الاجتهاد: واحدة من الشواهد على علم الإمام جعفر الصادق علیه السلام باللغات الأجبية، فقد نقل أنه ذات يوم دخل عليه قوم من أهل خراسان، فقال ابتداءً من غير مسألة: “من جمع مالاً من مهاوش أذهبه الله في نهابر” فقالوا: “جعلنا فداك، لا نفهم هذا الكلام فقال (ع): “أزباد آید بدم بشود، أي ما تأتي به الريح يذهب به”. وفي خبر آخر شبيه بالأول، أنه دخل على “أبي عبد الله (ع)” قوم من أهل خراسان فقال (ع) ابتداء من جمع مالاً يحرسه، عذّبه الله على مقداره. فقالوا بالفارسية: “لا نفهم العربية” فقال لهم (ع): “هرکه درم اندوزد جزایش دوزخ باشد”.
على الرغم من كون الإمام هو الامتداد الحقيقي لتعاليم جده رسول الله صلی الله علیه و سلم في أحكام الكتاب بحلاله وحرامه وسائر علومه، وأنّ صفة الفقاهة كانت أكثر التصاقاً بشخصيته من سائر الصّفات العلميّة الأخرى، إلا أنّه كان ملمّا وعالماً بالعلوم الفلسفية والكلامية، وعلم التفسير، والعلوم الطبيعية والفيزيائية والكيميائيّة، وعلم الطب واللغات وغير ذلك.
“وقد روي عنه في كل علم وفن كما تشهد به كتب الشيعة (۱). بل إن الإمام علیه السلام على رأي الإمامية، يجب أن يكون أعلم الناس في كل علم وفنّ ولسان ولغة.(۲).
ففي علم الفلسفة والكلام، تعرّض الإمام الصادق (ع) إلى أمهات المسائل، مثل “أنّ حقيقة الشيء بصورته لا بمادّته”، فهذه المسألة لم تبحث إلا على لسان الإمام (ع)، ولها ارتباط بالمعاد الجسماني، والصور يقصد منها “ما به يكون الشيء هو بالفعل”، أي أن شيئيّة الشيء بصورته لا بمادته، وأنّ لكل شيء صورة واحدة، والصور المنطوية فيه من توابعها وفروعها، ولا يجوز أن تكون له صور متعددة في الخارج، لما عرفته من أن الصورة تمام حقيقة الشيء وفعليّة ذاته. وأن ارتفاعها عن نشأتها المخلوطة في قطعة من الزمان لا يوجب ارتفاعها عن حاق الواقع وحقيقة نفس الأمر. والنتيجة أن الصورة – الصورة الجسمانية – ستعود بعد فنائها إلى ما كانت عليه قبل ذلك(۳).
ومن الروايات التي يمكن أن تساق لهذا المطلب ما روي عن “هشام بن الحكم” حينما جاء إلى الإمام الصادق (ع ) وقال له: “يا ابن رسول الله أتاني “عبد الله الديصاني” بمسألة ليس المعول فيها إلا على الله وعليك، فقال له “أبو عبد الله” (ع ): عن ماذا سألك؟ فقال: قال لي: كيت وكيت، (۴) فقال “أبو عبد الله”(ع): یا هشام كم حواسك؟
قال خمس قال: أيها أصغر؟ قال الناظر قال: وكم قدر الناظر؟ قال: مثل العدسة أو أقل منها، فقال له: يا هشام، فانظر أمامك وفوقك وأخبرني بما تری، فقال: أری سماءً وأرضاً ودوراً وقصوراً وبراري وجبالاً وأنهاراً. فقال له “أبو عبد الله (ع)”: “إن الذي قدر أن يدخل الذي تراه العدسة أو أقل منها، قادر أن يدخل الدنيا كلها البيضة، لا تصغر الدنيا ولا تكبر البيضة ، فأكب هشام عليه وقبّل يديه ورأسه ورجليه وقال: حسبي يا ابن رسول الله، وانصرف إلى منزله”(۷)
ومحل الشاهد أن المراد من الكبير الثابت على حدّه من الحقيقة صورته المحسوسة ذات المقدار الكبير، ومن غير مادته ذات المقدار الصغير، وبذلك يتم المطلوب من أن الصورة في الشيء تمام حقیقته. و”هذا ما اتفق عليه جميع الملّيين وهو من ضروريات الدين ومنکره خارج من عداد المسلمين، والآيات الكريمة على ذلك ناصّة لا يعقل تأويلها، والأخبار فيه متواترة لا يمكن ردّها ولا الطعن فيها”(۸) ولا يخفى على العالمين بهذا الفن، أن هناك خلافاً في مسألة المعاد، فهل هو جسماني أم روحاني، فنحن ذهبنا إلى ما قلناه في البداية إلى أن المعاد جسماني.
