الاجتهاد: أرى أن نتحرر من خطوطنا الحمراء وندخل إلى أعماق القرآن بتأمل وتفكر واستقراء واستنباط وأن نستخدم الأدوات العقلية في استخراج حقائق مكنونة واسرار وكنوز مدفونة، وأرى أن تتحد المدارس الدينية والاكاديمية في ذلك ويقوم أحدهما الآخر في الوصول إلى نتائج المجهولات التي تنفع البشرية إلى يوم القيامة. بقلم: الشيخ غسان مسلم البغدادي *
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله الذي هدانا بالقران إلى نور القران وجعله لنا كتابا وقانونا ودستورا فيه احكامنا وهدانا ومبدأنا ومعادنا فهو تبيانا لكل شيء كما قال الله تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء )(النحل 89) .
والصلاة والسلام على المبين للقران اول المفسرين لغة لمعانيه والموضح لمقاصده ومدلولاته والمؤول لمتشابهه شريك القران في هداية البشرية الذي قال الله في حقه في القران : (بالبينات والزبر وانزلنا اليك الكتاب لتبين للناس ما نزل اليهم ولعلهم يتفكرون ) (النحل 44).
وعلى علي عليه السلام اول من دون مصحفا فيه املاء الوحي للنبي صلى الله عليه واله فهو القائل : ( ما نزلت اية على رسول الله صلى الله عليه واله الا اقرأنيها واملأها علي ,فاكتبها بخطي وعلمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها ودعا الله لي ان يعلمني فهمها وحفظها فما نسيت اية من كتاب الله ولا علما املاه علي فكتبته منذ دعا لي ما دعا )(تفسير البرهان 16/1ح14) وعلى اهل بيته خزنة العلم وتراجمة الوحي .
إن القران بما انه دستورا للمسلمين وكتابهم المقدس والوحي المكتوب كان محط انظار الجميع وليس المسلمين فقط فكان للعلماء والمفكرين واصحاب الاقلام الناضجة دورا مهما في تفسيره وبيان معاني آياته اعتمادا على مناهج متعددة واتجاهات واليات مختلفة على مر العصور وهذا واضح لمن طالع التفاسير او الكتب التي كتبت عن علوم القران ولا يعني ان اختلاف التفاسير والكتب الاخرى هو مرده الى اختلاف القران , بل القران مسجم في داخله ولا خلاف فيه ولكن الخلاف في المناهج والاتجاهات وبعض الظروف الموضوعية التي اثرت على من اراد ان يفسر القران ويبين علومه .
وقد كان للمدرسة الدينية الدور الاسمى في تلك المهمة على مر التأريخ ولكن في المراحل المتأخرة المقاربة لعصرنا بدأ اصحاب المدرسة الاكاديمية ينحون منحا اخرا في تفسير القرآن اضافة لما اعتادت عليه المدرسة الدينية (التفسير الكلاسيكي ) لذلك استخدام المرتكزات العقلية والعلوم الاخرى وتوظيف مناهج ـ اضافية وأن سميت بأسماء مختلفة كالتفسير العقلي مثلا ـ لكن هي اكاديمية بطبيعة الحال وفي هذا المقال سأحاول ان اسلط الضوء على تلكما المدرستين ودورهما في خدمة القران ودورهما الفاعل في بيان وتوضيح احكامه وعلومه ومقاصده.
المبحث الاول : المدرسة الدينية :
تعريفها: هي نوع من المدارس تركز مناهج الدراسة فيها على الموضوعات الدينية بجانب العلوم الأخرى في مناهجها وهي تقابل المدرسة المدنية ومن أمثلة المدارس الدينية ومن امثلتها:
1ـ الحوزات الدينية الشيعية في العالم .
2ـ الازهر الشريف .
3ـ مدارس الديانات الاخرى .
دور المدارس الدينية في تفسير القرآن:
لوكان هذا المقال يسع لبينت تأريخ نشوء المدارس الدينية ومراحلها واماكنها وكل ما يحيط بها سواء الشيعية او السنية لكن ادخل الى صلب الموضوع للاختصار .
كان للمدارس الدينية الدور البارز في نضوج العلم وارتقاء العلوم وتأسيس النظريات العلمية وهذا واضح لمن يراجع ما اسهمت فيه تلك المدارس عموما اما فيما يخص القران وتفسيره وعلومه خصوصا كان لهم الدور البارز فيه .
فحينما نقلب في التفاسير في القرن الرابع مثلا نجد ان روادها هم علماء تلك المدارس فمثلا علي بن ابراهيم القمي صاحب تفسير القمي المشهور كان عالما من علماء مدرسة اهل البيت عليهم السلام وكذلك الحويزي وغيره واما المدارس الاخرى (للمذاهب الاخرى ) ايضا لهم دور كبير في ذلك كتفسير تفسير مجاهد لمجاهد بن جبر وجامع البيان في تفسير القرآن للطبري وغير ذلك وهذه التفاسير امتازت بالطابع النقلي والمنهج الروائي في نقل الروايات التفسيرية فمنها ما جعل الروايات التفسيرية منهجه في التفسير فقط دون اضافة اي شيء اخر كالعقل والعلوم الاخرى ومنهم من اضاف شيئا يسيرا
إقامة مؤتمر دور علم الأصول في تفسير القرآن الكريم في الذكرى الـ38 لوفاة العلامة الطباطبائي “ره”
ولتوضيح ذلك لابد من تطبيقات على بعض من تفاسير المدرستين :
1ـ تفسير القمي : هو ابو الحسن علي بن ابراهيم بن هاشم القمي المتوفى “329هـ”من مشايخ الحديث روى عنه الكليني وكان من مشايخه واسع العلم كثير التصانيف وكان معتمد الاصحاب .
قال النجاشي : ثقة ثبت معتمد صحيح المذهب وأكثر رواياته عن أبيه ابراهيم بن هاشم أصله من الكوفة وأنتقل الى قم يقال :انًه اول من نشر حديث الكوفيين بقم وهذا التفسير المنسوب الى علي بن ابراهيم القًمي هو من صنع تلميذه ابي الفضل العباس بن محمد بن القاسم بن حمزه بن الامام موسى بن جعفر(ع) فكان ما اورده ابي الفضل في هذا التفسير من احاديث الامام الباقر(ع) فهو من طريق ابي الجارود وما اورده من احاديث الامام الصادق (ع) فمن طريق علي بن ابراهيم واضاف اليهما بأسانيد من غير طريقهما فهو مؤلف ثلاثي المأخذ وعلى أي حال فهو من صنع ابي الفضل ونسب الى شيخه بأن اكثر رواياته عنه ولعله كان الآصل فأضاف اليه احاديث ابي الجارود وغيره لغرض التكميل وابو الفضل هذا مجهول الحال لا يعرف الا انه علوي وربما كان من تلاميذ علي بن ابراهيم اذ لم يثبت ذلك يقينا من غير روايته في هذا التفسير عن شيخه القمي كما ان الاسناد اليه ايضا مجهول لم يعرف من الراوي لهذا التفسير عن ابي الفضل هذا ومن ثم فانتساب هذا التفسير الى علي بن ابراهيم امر مشهور لا مستند له اما الشيخ محمد الكليني فيروي احاديث التفسير عن شيخه علي بن ابراهيم.
منهجه في التفسير
يبدا هذا التفسير بذكر مقدمه يبين فيها صنوف انواع الآيات الكريمة من ناسخ ومنسوخ ومحكم ومتشابه, وخاص وعام ,ومقدم ومؤخر, وما هو لفظه جمع ومعناه مفرد, او مفرد معناه الجمع, او ماض معناه مستقل ,ا و مستقبل معناه ماض ,وما الى ذلك من انواع الآيات , وبعد ذلك يبدا بالتفسير مرتبا حسب ترتيب السور والآيات ايه فآية فيذكر الآية ويعقبها بما رواه علي بن ابراهيم ويستمر على هذا النمط حتى نهاية سورة البقرة ومن بدايات سورة ال عمران نراه يمزجه بما رواه عن ابي الجارود وكذا عن غيره من الرواة حتى نهاية القران الكريم وهذا التفسير يعتمد ظواهر القران ويجري على ما يبدوا من ظاهر اللفظ في ايجاز واختصار بديع ويتعرض لبعض اللغة والشواهد التاريخية او عند اقتضاء الضرورة لكنه مع ذلك لا يغفل الاحاديث المأثورة عن ائمة اهل البيت مهما بلغ الاسناد من ضعف ووهن او اضطراب في المتن على كل حال فالتفسير في مجموعه تفسير نفيس لكون الروايات منقولة عن اهل البيت. فنلاحظ ان منهجه هو روائي بحت.
2ـ جامع البيان في تأويل القرآن المعروف بـ “تفسير الطبري”:
للإمام محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الشهير بالإمام أبو جعفر الطبري، (224 هـ-310 هـ / 839-923م) هو من أشهر الكتب الإسلامية المختصة بعلم تفسير القرآن الكريم عند أهل السنة والجماعة، ويعده البعض المرجع الأول للتفسير بالمأثور، حيث يذكر الآية من القرآن، ثم يذكر أقوال الصحابة والتابعين في تفسيرها، ويهتم بالقراءات المختلفة في كل آية ويرجح إحداها، ويذكر الأحاديث النبوية والأحكام الفقهية، ويشتهر عنه كثرة القصص الإسرائيلي أو ما يسمى الإسرائيليات، واعتني به العلماء والباحثون كثيرًا. نلاحظ انه تفسير روائي عن النبي واله عليهم السلام والصحابة والتابعين .
وبعد مرور الزمن بدأت التفاسير تتطور شيئا فشيئا ولم تقتصر على التفسير بالنقل او الروايات فبرزت تفاسير موضوعية وعقلية وغير ذلك ولكن بقي الطابع الذي يقيد المدرسة الدينية من التطور بالتفسير وعلوم القران الى فضاءات اخرى وذلك بسبب تقيد المدرسة الدينية بال (خطوط الحمراء ) وهذا مصطلح جديد استخدمته لبيان فكرتي, اي ان رجل الدين يتوقف عندما يصل الى مرتبة او مرحلة ما بعد السموح به شرعا,
فمثلا لو انه توصل الى رأي عقلائي في خصوص اية معينة او مصداق قراني وكان ذلك الرأي مخالف لثوابت دينية او رواية او سيرة عملية فانه سيتوقف ولا يتحرك نحو ملاحقة تلك الافكار والنظريات وهذا ليس عيبا في الحقيقة بل هو ورع وخوف من مخالفة تعاليم الدين وكمثال تقريب اكثر عندما نتتبع ابحاث العلماء في المدارس الدينية مثلا في الاصول نجد انهم يتوصلون الى رأي فقهي جديد ولكن لا يعملون به بل انهم يطرحونه كرأي توصلوا اليه بعد جهد جهيد ويكتفوا بقولهم (والاحوط عدم مخالفة المشهور ) وهذا في المدارس الدينية عموما لا الشيعية فقط لذلك نرى مناهج التفسير في المدارس الدينية تنحصر بفضاء ضيق وهذا ما سنلاحظ عكسه في المدرسة الفكرية او العقلية او (الاكاديمية ) كمصطلح حديث .
المبحث الثاني: المدارس الأكاديمية :
الاكاديمية لها تعاريف متعددة نختار واحدا منها في المعاجم: الجمع : أكاديميات
مدرسة فلسفيّة أسسها أفلاطون في بساتين أكاديمس في أثينا. او هيئة علمية تتألّف من كبار العلماء أو الأدباء والمفكرين كالأكاديمية الفرنسية في باريس . ويقول البعض : (ان الأكاديمي بغض النظر عن ظروف عمله هو كل من بحث ودرس بطريقة منهجية وتحت إشراف مختصين متضلعين في ميدان من ميادين تخصصاتهم وحقول المعرفة المختلفة ومجالاتها العديدة ).
وهناك تعريف مشهور (لا ارى فيه انصافا للاكاديمي ): الأكاديمية هي منهاج للبحث العلمي يلتزم بقواعده الباحث التابع لإحدى الجامعات الرسمية، وهي قواعد تعتبر محل انتقاد من قبل الكثيرين من العلماء والباحثين الذين يعتبرون قواعد البحث الأكاديمي تبتعد كثيرا عن البحث العلمي الموضوعي، إذ يعتبرون أن أساتذة الجامعات هم أبعد ما يكون عن التجرد التام للعلم، كذلك يعتبر هؤلاء العلماء المنتقدون للأكاديمية أن آليات البحث الأكاديمي تقلل من رأي الباحث وحرية الرأي، وتمجد من المصادر وترفع من قدسيتها وتغالي في التوثيق على حساب متن البحث نفسه.
