الشهيد الصدر

مواقف وذكريات لا تُنسى… حوار مع السيد محمد الغروي

الاجتهاد: أذكر أنّ أحد الإخوان العراقيّين أراد أن يتعمّم، والعرف الذي كان قائماً في النجف، ولا يزال، أنّه إذا أراد شخص أن يتعمّم، فيكون ذلك على يد مرجع معروف ومشهور، فطلب مني حجز موعد له عند سماحة السيد الصدر قدس سره، وعندما قصده ذلك الأخ، ألبسه سماحته العمامة، وممّا قاله له: “يا فلان، هذه العمامة على رأسك تعني أنّك دخلت في خطّ الأنبياء والرسل والأئمّة عليهم السلام. هذا الخطّ مليء بالآلام والعذابات، لذلك عليك أن تتحمّل المصاعب كلّها، ولا تتصوّر أنّ القضيّة مجرّد ارتداء عمامة، بل عليك أن تحافظ على هذا الخطّ”.

“كنت أسمع بالسيّد محمّد باقر الصدر قدس سره، وكنت أراه يُدرّس في مسجد الهنديّ المعروف في النجف الأشرف، حيث كان التدريس في كحلقاتٍ في المساجد، وكنت أرى السيّد محمّد باقر الصدر قدس سره يُدرّس كفاية الأصول، وبعد درس كفاية الأصول، يبدأ بتدريس الخارج.

لكن لم أدرس عنده حتّى قال لي ابن خالي: تعالَ إلى بحث السيّد الصدر قدس سره، وستعرف الفرق بين دروسه ودرس غيره، وبالفعل هذا ما حصل، ولم أترك درسه بعدها”.

هكذا بدأت علاقة الشهيد الصدر قدس سره بأحد تلامذته سماحة السيّد محمّد الغرويّ*، الذي حدّث مجلّة بقيّة الله عن أجمل ذكرياته مع هذه الهامة الشامخة.

•كيف كانت علاقة السيّد محمّد باقر الصدر قدس سره بطلّابه؟ وهل كانت تقتصر على الحوزة والدروس الدينيّة فقط؟

كان السيّد قدس سره يستقبل طلّابه في بيته برحابة صدر، ويفسح لهم في المجال لطرح الأسئلة التي يريدون، وكان يجيبهم عن تساؤلاتهم كلّها، حتّى المحرجة منها.

لم يقتصر الأمر على المسائل الدينيّة، وإنّما تعدّاها للاهتمام بالأمور الشخصيّة أيضاً، وخصوصاً الماليّة منها. فكان يوعز إلى بعض طلّابه بمتابعة أوضاع الآخرين الماديّة، مهما كانت جنسيّاتهم؛ عراقيّين، أو لبنانيّين، أو خليجيّين، أو إيرانيّين، أو أفغاناً، حتّى لو كانوا يتابعون دروسهم عند علماء آخرين.

مضافاً إلى ذلك، كنّا خواصّ نجتمع في بيته -أي تلامذته- مرّة في الأسبوع لتناول الغداء معه. وقد شرّفني الله أن أجتمع معه على تلك المائدة المتواضعة. وكنّا من بعدها نتشاور في الأمور والمستجدّات المرتبطة بالحوزة ومشاكل العالَم الإسلاميّ، وكان يستمع إلى آراء الجميع حول مختلف المسائل والقضايا. فالسيّد قدس سره لم يكن أستاذنا فقط، وإنّما كان أباً وصديقاً وأخاً.

•عُرف السيّد قدس سره بتواضعه واحترامه الشديد للناس، هل من قصص توثّق ذلك؟

كان السيّد محمّد باقر الصدر قدس سره يقف احتراماً لأيّ شخص، لدرجة أنّه في كثير من الأحيان كان يقف ويجلس بشكل متواصل بسبب كثرة زوّاره. وكنّا نقول له حول ذلك: “سيّدنا، الناس يحضرون في كلّ لحظة، تستمرّ بالوقوف والجلوس الوقت كلّه؟! هذا الأمر سيتعبك”! ولكنّه لم يكترث للأمر؛ لأنّ احترام الضيوف أمر واجب لديه.

مضافاً إلى ذلك، كان ثمّة عادة نجفيّة هي أنّ العالِم هو من يستقبل الزوّار عند الباب ويودّعهم كذلك. ومن هذا المنطلق، كان سماحته يهتمّ بهذه المسألة أيضاً.

وثمّة قصّة أخرى تُظهر تواضعه؛ فعندما افتتح السيّد محمّد باقر الحكيم (رضوان الله تعالى عليه) مدرسة لطلاب العلوم الدينيّة، ذهب سماحته قدس سره لحضور الافتتاح.

وكان من العادات النجفيّة أيضاً أن يجلس العلماء في أوّل المجلس، إذ إنّه مكان الوجهاء والعلماء، ولكنّ السيّد الشهيد قدس سره رفض الجلوس هناك، واختار مكاناً له بين عامّة الناس في وسط المجلس.

•كيف كان سماحته قدس سره يتعاطى مع متغيّرات العصر؟ وهل كان يواكبها في دراسته؟

كان السيّد محمّد باقر الصدر قدس سره يشدّد على أهميّة مواكبة العلوم الحديثة المرتبطة بمتغيّرات العصر؛ إذ كان يقول إنّه يجب عدم الوقوف كثيراً عند الفلسفة القديمة؛ لأنّ الفلسفة يجب أن تكون في خدمة الدين. وكان يدعو إلى دراسة الفلسفة الحديثة والفلسفة الأوروبيّة بهدف نقدها وتوجيهها نحو معرفة الله سبحانه وتعالى ومعرفة العقائد.

•ماذا تذكرون عن حادثة اعتقاله الأولى؟ وكيف تعامل سماحته معها؟

عندما اعتُقل السيّد الشهيد الصدر قدس سره من قِبَل البعثيّين في المرّة الأولى، كان ذلك أوّل الليل، وكان حينها مريضاً وراح يتقيّأ، فنُقل إلى مستشفى الفرات الأوسط في الكوفة. عند الصباح، حضر أحد الإخوان وأخبرني أنّ السيّد اعتُقل أمس ليلاً وأنّه في المستشفى، فتوجّهنا إلى هناك لرؤيته.

فطلب منّا السيّد عبد الغنيّ (رضوان الله تعالى عليه)، وهو زميلنا ومن تلامذة السيّد الشهيد، وكان قد سبقنا لرؤيته، أن نحضر له الملابس من منزله. بعدها نُقل السيّد من مستشفى الكوفة إلى مستشفى النجف، فقصدته هناك، وبتّ ليلتي تلك برفقته.

وعلى الرغم من أنّه مريض ويداه مكبّلتان، إلّا أنّه لم يشتكِ أو يتألّم. وقال لي حينها: “نحن لسنا أفضل من الأئمّة عليهم السلام، فالإمام موسى بن جعفر عليه السلام أمضى سنوات في السجون وهو مكبّل بالأغلال والحديد! ما الذي قدّمناه مقابل ما قدّموه؟!”. وبعد يومين، أُطلق سراحه وعاد إلى بيته.

•من المعروف أنّ السيّد الشهيد قدس سره كان يُعمّم بعض طلبة العلوم الدينيّة. هل من نصائح كان يوجّهها لهم أثناء تأدية ذلك؟
كان السيّد الشهيد قدس سره يقول: إنّنا نسير على درب النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة الأطهار عليهم السلام، لذلك لدينا رسالة مهمّة يجب أن نؤدّيها استكمالاً لما بدأوا به عليهم السلام.

وأذكر أنّ أحد الإخوان العراقيّين أراد أن يتعمّم، والعرف الذي كان قائماً في النجف، ولا يزال، أنّه إذا أراد شخص أن يتعمّم، فيكون ذلك على يد مرجع معروف ومشهور، فطلب مني حجز موعد له عند سماحة السيّد الصدر قدس سره، وعندما قصده ذلك الأخ، ألبسه سماحته العمامة، وممّا قاله له: “يا فلان، هذه العمامة على رأسك تعني أنّك دخلت في خطّ الأنبياء والرسل والأئمّة عليهم السلام. هذا الخطّ مليء بالآلام والعذابات، لذلك عليك أن تتحمّل المصاعب كلّها، ولا تتصوّر أنّ القضيّة مجرّد ارتداء عمامة، بل عليك أن تحافظ على هذا الخطّ”.

•كيف كان يقضي السيّد محمّد باقر الصدر قدس سره أيّام العطلة؟
كانت العادة في حوزات النجف وقم، ولا تزال، أنّ يومَي الخميس والجمعة عطلة. وإذا صادف مرور ذكرى وفاة أو ولادة أحد الأئمّة عليهم السلام أو السيّدة الزهراء عليها السلام، تتوقّف الدروس، وكان سماحته يستغلّ يوم العطلة بالحديث عن مواضيع أخرى غير الفقه والأصول، فيتحدّث عن حياة الإمام عليه السلام وسيرته وتضحياته، ويوجّه التلاميذ إلى الإمام عليه السلام وإلى الله سبحانه وتعالى.

•هل استُفيد من خطب سماحته وكلماته لنشرها؟
وفّقني الله أن أجمع قسماً من محاضرات السيّد الصدر. وقبل أن أطبعها، عرضت عليه أن تُدقَّق من قِبَل متخصّص وضليع في اللغة العربيّة؛ لأنّ النصّ الخطابيّ يختلف عن النصّ المكتوب، فطلب منّي أن أتولى أنا الكتابة. وبالفعل، نُشرت تلك المحاضرات تحت عنوان: “تنوّع أدوار ووحدة هدف”.

وكان هدف هذا العمل، هو تعريف الناس بحياة الأئمّة عليهم السلام، والذين كان يوليهم حيّزاً مهمّاً في خطاباته، مضافاً إلى المسائل الفقهيّة والعقائديّة.

•كيف كان يتعاطى السيّد الشهيد محمّد باقر الصدر قدس سره مع قضيّة عاشوراء وكربلاء وطريقة إحيائها؟
كان السيّد الصدر قدس سره تربطه علاقات ببعض أساتذة الجامعات وطلّابها، وكان يستقبلهم في مناسبات عدّة. وقد قام مجموعة من أولئك الشباب الطيّيبين الطاهرين في النجف في مناسبة عاشوراء أبي عبد الله الحسين عليه السلام بتسيير مواكب سيّارة في أنحاء المدينة، وشملت هذه المواكب أنحاء العراق في ذكرى الأربعين، وكانت هذه الظاهرة تحدث لأوّل مرّة في العراق، وكانت المواكب تحمل أسماء الأساتذة والطلّاب وجامعاتهم، كأن يُقال مثلاً: موكب أساتذة جامعة بغداد وطلّابها.

وكان لهذا الموكب صدى كبير، إذ كانت تُرفع خلاله الشعارات التي تُعبّر عن مظلوميّة الإمام الحسين عليه السلام، مضافاً إلى شعارات إسلاميّة. أمّا السيّد الشهيد، فقد فرح كثيراً بطريقة الإحياء هذه، وكان يقول للناس إنّ مسيرات ومواكب كهذه يجب أن تُقام كي نُبيّن للعالم الهدف الذي جاء من أجله الحسين عليه السلام إلى كربلاء واستُشهد.

•كيف وأين كان اللقاء الأخير بالسيّد محمّد باقر الصدر قدس سره؟
كان قد مضى على عدم رؤيتي له نحو أربع أو خمس سنوات، فعلمت ذات يوم أنّه في مكّة المكرّمة يؤدّي العمرة. وعلى الفور، حجزت تذكرة سفر ولحقت به إلى هناك. وبعد تأدية العمرة ذهبنا معاً إلى جدّة ومكثنا في أحد الفنادق. حينها، طلبت منه الذهاب إلى لبنان أو سوريا، وعدم العودة إلى العراق لأسباب أمنيّة، فقال لي: “أيُعقل أن أترك أولادي وأهلي في النجف يُعتقلون ويُقتلون، فيما أنا خارج العراق؟ يجب أن أكون مثلهم ومعهم”.

في اليوم التالي، كان موعد العودة إلى بغداد، فطلبت مرافقته إلى المطار لتوديعه، فرفض ذلك قائلاً: “عندما أتيت إلى بغداد، كان بعض البعثيّين الأمنيّين يراقبونني. وعلى الرغم من أنّني لم ألمحهم خلال هذين اليومين، إلّا أنّني على يقين من أنّهم سيكونون في المطار وفي الطائرة التي سأكون فيها. لذلك، أخشى أن يصيبك أيّ مكروه بسببي. فلنودّع بعضنا بعضاً هنا في الفندق”.

•كيف تلقّيتم نبأ شهادته المباركة؟ وكيف كان وقعها عليكم؟
التقى في ذلك اليوم الشيخ عدنان زلغوط، وهو من طلاب الحوزة العلميّة اللبنانيّة في النجف بالسيّد محمّد باقر الحكيم قدس سره، فقال له الأخير إن السيّد محمّد باقر الصدر قدس سره استُشهد ليل أمس ودُفن، دون أن يعلم أحد بذلك. وطلب منه العودة إلى لبنان لنشر الخبر.