ومن تلك المسائل الفلسفيّة والكلاميّة مسألة “الجبر والتفويض” رواها الكليني عن المفضل” عن “أبي عبد الله الصادق (ع)”: “لا جبر ولا تفویض ولكن أمر بين أمرين، قلت “ما أمر بين أمرين؟” قال ( ع): “مثل ذلك مثل رجل رأيته على معصية فنهيته فلم ينته فتركته، ففعل تلك المعصية، فليس حيث لم يقبل منك فتركته كنت أنت الذي أمرته بالمعصية” (۹).
وروي عن “محمد بن عيسى” عن “يونس” عن غير واحد عن “أبي جعفر” و “أبي عبد الله الصادق علیه السلام” قالا: “إن الله أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثم يعذبهم عليها، والله أعزّ من أن يريد أمراً فلا يكون، قال: فسئلا (ع)، هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة؟ قالا: نعم أوسع ما بين السماء والأرض” (۱۰).
هذه المسألة من المعضلات الكلاميّة والفلسفيّة التي انقسم المتكلّمون حولها وهي من أمّهات المسائل الاعتقادية، حيث ذهب شيخ الأشاعرة(۱۱) أبو الحسن الأشعري إلى القول إنّه لا خالق إلا الله، وإن أعمال العبد مخلوقة لله مقدرة كما قال تعالى: [واللّه خلقكم وما تعملون] (۱۲) ، و”أن العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئاً وهم يخلقونه”(۱۳).
وقال الجرجاني: إن أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله سبحانه وحدها وليس لقدرتهم تأثير فيها، والله سبحانه أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة واختياراً (۱۴). وقالت المعتزلة: “إن الله فوض الأمر إلى عباده، فالأشاعرة سلبت الإرادة والاختيار عن المكلّف ونسبت جميع أفعاله إلى الله تعالى، و”الله أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب”، كما في تعبير الإمام عليه السلام. والمعتزلة جرّدت الخالق تبارك وتعالى من إرادته وعطّلت قدرته، وهذا ما أشار إليه الإمام (ع) بقوله: “والله أعز من أن یرید أمراً فلا يكون (۱۵)
بين هذين المذهبين، الجبر والتفويض اللذين نسب الأول منهما الظلم إلى الله (تعالى عن ذلك علواً كبيراً) ونسب الثاني إليه تعالى العجز، جاء موقف الإمام الصادق (ع) ليضع المسألة في موضعها، فلا ينسب الظلم إلى المولى، بنسبة فعل القبيح إليه، ولا يسلب عنه القدرة والاختيار، فكان أمراً ما بين أمرين.
وهذا الموقف من الإمام (ع) وبهذا التوضيح لم يسبقه عليه أحد. وقد كان حلاً متوافقاً مع العدل الإلهي وفطرة الإنسان. ومضافاً إلى ما قدّمه (ع) من قواعد کلاميّة وفلسفيّة في ما رواه “المفضّل بن عمر” عن الإمام (ع) في “توحيده”، فقد كان (ع) يدرّس علم الكلام وله مناظرات باهرة مع أرباب المعتزلة والمتكلّمين من الشاميين والزنادقة(۱۶).
وإلى جانب هذه العلوم الشريفة، كان (ع) معلّماً أو حدّياً في تفسير الكتاب وعلومه، وقد ظهر ذلك من خلال العمليّة الاستنباطية للأحكام الشرعيّة من القرآن الكريم، وكفي دلالة على ذلك، ما مرّ معنا سابقاً من تأكيده على أنه ما من شيء إلا وله حكم في كتاب الله، وما سنراه من نبذه وتحريمه للطرق الاستنباطية غير المشروعة كالقياس المحرّم، – لقدرته التامّة على أخذ الأحكام من الكتاب والسنّة وعدم الحاجة في اللجوء إلى أي طريق آخر – لا يؤكّد على عدم توافق ذلك مع منهجه التربوي الفقهي والعلمي.
