الاجتهاد: أتيح لي أن أطلع على كتاب الفتاوى الواضحة، لمؤلفه العالم الجليل، والمفكر الألمعي، السيد محمد باقر الصدر، فكان أول ما بدر إلى ذهني عن الكتاب، في موضوعه، خواطر سانحات عن الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية، كلما دعت إليه داعية من دواعي الحياة، في تطورها، وتبدل الحال فيها غير الحال.
ولعل ذلك لان علماء الشيعة ـ أحسن اللّه إليهم ـ لم يفرطوا في الاجتهاد، ولا طاب لهم أن يجمدوا على ما بين أيديهم من كتب التراث الفقهي، ويدعوا الأمور من حولهم تجري في أعنتها، ايثاراً العافية والجمام، لكنهم أبوا ـ في ثقة واطمئنان ـ إلا أن يحملوا الأمانة، التي ندبوا لها، أخذاً على سنن سلفهم الصالح في العصور الأولى؛
فما من مشكلة دينية من مشاكل الحياة إلاّ درسوها، ورجعوا في أمرها إلى أصول التشريع ومصادر الاستنباط، ليخلصوا منها بالرأي السديد والحكم الرشيد، وبخاصة المعاملات المالية التي يدور عليها نشاط المصارف وكثير من الشركات.
إنها معاملات محدثة، ليس للناس بها عهد، ولا لهم فيها سلف. وهم لذلك يقفون حيالها حيارى، لا يدرون ما هم صانعون بها، ثم تتفرق بهم السبل، فمنهم من يمسك عن تعاطيها خشية وتحرجاً. ومن يدري لعله لو استجاب لدَاعِيتَهِا لكان له منها خير كثير، ولقومه منها عون على البر، ومشاركة في تيسير الحياة العامة، والتنمية الاقتصادية.
ومنهم من لا يثبت على مقاومة الدعاية لهذه المعاملات، فلا يسعه إلا أن يقبل عليها، قلقاً أو مطمئناً، وهو آخراً آنسٌ بها، وراض عنها، بالمعاودة والتكرار.
إلا أنه إذا صح لأهل دين أن يمسكوا عن النظر في أصول دينهم، والاستنباط منها عند الحاجة، فليس يصح ذلك من فقهاء المسلمين، فهم يعلمون أن الإسلام يكرم العقل، ويطلق له حرية التفكير في ملكوت السموات والأرض، وفي كل ما خلق اللّه من شي، ويدعوه إلى تدبر القرآن، وإعمال النظر فيه، ليكون الإيمان الذي يحث عليه عن بينة واقتناع، لاعن متابعة غافلة، وتفكير لا وعي معه، فهو سبحانه يقول: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لاولي الألباب، الذين يذكرون اللّه قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السموات والأرض: ربنا ما خلقت هذا باطلاً}، ويقول: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون؟}، ويقول: {كتاب أنزلناه إليك مبارك، ليدبروا آياته}.
إذن يمكن أن يقال بحق: إن علماء الشيعة ـ من هذا الجانب ـ آخذون بسنة السابقين الأولين من أئمة المسلمين، وأحرص على وصل الحاضر بالماضي، لتمضي المسيرة الشرعية في طريقها قدماً، لا تصدها المشكلات العارضة، أو يعوقها التهاون والإعراض.
بعث هذه الخواطر في نفسي أن كتاب [ الفتاوى الواضحة ] مصنف في فقه الشيعة، وإن مؤلفه الجليل من كبار أئمتهم المجتهدين المبرزين، ثم أقبلت على الكتاب أطلع طَلْعَه، وأتنقل فيه من قضية إلى قضية، فراقني منهجه، ووضوح بيانه، لا يزيدني الإيغال فيه إلا إقبالاً عليه، وإعجاباً به.
وقد يظن ظانّ أن كتاباً يؤلف في الفقه ليس بالعمل الكبير، ولا هو بالذي يعز على المحاولة لمن يريد، فالمادة مبذولة، وما هي ممن يطلبها بعيد. وهو ظن يمكن التسليم به، وإقرار صاحبه عليه، أو وقف المؤلف ـ في تأليفه على مجرد الجمع والترتيب، لا تتمثل فيه شخصيته، ولا خصائص منهجه، ومذاهب تفكيره.
أما أن يكون الكتاب على مثال: [ الفتاوى الواضحة ]، ثمرة الدراسة العميقة لأحكام الفقه، والإحاطة الشاملة بمسائله، والفهم الدقيق لمصادره وموارده، لا تمتنع عليه خوافيه، ولا تغرب عنه أسراره. أما أن يكون الكتاب على هذه الصّبْغَةِ؛ فهو عمل كبير لا يتيسر مثله إلا للقليل.
وبعد، فإن السيد الباقر عالم رحب الأفق، متعدد الجوانب، له مشاركة محمودة في كثير من العلوم ـ قديمها والحديث ـ. ولا يتسع المقام لتعريف سائر كتبه، فذلك حديث يطول، ولكني أكتفي بكلمة عن كتابه: [الفتاوى الواضحة]، فهو يمثل صورة من اجتهاده في استنباط الأحكام، إلى أنه وثيق الصلة بكتاب [الفتاوى الواضحة].
إن كتاب [البنك اللاربوي في الإسلام]، يعالج مشكلة الربا في المعاملات المصرفية. وهو ـ إذ يتناول هذه المشكلة بالدراسة والتحليل ـ يتحرى الأخذ بالتشريع الإسلامي، نصاً وروحاً. وهذه هي الأسس التي رأى أن تقوم عليهما دراسة القضايا التي يتضمنها [البنك اللاربوي في الإسلام]:
1ـ ألا يخالف أحكام الشريعة المقدسة.
2ـ أن يكون قادراً على الحركة والنجاح في إطار واقع الحياة.
3ـ أن تمكنه صبغته الإسلامية من النجاح بوصفه بنكاً.
والسيد الباقر، إذ يمضي في الحديث عن موضوعه، يلتزم الأخذ بهذه المبادئ، ويكشف عن إحاطة شاملة بالمعاملات المصرفية، وعن تعمق في فهم أحكام الشريعة، وقدرة على الإفادة منها في مواجهة محدثات العصر، في غير تكلف ولا اعتساف.
ومن الخير للذين يدرسون المعاملات المصرفية، على نور من شريعة اللّه، أن يطلعوا على كتاب [8]، وأنا واثق أنهم سيجدون منه عوناً صادقاً، وقبساً هادياً، فيما هم بسبيله، إن شاء اللّه.
بقلم الأستاذ الكبير
الدكتور علي النجدي ناصف
عميد كلية دار العلوم
جامعة القاهرة ـ سابقاً وعضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة
المصدر: مركز الابحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر