” أذكر حادثة عن روحية خاصة واعتقاد جميل للموالين، في زيارة الأربعين ، حيثُ كنت أُهيّئ نفسي للصلاة، فلاحظت على ردائي غباراً من الطريق، فحاولت أن أزيله بالماء فاستحال وحلاً. قاطعني أحد الزوّار الإيرانيين بالفارسية مبتسماً: شيخ هذا التراب وسام، اُتركه حتى تصل إلى الحسين عليه السلام موسوماً به، سيكون شفيعك”.
الاجتهاد نقلاً عن بقية الله: بهذه الحادثة بادرنا الشيخ حسين زين الدين ، ليحدثنا عن بعض الومضات الروحية في زيارة الأربعين ، هناك حيث يستحيل الحزن والدمعة بلسماً لإصلاح النفس وتهذيبها، ويكون المشهد المليوني، رسالة عالمية بخلود الحسين عليه السلام حتى ظهور المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف. كيف ولماذا؟ بعض الأسئلة والإجابات في هذا اللقاء. حاوره: حسن سليم
كيف للزائر الحسينـي أن يحافظ على الأجواء المعنوية في رحلة زيارة الأربعين من حيث النية والهدف من هذه الزيارة؟
إنّ الشرط الأول من شروط تحصيل النيّة في أيّ عمل عبادي هو اليقظة، وعدم الإتيان بالعمل على نحو العادة. وكي تتحقّق هذه اليقظة لا بدّ من حصول المعرفة بالمزور، ولمَ فرض الله طاعته، وثواب زيارته. هذه معرفة بمراتب ثلاث:
أ- المعرفة بالمزور: التي تعني معرفة حقّه، ومقامه، وشأنه، وموقعه في مشروع الهداية الإلهيّة، ومعرفة الأثر المترتّب على الاتصال به؛ لأنّ الزيارة هي تقرير شفهيّ لجدول الاعتقادات، فالزائر يقف بين يدي المزور ويصرّح عنده بمعتقداته: “أشهد أنّك تشهد مقامي وتسمع كلامي”(1)، “أشهد أنّك كنتَ نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهّرة”(2)، أو “أشهد أنّك أقمت الصلاة وآتيت الزكاة وأمرتَ بالمعروف ونهيتَ عن المنكر”(3). فالزيارة لا تعني عبادة المزور، وإلّا كان الحجّ عبادةً للكعبة ولا يختلف عن عبادة الأصنام في شيء.
ب- معرفة فلسفة الامتحان بطاعةِ الوليّ: إنّ إبليس ابتُلي بالخضوع لوليّ الله آدم عليه السلام، وليس بعبادة الله مباشرة. وبالتالي، يجب أن نعلم أنّ النفس لا يحصل عندها الانكسار العبوديّ بمجرد الالتفات المباشر إلى عظمة الله تعالى؛ لأنّ عظمة الله أكبر من كلّ منافسة، فلا يُختبر الإنسان في عبوديته وتواضعه إلّا بالأوامر الإلهيّة التي صدرت منه تعالى، مثل: ﴿ِإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ* فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ (ص: 73-74). واعتقادنا بأهل البيت عليهم السلام هو أنّهم محلّ اختبار العبوديّة الحقيقية في الأوامر الإلهيّة، فنحن نزور أهل البيت عليهم السلام لأنّهم أبواب رحمة الله التي أمرنا الله بالتوسل بها وزيارتها.
ج- معرفة ثواب الزيارة: إذا التفتنا إلى زيارة الإمام الحسين عليه السلام والثواب المترتّب عليها، نجد أنّها شعيرة ركّز عليها أهل البيت عليهم السلام لمحورية القضية الحسينية في بقاء الدين والتوحيد. وبقدر ما يكون الإنسان موحداً، ينعكس توحيده في احترام وتقدير وتوقير من ضحَّى بنفسه لأجل بقاء هذا الدين التوحيدي. فإذا كنت محمديّاً بحقّ عليك أن تكون مَديناً للحسين عليه السلام بحقّ.