وفي العلوم الطبيعيّة، الفيزيائيّة والكيمائيّة وغيرها، نجده عملاقاً جهبذاً من جهابذة هذه العلوم، حيث كان له فضل كبير في اكتشاف العديد من النظريات العلميّة التي سبقت الاكتشافات العلميّة بمئات السنين. لذا، ينبغي التدقيق والتحقيق في ما قدّمه الإمام الصادق (ع) من خدمات و اکتشافات أوليّة على هذا المستوى قبل أن تنسب إلى هذا العالم الغربي أو ذاك، ولإيضاح هذه الفكرة سنطرح بعض النماذج للدلالة على صحّة هذه الدعوى.
اشتهر العالم الإنجليزي “جوزيف بریستليJoseph priestley) (17) ) في تاريخ الكيمياء بأنه أول من اكتشف الأوكسجين،(۱٨) وإن كان لم يهتد إلى تعریف خصائصه وتركيبه. فلما جاء العالم الفرنسي “لافوازييه” (Lavoisier)(١٩)، هداه البحث إلى خصائص هذا الغاز وصفاته.
والحقيقة التاريخية نقول إنّ “جعفر الصادق (ع)” هو أول من اهتدى إلى “الأوكسجين” أو “مولد الحموضة”، وأغلب الظن أنّه اهتدى إليه وهو ما زال في مدرسة أبيه الباقر (ع).
ولما شرع بعد ذلك في إلقاء دروسه المتّصلة في حلقاته، أعمل فكره، وانتهى إلى أنّ الهواء ليس عنصراً بسيطاً بل هو مركب من عناصر مختلفة.
وتجدر الإشارة هنا، إلى أن جعفرة الصادق (ع) لم يطلق على الأوكسجين اسم “مولد الحموضة”، ولكنه سبق غيره في الإشارة إلى أنّ الهواء هو مزيج من عناصر شتی سيساعد بعضها على تنفس الكائنات الحية كما يساعد على الاحتراق”(٢٠). ومضى الصادق (ع) في سبيله، فتوصّل إلى أن محتويات الهواء لو جزّئت، لكان من فعلها النفاد في الأجسام وتذويب الحديد.
إذا، فقد كان جعفر الصادق (ع) سابقاً بألف سنة على “بريستلي” و “لافوازييه” في اكتشاف الأوكسجين، وإن كان لم يطلق عليه اسم الأوكسجين، ولا اسم مولد الحموضة كما ذكرنا آنفاً.
ثم إن “لافوازييه” الذي عيّن خصائص الأوكسجين، لم يوفّق إلى تجربة ذوبان الحديد بفعل الأوكسجين، وهي التجربة التي اضطلع بها “جعفر الصادق” (ع) قبله بألف عام.
وقد برهن العلم الحديث على أنه متى حمّي الحديد بالنار إلى درجة الاحمرار، ثم وضع في أوكسجين خالص، اشتعل وانبعثت منه شعلة مضيئة شبيهة بالفتيل الذي كان يغمس في الزيت في المصابيح القديمة.
هذه هي النظرية التي يستند إليها في صنع المصابيح الكهربائيّة الحديثة التي تضيء مناطق شاسعة في الليالي الظلماء، وتظل مضيئة بصورة مستمرة ما دام الحديد فيها مشتعلاً بفعل الأوكسجين المحبوس داخل المصباح.(٢١)
وقد جاء في رواية أن الإمام محمد الباقر (ع) قال: “إن الماء الذي يطفئ النار يستطيع أن يوقدها بفضل العلم”(٢٢) ، فحسب البعض أنّ هذا القول ملقى على عواهنه، ولكن في الحقيقة أن الذي تحقّق، وفي عصر النهضة أظهر أن الماء يزيد النار اشتعالاً، ويولد قوة أكبر بكثير من نار الحطب.
