الاجتهاد: بعد وفاة الإمام الرضا (عليه السلام) وفدت إلى المدينة المنورة جمهرة من كبار العلماء والفقهاء، وقد انتدبوا من قِبل الأوساط الشيعية في بغداد وغيرها من الأمصار، وذلك للتعرُّف على معرفة الإمام الجواد بعد وفاة أبيه الإمام الرضا(عليهما السلام)، فكان عددهم فيما يقول المؤرخون ثمانين رجلاً.
ولما انتهوا إلى يثرب قصدوا دار الإمام أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) ففرش لهم بساط أحمر، وخرج إليهم عبدالله ابن الإمام موسى (عليه السلام) فجلس في صدر المجلس، مُضفياً على نفسه المرجعيّة للأمة، وأنه الإمام بعد الإمام الرضا(عليه السلام)، وقام رجل فنادی بین العلماء: هذا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فمن أراد السؤال فليسأل، فقام إليه أحد العلماء فسأله: ما تقول في رجل قال لإمرأته: أنت طالق عدد نجوم السماء ؟
فأجابه عبد الله بجواب يخالف فقه أهل البيت (عليهم السلام) قائلاً: طُلِّقت ثلاثاً دون الجوزاء.
وذهل العلماء والفقهاء من هذا الجواب الذي شذّ عمّا قرّره الأئمة الطاهرون من أنّ الطلاق يقع واحداً، ولا نعلم – لِمَ استثنی عبدالله الجوزاء عن بقية الكواكب؟
وانبری إليه أحد الفقهاء فقال له: ما تقول في رجل أتى بهيمة؟
فأجابه على خلاف ما شرع الله قائلاً : تقطع يده، ويجلد مائة جلدة.
وبهت الحاضرون، وضجّ بعضهم بالبكاء من هذه الفتاوى التي خالفت أحكام الله، وحاروا في أمرهم، وبينما هم في حيرة وذهول إذ فُتح باب من صدر المجلس، وخرج موفّق، ثم أطلّ عليهم الإمام أبو جعفر وهو بهيبته التي تعنو لها الجباه، وقام الفقهاء والعلماء إجلالاً واكباراً له ، وانبری شخص فعرّفهم بأنه الإمام بعد أبيه، والحجّة الكبرى على المسلمين.
فقام إليه صاحب السؤال الأول فقال له: ما تقول فيمن قال لامرأته: أنت طالق عدد نجوم السماء ؟
فأجابه الإمام (عليه السلام): يا هذا اقرَأ كتابَ الله تبارك وتعالى: ( الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) ، وهي في الثالثة».
وبهر الحاضرون من مواهب الإمام، وقد أيقنوا أنهم وصلوا إلى الغاية التي ينشدونها، ورفع السائل إلى الإمام فتيا عمّه في المسألة.
فالتفت إليه قائلاً : يا عمِّ اتّقِ الله، ولا تَفتِ وَفي الأمّةِ مَن هو أعلَمُ مِنكَ.
وأطرق عبد الله برأسه إلى الأرض، ولم يدرِ ماذا يقول، وقام إلى الإمام صاحب المسألة الثانية فقال له: ما تقول فيمن أتی بهيمة؟
فقال: يُعَزَّرُ وتُحمى ظَهرُ البَهيمَةِ، وتُخرَجُ من البَلَدِ لئَلّا يَبقي عَلَى الرَّجل عارُها.
وعرض السائل على الإمام فتوی عمّه، فأنكر عليه أشدّ الإنكار وقال له متأثّراً: لا إله إلا الله. يا عبدالله، إنّه لعظيم عندالله أن تَقِفَ غَداً بينَ يَدَي الله فَيَقُول لَكَ: لِمَ أَفتيتَ عِبادي بما لا تَعلَمُ وفي الأُمَّةِ مَن هُوَ أعلَمُ منك؟
وأخذ عبدالله يلتمس له المعاذير قائلًا : رأيت أخي الرضا، وقد أجاب في هذه المسألة بهذا الجواب.
فأنكر عليه الإمام عليه السلام وصاح به: إنّما سُئِلَ الرضا عليه السلام عَن نبّاش نَبَشَ قبرَ امرَأَة فَفَجَر بها، و أخَذَ ثيابها فَأَمَرَ بقَطعِهِ لِلسَّرِقَةِ، وجَلدِهِ لِلزَّنا، ونَفيِهِ لِلمُثلَةِ فَفَرِحَ القومُ.(1)
وسأله العلماء والفقهاء عن مسائل كثيرة في مختلف أبواب الفقه، وقد بلغت فيما يقول المؤرخون ثلاثين ألف مسألة، وصرح بعضهم أنه سئل في مجلس واحد عن ثلاثين ألف مسألة فأجاب عنها (۲).
ونحن لا نتصوّر إمكان ذلك في مجلس واحد، وذلك لعدم سعة الوقت، والصحيح أنه سئل عن ثلاثين ألف مسألة في نوب متفرّقة وأزمنة متعددة.
وعلى أي حال فقد أيقن العلماء بإمامته ورجعوا إلى أمصارهم وهم يذيعون إمامة الجواد (عليه السلام) وينقلون إلى المسلمين سعة علومه ومعارفه، وأنه المعجزة الكبرى للإسلام حيث إنه بهذا السن وقد بلغ من العلوم والمعارف ما لا يحدّ ولا يوصف .
ومن الجدير بالذكر أنّ بعض الشيعة كانوا قد سألوا الإمام الرضا (عليه السلام) عن مسائل فأجابهم عنها، فخفّوا إلى الإمام الجواد (عليه السلام) بعد وفاة أبيه، فسألوه عنها ليمتحنوه في ذلك فأجابهم عنها حسب جواب أبيه.
وقد روى أبو خراش النهدي، قال: «کنت حضرت مجلس الرضا فأتاه رجل فقال له: جعلت فداك، أمّ ولد لي، وهي صدوق أرضعت جارية لي بلبن ابني، أيحرم عليَّ نكاحها ؟
فقال(عليه السلام) : لا رِضاعَ بعدَ فِطامٍ.
ثم سأله عن الصلاة في الحرمین، فقال : إنْ شئْتَ قصّرتَ ، وإنْ شِئْتَ أتْمَمْتَ.
قال: فحججت بعد ذلك، فدخلت على أبي جعفر فسألته عن المسائل فأجابني بعين ما أجاب به أبوه(3).
وعلى أي حال ، فقد رجعت الشيعة إليه، وقالت بإمامته، ولم يشذّ أحد منهم ويقول بإمامة غيره .
الهوامش
(۱) دلائل الإمامة 205. الدرّ النظيم :705. وسائل الشيعة : ۲۸
۲۸۰، الحديث 6. الاختصاص: ۱۰۲، وقريب منه في مستدرك الوسائل: ۱۸ : ۱۹۰، الحدیث ۱۳۷.
(۲) وسائل الشيعة : ۱۸ :511 – 512.
(3)- الدرّ النظيم: 705 و 706.
المصدر: كتاب: موسوعة سيرة أهل البيت عليهم السلام، الجزء الثاني والثلاثون، الإمام الجواد عليه السلام، تأليف باقر شريف القرشي – تحقيق مهدي باقر القرشي ، الصفحة 61
تحميل الكتاب