إلى أيّ مدى تؤثّر الآداب والمستحبات في روحية الزيارة؟
على الزائر مراعاة المستحبات المعروفة، كالغُسل قبل الخروج إلى الزيارة، والبقاء على طهارة، وارتداء اللّباس الطاهر والنظيف والجديد، ويُفضَّل الأبيض، إلّا في مناسبات العزاء فيُستبدل البياض بالسواد، الذي أصبح جزءاً من شعيرة الحداد على سيّد الشهداء عليه السلام، والدخول إلى كربلاء بحالة الأشعث الأغبر بغبرة الطريق، كل هذه الآداب لكي تتناسب طبيعة الزائر مع حالة سيد الشهداء عليه السلام عندما كان في كربلاء.
ومنها:
1- أثناء المسير: لحضور القلب يفضّل عدم التلفّت أثناء المشي، والانشغال بذكر الله سبحانه وتعالى أثناء الطريق والإطراق إلى الأرض، والتأمل والتدبّر، وتقصير الخطى والمشي بوقار وبهيبة، وقراءة الأدعية الخاصّة.
2- الدخول إلى الحرم: عندما نصل إلى مشارف الحرم، نكون قد أزلنا بعض الموانع والانشغالات، فنبدأ بالزيارة دون عناء، وعندما نصل إلى إذن الدخول وقد دخلنا في أجواء الحرم، نحتاج إلى المقدّمات المعرفية التي تحدّثنا عنها. كان بعض العلماء ينبّه أبناءه قائلاً: إيّاكم أن تكونوا كاذبين في قولكم: “أشهد أنّـك تشـهــد مقامي”. كما يُلـفــت العلمــاء إلى أنّ الهيبــة التي سيزرعها الحضـور بيــن يدي المعصوم عليه السلام، يجب أن لا تشغـلنا عن عظمــة المولى عزّ وجلّ.
3- اختيار الصحبة: ولا ينبغي الغفلة عن اختيار الصحبة، فصاحِب مَن لديه توجّه روحيّ ومعنويّ، ليرفدك ويقوّي همّتك ونيّتك.
هناك رسائل متنوعة في مشهد الأربعين، فكيف تقرأون أبعاد هذه الزيارة بمشهدها العالمي؟
صار المشي إلى سيّد الشهداء شعيرة مستقلّة، وصار الأربعون موسم إعلان قيامة الحسين عليه السلام وبقاء الأثر المترتّب على حركته بعد شهادته في العاشر. فهذه السيول من المعزّين بعد مئات السنين تأتيه مشياً بكلّ أعمارها ولغاتها وجنسيّاتها ومع تفاوت مستويات التديّن، والعادات والتقاليد، لتقول:
1- رسالة تاريخية: إنّ كل ما أراد يزيد أن يزيله، قد بقي وثبت، فبقي الحسين عليه السلام وذكره، وذهب يزيد.
2- رسالة عبادية: إنّ هذا التجمّع المليونيّ هو اجتماعٌ على الطاعة، كما الاجتماع في صلاة الجماعة، فإنّ للاجتماع في العبادات ثواباً خاصّاً، ينظر الله إلى المشهد العام ويغفر لأهله.
3- رسالة سياسية: إنّ هذا الاجتماع الهائل لمحبّي أهل البيت عليهم السلام يُشكّل أكبر تجمّع عباديّ في العالم، لا شكّ في أنّه يدخل الرعب في قلوب طواغيت العالم؛ إذ الأماكن المقدّسة تقتضي أن يكون النظام في العالم نظاماً عادلاً، نظاماً فيه التقوى والورع.
4- رسالة عرفانيّة: إنّ الله تبارك وتعالى أبدل الحسين بما طلبه لله. فالحسين عليه السلام قدّم نفسه قرباناً في حجّه الجهاديّ لكي يجتمع الناس على توحيده تعالى، والله سبحانه وتعالى قدّم قلوب الناس جميعاً لوليّه جزاءً بما أهداه.
