الفقه-الإسلامي

من هو الفقیه الشهيد الذي صان الفقه الإسلامي في عصر أفول الحضارة الإسلامية؟

يرى الشيخ الدكتور جعفر المهاجر في الفصل السابع من كتابه “الشهيد الأول محمد بن مكي الجزّيني .. عصره، سيرته، أعماله وما مكث منها ” أن الشهيد الأول بما فعل من تربية واعداد العشرات من الفقهاء و منحهم صلاحيّات واسعة غير مسبوقة تحت عنوان النائب العام للإمام وكذلك نشرهم في مختلف المناطق، بوصفهم وكلاء أو أعوان له وإنشاء نظام للجباية، وضمناً للصّرْف والإنفاق، يتولّاه أولئك الوكلاء، بإشراف شيخهم، قد دفع سلطة الفقيه عملياً إلى أعلى مستوىً بلغته حتى ذلك الأوان. بعد أن اجتازت مراحل تطورها النظري البحت، على شئ من الاستحياء، في” الحلّة”.

خاص الاجتهاد: منذ العام 260هـ/ 873 م، عام وفاة آخِر السفراء الأربعة للإمام المهدي عجل الله فرجه، كان الفكر السياسي للتشيع الإمامي مُحاصراً في المسافة المُستحيلة بين سُلطة الإمام والسلطة الغصبية. أي أن أي سلطة شرعية، حتى في أهون الأمور، في ظل غياب إمام العصر، كانت في حال عطالةٍ كاملة. بحيث أن كل من يتصدى أو يتولى سلطة فهو غاصب لحق شخصي للإمام . وعلى ذلك بُنيت مجموعة من الأحكام .

منها مثلاً ما عن الشيخ الطوسي (ت: 460هـ 1067م) وهو رائد الاتجاه الفقهي الاجتهادي، حيث رجّحَ الحكم بحفظ أخماس المكاسب إلى حين ظهور الإمام الغائب. بوصاية المكلف بها إلى مَن يثق به من أخوانه المؤمنين أو دفنها في الأرض. وحصَرَ إقامة الحدود والتعزيرات بالإمام أو الوالي من قِبَله (1) . وما تلك الفتاوى وأمثالها إلا إمارة من إمارات ثقافة الترقّب والانتظار. التي بسطت سلطانها على كامل الفكر السياسي والاجتماعي الإمامي في ذلك الأوان ، بل ولعدة قرون من بعد.

أول محاولة لاختراق تلك المسافة التي وصفناها بأنها ” مستحيلة “، والتأسيس لسُلطة ليس على رأسها الإمام المعصوم ، هي ما نجده لدى رائد الاتجاه العقلي في التفكير الفقهي، وأول فقيه كبير انجبته ” الحلّة “، حيث تلقّى الشهيد فيما بعد. ذلك هو محمد بن إدريس الحلي (ت : 598 هـ / 1200 م ) .

والحقيقة التي يكتشفها المتمعن في الفكر الفقهي لابن إدريس، أن مُوجّه تفكيره في هذا النطاق، هو قضيّة تأسيس شكلي ونمط من سلطة فعلية، تؤدي غاية الشريعة، أي تحول دون استمرار التعطيل، دون أن تتضارب مع المبدأ الرئيس الذي هو سُلطة الإمام الغائب. وفي هذا السبيل وضع بدايات فكرة ما غُرف فيما بعد بـ (النائب العام) للإمام (2)، في مقابل النائب الخاص المنصوب منه شخصياً .

هكذا شق ابن إدريس، المؤسس الأكبر لمدرسة ” الحلة ” ومنهجها الأصولي العقلي، الطريق اللاحب أمام سلطة الفقيه. بحيث أصبحت سالكةً أمام أخلافه من فقهاء “الحلة “. وهو تطوّر ظل ثابتاً من بعده. بحيث يمكن أن نعتبره إحدى السمات البارزة لمدرستها ومنهجها الأصولي العقلي .

من ذلك أننا نجد في كتاب (شرائع الإسلام) لأبي القاسم جعفر بن الحسن بن سعيد الهُذلي الحلّي (ت: 676 هـ 1277 م ) إشارة تدل على نُضج مُصطلح جديد. نقرأها في عبارة ذات وِقع غير مسبوق، هي ( إمام الأصل) (3) التي تسمحُ لنا أن نتصوّر أن في ذهن الكاتب مُصطلح ثانٍ موازٍ ، اقتضى التقييد في العبارة، هو (إمام الفرع)، أي الفقيه. الذي منحه الحق في أن يتولّی صرف سهم الإمام من الأخماس (4). وهي المسألة التي رأينا فيها ابن إدريس ومَن قبله يتوقف فيها عند قول السلف .

المغزى الأساسي الذي نخرج به من هذا التتبع، الذي لم يقف إلا على المحطّات الرئيسة منه، هو أن التأمل والاجتهاد في الموضوع لم يتوقف منذ ابن إدريس. وإن يكُن يدلّ أيضاً على أن التطوّر بطئٌ جداً . وذلك بحكم حاجة المؤسسة الفقهية إلى هضْم وتمثّل ما أدخله من تجديد جذري على موقعها ووظيفتها في مجتمعها .

أفضنا في الحديث على هذا، مع أنه خارج عمود البحث، لنُتيح للقارئ الحصيف أن يُقارن بين المستوى الذي كان عليه العمل الاجتهادي في هذا الشأن في ” الحلة ” ، وبين البَون الذي دفعه إليه الشهيد في ” جبل عامل “.

