العقل ومصداقية الاحكام الاسلامية

العقل ومصداقية الأحكام الاسلامية

عندما نقول بان الاحكام الاسلامية عقلانية، فهذه دلالة فضيلة لهذه الاحكام وأنها عين الصواب وأقرب الى فطرة الانسان وحاجاته في الحياة، وليست مجرد أحكام تشمل النواهي والأوامر وحسب، إنما هنالك حكم وعلل يلمسها الانسان بنفسه ويدرك فوائدها وتأثيرها على حياته. بقلم : محمد علي جواد تقي

الاجتهاد: هنالك تساؤل عن سبب رفض الاسلام للإصلاح الزراعي؟ ولماذا يرفض ايضاً إشراك العامل مع رب العمل؟ ولماذا يرفض الاسلام الاقتصاد الرأسمالي، ولماذا يرفض الاسلام الاقتصاد الاشتراكي؟

بالامكان الحصول على أجوبة شافية وكافية من منطلق العقل، وليس من المنطلق الفقه والرواية والآيات القرآنية، ولأن الاسلام دين عقلاني، فانه يرفض تلك النظريات الاقتصادية، ويقيس الأمور والاحكام بالعقل، ويقرّ بكل شيء يطابق عقل الانسان، والقرآن الكريم يؤكد هذه الحقيقة في اكثر من آية: {أفلا تتفكرون}، {أفلا تعقلون}. بيد أن مشكلة العالم الاسلامي اليوم، ان الشعوب فيه ابتليت بمنطق القوة وليست بمنطق العقل، وإلا فان الاسلام من الألف الى الياء مطابق تماماً للعقل.

كان هنالك عالمين كبيرين قبل حوالي قرن من الزمان (مئة عام)، أحدهما من أهل السنّة في الهند، وهو عبد العزيز الدهلوي، والآخر من الشيعة في ايران، وهو ملا عبد الله، هذان العالمان ألفا كتابين – علماً أن احدهما لم يرَ الآخر- وقد استدلا بعقلانية جميع الاحكام الاسلامية من ألفها الى يائها، بمعنى أن كل حكم في الاسلام له دليل عقلي مئة بالمئة، وهذا يشمل جميع نواحي الحياة، من اقتصاد واجتماع وسياسة وقضاء وجميع ما يتعلق بالانسان.
لماذا عقلانية الاحكام الاسلامية

ولماذا الربط بين العقل، وهو مما يمتلكه الانسان، وبين الاحكام النازلة من خالق الانسان؟

عندما نقول بان الاحكام الاسلامية عقلانية، فهذه دلالة فضيلة لهذه الاحكام وأنها عين الصواب وأقرب الى فطرة الانسان وحاجاته في الحياة، وليست مجرد أحكام تشمل النواهي والأوامر وحسب، إنما هنالك حكم وعلل يلمسها الانسان بنفسه ويدرك فوائدها وتأثيرها على حياته.

وفي مقطع من محاضرته الصوتية يشير سماحة الامام السيد محمد الشيرازي طاب ثراه- الى جهد علمي باهر وعظيم قام به اثنان من علماء الدين؛ احدهما من الشيعة وآخر من السنة قبل حوالي مائة عام من تاريخ المحاضرة، وهي ربما تعود الى سبعينات القرن الماضي، وجاء في المؤلف الذي اشترك العالمان في موضوعه؛ عقلانية الاحكام الاسلامية من الألف الى الياء – حسب تعبير الامام الشيرازي- مع تنويه سماحته بأن العالمين لم ير احدهما الآخر، فالعالم الشيعي كان في ايران، بينما العالم السني كان في الهند.

ان النقطة المشتركة التي انطلق منها العالمان المسلمان، المعرفة الحقيقية للعقل وفق الرؤية الاسلامية، فهو النور المودع في نفس كل انسان ليكتشف به الحقائق والاشياء، وبامكان أي انسان اكتشافه في نفسه من خلال ذاته، لا من خلال عوامل من الخارج، كما حاول الفلاسفة تعريفه طيلة قرون متمادية من الزمن – وما يزال الاصرار على ذلك بشكل غريب- فتحدثوا عن “المعلومات التي تكشف عن مجهولات جديدة”، او التجارب الحسيّة التي يقوم بها الانسان، بينما جاء القرآن الكريم بطريقة سهلة وجديدة لاكتشاف العقل بذاته لا بالاشياء الاخرى، وبمثال واحد يتبين بديهية المسألة؛ فالنور الذي يبدد الظلام، هل نحتاج الى شيء آخر لمعرفة حقيقة النور المتوهج أمامنا؟

وهذا تحديداً يفسر لنا تأكيد القرآن الكريم على العقل والاحتكام اليه بالتفكّر والتدبر، في عديد الآيات الكريمة، وفي سياق الحديث عن كشف الانسان للحقائق المعتلقة بحياته وبالوجود وبالخالق، ويرى المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي في كتابه “بحوث في القرآن الكريم “أنه كلما استثرنا العقل، كلما عرفناه أكثر، وكشفنا له –بدوره- الحقائق اكثر، وفق “طريقة العبور من المكشوف الى الكاشف، وهذه العملية تشبه عملية العبور من الآيات الى معرفة الله -سبحانه وتعالى-، و أروع مثال لهذا عملية وصول ابراهيم – قبل ان يكون نبياً- الى وحدانية الخالق ثم سُمي لدى بعض علمائنا، بـ “أبو التوحيد”، فهو استثار عقله أمام الشمس والقمر فهداه الى خالق هذين الكوكبين وخالق السموات والارض.

