الاجتهاد: حين تلج بوّابة فكر الشّهيد محمد باقر الصدر، لا تدخل عالَمًا من المعارف فحسب، بل تهمس أروقةُ العقل والروح في أذنك بأنّك أمام هندسةٍ معرفيّةٍ نسجَت من العرف عقلًا، ومن الواقع ضميرًا. فليست قاعدة الفهم العرفي في منظومته قاعدةً جامدةً تُقرأ كما تُقرأ المعاجم، بل هي نُواة ديناميكية تحوّلت بين يديه إلى قاعدة الفهم الاجتماعي، حيث لا تُفهَم النصوصُ الاجتماعية إلّا من خلال نبض المجتمع وتحوّلاته.
لقد انتقل الصّدر بالفقيه من ضيق المفهوم إلى سَعة المعنى، ومن سكون الدلالة إلى حركيّة الفهم. ففي يديه، لم تكن القواعد أختامًا تُوضع على الورق، بل كانت مفاتيح تُفتح بها مغاليق الواقع. ومن هنا تتجلّى إحدى سماته الكبرى: إنّ فكرَه لا يُقلّد، بل يُولّد؛ لا يُعيد، بل يُعيد التكوين.
لقد كان الشهيد الصدر يُدرك بعمق أنّ الذهنيّة المشتركة والقراءة الاجتماعية للنصوص تمثّل مرتكزًا منهجيًا في سبيل كشف مضامين النصوص ذات الأبعاد الاجتماعية. فليس كلّ نص يُفهم من زاويةٍ لغوية بحتة؛ بل ثمّة مدلولٌ اجتماعيّ قد يفترق عن المعنى القاموسيّ أو العرفي السطحيّ، وتفصيل هذه النصوص وفهمها على نحوٍ تامّ لا يكون إلا بالارتكاز إلى إدراكٍ عميق للواقع الاجتماعي الذي يُحيط بها ويمنحها معناها الحركيّ والفعليّ.
وهكذا نرى أنّ “العُرف” الذي كان يُعبّر في مستواه العادي عن المعنى التلقائيّ للألفاظ، يتسامى في فكر الصدر ليُصبح “الفهم الاجتماعي”، فيرتقي من كونه وعاءً لغويًا لدى العرف إلى كونه أداةً منهجيةً من أدوات الاستنباط. فبينما يفرّق الصدر بدقّة بين النصوص التي تنطوي على مضامين اجتماعية وتلك التي لا تنطوي، يرتفع “العرف” في مشروعه من السطح إلى العمق، ومن التكرار إلى الإبداع، ومن الوصف إلى الفعل.
أفكاره لا تَسكن في تكرارٍ خاوٍ، وإن عاد، عاد ببصمةٍ جديدة، كما تعود الأمواجُ لا لتُكرّر ذاتها، بل لتمنح البحر معنى التجدد.
هكذا كان الصدر، يُحلّق بالفقيه من حرفية الفقه إلى إنسانيته، ومن ظاهر الأحكام إلى باطن الحِكمة، يُعيد ترتيب العلاقة بين النصّ والواقع، بين الفقيه والإنسان.
وإنّك حين تتأمّل في مشروع الشهيد الصدر، تدرك أنّه لم يكتفِ بإعادة ترتيب أدوات الفهم، بل فجّر ثورةً ناعمةً في صلب مفهوم القرينة ذاته. لقد حوّل “الفهم الاجتماعي” من مجرّد وسيلةٍ إلى قرينةٍ قائمةٍ بذاتها، قرينةٍ لا تقبل التجاهل، بل تُلزِم العقل الفقهي بأن يُدرِك النصّ في ضوءها، لا على هامشها. فما من معنى اجتماعيّ لنصّ تشريعيّ يمكن إدراكه خارج هذا الإطار، لأنّ النص حين نزل، نزل في وعاء المجتمع، لا في فراغٍ مُجرّد.
وهنا يتجلّى الانقلاب المفاهيميّ الذي أطلقه الصدر: لم يعد النصّ مفصولًا عن ظرفه، بل أصبح “الظرف” جزءًا من النصّ، و”الفهم” جزءًا من البيان، فتكوّن بذلك اتحادٌ بديع بين الظرف والمظروف، بين الواقع والدلالة، بين المجتمع والنصّ. هذا الاتحاد ليس مجرّد توافقٍ خارجيّ، بل هو اندماجٌ وجوديّ يجعل من الفهم الاجتماعي قرينةً لا يستقيم التفسير بدونها، ويُضفي على النصّ حياةً تنبض بنَفَس الجماعة ووعي اللحظة.
تلك هي عبقرية الصدر: إذ لم يفتح باب الاجتهاد على مِصراعيه فحسب، بل أعاد بناء هندسة المفتاح.