“وهناك كلام كثير حول اكتشاف الإمام (ع) لنظريّة الضوء القائلة بأنّ الضوء ينعكس من الأجسام على صفحة العين البشرية، أمّا الأجسام البعيدة فلا ينعكس منها إلا جزء صغير من الضوء، ولهذا تتعذّر رؤيتها بالوضوح الكافی “(٢٣).
وبحسب تتبّع بعض العلماء اعتبر أن نتيجة اتصال العالم الأوروبي بالعالم الشرقي أدى إلى انتقال الكثير من النظريات العلمية إلى الغرب والاستفادة منها، ومن ضمن هذه النظريات، نظرية الضوء التي اهتم بها “روجر بيكون” ( Roger Bacon)،(۲۴) حيث جاءت نظريته مطابقة لقول الإمام الصادق (ع).
ثم جاء “ليبرشي” (Leppershey)”(٢۵) ليطور هذه النظرية عام (۱٦۰۸)، واخترع المجهر، وقد استعان “غاليليو” (Galileo)”(٢۶) بهذا المجهر في اختراع المرقب الفلكي عام (۱٦۱۰م). وقد كان “لغاليليو” فضل في بث روح جديدة في الحركة العلمية، وأعطاها دفعة قويّة بإثباته حركة السيارات حول الشمس بالرؤية والعيان، وهذا ما كان قد أثبته الإمام الصادق (ع) الذي كان له علم عمیق في علم الهيئة والفلك، وبنظرية الضوء التي تحدّث عنها وفتحت الطريق أمام الباحثين، حتى انتهت بهم إلى صنع المنظار الفلكي ورصد الأجرام السماوية.
وكذلك نلاحظ أن للإمام (ع) مقالات أو کلاماً في صنعة الكيمياء، وإن تلميذه “جابر بن حیان” ألّف كتاباً يشتمل على “ألف” ورقة تتضمّن رسائل “جعفر” و مجموعها خمسمائة رسالة.
وبهذا الصدد، قال أحد العلماء الغربيين “هولمیارد”: إن جابراً هو تلميذ “جعفر الصادق” أو صديقه، ويجب أن يقرن اسم جابر مع أساطين هذا الفن مثل “بوبله” و “بریستلي” وغيرهما.(۲۷) إلا أن “روسکا” استغرب أن يكون الإمام الصادق (ع) عالماً كيميائيّاً وهو في المدينة (۲۸).
وكذلك لم يكن علمه خالياً من معرفته بالكثير من اللغات الأجنبية، وهذا دليل إضافي على سعة علمه وانفتاحه على الثقافات والمعارف الأخرى.(۲۹)
فقد نقل أرباب السّير أنه كان يعلم بلغة السريانيّة والنبطيّة، والصقليّة، والفارسيّة، والعبريّة وغيرها.
واحدة من تلك الشواهد على علمه بهذه اللغات، فقد نقل أنه ذات يوم دخل عليه قوم من أهل خراسان، فقال ابتداءً من غير مسألة: “من جمع مالاً من مهاوش أذهبه الله في نهابر” فقالوا: “جعلنا فداك، لا نفهم هذا الكلام فقال (ع): “أزباد آید بدم بشود، أي ما تأتي به الريح يذهب به”(۳۰).
وفي خبر آخر شبيه بالأول، أنه دخل على “أبي عبد الله (ع)” قوم من أهل خراسان فقال (ع) ابتداء من جمع مالاً يحرسه، عذّبه الله على مقداره. فقالوا بالفارسية: “لا نفهم العربية” فقال لهم (ع): “هرکه درم اندوزد جزایش دوزخ باشد “(۳۱)،
ومما ورد في الأخبار عن علمه بالعبرية. عن “عامر بن علي الجامعي” قال: قلت لأبي عبد الله (ع) جعلت فداك، إنا نأكل ذبائح أهل الكتاب، ولا ندري أيسمّون عليها أم لا؟ فقال: إذا سمعتموهم قد سمّوا، فكلوا، أتدري ما يقولون على ذبائحهم، فقلت: لا، فقرأ، كأنه شبه يهودي، ثم قال: بهذا أمروا، فقلت: جعلت فداك، إن رأيت أن نكتبها. قال: اكتب “نوح أبوا أدينوا يلهيز مالحوا عالم أشرسوا أو رصوبنوا (یوسعه) موسق ذعال اسطحوا”.
وفي حديث آخر جاء النص كالآتي: “باروح أنا أدوناي إيلوهنوا ملخ عولام اشرفدشنوا عبسوتا وسینوانوا على هشخيطا. يعني تبارکت أنت الله إلهنا مالك العالمين الذي قدسنا بأوامره، وأمرنا على الذبح “(۳۲).
وهناك شواهد أخرى تدل أيضا على أنه كان عالما باللغات الأخرى كالنبطيّة والسريانيّة: وهذه المسألة من الأمور الملفتة في شخصية الإمام الصادق (ع) حيث تميّز (ع) بمواهبه الملهمة وقدرته المعرفية على فهم لغات أجنبية أخرى غير العربية، ودأبه دأب الأئمة كافة حيث خصهم الله تعالی بالعلم اللّدني الذي فتح لهم من أبواب العلم ما لا يعدّ ولا يحصى، والتي منها معرفتهم بجميع اللغات، بل ورد أنهم يعلمون لغة الحيوانات والعجماوات(۳۳).
وإذا أردنا أن نوسّع من البحث عن مزايا شخصية الإمام العلميّة وتنوّع علومها لرأينا أنّ هناك جوانب علميّة كثيرة جديرة بالدراسة على نحو مستقل، بخاصّة أننا نجد اليوم أنّ ثمّة ادّعاءات كثيرة حول اكتشاف العديد من النظريّات العلميّة على يد علماء المدرسة الغربية، وقد تكون في الواقع مكتشفة من ذي قبل وقاموا بتطويرها والبناء عليها.
وقد اكتفينا بهذه النماذج للتدليل على موسوعية الإمام العلميّة.
ومن جانب آخر، وفي خضم هذا التنوع العلمي والثقافي، برز علم الإمام (ع) في الحقل الطبي، فقد كان، ومن خلال علاقاته التربويّة والاجتماعية بأصحابه وكافّة محيطه، يظهر رعايته لهم بالسؤال عن صحتهم البدنيّة والنفسيّة، حتى أنه كان أحياناً يتأمّل في وجوههم وألوان أبدانهم الشاحبة، ويسألهم عن تغير حالهم، فيعطيهم العلاج الطبي المناسب لكل حالة على حدة.
وبالنظر إلى مجموع ما روي عنه في العلاجات الطبية الروحانية أو المادية، ومقالاته الكثيرة حول تركيبة بدن الإنسان، بأدق التوصيفات العلمية، يكشف عن مهارته العالية في هذا الحقل.
ومن أهم المستندات التي وصلت إلينا في هذا المجال، إملاءاته على “المفضل بن عمر”، حيث قال له الإمام (ع) في مقدمة كلامه: “يا مفضّل لألقين عليك من حكمة الباري (جل وعلا وتقدس اسمه) في خلق العالم، والسبّاع، والبهائم، والطير، والهوام، وكلّ ذي روح من الأنعام والنبات والشجرة المثمرة، وغير ذات الثمر، والحبوب والبقول، المأكول من ذلك وغير المأكول”(۳۴).
ففي ما يتعلّق بالإنسان فقد تحدّث(ع) عن بدء خلقه وتكوينه في عالم الأجنّة، وتكلّم على أعضاء البدن والدورة الدموية، والحواس الخمس، وكيف أنّ الإنسان يرى ويسمع، ثم توقف عند دماغ الإنسان وجمجمته، وهكذا حتى عدد بقية أعضاء البدن الداخلية، مع تفصيل دقيق لعمل كل عضو من هذه الأعضاء، ولم يفته أن يفصّل في قوى الإنسان الأربع: الجاذبة، والماسكة، والهاضمة، والدافعة.(۳۵)
وفي مجال مداواة ما يطرأ على هذه الأعضاء من أمراض وأدواء، فقد امتلأت بطون الكتب الروائية – كالكافي “للشيخ الكليني”، والوسائل “للحر العاملي”، وغيرها من أمهات الكتب التي سنتعرض لها في سياق حديثنا عن تأسيس علم الحديث – بالحديث عن كيفيّة علاجها، سواء أكان عن طريق مركّبات الأغذية، أو الأشربة المخصوصة لكلّ حالة من حالات الأمراض، ولأهمية هذه المادة الطبية فقد جمعها منذ القدم – العديد من علماء الإمامية تحت عناوین مختلفة ك “طب الإمام الصادق (ع)”، أو “طب الأئمة” (ع)، أو “الآداب الطبية في الإسلام”.
وبخصوص ما ورد عن الإمام الصادق (ع ) من المسائل الطبية، فقد جمعها “السيد القزويني” في موسوعته التي ذكرناها في مقدمة بحثنا، في المجلد الثامن عشر.
ومضافاً إلى هذه الطرق العلاجيّة الحسيّة، فقد روي عن الإمام (ع) الكثير من العلاجات الروحانية كالتداوي بآيات الكتاب أو بالأدعية المناسبة لكل حالة، وكان يرشد أصحابه إلى ذلك ويقول لهم “جربوا ولا تشكوا”(۳۶)، لأن طبيعة الإنسان تميل إلى اليقين من جدوی استعمال الدواء الحسي أكثر من الطرق المعنويّة والروحيّة، وهذا يعدّ نقصاً في اعتقادات الإنسان، فقلّة التجربة في هذا المجال يضعّف من إيمانه واعتقاده بمدى فاعليتها ومنفعتها، ولذا تركّزت تربية الإمام (ع) لأصحابه على الأمرين معاً لأنهما – بنظره – يؤدّيان إلى نتيجة واحدة وهي الشفاء.
وفي الواقع، قلّما نجد شخصاً يجمع بين هذين العلمين في الطب، ولم يعهده البشر إلّا في سير الأنبياء والأوصياء.
هذا كله يدل على سعة علم الإمام وإطلاعه، ويدرك معه الباحث أنّ الألقاب التي أطلقت على مؤسسي الفلسفة ك”أرسطو” و “سقراط” و “أفلاطون” ليست منحصرة فيهم إنّما كان الزمن على موعد جديد مع معلم كبير، برز في العلوم كافة وهو شخصية حريّة بالبحث وإعطاء حقّها أكثر مما بذله الباحثون لمعرفة ذلك.
الهوامش
(۱) ابن کثیر، البداية والنهاية، ط۱، بیروت، دار إحياء التراث العربي، ۱۴۰۸ه، ۱۹۸۷م، ۶۰/۱۱.
(۲) راجع: حيدر، أسد، الإمام الصادق والمذاهب الأربعة، مرجع سابق، ۷۶/۳.
(٣) مغنية، محمد جواد، الشيعة في الميزان، ط۴، بیروت، دار التعارف للمطبوعات، ۱۳۹۸ه، ۱۹۷۹م، ص ۱۰۸.
(۴) الطهراني، محمد حسین، معرفة الإمام، ط۱، بیروت، دار المحجة البيضاء ، ۱۴۲۴ه، ۲۰۰۴م، ۷۹/۱۸.
(۵) الجزائري، محمود جواد، فلسفة الإمام الصادق(ع)، ط۴، بیروت، ۱۴۰۶ه ۱۹۸۶م، ص۳۷ -۳۹.
(۶) وردت الرواية بهذه الكيفية والتزمنا بنقلها كما هي.
(۷) الكليني، محمد، أصول الكافي، مصدر سابق، ۱ /۷۹.
(۸) المجلسی، بحار الأنوار، مصدر سابق، ۴۷/۷.
(۹) الكليني، محمد، أصول الكافي، مصدر سابق، ۱۶۰/۱.
(۱۰) المصدر نفسه، ۱ /۱۵۹.
(۱۱) أبو الحسن الأشعري، الإبانة عن أصول الديانة، ص ۲۰.
(۱۲) الصافات ، ۹۶.
(۱۳) السبحاني، جعفر، الإلهيات، ۲۶۸/۲.
(۱۴) الجرجاني، شرح المواقف، ۱۴۶/۸. نقلا عن كتاب الإلهيات للسبحاني، مرجع سابق، ۲۶۸/۲. وقد عنونت هذه المسألة في الكتب القديمة باسم خلق الأعمال، وبحثها المتأخرون تحت عنوان أن الله قادر على كل المقدرات، وأن أفعال الله الاختبارية راقية بقدرة الله سبحانه وتعالى وحدها، إنظر: الجرجاني، شرح المواقف، ۱۴۵/۸.
(۱۵) المصدر نفسه، الموضع نفسه.
(۱۶) المرعشي النجفي، شرح إحقاق الحق، مرجع سابق، ۵۱۵/۲۸.
(۱۷) عالم و فیلسوف بريطاني، (۱۱۵۵ه ۱۲۰۸ه – ۱۷۴۳م، ۱۷۹۴م)، بنسب إليه إليه أول من اكتشف الأوكسجين.
(۱۸) والأوكسجين لفظة يونانية مركبة من مقطعين، يعني أولهما الحموضة، ويعني الثاني المولد، أي
أن الأوكسجين مولد الحموضة ، وإلى بريستلي یعزي اختبار هذا الاسم للغاز، برغم أن المدلول العلمي له كان مستعملاً فعلاً.
(١٩) عالم فرنسي، (۱۱٤۵ه ۱۲۱۸ه. ۱۷۳۳م، ۱۸۰٤م)، اهتم باحتراق الفلزات، اخترع مسعراً ثلجياً لقياس الحرارة الناتجة عن الاحتراق.
(٢٠) موسوعة المصطفى والعترة، مرجع سابق، ۹/ ۳۳۷؛ معرفة الإمام، مرجع سابق، ۱۸/ ۱۱۲.
(٢١) المرجع نفسه، (معرفة الإمام)، ۹/ ۲۳۸
(٢٢) المرجع نفسه، الموضع نفسه.
(٢٣) الإمام الصادق (ع)، مصدر سابق، ص۲۵۷.
(۲۴) فیلسوف وعالم إنكليزي، (۶۱۶ه، ۶۹۰ه، ۱۲۲۰م.۱۲۹۲م) مؤسس الطريقة التجريبية في الاستدلال وأحد الباحثين الأوائل في دراسة علم البصريات.
(۲۵) عالم فيزيائي إيطالي (۹۷۱ه- ۱۰۵۱ه – ۱۵۶۴م، ۱۹۴۲م) أحد واضعي ومؤسسي الفيزياء الحديثة.
(۲۶) عالم هولندي أحد صنّاع عدسات النظارات.
(۲۷) أمين، أحمد، التكامل في الإسلام، ط۱، بیروت، دار المعرفة، ۱۴۰۴ه- ۱۹۸۴م، ۲۹۸/۵.
(۲۸) المرجع نفسه، الموضع نفسه.
(۲۹) المرجع نفسه، ۳۰۳/۵.
(۳۰) الصفار، محمد بن الحسن، بصائر الدرجات، لاط، طهران، الأعلمی، ۱۴۰۴ه – ۱۹۸۳م، ص۳۵۶.
(۳۱) الشاكري، حسین، موسوعة المصطفى والعترة، مرجع سابق، ۴۰۱/۹.
(۳۲) المرجع نفسه، الموضع نفسه. ومع كوننا استشهدنا بهذه الرواية على معرفة الإمام بألسنة الناس ولغاتهم إلا أن دلالتها غير نامة، لمعارضتها بروایات صحيحة اشترطت في المسمّي الذابح أن يكون مسلماً.
(۳۳) المفيد، محمد، الاختصاص، ط۲، بیروت، دار المفید، ۱۴۱۳ه، ۱۹۹۳م، ص ۱۳۵.
(۳۴) القزويني، محمد کاظم، موسوعة الإمام الصادق (ع)، مصدر سابق، ۳۵۲/۱۸.
(35) المصدر نفسه، ۳۵۷/۱۸- ۳۵۸.
(36) الحر العاملي، محمد بن حسن، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ۲۳۲/۶. ونص الرواية بالكامل قال (ع): ما قرأت الحمد على وجع سبعين مرة إلا سكن بإذن الله وإن شئتم فجرّبوا ولا تشكّوا؟
المصدر: كتاب : فلسفة التربية الفقهية عند الإمام الصادق “عليه السلام” الجزء الأول، الصفحة 223، للمؤلف الشيخ الدكتور محمد أحمد حجازي العاملي – دار المؤرخ العربي / بيروت