عاد الشيخ زلغوط إلى لبنان على وجه السرعة، وأخبر مجموعة من العلماء، ومن بينهم أنا، بذلك النبأ الأليم الذي نزل علينا كالصاعقة، وكان بمثابة صدمة لنا. ولم يُشع الخبر إلى حين التأكّد منه. وأعلن الإمام الخمينيّ قدس سره بعد يومين أو ثلاثة، نبأ الاستشهاد بشكل رسميّ، ثمّ المجلس الإسلاميّ الشيعيّ الأعلى من بعده.

•يُقال إنّ السيّد محمّد باقر الصدر قدس سره ساهم في صياغة الدستور الإيرانيّ. حبّذا لو تحدّثوننا عن هذه المسألة.
بعد انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران، شكّلنا وفداً لتهنئة الإمام الخمينيّ قدس سره بالانتصار الكبير، يترأسّه نائب رئيس المجلس الإسلاميّ الشيعيّ الأعلى الشيخ محمّد مهدي شمس الدين، فسلّمني السيّد الشهيد قدس سره الفصل الأوّل من كتاب “الإسلام يقود الحياة”، وهو بعنوان: لمحة فقهيّة في دولة إسلاميّة، وطلب مني طباعته وإرساله إلى النجف، وتوزيعه على أكبر عدد من القادة.

صوّرت ستّ نسخ منه، ثمّ كتبناه باسم مجموعة من الطلّاب، ولم نذكر اسم السيّد الشهيد قدس سره حتّى لا يُسبّب لنا البعثيّون مشكلة إذا ما وقع الكرّاس بين أيديهم، ومن هؤلاء الشيخ محمّد جعفر شمس الدين رحمه الله، والشيخ حسن عبد الساتر.

وعندما ذهبنا إلى إيران، قدّمت نسخة منه إلى الشيخ رفسنجانيّ الذي كان وزيراً للداخليّة حينها، ونسخة إلى السيّد بهشتي الذي كان رئيس القضاة، وأخرى لمهدي بازركان وكان رئيس الوزراء، ونسخة للإمام الخمينيّ قدس سره.

وبعد مدّة، نشر سماحته الفصول الأخرى من الكتاب، ثمّ طُبع ونُشر في الأسواق. وبعد سنة أو سنتين، أقام تلامذة الشهيد الصدر قدس سره احتفالًا في جامعة طهران في ذكرى استشهاد السيّد الصدر، وذكر السيّد الموسوي الأردبيليّ، وهو كان قاضي القضاة وقد حلّ مكان السيّد بهشتي، أنّهم استفادوا كثيراً من هذا الكتاب في صياغة الدستور الإيرانيّ.

•هل من جهات أو دول استفادت من كتبه القيّمة؟
طلب منّي السيّد موسى الصدر مرّة طباعة 50 نسخة من كتب الشهيد الصدر قدس سره. طبعاً، بعض الكتب لم تكن مطبوعة، لذلك اقتصرت على “اقتصادنا” و”فلسفتنا” و”الأسس المنطقيّة للاستقراء”.

وبعد مدّة، التقيت بأحد مالكي دور النشر، فقال لي إنّ وزارة الثقافة السعوديّة طلبت منه 500 نسخة من كلّ من كتابَي “اقتصادنا” و”فلسفتنا”. بعدها، تبيّن أنّ الإمام موسى الصدر هو الذي أرسل كميّة من تلك الكتب إلى السعوديّة، ووزّعها على الأمراء والوزراء، وهو ما حدا بهم إلى طلب المزيد منها لمّا رأوا قيمتها العلميّة.

*السيد محمد بن السيد حسين بن السيد محمد بن السيد عبد الله الغروي القمشي البحراني يتحدّر من أصول بحرانية ترجع إلى الملا السيد زكي البحراني.

ولد السيد الغروي في النجف، سنة ١٣٩٥ للهجرة الموافق 1936 م. التحق بالحوزة العلمية في الثانية عشرة من عمره، في مدرسة الشيخ الاخوند المجاورة لمدرسة الشيخ البخارائي. وهناك بدأ في دراسة المقدمات العربية على يد الشيخ الأفغاني – ذلك الأستاذ الموصوف في دراسة الأدب العربي في الحوزة.

ودرس المقدمات والسطوح،  فالتحق بدرس السيد الشهيد الصدر، ودرس السيد أبي القاسم الخوئي. وأتمم عنده دورة الاصول والتي تدوم عادة ست سنوات”. في سنة ١٩٧٥، غادر العراق متوجهاً إلى البحرين بعد التشاور مع السيد أبي القاسم الخوئي والسيد محمود الشاهرودي، واقترحا أن يكون وكيلا للمرجعية هناك”.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky