خاص الاجتهاد: هل الأدلة المتعارفة بحسب الفقه الجواهري تکفي للاجتهاد في المجال الاجتماعي أم نحتاج إلى ابتكار قواعد فقهية جديدة؟
مقتطف من حوار أجرته مجلة الاستنباط ( العدد الأول) مع آية الله الشيخ محمد علي الكرامي.
يواجه الفقه سيما في زماننا الحاضر جملة من المسائل ذات البعد الاجتماعي والمرتبطة بفقه المجتمع كمسألة الانتخابات التشريعية والبلدية والرئاسية وغيرها وقوانين الأسرة وقوانين العمل والاتفاقيات الدولية وحقوق الإنسان، فهل يتعامل الفقيه مع الفقه الاجتماعي كتعامله مع المسائل الفقهية المرتبطة بالفرد كمسائل العبادات؟ وهل إن وسائل الإثبات الشرعي والأدلة المتعارفة بحسب الفقه الجواهري تکفي الفقيه المعاصر لأداء الممارسة الاجتهادية في المجال الاجتماعي أم يحتاج إلى ابتكار قواعد فقهية جديدة لهذا النمط من المسائل أو إضافة لحاظات جديدة؟
لا يخفى أن الجواب الذي يكون وفقا للواقع ومفيدا للمجتمع يجب أن يكون على بينة من هذه الأمور، ويتحتم أن تستخدم أصول أخرى غير تلك التي ألفناها في أبواب العبادات والمسائل الفردية، ففي المسائل الفردية توجه الفتوى من قبل الفقيه الى الشخص نفسه الذي يمكنه إحراز الموضوع بنفسه.
ولكن في القضايا الاجتماعية فإن المجتمع ينتظر ما يقوله الفقيه، والفقيه عنده عملان: أحدهما الفتوى، والآخر الحكم. فإذا أراد أن يحكم فلا بد أن يكون لديه معرفة بالموضوع من جميع جوانبه، ولكن إذا أراد أن يعطي فتوى يمكن أن يفتي بصيغة (إذا) و (إن)، والمفروض أنه في المسائل الاجتماعية يريد أن يصدر حكما أكثر مما يعطي فتوى، وخاصة إذا كان زعيم المجتمع حيث إنه يريد أن يطيعه المجتمع ففي الأكثر يحكم لا أنه يفتي، ولا ريب في أن حكم الفقيه مع عدم المعرفة بالموضوع لا قيمة له، ولذلك يجب أن يراعي هذه القضايا.
وفي دائرة المرجعية والإفتاء فالأمر مختلف تماما؛ إذ يستطيع أي شخص أن يبدي رأيه الخاص.
أجل، تستثنى في مسألة المرجعية ما إذا سبب تشتت الآراء إضعاف الموقف، كما نقل عن السيد أبي الحسن الإصفهاني من منعه من نشر بعض الرسائل العملية، وعندما اعترض عليه قال نحن حاليا نواجه حكومات جائرة، وإن تشتتت آراؤنا لم ينفذ كلامنا حينئذ.
فإن ما قلناه في البداية وإن كان صحيحا من أنه يسوغ أو يجب على كل فقيه أن يطرح رأيه، قال تعالى: ( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون؟ [البقرة: ۱۰۹]، لكن نرى أحيانا أن إظهار الرأي يوجب تشتت الآراء، وذلك ما يقلل من شأن المرجعية ويضعف دورها ومكانتها في المجتمع، فينبغي النظر في جميع هذه الحيثيات.
لقد سمعنا من السيد أبي الحسن الأصفهاني أنه قام بسحب رسالة أحد المشايخ الكبار لیلا – وقيل في النهار – من المطابع، كما أنه حين كتب ثلاثة من المشايخ رسالة في نفي سيادة السيد أبي الحسن الإصفهاني اتخذ السيد البروجردي منهم موقفا، وقد سافر أحدهم إلى تبريز وأرسل تلغرافة إلى السيد البروجردي تخبره أن الناس هنا يقلدونكم ولكن رسالتكم غير موجودة لديهم، أجاب السيد البروجردي أنه ما دام السيد أبو الحسن الأصفهاني حاضرة لا حاجة إلى رسالتنا، فقد أراد الحفاظ على موقف المرجعية. فلا بد من لحاظ تلك الجهات حتى في الفتوى العادية.
ليس هناك شك في أن بيان القضايا الفقهية يختلف بحسب الأزمنة المختلفة، ولكن يا ترى هل إنها اختلفت في واقع الحال أو هو مجرد اختلاف في المصطلحات، مثلا نقول بأصل البراءة أو الفراغ ومنطقة الفراغ، ففي الحقيقة لا تفاوت بحسب الواقع، فقد يحصل تغيرا في المصطلحات فحسب مما قد يوهم تحول الموضوع في أنظارنا، وهنا الأمر يتطلب دقة وافية بما فيه الكفاية للبيان الصحيح، حتى نعرف بالضبط أيا من العناوين يجري في المقام ؟
وبعبارة أخرى: يلزم في كل نظرية فقهية تحديد الصغرى وكذلك تحديد الكبری، فربما تستدعي الدقة في الصغرى تغييرا في الكبرى، فأحيانا قد نكرر مسألة مرت عليها قرون في حين أنه لا مصداق لها اليوم، فتنقيح الصغريات في نفسه قد يفتح الطريق ويمهد السبيل أمام الكبريات، فالمسألة تقتضي الدقة الفائقة سيما في المسائل الاجتماعية.
فنحن قد لا نعثر على بلدين متساويين من حيث الظروف والخصوصيات، فالثورة الجزائرية متفاوتة مع الثورة في العراق وهما متفاوتان مع الثورة في إيران، وبالتالي لا يصح القول بأن الثورات لها نحو واحد كي يقاس أحدهما بالآخر وبعبارة أخرى: يلزم في كل نظرية فقهية تحديد الصغرى وكذلك تحديد الكبری، فربما تستدعي الدقة في الصغرى تغيير في الكبرى سيما في المسائل الاجتماعية كما ذكرنا.
فطرق الجهاد التي أدت إلى استقلال الجزائر لن تكون منطلقا لاستقلال ایران ولا تكون نافعة لها، فكل بلد له ظروفه الخاصة به.
والحاصل : إنه لا يمكن الحكم على ظروف البلدان المتفاوتة بحكم واحد، والتعامل مع الجميع بموقف واحد. وعليه، فالمسائل الاجتماعية لا يحكمها قانون واحد كي يقاس إحداها بالأخرى، بل إن تشخيص الموضوع له كلمة الفصل هنا، فرب التدقيق في الصغري يقود إلى تغيير الكبرى، فالظروف متفاوتة. فالشهيد الصدر حينما واجه بعض الموضوعات الصغروية في المجال الاقتصادي طرح تفسيرا وفهما خاصا لبعض الآيات يعتبر جديدا على أذهاننا.
كامل الحوار : حوار مع آية الله الشيخ محمد علي الكرامي