5- رسالة مهدويّة: إنّ مشهد الأربعين يشكّل نموذجاً من نماذج التظاهرات التي سنشهدها في البيعة المهدويّة؛ لأن الناس يقصدون سيد الشهداء عليه السلام بعنوان كونه “ثار الله”، وثار الله لا يؤديه إلّا الحجّة، الذي سيضع موازين العدل الإلهي لكل وتر موتور.
إنّ الاحتشاد الكبير للزوار في المناخ الحار قد يحول بين الزائر والدمعة، فكيف يحافظ الزائر على التباكي واستشعار الحزن؟
أولاً: الدمعة ليست المعيار الوحيد للقبول: إنّ التوفيق في أن يكون الموالي في جوار المعصوم عليه السلام، وأن ينطق بألفاظ الزيارة، وأن يكون من الزوّار، وأن تناله غبرة الطريق، تحقّق جزءاً من غاية الزيارة. ويمكن حضور القلب، حتّى في أجواء الحرّ، والألم، وبُعد المسافة، وانكسار القلب، فأنصح الزوّار بالعمل بالآداب التي تحدّثنا عنها.
ثانياً: في أماكن السكن: الابتعاد عن اللهو والانشغال بالشبهات. وهذا جزء أساس وحيوي من حضور القلب.
ثالثاً: وجود واعظ أو قارئ في بيئة الحملات: فمسؤوليّة الحملات أن تساهم في رفع مستوى الروحيّة عند الزائر، وإلّا فما الهدف من الزيارة؟ وهنا لا بدّ من الحفاظ على: بيئة عدم الاختلاط، الالتزام بالوقت، مراعاة الضعفاء، التفاني في خدمة الزوّار.
ماذا يعني المسير إلى الحسين عليه السلام، ومعنى الخطوات التي نقرأ أحياناً أنّ بها يكون غبار الزوّار محط بركة وغفران؟
أولاً: هذا السلوك المرتبط بتقدير غبار الزّوار والتعبير عنه هو موروث تراثي. فالتربية العراقية تربية حسينية تراثية، والروايات الخاصة بهذا النوع من خدمة الزوار والتبرك بغبار طريقهم، يحفظها هؤلاء ويعتنون بها. وطبيعة الحبّ الذي يكتنزه المؤمن تُجاه أهل البيت عليهم السلام تدمغه بدمغة الخدمة. وتوازي أهمية خدمة الزوار عند المواكب نجاح الزيارات، فهم شركاء في تأمين البيئة المناسبة لتأدية الزيارة، وثوابها وإن لم يزر بنفسه.
ثانياً: إذا أردنا أن ننصر سيد الشهداء عليه السلام، ثمّة طرق عدة، منها أن نجاهد في الميادين التي لو كان موجوداً لقادنا فيها، وأن نبذل أيّ خدمات عملية لأيّ منسك أو شعيرة دينية.
ثالثاً: هذا الغبار الذي تراه في الأربعين على شخصية معروفة مثلاً، سيبوح بالحزن والعزاء والمواساة، فستسري في الجميع روح الزيارة أكثر كعدوى إيجابية، وطبعاً لا يتعارض ذلك مع أصل الحفاظ على الوضع الصحي والطهارة.
رابعاً: إنّ فلسفة الإحرام في وحدة اللباس؛ أن لا يتميز الغني عن الفقير، فالكلّ بين يديّ الله عبيد. وفي الأربعين، نحن فقراء إلى رحمة الله، فقراء إلى شفاعة الشهداء. يأتي الزائر بعنوان المتسوّل للرحمة، لا بعنوان شخصية تزور شخصية. وبتعبير آخر، الشمس الحسينية تمتلك من الحرارة ما يُذيب الأنانيّات، فيضعُف مقدار الأنا كثيراً في كربلاء.
إلى أيّ مدى يمكن أن تتعارض رفاهية بعض الفنادق مع روحية الزيارة؟
من حيث المبدأ لا يوجد تعارض بين راحة الجسد والمعنويات، بل التعارض في المعنويّات بين حضور القلب والغفلة. ما يضر في الفنادق ليس الطعام الجيد، ولا الراحة أو اللياقة، وإن كان من آداب زيارة سيد الشهداء عليه السلام الإقلال من الطعام وعدم الاعتناء بنوعيته. لكن يجب أن يكون المغري الرئيس للحملات هو: نحن نؤمّن لك بيئة روحيّة، توفّر لك غسيل الذنوب بين يدي سيد الشهداء عليه السلام.
فالرفاهية بمعنى الانشغال والإفراط بها هي مثل الدنيا، الانشغال بها يشغل القلب، توفّرها واستخدامها يجب أن يكون بمقدار الحاجة لا ما يشغل القلب؛ وحذار من البيئة التي تصنعها هذه الفنادق: الاختلاط، الجلسات المشتركة والأركيلة، كثرة المزاح واللغو، الاهتمام المفرط بالتسوّق… شيئاً فشيئاً تصبح الزيارة رحلة.
نصيحة للزوار، أن لا يكون معيارهم الوحيد في نجاح الزيارة هو راحتهم جسديّاً فقط، فالمشقّة في زيارة الأربعين خاصة، هي جزء من الزيارة. فماذا يعني مواساة السيدة زينب عليها السلام بمسيرها الطويل دون أن أشعر بالألم؟ نعم، قد يشعر بها الشخص بعدّة خطوات وليس المطلوب أن يقطع كلّ المسافة، ولكن من استطاع إليه سبيلاً فليكسب هذا المكسب. ذلك يبقى في الذاكرة الدينية ويبقى في كتاب الأعمال ويبقى حتى في حديث مع الأطفال، تورّثه هذه الصور.
بعض الزوار يفضّلون التجول في أماكن سياحية قد تشغلهم عن زيارة الإمام الحسين عليه السلام، ما مدى تأثير هذه الجولات السياحية؟
العراق هو مخزن تاريخ؛ أي من الصعب جدّاً أن تفهم التاريخ دون أن تزور العراق. أمّا من ناحية الزيارة كتشريع مستحب، فالزيارة الرئيسة لسيد الشهداء عليه السلام وأبي الفضل عليه السلام والأصحاب والآل تتحقّق بمجرّد الوصول والسلام، كما ذكر الفقهاء.
لذا، لا يوجد مانع من السياحة، فهي لا تضرّ لا بالتديّن ولا بالروحية، ولكن لا بدّ من الالتفات إلى أن البُعد السياحي ليس بُعداً عباديّاً، ولا ينبغي أن أفوِّت صلاة الجماعة في الحرم، أو مثلاً ليلة الجمعة يُستحب فيها زيارة الإمام الحسين عليه السلام، فلنفرض أنّ الحملة قامت فيها بتنظيم زيارة مثلاً إلى مكان أثريّ، هذا حرمان معنوي من زيارة الإمام عليه السلام.
إنّ الهدف الرئيس من الزيارة هو استنزال الرحمة الإلهية وغسيل الذنوب والعودة كما ولدتنا أمّهاتنا، كما نذهب إلى عرفة، ونحن على ثقة بذلك إذا زرنا سيد الشهداء عليه السلام. إنّ مستوى الاغتراف المعنوي من هذه الزيارة هو المعيار الرئيس.
إنّ زيارة الأربعين هي رحلة الإمام الحسين عليه السلام الممتدة من العاشر من محرّم عام 61 للهجرة إلى حفيده الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف. نحن شهدنا هذه الجموع كلّها تشكّل رحلة تاريخ أطلقها الإمام الحسين عليه السلام لكي تسلّم العهد لصاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف.
الهوامش
1- عدّة الداعي، ابن فهد الحلّيّ، ص56.
2- مصباح المتهجّد، الشيخ الطوسيّ، ص721.
3- المقنعة، الشيخ المفيد، ص469.
المصدر: مجلة بقية الله السنة الثامنة والعشرون العـدد 325