الاجتهاد: إنّ التشريع القرآني ينظر إلى الحقائق لا إلى القشور، فلا تجد في الإسلام مظهراً خاصاً من مظاهر الحياة يكون له من القداسة ما يمنع من تغييره ويوجب حفظه إلى الأبد بشكله الخاص، فليس هناك تناقض بين تعاليمه والتقدّم العلمي.
التشريع أحد أركان الحضارة فلا تجد مجتمعاً حضارياً إلاّوعنده قوة التشريع والتقنين وهذا ممّا لا كلام فيه.
وإنّما الكلام في الأصل الذي يعتمد عليه التشريع ويستمد منه. فهناك منهجان:
منهج يعتمد في التحليل والتحريم على رأي الأكثرية فما صوبته الأكثرية يُصبح قانوناً محترماً لدى الكل ومالم تصوّبه الأكثرية يكون مرفوضاً.
ومنهج يعتمد في التشريع على الواقعيات والمصالح والمفاسد فما كان واقعياً وصالحاً للبشرية فهو القانون السائد، وما لم يكن كذلك لا يعتبر أبداً.
والإسلام في تشريعه يتبع المنهج الثاني، لأنّ التشريع بيد اللّه سبحانه وتعالى وحده، فلا حاجة إذاً إلى رعاية التصويت والتصويب، وتتجلى واقعية التشريع الإسلامي في ملامحه ومعالمه.
فالتشريع الإسلامي يتميز بملامح بينما هي ملامح ثبوتية ترجع إلى مادة التشريع وروحه، وبينما هي ملامح إثباتية ترجع إلى دلالة التشريع. فما يرجع إلى القسم الأوّل يتلخص في أُمور ستة:
الفطرة الإنسانية هي المقياس في التقنين.
التشريع حسب المصالح و المفاسد الواقعية.
النظر إلى المادة والروح على حدّ سواء.
النظر إلى الحقائق دون الظواهر.
المرونة في التشريع .
العدالة في التقنين.
فلنأخذ كلّ منها بالبحث واحداً تلو الآخر ثمّ نرجع إلى بيان ملامح التشريع الإسلامي في مقام الدلالة والإثبات .
أمّا الملامح الثبوتيّة فهي عبارة:
الفطرة هي المقياس
إنّ للإنسان مع قطع النظر عن الظروف الموضوعية المحيطة به شخصية تكوينية ثابتة لا تنفك عنه عبر الزمان، فالغرائز السِّفْلية والعلويّة هي التي تكوّن شخصيته ولا تنفك عنه مادام الإنسان إنساناً، فجعل الإسلام الفطرة معياراً للتشريع، فكلّ عمل يتجاوب وينساق مع الفطرة فقد أحلّه، وما هو على موضع الضدّ منها فقد حرّمه.
فقد ندب إلى الروابط العائلية وتنسيق الروابط الاجتماعية، كرابطة الولد بوالديه، والأخ بأخيه، والإنسان المؤمن بمثله، كما قد حذّر عمّـا ينافي خلقه وإدراكه العقلي، كتحريمه الخمر والميسر والسفاح، لما فيها من إفساد للعقل الفطري والنسل والحرث.
فالأحكام الثابتة في التشريع القرآني تشريع وفق الفطرة.
التشريع حسب المصالح
نعم ثمة ميزة أُخرى للتشريع القرآني، وهو أنّه مبني على المصالح والمفاسد الواقعية. فلا واجب إلاّ لمصلحة في فعله، ولا حرام إلاّ لمصلحة في تركه، قال سبحانه: ( إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِاللّهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُون ) . ( [770]) وقال سبحانه: ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحشاءِ وَالْمُنْكَرِ ) . ( [771])
وعلى هذا الأساس فقد عقد فقهاء الشيعة باباً خاصاً باسم تزاحم الأحكام في ملاكاتها حيث يقدّم الأهم على المهم، ويتوصل في تمييزهما بالقرائن المفيدة للاطمئنان.
التشريع الإسلامي في الدساتير العربية والإسلامية، قراءة في المكانة والتأثير + التحميل
النظر إلى المادة والروح على حد سواء
آلف القرآن بتعاليمه القيّمة بينهما مؤالفة تفي بحقّ كلّ منهما حيث يفسح للإنسان أن يأخذ قسطه من كلّ منهما بقدر ما يصلحه.
لقد غالت المسيحية (الغابرة) بالاهتمام بالجانب الروحي من الإنسان حتى كادت أن تجعل كلّ مظهر من مظاهر الحياة المادية خطيئة كبرى، فدعت إلى الرهبانية و التعزب، وترك ملاذّ الحياة، والانعزال عن المجتمع، والعيش في الأديرة وقلل الجبال والتسامح مع المعتدين.
كما غالت اليهودية في الانكباب على المادة حتى نسيت كلّ قيمة روحية، وجعلت الحصول على المادة بأي وسيلة كانت، المقصد الأسنى، ودعت إلى القومية الغاشمة. لكن الإسلام أخذ ينظر إلى واقع الإنسان بما هو كائن ذو بعدين، فبالبعد المادي لا يستغني عن المادة، وبالبعد الروحي لا يستغني عن الحياة الروحية، فأولاهما عنايته، فدعا إلى المادة والالتذاذ بها بشكل لا يُؤثرها على حياته الروحية، كما دعا إلى الحياة الروحية بشكل لا يصادم فطرته وطبيعته; وهكذا فقد قرن بين عبادة اللّه وطلب الرزق وترفيه النفس، فندب إلى القيام بالليل وإقامة النوافل، وفي الوقت نفسه ندب إلى طلب المعاش وتوخّي اللّذة، قال سبحانه:
( وَالّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً ) ( [772]) وقال أيضاً: ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الّتي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ) . ( [773])
وقال علي أمير المؤمنين (عليه السلام) : «للمؤمن ثلاث ساعات: فساعة يناجي فيها ربه، وساعة يرمُّ معاشه، وساعة يُخلّـي بين نفسه وبين لذّتها». ( [774])
النظر إلى المعاني لا الظواهر
إنّ التشريع القرآني ينظر إلى الحقائق لا إلى القشور، فلا تجد في الإسلام مظهراً خاصاً من مظاهر الحياة يكون له من القداسة ما يمنع من تغييره ويوجب حفظه إلى الأبد بشكله الخاص، فليس هناك تناقض بين تعاليمه والتقدّم العلمي.
فلو كان التشريع الإسلامي مصـرّاً على صورة خاصة من متطلبات الحياة لما انسجم مع الحياة، فمثلاً ينهى الإسلام عن أكل الأموال بالباطل، وعلى هذا فرّع الفقهاء حرمة بيع الدم لعدم وجود منفعة محلّلة له في تلك الأعصار الغابرة بيد انّ تقدّم العلوم والحضارة أتاح للبشر أن يستخدم الدم في منافع محلّلة لم يكن لها نظير من قبل، فعادت المعاملة بالدم في هذه الأعصار معاملة صحيحة لا بأس بها، وليس هذا من قبيل نسخ الحكم، بل من باب تبدّل الحكم بتبدّل موضوعه كانقلاب الخمر خلاً.
فالإسلام حرّم أكل المال بالباطل، فمادام بيع الدم مصداقاً لتلك الآية كان محكوماً بالحرمة، فلمّا أُتيح للبشر أن يستفيد منه في علاج المرضى خرج عن كونه مصداقاً للآية، وهذا هو الذي عبّرنا عنه في عنوان البحث بأنّ الإسلام ينظر إلى المعاني لا إلى القشور.
المرونة في التشريع
إنّ من ملامح التشريع القرآني مرونته وقابليته للانطباق على جميع الحضارات الإنسانية، وما ذلك إلاّ لأنّه جاء بتشريعات خاصة لها دور التحديد والرقابة على سائر تشريعاته، وهذا التشريع أعطى للدين مرونة و منعطفاً جديداً قال سبحانه: ( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج ) . ( [775]) وقال: ( ما يُريدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعلَّكُمْ تَشْكُرُون ) . ( [776])
وقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : «لا ضرر ولا ضرار». ( [777])
فحدّد كلَّ تشريع بعدم استلزامه الضرر والضرار، فأوجب التيمم مكان الوضوء إذا كان استعمال الماء مضرّاً، كما أوجب الإفطار على المريض والمسافر لغاية اليسر، قال سبحانه: ( وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَر فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّام أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر ) . ( [778]) إلى غير ذلك من الآيات والروايات التي لها دور التحديد والرقابة.
وجاء في الحديث عن الصادع بالحقّ أنّه قال: «بعثت بالحنيفية السمحة».( [779])
وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : «إنّ هذا الدين لمتين، فأوغلوا فيه برفق، لا تكرهوا عبادة اللّه لعباد اللّه». ( [780])
العدالة في التقنين
ومن ملامح التشريع القرآني، العدالة حيث تراها متجلّية في كافة تشريعاته، خاصة فيما يرجع إلى القانون والحقوق، قال سبحانه: ( وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) . ( [781])
وقال تعالى: ( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) .( [782])
وقال تعالى: ( وَجَزاءُ سَيِّئَة سَيِئَّةٌ مِثْلُها فَمَنْ عفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظّالِمين ) . ( [783])
وقال سبحانه: ( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخرى ) . ( [784])
وقال سبحانه: ( وَلَهُنَّ مِثْلُ الّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوف ) . ( [785]) إلى غير ذلك من الآيات التي تدلّ على أنّ هيكل التشريع الإسلامي بُني على أساس العدل والقسط.
هذه الملامح ترجع إلى سمات القانون الإسلامي ثبوتاً.
ملامح التشريع الإسلامي في مقام الإثبات
أمّا سماته في عالم الإثبات والدلالة فهي عبارة عن الأُمور التالية:
أ. شموليته لعامة الطبقات.
ب. سعة آفاق دلالة القرآن والحديث.
ج. التدرّج في التشريع.
أ . شمولية التشريع
أخذ القرآن الإنسان محوراً لتشريعه، مجرّداً عن النزعات القومية والوطنية والطائفية واللونية واللسانية، فنظر إلى الموضوع بنظرة شمولية وقال: ( يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَر وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتقاكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبيرٌ ) . ( [786])
التشريع القرآني تشريع من جانب رب العالمين إلى نوع البشر، فالوطن والقوم والقبيلة لم تؤخذ بنظر الاعتبار، والكرامة للإنسان وحده، ولا فضل لإنسان على آخر إلاّ بالمُثُل والأخلاق.
فترى أنّه يخاطب المجتمع الإنساني بقوله: ( يا أَيُّهَا النّاس ) أو ( يا بَني آدَمَ ) أو ( يا أَيُّهَا المؤمنون ) وما ضاهاها، فكسر جميع الحواجز والقيود التي يعتمد عليها المفكّر المادي في التقنين الوضعي، والذي يقتفي إثر اليهود في مزعمة الشعب المختار.
إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) هو القائل: انّ العربية ليست بأب والد، ولكنها لسان ناطق فمن قصر به عمله لم يبلغه حسبه ( [787])، وفي الوقت نفسه لا يعني بكلامه هذا انّ العلائق الطبيعية، كالانتماء الوطني أو القومي بغيضة لا قيمة لها، وإنّما يندّد باتّخاذها محاور للتقنين، وسبباً للكرامة والمفخرة، أو سبيلاً لتحقير الآخرين، وإيثارها على الدين والعقيدة، يقول سبحانه: ( لا تَجِدُ قَوماً يُؤمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حادَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوح مِنْهُ وَ يُدْخِلُهُمْ جَنّات تَجْري مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهارُ خالِدينَ فِيها رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) . ( [788])
والعجب انّه قد صدر هذا من لدن إنسان أُمّي نشأ في بيئة تسودها خصلتان على جانب الضد من هذا النمط من التشريع، وهما:
الأُمّية والتعصّب.
وهذا الإنسان المثالي صان بأنظمته كرامة الإنسان، ورفعه إلى الغاية القصوى من الكمال، وأخذ يخاطب ضميره الدفين، و مشاعره النبيلة، ويكلّفه بما فيه صلاحه، ويقول:
( هذا بَيانٌ لِلنّاسِ ) . ( [789])
( هذا بَلاغٌ لِلنّاسِ ) . ( [790])
( بَصائِرَ لِلنّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَة ) . ( [791]) ( يا أَيُّهَا النّاسُ قَدْجاءَتْكُمْ مَوعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُور ) . ( [792])
وإذا قورن هذا النوع من التشريع الذي ينظر إلى الإنسان بنظرة شمولية وبرأفة ورحمة، دون فرق بين عنصر وآخر، بالتقنين الوضعي السائد في أعصارنا في الشرق والغرب، الناظر إلى الإنسان من منظار القومية أو الطائفية وغيرهما من النزعات المقيتة، لبان انّ التشريع الأوّل تشريع سماوي لا صلة له بتلك النزعات، والآخر تشريع بشري متأثر بنظرات ضيّقة تجود لإنسان وتبخل لآخر، وكفى في ذلك فرقاً بين التشريعين.
ب . سعة آفاق دلالة القرآن والحديث
إنّ من تمعّن في القرآن الكريم و تدبّر في معانيه ومفاهيمه، وقف على سعة آفاق دلالته على مقاصده، غير انّ ثلّة من الفقهاء مرّوا على القرآن مروراً عابراً مع أنّه سبحانه يعرّف القرآن بقوله: ( وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْء وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمينَ ) . ( [793])
وعلى ضوء ذلك لا غنى للفقيه عن دراسة آيات الأحكام دراسة معمّقة ثاقبة، ليجد فيها الجواب على أكثر المسائل المطروحة، ولا ينظر إليها بنظرة عابرة.
وقد استدل أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بالقرآن على كثير من الأحكام التي غفل عنها فقهاء عصرهم، ونذكر هنا نموذجاً على ذلك:
قُدّم إلى المتوكل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة، فأراد أن يقيم عليه الحد، فأسلم، فقال يحيى بن أكثم: الإيمان يمحو ما قبله، وقال بعضهم: يضرب ثلاثة حدود. فكتب المتوكل إلى الإمام الهادي(عليه السلام) يسأله، فلمّا قرأ الكتاب، كتب: «يضرب حتى يموت».فأنكر الفقهاء ذلك، فكتب إليه يسأله عن العلّة، فكتب: بسم اللّه الرّحمنِ الرَّحيم: ( فَلَمّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنّا بِاللّهِ وَحْدَه وَكَفَرْنا بِما كُنّا بِهِ مُشْرِكينَ* فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّت اللّهِ الّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ ) ( [794]). فأمر به المتوكل، فضرب حتى مات. ( [795])
تجد انّ الإمام الهادي(عليه السلام) استنبط حكم الموضوع من آية مباركة، لا يذكرها الفقهاء في عداد آيات الأحكام، غير انّ الإمام لوقوفه على سعة دلالة القرآن، استنبط حكم الموضوع من تلك الآية، وكم لها من نظير. ولو انّ القارئ الكريم جمع الروايات التي استشهد بها أئمّة أهل البيت على مقاصدهم استشهاداً تعليمياً لا تعبدياً لوقف على سعة آفاق القرآن.
وها نحن نذكر مثالين على سعة آفاق دلالته:
إنّ الأُصوليين تحمّلوا عبئاً ثقيلاً لإثبات كون الأمر موضوعاً للوجوب ومجازاً في الندب، فإذا ورد الأمر في الكتاب احتاجوا في استفادة الوجوب منه إلى نفي المدلول المجازي، بإجراء أصالة الحقيقة.
ولكن هذا النمط جار في المحاورات العرفية، والقرآن في غنى عنها في أغلب الموارد أو أجمعها، فإنّ لاستفادة الوجوب أو الندب في الأوامر الواردة في القرآن طريقاً آخر، وهو الإيعاز بالعذاب أو النار كما نجده في كثير من الواجبات مثل الصلاة و الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال سبحانه: ( ما سَلَكَكُمْ في سَقَر* قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّين ) . ( [796])وقال سبحانه: ( وَ سَيُجَنَّبُها الأَتْقى* الّذِي يُؤتِي مالَهُ يَتَزَكّى ) ( [797]) بل كل ما أوعد على فعله أو تركه يستفاد منه الوجوب أو الحرمة. 2. اختلف الفقهاء في وجوب الكتابة في التداين بدين والاستشهاد بشاهدين الواردين في قوله سبحانه: ( وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ… وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ ) . ( [798])
فمن قائل بالوجوب أخذاً بأصالة الحقيقة، وقائل باستحبابه مستدلاً بالإجماع، ومعتذراً عن الأصل المذكور بكثرة استعمال صيغة الأمر في الندب، مع أنّ الرجوع إلى نفس الآية وما ورد حولها من الحكمة يعطي بوضوح انّ الأمرين لا للوجوب ولا للندب، بل الأمران إرشاديان لئلاّ يقع الاختلاف بين المتداينين فيسد باب النزاع والجدال. قال سبحانه: ( ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَ أَدْنى أَلاّ تَرْتابُوا إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ ) . ( [799])
ويدلّ على سعة دلالته أيضاً ما رواه المعلّى بن خنيس، قال: قال أبو عبد اللّه(عليه السلام) : «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلاّ وله أصل في كتاب اللّه عزّوجلّ، ولكن لا تبلغه عقول الرجال». ( [800])
وقال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) : «ذلك القرآن فاستنطقوه و لن ينطق لكم، أُخبركم عنه انّ فيه علم ما مضى، وعلم ما يأتي إلى يوم القيامة، وحكم ما بينكم، وبيان ما أصبحتم فيه تختلفون، فلو سألتموني عنه لعلّمتكم». ( [801])
وقال الصادق (عليه السلام) : «كتاب اللّه فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وفصل ما بينكم، ونحن نعلمه». ( [802])
والسابر في روايات أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) يقف على أنّهم كانوا يستنبطون من الآيات نكاتاً بديعة ومعاني رفيعة عن مستوى الأفهام.
وربّما يتصوّر الساذج انّ هذا النوع من التفسير تفسير بالرأي وفرض على الآية، ولكن بعد الإمعان في الرواية والوقوف على كيفية استدلالهم (عليهم السلام) يذعن بأنّ لها دلالة خفيّة على ذلك المعنى الرفيع الشامخ وقد غفل عنه.
مثال ذلك ما رواه العياشي في تفسيره، عن زرقان صاحب ابن أبي دؤاد: أنّ سارقاً أقرّ على نفسه بالسرقة وسأل الخليفة تطهيره بإقامة الحد عليه، فجمع لذلك الفقهاء في مجلسه وقد أحضر محمد بن علي (عليهما السلام) فسألنا عن القطع في أيّ موضع يجب أن يقطع، فقال الفقهاء: من الكرسوع، لقول اللّه في التيمم: ( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ ) . ( [803])
فالتفت الخليفة إلى محمد بن علي فقال: ما تقول في هذا يا أبا جعفر؟ فأجاب: «إنّهم أخطأوا فيه السنّة، فإنّ القطع يجب أن يكون من مفصل أُصول الأصابع، ويترك الكف»قال: لِمَ ؟
قال: «لقول رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : السجود على سبعة أعضاء: الوجه، واليدين، والركبتين، والرجلين; فإذا قطعت يده من الكرسوع لم يبق له يد يسجد عليها، وقال اللّه تبارك وتعالى: ( وأنّ المساجِدَ للّه ) يعني به الأعضاء السبعة التي يسجد عليها: ( فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً ) وما كان للّه لم يقطع».
فأعجب المعتصم ذلك، فأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكف. ( [804])
وروي عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه كان إذا قطع السارق ترك الإبهام والراحة، فقيل له: يا أمير المؤمنين تركت عليه يده؟ قال: فقال لهم: «فإن تاب فبأيِّ شيء يتوضأ؟ لأنّ اللّه يقول: ( وَالسّارِقُوَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ) ـ إلى قوله: ـ ( فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَ أَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحيم ) ( [805]) ». ( [806])
فهذا النمط من الاستدلال يوقف القارئ على سعة دلالة الآيات القرآنية، وانّ أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) هم السابقون في هذا المضمار، يستنبطون من القرآن ما لا تصل إليه الأفهام.
وأمّا عدد آيات الأحكام فقد ذكر الفاضل المقداد في تفسيره «كنز العرفان» ما هذا نصّه:
اشتهر بين القوم أنّ الآيات المبحوث عنها نحو خمسمائة آية، وذلك إنّما هو بالمتكرر والمتداخل، وإلاّ فهي لا تبلغ ذلك، فلا يظن من يقف على كتابنا هذا ويضبط عدد ما فيه، انّا تركنا شيئاً من الآيات فيسيء الظن به و لم يعلم انّ المعيار عند ذوي البصائر والأبصار، إنّما هو التحقيق والاعتبار لا الكثرة والاشتهار. ( [807])
ويظهر من البعض أنّ عدد آيات الأحكام ربما تبلغ 330 آية، قال عبد الوهاب خلاف:
ففي العبادات بأنواعها نحو 140 آية.
وفي الأحوال الشخصية من زواج وطلاق و إرث ووصية و حجر وغيرها نحو سبعين آية.
وفي المجموعة المدنية من بيع وإجارة ورهن وشركة وتجارة ومداينة وغيرها نحو سبعين آية.
وفي المجموعة الجنائية من عقوبات وتحقيق جنايات نحو ثلاثين آية.
وفي القضاء والشهادة ومايتعلق بها نحو عشرين آية. ( [808]) ولكن بالنظر إلى ما ذكرنا من سعة آفاق دلالته يتبيّن انّ عددها ربّما يتجاوز عن الخمسمائة، إذ ربّ آية لاتمت إلى الأحكام بصلة، ولكن بالدقة والإمعان يمكن أن يستنبط منها حكم شرعي.
فمثلاً سورة المسد، أعني قوله سبحانه: ( تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَب وَ تَبَّ * ما أَغنى عَنْهُ مالُهُ وَ ما كَسَب… ) ( [809])، بظاهرها ليست من آيات الأحكام، ولكن للفقيه أن يستند إليها في استنباط بعض الأحكام الشرعية، وقد حكي عن بعض الفقهاء انّه استنبط من سورة «المسد» قرابة عشرين حكماً فقهياً، كما استنبطوا من قوله سبحانه: ( قالَ إِنِّي أُريدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحدى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ على أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَج فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ… ) ( [810]) أحكاماً شرعية.
وهذا بالنسبة إلى ما ذكرناه من سعة آفاق دلالة القرآن ليس بغريب.
ج . التدرّج في التشريع
نزل القرآن تدريجيّاً قرابة ثلاث وعشرين سنة لأسباب و دواع مختلفة اقتضت ذلك، وأشار إليها الذكر الحكيم في غير واحد من الآيات:
قال سبحانه: ( وَقُرآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النّاسِ عَلى مُكْث وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً ) ( [811]) أي فرقنا نزوله كي تقرأه على الناس على مهل وتريث.
كما أشار في آية أُخرى إلى داع آخر، قال سبحانه: ( وَقالَ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً ) ( [812]) فتثبيت فؤاد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أحد الأسباب التي دعت إلى نزول القرآن بين الحين والآخر وفي غضون السنين، شاحذاً عزمه (صلى الله عليه وآله وسلم) للمضيّ في طريق الدعوة بلا مبالاة لما يتّهمونه به.
والآية تعرب عن أنّ الكتب السماوية الأُخرى كالتوراة و الإنجيل والزبور نزلت جملة واحدة، فرغب الكفار في أن ينزل القرآن مثلها دفعة واحدة.
وليست الدواعي للنزول التدريجي منحصرة فيما سبق، بل أنّ هناك أسباباً ودواعي أُخر دعت إلى نزوله نجوماً، و هي مسايرة الكتاب للحوادث التي تستدعي لنفسها حكماً شرعياً، فإنّ المسلمين كانوا يواجهون الأحداث المستجدَّة في حياتهم الفردية و الإجتماعية و لم يكن لهم محيص من طرحها على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بغية الظفر بأجوبتها، وقد تكرر في الذكر الحكيم قوله سبحانه: ( يَسْأَلُونَكَ ) قرابة خمس عشرة مرّة و تصدى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للإجابة عنها، و تختلف تلك المواضيع بين الاستفسار عن حكم شرعي، كحكم القتال في الشهر الحرام، والخمر، والميسر، والتصرف في أموال اليتامى، والأهلّة، والمحيض، والأنفال، وغير ذلك; أو الاستفسار عن أُمور كونية كالروح والجبال والساعة.
وهناك شيء آخر ربما يؤكد لزوم كون التشريع أمراً تدريجياً، وهو أنّ موقف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تجاه أُمته كموقف الطبيب من مريضه، فكما أنّ الطبيب يعالج المريض شيئاً فشيئاً حسب استعداده، فكذلك الطبيب الروحي يمارس نشاطه التربوي طبقاً لقابليات الأُمة الكامنة بغية الاستجابة، لئلاّ تُثبط عزائمُهم و يُطفأ نشاطهم ويُثقل كاهلهم.
ومع ذلك فإن كانت الظروف مهيّئة لنزول تشريع أكثر تفصيلاً وأوسع تعقيداً وافاهم الوحي به، كما في قوله سبحانه: ( قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاق نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتي حَرَّمَ اللّهُ إِلاّ بِالحَقِّ ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) . ( [813])
وقال سبحانه: ( وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالّتي هِيَ أَحْسَنُ حَتّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها وَ إِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى وَ بِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) . ( [814])
حيث تجد أنّ الآيتين تتكفّلان تشريع عشرة أحكام تُعَدُّ من جوامع الكلم، وقد روى أمين الإسلام الطبرسي، قال: روى علي بن إبراهيم، قال: خرج أسعد بن زرارة و ذكوان إلى مكة في عمرةِ رجب يسألون الحلف على الأوس، وكان أسعد بن زرارة صديقاً لعتبة بن ربيعة، فنزل عليه، فقال له: إنّه كان بيننا وبين قومنا حرب وقد جئناكم نطلب الحلف عليهم، فقال عتبة: بعُدت دارنا عن داركم ولنا شغل لا نتفرغ لشيء، قال: وما شغلكم وأنتم في حرمكم وأمنكم؟! قال له عتبة: خرج فينا رجل يدّعي انّه رسول اللّه، سفّه أحلامنا، وسبّ آلهتنا، وأفسد شبابنا، وفرّق جماعتنا، فقال له أسعد: من هو منكم؟ قال: ابن عبد اللّه بن عبد المطلب، من أوسطنا شرفاً، وأعظمنا بيتاً; و كان أسعد وذكوان وجميع الأوس والخزرج يسمعون من اليهود الذين كانوا بينهم أبناء «النضير» و «قريظة» و «قين قاع» انّ هذا أوان نبي يخرج بمكة يكون مهاجره بالمدينة لنقتلنَّكم به يا معشر العرب، فلمّا سمع ذلك أسعد وقع في قلبه ما كان سمعه من اليهود، قال: فأين هو؟ قال: جالس في الحجر، وانّهم لا يخرجون من شعبهم إلاّ في الموسم، فلا تسمع منه ولا تُكلّمه، فإنّه ساحر يسحرك بكلامه، وكان هذا في وقت محاصرة بني هاشم في الشعب، فقال له أسعد: فكيف أصنع وأنا معتمر لابدّ لي أن أطوف بالبيت؟ فقال: ضع في أُذنيك القطن، فدخل أسعد المسجد وقد حشا أُذنيه من القطن، فطاف بالبيت ورسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) جالس في الحجر مع قوم من بني هاشم، فنظر إليه نظرة، فجازه.
فلمّـا كان في الشوط الثاني قال في نفسه: ما أجد أجهل منّي أيكون مثل هذا الحديث بمكة فلا أعرفه حتى أرجع إلى قومي فأخبرهم، ثمّ أخذ القطن من أُذنيه و رمى به، وقال لرسول اللّه: أنعم صباحاً، فرفع رسول اللّه رأسه إليه و قال: «قد أبدلنا اللّه به ما هو أحسن من هذا تحية أهل الجنة: السّلام عليكم» فقال له أسعد: إنّ عهدك بهذا لقريب إلى مَ تدعو يا محمد؟ قال: «إلى شهادة أن لاإله إلاّ اللّه و انّي رسول اللّه، وأدعوكم:
( أَلاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاق نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتي حَرَّمَ اللّهُ إِلاّ بِالحَقِّ ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالّتي هِيَ أَحْسَنُ حَتّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها وَ إِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى وَ بِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) . ( [815])
فلما سمع أسعد هذا قال: أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له، وانّك رسول اللّه. يا رسول اللّه بأبي أنت وأُمّي أنا من أهل يثرب من الخزرج، وبيننا وبين إخواننا من الأوس حبال مقطوعة، فإن وصلها اللّه بك فلا أجد أعزّمنك، ومعي رجل من قومي فإن دخل في هذا الأمر رجوت أن يتمم اللّه لنا أمرنا فيك، واللّه يا رسول اللّه لقد كنّا نسمع من اليهود خبرك، وكانوا يبشّروننا بمخرجك، ويخبروننا بصفتك، وأرجو أن تكون دارنا دار هجرتك، وعندنا مقامك، فقد أعلمنا اليهود ذلك، فالحمد للّه الذي ساقني إليك، واللّه ما جئت إلاّ لنطلب الحلف على قومنا، وقد أتانا اللّه بأفضل ممّا أتيت له. ( [816])
ومع ذلك كلّه فالتدرّج هو المخيِّم على التشريع، خاصة فيما إذا كان الحكم الشرعي مخالفاً للحالة السائدة في المجتمع، كما في شرب الخمر الذي ولع به المجتمع الجاهلي آنذاك، فمعالجة هذه الرذيلة المتجذّرة في المجتمع رهن طيّ خطوات تهيّئ الأرضية اللازمة لقبولها في المجتمع.
وقد سلك القرآن في سبيل قلع جذور تلك الرذائل مسلك التدرّج.
فتارة جعل السكر مقابلاً للرزق الحسن، وقال: ( وَمِن ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً ) .( [817])
فاعتبر اتّخاذ الخمر من التمور والأعناب ـ في مجتمع كان تعاطي الخمر فيه جزءاً أساسياً من حياته ـ مخالفاً للرزق الحسن، وبذلك أيقظ العقول.
وهذه الآية مهّدت وهيّئت العقول و الطبائع المنحرفة لخطوة أُخرى في سيرها نحو تحريم الخمر، فتلتها الآية الثانية معلنة بأنّ في الخمر والميسر إثماً ونفعاً، ولكن إثمهما أكبر من نفعهما، قال سبحانه: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنّاسِ وَإِثْمُهُُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ) . ( [818])
إنّ هذا البيان وإن كان كافياً إلاّ أنّ جماهير الناس لا يقلعون عن عادتهم المتجذّرة ما لم يرد نهي صريح حتى وافتهم الآية الثالثة، قال سبحانه: ( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُون ) ( [819]) فالآية الكريمة جاءت بالنهي الصريح عن شرب الخمر في وقت محدّد، أي عند إرادة الصلاة بغية الوقوف على ما يتلون من القرآن و الأذكار. فهذه الخطوات الثلاث هيّئت أرضية صالحة للتحريم القاطع الذي بيّنه سبحانه في قوله: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّما الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَالأَنْصابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) .( [820])
وأدلّ دليل على أنّ التشريع القرآني كان يتمتع بالتدرّج، تتابع الأسئلة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في فترات مختلفة بغية إجابة الوحي عنها، قال سبحانه:
( يَسْأَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْر فَلِلْوالِدَيْنِ وَالأَقْرَبين ) . ( [821])
( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتال فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبير ) .( [822])
( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِقُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ ) .( [823])