واما انا فأرى ان الأكاديمية هي كلفظ اصلها لما ذكر من انها مدرسة اسسها افلاطون في بساتين اكاديمس واما كمصطلح فهو يطلق على صاحب الفكرة المتحررة التي لا تتقيد الا بقيود المرتكزات العقلية فكما ان الفيلسوف او الحكيم هو الباحث عن الحقيقة فالاكاديمي هو الباحث عن الفكرة او النظرية .المهم لا اريد ان اطيل في هذا الجانب .
دور المدرسة الاكاديمية في تفسير القرآن :
كان للمدرسة العقلية (الاكاديمية ) الدور البارز في التفسير العقلي ولأجل معرفة ذلك لابد ان نسلط الضوء على التفسير العقلي .
يحظى منهج التفسير العقلي الذي عرف بتعاريف كثيرة بمنزلة خاصة بين مناهج التفسير، وقد اتخذت المناهج الكلامية بإزاء هذا المنهج مواقف مختلفة تبعاً لتعريفهم للمنهج العقلي. فبعضهم عده نفس المنهج الاجتهادي في التفسير، وعده بعضهم من اقسام التفسير بالرأي. وقد ينظر له بنظرة مساوية للتفسير الفلسفي للقران.
ومن هنا لابد لنا من معرفة الآراء في تعريف هذا القسم من التفسير.
الآراء في معنى التفسير العقلي:
1- هو الاستفادة من القرائن العقلية كأداة في التفسير: فمثلا آيات تجسيم الباري لا يقبلها العقل فيبحث عن قرائن تفسر هذه الآيات بخلاف ظاهرها وهذا ما يرتضيه القران نفسه دلت عليه الروايات .
2ـ التفسير العقلي هو بعينه التفسير الاجتهادي: قال الشيخ محمد هادي معرفة: التفسير الاجتهادي يعتمد العقل والنظر اكثر ما يعتمد النقل والاثر ليكون المناط في النقل والتمحيص هو دلالة العقل الرشيد والرأي السديد. (التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب: ج2، ص249) ولكن هل ان التفسير الاجتهادي ممنوع فقد رويت روايات في حرمة التفسير بالرأي ممكن ان نؤول تلك الروايات بانها ذمت التفسير بالرأي دون تجميع القران العقلية التي لا يختلف معها النص القرآني .
3- التفسير العقلي نوع من أنواع التفسير بالراي: هذا بعيد جدا مع اقامة الحجة والدليل العقلي على وفق قرائن عقلية مقبولة.
المحصلة
ان توقيف التفسير على مناهج قليلة اعتقد ان فيه ظلم للقران فالقران اعجاز الهي مستمر الى يوم القيامة وهناك كثير من النظريات التي اكتشفها غير المسلمين وصرح بعضهم ان اكتشافها بسبب النصوص القرآنية فها هم المستشرقون يبحثون في القران في كل شيء وكذلك علماء الديانات الاخرى بل حتى من لا يؤمن بدين فلماذا نقتصر على اللفظ ومعناه او الرواية التي لم يصلنا منها الا القليل القليل وما وصلنا اغلبه مسموم بالوضع والاسرائيليات ارى ان نتحرر من خطوطنا الحمراء وندخل الى اعماق القران بتأمل وتفكر واستقراء واستنباط وان نستخدم الادوات العقلية في استخراج حقائق مكنونة واسرار وكنوز مدفونة وارى ان تتحد المدارس الدينية والاكاديمية في ذلك ويقوم احدهما الاخر في الوصول الى نتائج المجهولات التي تنفع البشرية الى يوم القيامة .
والحمد لله الذي هدانا بالقران ونور قلوبنا بالقران وحرك عقولنا بالقران وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين …..
- درس في مركز الاسراء للدراسات العليا للتفسير وعلوم القران التابع للشيخ الاملي