241.
(30) التشريع الجنائي الإسلامي مقارنة بالقانون الوضعي: 2 / 126.
(31) التشريع الجنائي الإسلامي مقارنة بالقانون الوضعي:2 / ۱۲۷.

فضيلة الشيخ يحيى السعداوي
يحيى السعداوي

* مجلة تعنى بالأبحاث التخصصية في الحوزة العلمية – المدرسة العلمية (الاخوند الصغرى) في النجف الأشرف

 

لتحميل العدد:

دراسات علمية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky