للفقيه – إسلامياً – وضع حقوقي وسياسي لا نظير له في أي مذهب أو إطار فكري غير الإسلام، خاصة على المستوى الإسلامي الشيعي الإمامي، حيث أصبح هذا الوضع من مسلمات فقه الشيعة الإمامية، لتُضفي عليه طابع القيمومة تارة، والولاية والشهادة تارة أخرى، وإن اختلفت الصيغ القانونية الشرعية، في تصويرها ومداها وسعة دائرتها.
الاجتهاد: ولم يكن تكريس هذا المضمون الحقوقي والاجتماعي في شخص الفقيه محض رغبة أو امتيازاً تاريخياً أهّل الفقيه لهذا المستوى المتقدم، وإنما هو عبارة عن موقف فكري حمل على أساسه الفقيه مسؤولية التفكير في الشأن الإسلامي والعمل في سبيله والتضحية لأجله، وافترض أن تكون همومه كبيرة كما هي هموم الإسلام، وعطاءاته متواصله كما هي عطاءات الإسلام حية ومتجددة وزاخرة.
وكلما اقترب الفقيه من مواقع الإسلام، وتجسدت فيه رؤی الإسلام، والتحمت مع روحه وعقله وأفكاره ومبادئه، كان الأقدر على تحقيق وإنجاز مهامه المفترضة، والأجدر على اكتساب حقوق المركز القانوني للفقيه.
هذه الحقيقة أدركها الشهيد الصدر مبكراً، ووعاها وعياً كاملاً قدر وعيه للإسلام وأهدافه وغاياته. كتب – الشهيد الصدر: “وقدر عظمة المسؤولية التي أناطتها الشريعة بالعلماء شددت عليهم وتوقعت فيهم سلوكاً عامراً بالتقوى والإيمان والنزاهة، نقياً من كل ألوان الاستغلال للعلم، لكي يكونوا ورثة الأنبياء حقاً (1).
وبغض النظر عن مصداقية الشهيد الصدر – كفقيه – من حيث توفره على ما افترضته الشريعة من خصائص في الفقيه فثمة مهمة أساسية تتصدر مهام الفقيه، ونعني بها المهمة العلمية التي يفترض أن يتكفل بإنجازها الفقيه في ضوء الضوابط الشرعية ومعاييرها .
وقد حدد الشهيد الصدر – فقهيا – هدف (الإنتاج الفقهي) وعملية الاجتهاد إذ يقول: “وأظن أننا متفقون على خط عريض للهدف الذي تتوخاه حركة الاجتهاد وتتأثر به، وهو تمكين المسلمين من تطبيق النظرية الإسلامية للحياة، لأن التطبيق لا يمكن أن يتحقق ما لم تحدد حركة الاجتهاد معالم النظرية وتفاصيلها”(2)، ولذلك لاحظ السيد الشهيد على الفقهاء استغراقهم في التفكير الفردي، وتقزيم الشريعة ، وتجزئة الاجتهاد وتضييقه.
وانطلاقاً من هذه الملاحظة شرع الشهيد في ملء الفراغ الذي تشكو منه المكتبة الفقهية، فكان كتابه (اقتصادنا) انعطافا كبيرا في حركة الاجتهاد والإنتاج الفقهي، وكان كتابه (البنك اللاربوي في الإسلام) تحضيرا لاستنزال الفقه إلى الشارع وإلى حياة المجتمع البشري المسلم في ظل المعطيات وتعقيدات الأوضاع الاقتصادية التي تخلف الفقه عن مواكبتها لفترة من الزمن ليست القصيرة، فيما كانت (الفتاوی الواضحة تجسيداً لهموم الفقيه المجاهد الدؤوب على الحركة، لخلق أكثر الشروط ملاءمة لانطلاقة حضارية جديدة، يتاح للإسلام فيها القيمومة على حياة الإنسان.
وفي زحمة همومه واهتماماته كفقيه تنبه إلى حجم التحديات والإشكالات التي تعيق حركة الفقه كعلم وتشريع حاكم يمارس قيمومته أو يفترض أن يمارسها، وقد حدد وفقاً لحجم هذه التحديات معالم مشروعه الثقافي في إطاره الفقهي لترشيد الذهنية الفقهية وتعميقها من جهة، وتعميم المعطيات الفقهية التي أنتجتها حركة الفقه ودورته العلمية والاجتماعية على أكبر قطاع اجتماعي، وتنمية فاعليته في الحياة .
هوامش
(1) الصدر، محمد باقر، الفتاوی الواضحة ص 93 ط دار التعارف / الثامنة/۱۹۹۲ – بيروت .
(2) – الصدر – محمد باقر، الاتجاهات المستقبلية لحركة الاجتهاد ، ( بحث) نشر في مجلى الأضواء النجفية ، راجع ( الاجتهاد و الحياة) حوار على الورق، ص 153 ، محمد الحسيني ، مركز الغدير ، ط أولى / 1996 – بيروت.
المصدر: فقهاء و مناهج – الإصدار السادس من سلسلة ( دراسات فقهية) في مركز ( ابن إدريس الحلي للدراسات الفقهية ) الطبعة الأولى 1430 – 2009م