( وَ يَسْأَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ) .( [824])
( وَ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصلاحٌ لَهُمْ خَيْر ) .( [825])
( وَ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحيضِ قُلْ هُوَ أَذىً ) .( [826])
( يَسْأَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ) .( [827])
( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفالِ قُلِ الأَنْفالُ للّهِ وَالرَّسُول ) .( [828])
وقد جاء في بعض الآيات لفظ الاستفتاء بدل السؤال: قال سبحانه:
( وَ يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ ) .( [829]) 10. ( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلالَة ) .( [830])
وممّا يدل أيضاً على أنّ التشريع القرآني أخذ لنفسه صورة التدرّج هو انّ الآيات المتضمّنة للأحكام الشرعية منبثة في سور شتى غير مجتمعة في محل واحد، وهذا يوضح انّ التشريع لم يكن على غرار التشريع في التوراة الذي نزل دفعة واحدة يقول سبحانه: ( وَكَتَبْنا لَهُ فِي الأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيء مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْء فَخُذْها بِقُوَّة وأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُورِيكُمْ دارَ الْفاسِقِين ) .( [831])
وقال: ( وَلَمّا سَكَتَ عَنْ مُوسى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ) . ( [832])
هذا بعض الكلام في ملامح التشريع الإسلامي ثبوتاً وإثباتاً قدمتها للمؤتمر العالمي الحادي عشر (ربيع الأول 1419 هـ) للوحدة الإسلامية، عسى أن يوفق أصحابنا لجمع شمل المسلمين وتقريب خطاهم.
الهوامش
[769] . أُلقيت في المؤتمر العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية المنعقد في طهران عام 1419هـ .
[770] . المائدة: 91.
[771] . العنكبوت: 45.
[772] . الفرقان: 64.
[773] . الأعراف: 32.
[774] . نهج البلاغة: باب الحكم، الحكمة 390، طبعة صبحي الصالح.
[775] . الحج: 78.
[776] . المائدة: 6.
[777] . الوسائل: 12/364 ح 3 و 4 ، الباب 17 من أبواب الخيار .
[778] . البقرة: 185.
[779] . أحمد بن حنبل: المسند: 5/ 266.
[780] . الكافي: 2/70 ح 1.
[781] . البقرة: 190.
[782] . البقرة: 194.
[783] . الشورى: 40.
[784] . الأنعام: 164.
[785] . البقرة: 228.
[786] . الحجرات: 13.
[787] . الكافي: 8/246 برقم 342.
[788] . المجادلة: 22.
[789] . آل عمران: 138.
[790] . إبراهيم: 52.
[791] . القصص: 43.
[792] . يونس: 57.
[793] . النحل: 89.
[794] . غافر: 84 ـ 85.
[795] . ابن شهر آشوب: مناقب آل أبي طالب: 4/403 ـ 405.
[796] . المدثر: 42 ـ 43.
[797] . الليل: 17 ـ 18.
[798] . البقرة: 282.
[799] . البقرة: 282.
[800] . الكافي: 1/ 60ـ 61، باب الرد إلى الكتاب والسنّة، الحديث 6و7و 9.
[801] . الكافي: 1/ 60ـ 61، باب الرد إلى الكتاب والسنّة، الحديث 6و7و 9.
[802] . الكافي: 1/ 60ـ 61، باب الرد إلى الكتاب والسنّة، الحديث 6و7و 9.
[803] . النساء: 43.
[804] . الوسائل: 18، الباب 4 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 5و 6.
[805] . المائدة: 38ـ 39.
[806] . الوسائل: 18، الباب 4 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 5و 6.
[807] . جمال الدين المقداد السيوري: كنز العرفان في فقه القرآن: 1/ 5.
[808] . عبد الوهاب خلاف: خلاصة تاريخ التشريع الإسلامي: 28ـ 29.
[809] . المسد: 1ـ 2.
[810] . القصص: 27ـ 28.
[811] . الإسراء: 106.
[812] . الفرقان: 32.
[813] . الأنعام: 151.
[814] . الأنعام: 152.
[815] . الأنعام: 151ـ 152.
[816] . الطبرسي: إعلام الورى: 55ـ 57.
[817] . النحل: 67.
[818] . البقرة: 219.
[819] . النساء: 43.
[820] . المائدة: 90.
[821] . البقرة: 215.
[822] . البقرة: 217.
[823] . البقرة: 219.
[824] . البقرة: 219.
[825] . البقرة: 220.
[826] . البقرة: 222.
[827] . المائدة: 4.
[828] . الأنفال: 1.
[829] . النساء: 127.
[830] . النساء: 176.
[831] . الأعراف: 145.
[832] . الأعراف: 154.
المصدر: مکتب المرجع الديني آية الله الشيخ جعفر السبحاني