الاحتكار: إنه حبس ما يحتاجه عامّة الناس من الأمور الضرورية، التي تقوم عليها معيشتهم، مع عدم وجود الكفاية، مطلقاً، سواء جمعه بالشراء أو بغيره، في وقت الغلاء أو الرخص، انتظر الغلاء أو لا. بقلم: الشيخ ذو الفقار عبد الرسول عواضة
الاجتهاد: تعتبر الاحتكار من أخطر المشاكل المرتبطة بحياة الناس بشكل مباشر. وقد تنبه إليها الإسلام مبكراً، ومنذ عصور متقدمة. فهناك كثيرٌ من الآفات الاجتماعية والاقتصادية التي تترتب عليه، والتي أسهب علماء الاجتماع والاقتصاد في شرحها وتفصيلها.
فابن خلدون مثلاً يشير إلى أن نفوس الناس تبقى متعلّقة بأموالهم التي بذلوها في سبيل الحصول على أقواتهم بأضعاف مضاعفة تحت وطأة الحاجة إليها من غير رضاً منهم؛ فتكون وبالاً على مَنْ يأخذها مجّاناً([1]). وهذا يخلق بطبيعة الحال الكراهية التي تعصف في النفوس؛ لأنهم ينظرون إلى المحتكرين كعونٍ للدهر عليهم، وخاصّة أنهم عادةً ما يلجأون إلى هذه الوسيلة السهلة في الأزمات الاقتصادية والحروب.
وأما علماء الاقتصاد فيؤكِّدون على أن الاحتكار يؤدّي إلى التضخم في زيادة الأسعار، بحيث تفقد السلعة قيمتها الشرائية الواقعية، مما ينعكس سلباً على قلة الإنتاج، وعدم استغلال الموارد الطبيعية بالشكل الطبيعي؛ وذلك لإحجام الكثير عن شرائها؛ نظراً لغلائها الفاحش رغم حاجتهم إليها.
وهذا داعٍ لانتشار البطالة؛ الناجم من عدم الحيلولة دون معالجة تلك الآفة، فضلاً عن انعدام عنصر المنافسة، الذي يضمن العدالة في الأسعار وزيادة العرض، ممّا يؤدي إلى الرواج وخلق فرص العمل، وبالتالي يضمن جودة السلع، وتقديمها بالشكل الأفضل، كعاملٍ دعائي وإعلامي لكسب ثقة المشتري، بخلاف ما لو انفرد المحتكر في امتلاكها، فإنه لا يسعى لذلك؛ لعلمه بأنها ستُباع في آخر المطاف.
أضِفْ إلى ذلك أنه يؤدّي إلى عدم الترشيد في الاستهلاك، وإثراء طبقةٍ على حساب أخرى، فيخلّ في التوازن الاجتماعي. ناهيك عن خلق الأزمات والفوضى، من قبيل: اندلاع الحروب، كما حدث في الحرب العالمية الثانية، حيث أصبحت الدول الكبرى تبحث عن مستعمراتٍ جديدة لها؛ بقصد السيطرة الاقتصادية، واحتكار الأسواق أمام سلعها التي باتت تعاني من الكساد.
وممّا يزيد من الخطورة اليوم تطوّر أساليب الاحتكار، لينال جميع ما تتوقّف عليه الحياة، بحيث يمكن لشركةٍ إحكام قبضتها على الأسواق، والتلاعب في مصير الناس كما تشتهي، بل يُعتبر الوسيلة الأولى التي تعتمدها الدول الكبرى لإحكام القبضة على اقتصاد وسياسة الدول الضعيفة، وفرض ثقافتها التي تريد. ومن الواضح أن الضرر لا يقتصر على الفرد والجماعة، بل يعصف بكيان الدول التي تجد نفسها المسؤولة أمام شعبها في تأمين متطلّباته.
وبما أن الإسلام تدخّل في جميع مجالات الحياة؛ بهدف تنظيمها، وحلّ جميع المعضلات، كان لا بُدَّ من تحديد رؤيته تجاه هذه الموضوعة المهمّة، والإشكالية الاقتصادية.
الاحتكار لغةً واصطلاحاً، والعلاقة بينهما
الاحتكار لغةً
قال الخليل الفراهيدي: «حكر: الحكر الظلم في التنقّص وسوء المعاشرة… والحكر: ما احتكر من الطعام ونحوه ممّا يؤكل، ومعناه الجمع، وصاحبه محتكر، ينتظر باحتباسه الغلاء»([2]). وذكر مثله الجوهري([3]).
وأضاف الفيروزآبادي: «الحكر: الظلم، وإساءة المعاشر، والسمن بالعسل يلعقهما الصبي، والقعب الصغير، والشيء القليل، وبالتحريك: ما احتكر، أي احتبس انتظاراً لغلائه… »([4]).
وقال ابن منظور: «حكر: الحكر: ادخار الطعام للتربُّص… وعن ابن سيده: الاحتكار: جمع الطعام ونحوه ممّا يؤكل، وانتظار وقت الغلاء به. وعن ابن شميل: إنهم ليتحكرون في بيعهم: يتربّصون، وإنه لحكر: لا يزال يحبس سلعته، والسوق مادة، حتّى يبيع بالكثير من شدّة احتباسه وتربّصه؛ والسوق مادة أي ملأى رجالاً وبيوعاً»([5]).
ومن خلال تشريح مجموع الكلمات المتقدّمة يظهر أن مادة «حكر» استعملت وصفاً للإنسان، ولبعض الأشياء؛ فقد استعملت في الأشياء بمعنى القلّة، كما في القعب الصغير والماء القليل والطعام والسمن بالعسل.
فالاحتكار إمساكٌ بقصد التربُّص، ولا يكون عادةً إلاّ ملازماً لصفة أخلاقية سيئة؛ وذلك لوجود علاقة جدلية بين الاحتكار باعتباره منشأً لتلك الصفة وبين المحتكر الذي يحقّق تلك العلاقة. فالمفهوم اللغوي عامّ لكل ما يحتاجه الناس، ويكون منعهم عنه والاستبداد به موجباً للظلم والتنقُّص، كما هو ظاهر كلمات الفيروزآبادي.
وأما موضوع هذه المفردة لدى أهل اللغة فلا يختصّ بالطعام أو القوت، بل يشمل كلّ ما يحتاج ويرتبط بالمعيشة من الأمور الضرورية؛ من مأكل وغيره، ممّا يترتب على حبسه ندرته وقلته الإيقاع في الحاجة والمشقة، فكل ذلك يكون مصداقاً لتلك الصفة التي سلفت. وهذا ما يستفاد من كلام الفيروزآبادي؛ حيث قال: الحكر «ما احتكر…»، فالاسم الموصول، وهو «ما»، ظاهرٌ في العموم، فيصح القول حينئذٍ بأنه لم يخصّ بجنس أو صنف معين. ويستفاد أيضاً ممّا نقله ابن منظور عن ابن شميل، حيث قال: «وإنه لحكر: لا يزال يحبس سلعته»، فالسلعة تشمل كلّ سلعة تُباع.
وكلام الأخير لا يتنافى وما ذكره الجوهري من التعقيب على تعريف احتكار الطعام بقوله: «وهو الحكرة»؛ لأن الجوهري كان في مقام بيان وتوضيح معنى احتكار الطعام بالخصوص، لا مطلق الاحتكار.
نعم، يتنافى وما ذكره ابن منظور من أن «الاحتكار جمع الطعام ونحوه مما يؤكل». ولا يصار إلى الجمع بينهما بدعوى حمله على ذكر المثال والمصداق الأبرز والأغلب للحاجة المحتكرة ذاك الزمن ـ لا أن موضوعه منحصر به دون غيره؛ لما هو المعروف من أن اللغويين ليسوا في مقام تحديد المعاني والمفاهيم الحقيقية للألفاظ، بل من المحتمل أنه لم يكن يحتكر غير الطعام في تلك الآونة؛ لكثرة الحاجة إليه، أو فقُلْ: إنهم أرادوا الممنوع منه شرعاً([6]) ـ لا يصار إليه لأنه خلاف الظاهر؛ لظهور السياق في كونه بصدد تحديد المفهوم، أو على الأقلّ لا ظهور له في شيءٍ منهما، فلم يبْقَ إلا كلام الفيروزآبادي.
فإن استفيد أن اللغوي في مقام بيان وتحديد المعنى اللغوي للفظ فحينئذٍ يتعارض ما أفاده الخليل مع ما أفاده الفيروزآبادي، حيث كان كلام الثاني ظاهراً في التعميم وكلام الخليل خاصاّ بالمأكولات، والقدر المتيقّن منهما الاحتكار في المأكولات.
لكنّنا ناقشنا في محلّه بأن اللغوي ينقل ما سمعه من الاستعمالات الأعمّ من الاستعمالات الحقيقية والمجازية، وما كان منها على نحو التحديد وعلى نحو الأعمّ الأغلب، لذا فإننا لا نقطع بأن كلام اللغوي واردٌ دائماً في مقام التحديد ليتعارض مع كلام لغوي آخر، فيكون ما ذكرناه قرينةً خارجية حاكمة على سير كلام اللغويين بشكلٍ عامّ.
فما دلّ على التعميم دلّ بظهور اللفظ على ذلك، خلافاً لما دلّ على حصره في المأكولات، فإنّه دالٌّ بمقتضى دالّين اثنين: ظهور اللفظ في أصل المأكولات؛ مضافاً لظهوره في كون المأكول على نحو التحديد. ومع تخلّينا عن الظهور في التحديد لأجل القرينة العامّة السابقة لا يعود هناك تعارضٌ في المقام؛ إذ إنّ أحد الظهورين كان في المأكول لا على نحو التحديد، بينما الآخر له ظهور في التعميم.
فخلص من مجموع كلمات اللغويين أن موضوع الاحتكار عامّ لكل ما يحتاجه الناس من السلع، وأن مفهومه قد أخذ فيه ثلاثة أمور: حبس السلعة؛ وانتظار غلاء السعر.
الاحتكار اصطلاحاً
هناك تعاريف مختلفة، من حيث السعة والضيق، بالنسبة إلى الموارد التي نُهي عن احتكارها.
فقال الشيخ الطوسي: «الاحتكار هو حبس الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن من المبيع»([7])، وفي المبسوط أضاف الملح([8]). وكذلك فعل العلاّمة([9]).
وقال الشهيد الثاني: «الاحتكار…، وهو جمع الطعام وحبسه يتربّص به الغلاء»([10]).
وعرَّّفه النراقي بأنه: «حبس الشيء انتظاراً لغلائه»([11]).
وقال النووي: «وهو أن يبتاع في وقت الغلاء ويمسكه ليزداد في ثمنه»([12]).
وعرَّفه أبو بكر الكاشاني الحنفي: «فهو أن يشتري طعاماً في مصر، ويمتنع عن بيعه، وذلك يضرّ بالناس»([13]).
وعرَّفه الشربيني الشافعي: «وهو إمساك ما اشتراه وقت الغلاء؛ ليبيعه بأكثر مما اشتراه عند اشتداد الحاجة»([14]).
ويمكن أن تقسّم هذه التعاريف إلى قسمين:
أولهما: ما كان في مقام التعرُّض للأشياء التي ثبتت حرمة احتكارها، أو كراهتها.
وثانيهما: ما كان في مقام تعريف الاحتكار، وتفسيره، والشرائط التي تصيّر الشخص محتكراً، ومخاطباً بالنهي عنه. وهي كما يلي:
القسم الأوّل: وهذا القسم يشمل عدّة تعاريف، ابتداءً من تعريف الشيخ وانتهاءً بتعريف العلامة في القواعد؛ فإنهم لم يكونوا في مقام تعريف مفهوم الاحتكار اصطلاحاً، وإنما في مقام ذكر الموارد التي ثبت لديهم النهي عن حبسها. وممّا يؤيِّد ذلك أن تلك الموارد التي ذكروها هي نفسها التي وردت في الروايات، بل يصرِّحون بسبب دخول أو خروج الموارد المختلف فيها. وهذا ينطبق على رواية غياث بن إبراهيم التي ذكرت الزيت في عداد الغلات الأربع، كما سيأتي. والدليل على ذلك أمران:
أوّلاً: إن بعضهم لم يذكر في التعريف ما هو قيدٌ في مفهوم الاحتكار موضوعاً أو حكماً، وهو الحاجة، مع أنهم يذكرونها في طيات كلماتهم. نعم، عبّر الكثير منهم عنها بالشرط تجوُّزاً([15]).
ثانياً: لا يحتمل في نظر العرف أخذ متعلّق الاحتكار في مفهوم الاحتكار، فلذا لم نجِدْ مَنْ ناقش في انطباق مفهوم الاحتكار على بعض تلك الموارد التي نوقش في حرمة احتكارها.
وقد خلصنا ممّا تقدَّم إلى أن الأجناس التي اقتصر على ذكرها أهل اللغة والفقهاء في تعريف الاحتكار ليست دخيلةً في حقيقة الاحتكار ومفهومه؛ وإنما كانوا في مقام بيان موضوع الاحتكار، باعتبارها أظهر المصاديق وأبرزها، من حيث شدة احتياج الناس إليها. فتكون حينئذٍ تعريفاً بالمثال، لا بالحدّ التامّ.
القسم الثاني: وهذا القسم يشمل سائر التعاريف المذكورة، ابتداءً من تعريف الشهيد الثاني وانتهاءً بتعريف أبي بكر الكاشاني.
فالشهيد الثاني اعتبر في تعريفه للاحتكار الجمع والطعام وتربّص الغلاء، مع أنه لا يرى الاحتكار في بعض الموارد، في حين أن الطعام يشمل غيرها أيضاً.
ويظهر من المحقّق النراقي أنه في مقام تعريف الاحتكار تعريفاً جامعاً مانعاً؛ لأنّه عبّر عن تلك الأجناس بالشيء؛ ليكون أعمّ من جميع التعاريف الأخرى، مع أنه لا يلتزم بحرمة احتكار مطلق الموارد.
ويشكل عليه: إنه لم يذكر اعتبار الاشتراء، مع أنه قد جعله شرطاً في ثبوت الحكم.
كما أن الشربيني جعل ما يجري فيه الاحتكار عامّاً؛ حيث عبَّر عنه باسم الموصول، مع أنه لا يجري في نظره إلاّ في الأقوات خاصة.
وأما النووي فقد ذكر في تعريفه الشراء وقت الغلاء، وعدم تركه للضعفاء. فإن أراد الفقراء فهذا غير تامّ؛ لأنه لا يساعد عليه الدليل؛ وإن أراد أن الناس يصبحون ضعفاء عند افتقاد الطعام فلا بأس به.
وأعمّ التعاريف تعريف الكاشاني، حيث أخذ فيه ملاك الضرر، وإنْ كان يُلاحَظ عليه أنه إذا كان الملاك في التحريم هو الضرر فلا معنى لاختصاصه بالشراء ولا بالطعام، بل لا بُدَّ من تعميمه لكلّ ما يوقع الناس في الضرر، كما هو مقتضى القاعدة.
وأفضل التعاريف وأتمّها؛ بلحاظ ما يراه الفقيه نفسه من الشرائط المعتبرة في نظره، هو ما ذكره العلاّمة في قواعده؛ فلم يَحِدْ عنها في بحثه الاستدلالي، ولا أضاف إليها شرطاً آخر.
وعليه فينبغي تعريف الاحتكار بأنه حبس ما يحتاجه عامّة الناس من الأمور الضرورية، التي تقوم عليها معيشتهم، مع عدم وجود الكفاية، مطلقاً، سواء جمعه بالشراء أو بغيره، في وقت الغلاء أو الرخص، انتظر الغلاء أو لا.
والظاهر أن العلاقة بين مفهوم الاحتكار لغة واصطلاحاً هي نسبة المساواة كما سيأتي، ممّا يعني أن الفقهاء لم يخرجوا في استعمالهم عن المعنى اللغوي، وإنما أضافوا بعض القيود.
محتویات المقالة :
مدخل: آثار الاحتكار ومضارّه
الاحتكار لغةً واصطلاحاً، والعلاقة بينهما
الاحتكار لغةً
الاحتكار اصطلاحاً
شروط الاحتكار
أـ الشراء
ب ـ حاجة الناس
ج ـ طلب الزيادة في الثمن
د ـ الحبس
هـ ـ الحدّ الزماني
التشريعات والقوانين الواردة حول الاحتكار
الحكم التكليفي للاحتكار في الجملة
النظرية الأولى: كراهية الاحتكار، قراءةٌ نقدية
استدلّ أصحاب هذه النظرية عليها بالمستندات التالية:
1ـ قاعدة السلطنة
2ـ الروايات الخاصة، تعليقات ومناقشات
3ـ الأصل العملي
النظرية الثانية: حرمة الاحتكار
وقد استند أصحاب هذه النظرية إلى مستنداتٍ متعدّدة، نقتصر على ذكر الأهمّ منها، وهي:
1ـ الروايات
الهوامش
تحميل كامل المقال
المصدر :نصوص معاصرة