ولقد قلنا ما رأينا أنه يجب أن يُقال على نهج الشهيد في العمل، ومن ضمنه الإعداد الفكروي، في القسمين الخامس والسادس من الفصل الرابع، تحت عنوان (في سُوح العمل، الإعداد الفكروي) و (أعمال الشهيد تؤتي ثمارها). وها نحن نلخص النتائج التي وصلنا إليها هناك، مع إضافة بعض الملاحظات التي تبدو لنا ضرورية – معونةً للقارئ على ربط الأشياء بمآلها :

– تربية واعداد العشرات من الفقهاء .

– منحهم صلاحيّات واسعة غير مسبوقة . تحت عنوان النائب العام للإمام .

– نشرهم في مختلف المناطق ، بوصفهم وكلاء أو أعوان للشهيد .

– إنشاء نظام للجباية ، وضمناً للصّرْف والإنفاق ، يتولّاه أولئك الوكلاء ، بإشراف شيخهم.

هذا، بمجمله، يعني أمرين اثنين :

– الأول : إنشاء سلطة موازية للسلطة السياسية الفعلية .
– الثاني : استعادة وتأصيل التجارب السياسية التي عمل عليها الأئمة عليهم السلام منذ الإمام الكاظم ( 148. 183 هـ/ 765 / 799 م). وتابعها من بعدهم السُفراء الأربعة للإمام الغائب .

هذا النهج أدى لأول مرّة، منذ انتهاء فترة الحضور العلني للأئمة “عليهم السلام”، إلى تحريك الكتلة الشيعية المحليّة، الكبيرة ولكن أيضاً الخامدة، إلى موقع سیاسي فاعل . قامت بعمل اعتراضي واسع على سياسة السُلطة التركمانية المحلية، المدعومة من السلطة الإقليمية في”دمشق”. وكان حِراكها السياسي من القوة والاتساع، بحيث أن تلك السلطة بشقيها لم تملك إزاءه أكثر من إذاعة توقيع مملؤ بالتهديد والوعد. دونما ذكرٍ لأي إجراء عملي في المقابل .

أعتقد أن القارئ الذي وعى قلبه ما قلناه منذ أن بدأنا ما نحن فيه، ليس بكبير حاجة الآن إلى دليل على حجم الخطوة العمليّة الواسعة ، التي خطاها الشهيد باتجاه فقه سیاسي فاعل . حقٌ أنه استقى الفكرة، ولا ريب، من منبعها . أي من الحلة “، حيث أقام زهاء السبع سنوات يدرس ويُدرّس ويُصنّف .

ومن المرجح أن فكرة أو مبدأ سلطة الفقيه، أو حل مُشكلة مفهوم الشرعية في غياب الإمام ، ظل يتقدم ويزداد نُضجاً ، بالقياس إلى ما عرفناه عنه أيام ابن إدريس والمحقق الحلي، أي قبل زُهاء القرن من الزمان (والمسألة على كل حال تحتاج إلى مَزيد بحث وتنقيب). نقول كل هذا ليعرف القارئ السبيل الذي سلكته الأفكار الجديدة، وأن نُفسّر جهوزها للتنفيذ والإعمال على يد الشهيد.

مهما يكن ، فإن من المؤكد أن الشهيد بما فعل، قد دفع سلطة الفقيه عملياً إلى أعلى مستوىً بلغته حتى ذلك الأوان. بعد أن اجتازت مراحل تطورها النظري البحت، على شئ من الاستحياء، في” الحلّة”. وهذه نقلة نوعيّة ذات خطر، تابعها التشيّعُ الإمامي فيما بعد بكامل الاهتمام ، في “جبل عامل” و في “إيران” وغيرهما من مواطن الشيعة الإمامية، إلى أن وصل بها إلى ما عُرف فيما بعد بـ ( ولاية الفقيه ) .

وندعو القارئ الراغب في متابعة البحث إلى قراءة كتابنا (الهجرة العامليّة إلى إيران في العصر الصفوي . أسبابها التاريخية ونتائجها الثقافية والسياسية) (5).

الهوامش

(1) النهاية في مُجرّد الفقه والفتاوى ، ط. بیروت 1390هـ/ 1970 م / 200 و691 على التوالي.
(2) يُسمّيه ” القائم بإذنه في ذلك ” يعني في إقامة الحدود. انظر كتابه: السرائر، ط . إيران ، طبعة حجريّة ، لات ، باب (في إقامة الحدود) / 161 . واقرأ أبواب (في الخمس)/ 115، و(في الحكم بين الناس) / 161 و ( في تنفيذ الأحكام ) / 469 و (في الحكم في الحدود) / 471 وانظر دراستنا عليه في مقالتنا ( عالم الدين الإيراني ودوره في مجتمعه ) المنشورة في فصلية ( شؤون الأوسط ) الصادرة في بيروت ، العدد 103 ، صيف 2000 م.
(3) شرائع الإسلام في معرفة الحلال والحرام ، ط. بيروت 1409ه/ 1988 :3/ 278 .
(4) نفسه : 1 / 515.
(5) ط . بيروت ، دار الروضة 1410هـ / 1989م .

الكتاب : الشهيد الأول محمد بن مكي الجزّيني .. عصره ، سيرته ، أعماله وما مكث منها.

المؤلف : الشيخ الدكتور جعفر المهاجر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky