أرى انه مادام لم تتضح نظرية الاسلام حول الاختلاف الفكري داخل الامة فكل حل يقترح تجاه الاختلاف والتطرف، لا يصل الى نتيجة، لان عملية استغلال الفكر لمواجهة الاخر تبقى على حالها.
موقع الاجتهاد: عند ما شاركت في المؤتمر الذي أقامه الأزهر الشريف حول مكافحة العنف، قلت في كلام ألقيته هناك ان على علمائنا من مختلف المذاهب التجاوز عن التركيز على “آداب الاختلاف”، فانه رغم أهميتها ورغم ضرورة متابعتها، لا تستطيع تنظيم وترشيد الاختلافات الفكرية ومنعها من الدور الذي تلعبه في ايجاد الصراعات والنزاعات في مجتمعاتنا الاسلامية …
فان هذه الآداب جاءت وتكونت وطرحت للتحكم بحوارات مدرسية، فلو تفعل هذه الآداب شيئا فهو لا يعدو عن تنظيم وترشيد حوارات ومباحثات علمية تجري في نطاق محدود بين العلماء، وطرح أخلاقيات وتوصيات لهم في هذا المجال، فمثل هذا الأداء لا يمتلك نطاقا واسعا ولا قوة في اللعب بالدور حتى نستغله للاختلافات الفكرية.
ببيان آخر ان الامر الخطير الذي نواجهه هو ليس مباحثة علمائية بحتة، حتى نلتجأ الى آداب الاختلاف للتحكم بها، بل هو اختلافات فكرية نفذت في التاريخ والمجتمع، فخلقت الفئات، وأحدثت النزعات، وأوجدت التوجهات، وحركت المذاهب، وتصور ان نعالج هذا الامر الخطير عبر التركيز على آداب الاختلاف توهم وخيال.
فقلت في ذلك الكلام اننا في أمس الحاجة الى القيام بالتنظير حول رأي الاسلام في الاختلافات الفكرية، فالذي نتعطش له في هذه الظروف الحرجة هي نظرية الاختلاف الفكري في الاسلام.
وبعبارة اخرى هناك مقدمتان تتبعهما نتيجة، وهما:
اولا:
هناك نزاعات وصراعات داخل الامة، سببت تضعيفها واوجبت تأخرها وأورثت عدم الامن لها و….
ثانيا:
ان هذه النزاعات، عليها مسحة من الاختلاف الفكري، فكل طرف من الاطراف المتواجدين في معركة الصراع يتغذى ويتقوى بمجموعة من افكار يتصور انها الاسلام، وينطلق منها لمواجهة الطرف الاخر او الاطراف الاخر بقوة.
النتيجة: علينا ان نرجع الى هذا الاسلام كي نسأله عن رأيه حول هذا الاختلاف الفكري الجبار الذي حصل بين الامة ففرقها استغلاله، وشتتها الاعتماد عليه.
فبنظري انه مادام لم تتضح نظرية الاسلام حول الاختلاف الفكري داخل الامة فكل حل يقترح تجاه الاختلاف والتطرف، لا يصل الى نتيجة، لان عملية استغلال الفكر لمواجهة الاخر تبقى على حالها.
وفي تلك الجلسة لم تتسن الفرصة للدخول في عرض النظرية أو الاشارة الى اجزاء منها بل تمكنت من الدعوة اليها فقط.
توضيح النظرية:
يبدو لي أن “نظرية الاسلام في الاختلاف الفكري” ما يتمثل في النقاط التالية:
الاختلاف الفكري متجذر في طبيعة الانسان:
إن الإنسان قد فطر على امكانيات واستعدادات وجودية، لها خصوصيتان:
الخصوصية الاولى: تختلف هذه الامكانيات والاستعدادات الوجودية من حيث الشدة والضعف في افراد الانسان، مما كانت نتيجته عدم كون الأفراد على مستوى واحد في امتلاكها.
الخصوصية الثانية: ان هذه الامكانيات والاستعدادات الوجودية، تتأثر “عملية انتقالها من حالة القوة الى حالة بالفعل” بعوامل زمانية ومكانية.
وبما ان هذه العوامل مختلفة ومتغيرة، كما هو معلوم فالتأثر بهذه العوامل المتغيرة يعني الاعتراف بما يلي:
أ. ان بعض هذه الامكانيات قد تصبح عند بعض بالفعل ولا تصبح كذلك عند بعض آخر.
ب. ان بعض هذه الامكانيات قد تتأطر صيرورتها بالفعل عند بعض بصورة وعند بعض آخر بصورة اخرى.
ج. ان بعض هذه الامكانيات قد يصبح عند بعض بالفعل بمقدار خاص، ولدى بعض آخر بمقدار آخر.
وهاتان الخصوصيتان، انتهتا بالانسان الى ان یظهر له الاختلاف الفكري كواقع برز وترسخ في حياته.
فتوقع أن يحصل للكل تفكير واحد وعلى مستوى واحد، توهم بحت، كما هو معلوم.
انتقال الاختلاف الفكري من الاذهان الى المستويات الاجتماعية:
إنه لا يتجمد الاختلاف الفكري في أذهان الافراد؛ بل ينتقل- بحسب طبيعته- من أذهانهم الى المستوى الاجتماعي، ويتبلور على هذا المستوى؛ ذلك أن الاختلاف الفكري، لا تستقيم له حقيقة ولا يتكون له معنى الا بحصول وظهور الافكار المختلفة بين الأشخاص؛ حيث ان الانسان لايختلف مع نفسه، كما معلوم، فاذا كان موطن تولده الجمع، لا الفرد كان يتسم منذ الاول بطابع اجتماعي بل اكثر من ذلك يكون ذا ماهية جماعية.
تطور الاختلاف الفكري في المجتمع:
اذا كان الاختلاف الفكري من الظواهر الاجتماعية- كما مر وثبت في النقطة الثانية- فلا جرم تحكمه السنن الاجتماعية، والتي منها دخول الظاهرة في التفاعل مع بقية الظواهر الاجتماعية.
واذا دخل كظاهرة اجتماعية في التفاعل مع سائر الظواهر، فلا جرم يتطور ويتحول اثر هذا التفاعل وكنتيجة له، بل قد يتعقد.
وللكلام تتمة
المصدر: الموقع الرسمي لسماحة الشيخ أحمد المبلغي