اكتشاف المصالح المفاسد

من الواضح أن سماحة الامام الشيرازي يُملع الى مستمعيه والينا والى الاجيال، حقيقة أن الاحكام الاسلامية الواردة في كتب الفقه في ابوابها المختلفة، ابتداءً من احكام الطهارة ثم العبادات والمعاملات وحتى القضاء والإرث والقصاص، معظمها تتضمن مصالح وتدفع مفاسد عن حياة الانسان بصريح الآية الكريمة: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}، فهذا مبدأ اساس تقوم عليه كل الاحكام والتشريعات الاسلامية، سواء كانت ثمة مصلحة للانسان فيها، او لحكمة إلهية تفوق قدرة العقل على اكتشافها.

وقد حاول البعض وضع الغربال امام هذه الحقيقة لتكون الاحكام والتشريعات بعيدة عن مبدأ المصالح والمفاسد، وحصرها في خانة الأوامر والنواهي القادمة من السماء ولا حاجة لفهم العلة والسبب، وعليه بإمكان الانسان ارتكاب أي عمل دون الخوف من العواقب المادية عليه، فضلاً عن العواقب المعنوية، مثال ذلك “شرب الخمر”، فهناك من توسّل بالمغالطة وجادل بوجود منفعة يقرها القرآن الكريم الى جانب إظهار المنفعة، ولم يصدر النهي الصريح عنه، إنما جاء التنبيه الى “الإثم” وحسب: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما اكبر من نفعهما}، (سورة ا لبقرة، 219).

ولكن؛ هل هذه الآية الوحيدة التي جاءت بخصوص شرب الخمر؟

ثمة آيات عدة نزلت في النهي عن شرب الخمر مع تبيين وجه المفسدة فيه، والانعكاسات السلبية على حياة الانسان والمجتمع، فالآية الكريمة ف سورة المائدة واضحة جداً في رصد أحد مساوئ شرب الخمر وخطورته على النسيج الاجتماعي: {إنما يريد الشيطان ان يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر}، والآية الاخرى الدالة على نفس المفسدة: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى}، (سورة النساء،43)، فوجه المفسدة هنا يتجلّى في غياب العقل واندفاع الانسان نحو اعمال لا يدرك خطورتها على نفسه والآخرين، ولسنا بوارد الحديث عن آثار هذا العمل على الجانب النفسي والذاتي للانسان وايضاً على محيط الأسرة والمجتمع وما يسببه من امتهان للكرامة وتشويه للعلاقات الاجتماعية، بيد أن المهم في هذا السياق معرفة حرص التشريع الاسلامي على حفظ مصالح الانسان وأن يعيش الحياة السعيدة بالاستفادة القصوى من عقله الموهوب من قبل الله –تعالى- .

هذه القدرة التحليلية والاستنتاجية للعقل لن تتوفر إلا بعد التجرّد من المسبقات الفكرية والتصورات الذهنية التي تدفع اليها الاهواء الغرائز والنوازع النفسية، ومن الواضح أن هذه كلها تقف ما دون قيمة العقل، ولطالما دعى القرآن الكريم الى نبذ الخرافات والتصورات التي ينسجها الآباء والأجداد بعيداً عن العقل، وحثّ الانسان على تحكيم عقله لاكتشاف الحقائق، ثم يحاجج بصورة قاطعة وصريحة أولئك المصرين على الكفر والالحاد، بأن {واذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل انتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون}؟!!

وفي الختام؛ لطالما كان الامام الشيرازي يتمنى ان يشهد اليوم الذي يدرك الناس عقلانية الاحكام الاسلامية بشكل كامل ويلمسونها بكل حواسهم ويعرفوا إن أي حكم بالتحريم او الكراهية إنما تقف خلفه حكمة عظيمة لها صلة بمصلحة الانسان، سواءً في حياته الدنيا او في حياته الآخرة، وفيما يتعلق بنفسه كفرد، او ما يتعلق بعلاقاته الاجتماعية وما يتعلق بالأمة جمعاء، ثم يدرك فيما بعد كم هي قاصرة وعاجزة، المدارس الفكرية الاخرى التي حاولت أن ترسم للانسان أطراً اقتصادية وسياسية واجتماعية لكن الزمن وتطورات الحياة وتقدم العقل البشري أثبت الكم الهائل من الثغرات واسباب الفشل فيها، لانها لم تتوافق مع عقل الانسان الذي لن يعمل إلا باتجاه الخير والصلاح.

 

المصدر: شبكة النبأ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky