نظرية منطقة الفراغ التشريعي عند السيد محمد باقر الصدر عرض ونقد

الاجتهاد: تعد نظرية “منطقة الفراغ التشريعي” من أهم الابتكارات الفقهية والفكرية التي قدمها الشهيد السيد محمد باقر الصدر (رضوان الله عليه) في كتابه “اقتصادنا”.

تهدف هذه النظرية إلى معالجة المساحات التي لم يرد فيها تشريع إسلامي تفصيلي، حيث ترك الشارع المقدس للدولة الإسلامية وولي الأمر صلاحية سنِّ القوانين وفقًا لمتطلبات الزمان والمكان، ضمن الإطار العام للشريعة الإسلامية.

تسهم هذه النظرية في إبراز مرونة الإسلام وقدرته على التكيف مع التطورات المتغيرة عبر العصور.

المبحث الأول: مفهوم منطقة الفراغ التشريعي

1. تعريف منطقة الفراغ

يشير مصطلح “منطقة الفراغ التشريعي” إلى المساحات القانونية التي لم يحددها التشريع الإسلامي تفصيليًا، تاركًا لولي الأمر حق تنظيمها وفقًا للمصلحة العامة.

2. الأساس الفلسفي والشرعي

يقوم مفهوم منطقة الفراغ على أن الإسلام لم يضع لكل قضية تفصيلًا دقيقًا، بل وضع مبادئ عامة وترك لولي الأمر صلاحية إصدار الأحكام بما يتماشى مع تلك المبادئ. ويستند الصدر في نظريته إلى قاعدة “لا ضرر ولا ضرار” وقاعدة “المصلحة العامة”، إضافة إلى مفاهيم الاجتهاد المقاصدي.

3. الفرق بين منطقة الفراغ والتشريع الإلهي

الأحكام الثابتة: هي الأحكام الشرعية التي نصَّ عليها القرآن الكريم والسنة النبوية وأقوال أهل البيت (عليهم السلام).

منطقة الفراغ: هي المساحة التي لم يرد فيها نص شرعي تفصيلي، وتُترك لولي الأمر لملئها وفقًا للمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية.

المبحث الثاني: دور ولي الأمر في ملء منطقة الفراغ

1. صلاحيات ولي الأمر

منح السيد الصدر لولي الأمر دورًا مهمًا في التشريع، حيث يملأ منطقة الفراغ وفقًا للضرورات الاجتماعية، ولكن ضمن الضوابط الشرعية. وهذا مستند إلى مفهوم “ولاية الفقيه” في الفقه الشيعي.

2. الأدلة الفقهية على ولاية التشريع في منطقة الفراغ

يستدل الصدر بعدة آيات وروايات تبيّن أن ولي الأمر يمتلك صلاحية تشريعية، مثل قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (النساء: 59)، إضافة إلى روايات عن الإمام الصادق (عليه السلام) حول مرونة التشريع في المستجدات.

المبحث الثالث: تطبيقات نظرية منطقة الفراغ

1. التشريعات الاقتصادية

استخدم الصدر هذه النظرية لتبرير وضع قوانين اقتصادية إسلامية حديثة، مثل قوانين البنوك والتأمين، التي لم يكن لها نظير في العصر النبوي.

2. التشريعات الاجتماعية والسياسية

يمكن أن تنطبق النظرية على القوانين المدنية، مثل تنظيم المرور، أو قوانين الأحزاب السياسية، حيث لا يوجد نص شرعي مباشر ينظمها.

3. الفارق بين الاجتهاد التقليدي ومنطقة الفراغ

الاجتهاد التقليدي يعتمد على استنباط الأحكام من النصوص الشرعية، بينما منطقة الفراغ تمنح ولي الأمر صلاحية إصدار قوانين جديدة وفقًا لمقتضيات العصر، دون أن يكون ذلك استنباطًا مباشرًا من النصوص.

الخاتمة

تُعدّ نظرية منطقة الفراغ التشريعي إضافة نوعية للفكر الإسلامي، حيث توفر آلية لمواكبة التطورات المستمرة دون الخروج عن المبادئ الإسلامية. ومن خلال هذه النظرية، يتضح أن الإسلام ليس مجرد منظومة مغلقة من الأحكام، بل يمتلك القدرة على التكيف مع احتياجات المجتمعات المختلفة عبر الزمن.

نقد نظرية منطقة الفراغ التشريعي للسيد محمد باقر الصدر

أولًا: الجوانب الإيجابية للنظرية

• المرونة التشريعية

• تُعدّ النظرية خطوة متقدمة في استيعاب المستجدات القانونية والاجتماعية، إذ تمنح ولي الأمر سلطة تنظيم القوانين وفق المصلحة العامة، مما يثبت أن الإسلام ليس نظامًا جامدًا بل قادر على التطور.

• انسجامها مع ولاية الفقيه

• النظرية تواكب الفقه الشيعي في مفهوم “ولاية الفقيه”، حيث تعطي للفقيه سلطة تنظيمية تتناسب مع واقع الدولة الحديثة، مما يعزز حضور الفقيه في المجال التشريعي.

• تقديم مقاربة فقهية وسطية

• النظرية لا تلغي التشريع الإسلامي، لكنها تترك مجالًا للاجتهاد في المساحات غير المنصوص عليها، وهذا يوازن بين ثبات النصوص وضرورة التكيف مع العصر.

• إيجاد إطار فقهي للقوانين الحديثة

• النظرية تتيح إمكانية تبني قوانين مثل الضرائب، وتنظيم الأسواق، والبنوك الإسلامية، والتي لم تكن موجودة في العصور الإسلامية الأولى، ولكنها ضرورية اليوم.

ثانيًا: الإشكالات والنقد الموجه للنظرية

• حدود سلطة ولي الأمر

• لم يضع الصدر معيارًا صارمًا لتحديد مدى سلطة ولي الأمر في التشريع ضمن منطقة الفراغ، مما قد يفتح المجال لسن قوانين تتعارض مع روح الشريعة بحجة المصلحة العامة.

• هل يمكن لولي الأمر إلغاء بعض الأحكام الشرعية بدعوى أن الزمن تجاوزها؟ هذه المسألة تبقى غامضة.

• إمكانية إساءة استخدام النظرية

• رغم أن الصدر وضع ضوابط عامة، إلا أن فتح باب التشريع لولي الأمر قد يؤدي إلى الاستبداد التشريعي، خاصة إذا تم استخدام المصلحة العامة بشكل غير منضبط.

• على سبيل المثال، يمكن للحكومات أن تبرر قوانين صارمة أو حتى قمعية بذريعة “تنظيم منطقة الفراغ”.

• محدودية تطبيق النظرية

• النظرية تبدو فعالة في الأمور الإدارية والتنظيمية، لكنها قد تواجه صعوبة في القضايا الكبرى مثل الحدود والقصاص والعلاقات الدولية، حيث يفرض الفقه قيودًا واضحة.

• ماذا لو نشأت مسائل حديثة في الطب أو الذكاء الاصطناعي؟ هل يملك ولي الأمر صلاحية إصدار تشريعات فيها بمعزل عن الأحكام الشرعية التقليدية؟

• الإشكال الفقهي: هل هناك فعلًا منطقة فراغ؟!

• ان الآيات والروايات تشير إلى شمولية التشريع الإلهي وعدم ترك أي واقعة بلا حكم، ومن ذلك:

1. الآيات القرآنية

{مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَـٰبِ مِن شَىْءٍ} (الأنعام: 38)

{ٱلۡیَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِینَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَیۡكُمۡ نِعۡمَتِی وَرَضِیتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَـٰمَ دِینࣰا} (المائدة: 3)

{فَإِن تَنَازَعۡتُمۡ فِی شَیۡءࣲ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ} (النساء: 59)

2. الروايات

الإمام الصادق (ع): “ما من شيء إلا وفيه كتاب أو سنة” (الكافي، ج1، ص59).

الإمام الباقر (ع): “إن الله تبارك وتعالى لم يدع شيئًا تحتاج إليه الأمة إلا أنزله في كتابه وبيَّنه لرسوله” (الكافي، ج1، ص77).

الإشكال بناءً على هذه النصوص

إذا كان لكل واقعة حكم إلهي، فكيف يمكن القول بوجود “منطقة فراغ” تحتاج إلى تشريع من ولي الأمر؟ ألا يعني ذلك أن هناك نقصًا في الشريعة، وهو ما يتعارض مع مفهوم ختم النبوة وإتمام الدين؟

محاولة التوفيق بين النظرية والنصوص

قد يُجاب عن هذا الإشكال بأن الأحكام الشرعية نوعان:

1. الأحكام الثابتة: وهي الأحكام التي لا تتغير، مثل العبادات والحدود.
2. الأحكام المتغيرة: وهي التي تتعلق بالمستجدات، ويمكن للفقيه أو ولي الأمر إصدار قرارات تنظيمية بشأنها وفق القواعد العامة.

لكن يبقى السؤال قائمًا: هل هذه الأحكام المستجدة هي “تشريع جديد” أم مجرد تطبيق لأحكام كلية موجودة أصلًا؟ إذا كانت مجرد تطبيق، فلا حاجة لنظرية منطقة الفراغ، لأن الفقيه سيكتفي باستنباط الحكم من المصادر الشرعية. أما إذا كانت تشريعًا جديدًا، فقد يُفهم منه أن هناك نقصًا في التشريع الإلهي، وهو ما يُرفض من الناحية الأصولية.

إذن، هل ترى أن منطقة الفراغ هي مجرد تسمية أخرى لما يسميه الأصوليون بـ”التنظيمات الولائية”، أم أنها تشير إلى نقص حقيقي في التشريع الإلهي؟

نعم، يمكن القول إن ما يُسمّى “منطقة الفراغ التشريعي” لا يعني أن هناك نقصًا في التشريع الإلهي، وإنما يشير إلى مساحة تتعلق بالتطبيقات العملية للأحكام الشرعية وفق مقتضيات الزمان والمكان. وهذه ليست فراغًا حقيقيًا، بل هي مجالات تخضع لاجتهاد الفقيه وولي الأمر في ضوء القواعد العامة والمقاصد الشرعية.

بمعنى آخر، يمكن القول إن منطقة الفراغ ليست نقصًا في التشريع، بل هي “مجال للتصرف الولائي” وفق الضوابط الشرعية، ولا يخرج ذلك عن إطار القواعد الكلية الموجودة في الشريعة. وبالتالي، فإن التشريعات التي يصدرها ولي الأمر ليست تشريعًا بمعنى الاستقلال عن الأحكام الإلهية، وإنما هي تنظيمات ولائية تستند إلى الأحكام العامة والمصلحة الشرعية.

بهذا الفهم، يمكن التوفيق بين النصوص التي تؤكد شمولية التشريع الإلهي وبين الحاجة إلى قرارات تنظيمية في الأمور المستجدة. فهل ترى أن هذا الطرح يحقق توازنًا بين الجانبين؟

الخاتمة
نظرية منطقة الفراغ التشريعي تمثل محاولة فقهية جادة لمواكبة تطورات العصر، وهي تسهم في جعل الشريعة الإسلامية أكثر مرونة. لكنها تحتاج إلى مزيد من الضبط الفقهي، لضمان عدم استغلالها في تشريعات قد تتجاوز الحدود الشرعية. قد يكون من الأفضل وضع آليات رقابية، مثل اشتراط موافقة مجلس فقهي مستقل على التشريعات الصادرة ضمن منطقة الفراغ، لضمان انسجامها مع مقاصد الشريعة.

السيد فاضل الموسوي الجابري
10 شوال 1446 الموافق 9 نيسان 2025م النجف الاشرف

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

Clicky