الاجتهاد: كان فسح المجال لسماع الاعتراضات العلمية للطلبة أثناء إلقاء الدرس من أساليب الإمام الخميني في التدريس، وكان يحرص على ذلك إلى درجة كانت تؤدي أحياناً إلى أن يفقد الدرس صبغته الأصلية أحياناً ويتحول إلى نقاش علمي بين شخصين كان الإمام يرحب باعتراضات طلبته العلمية فإذا لم يسمع شيئاً منها أثناء الدرس وصف الدرس بأنه مثل مجلس عزاء (١).
كنا نسمع أصوات احتدام النقاش
كان الإمام في بداية تدريسه البحث الخارج يلقي درسه في أحد المساجد القريبة من الحرم ولعدد محدود من الطلبة، وأتذكر جيداً أن المرحوم الشهيد الأستاذ المطهري وآية الله المنتظري وأظن المرحوم الشهيد البهشتي أيضاً كانوا يحضرون دروسه يومذاك، وكنا نسمع – عندما كنا نمر على المسجد – أصوات احتدام النقاش أثناء إلقائه الدرس فكان الطلبة يتحلون بروح طرح الاعتراضات العلمية، وكان الإمام – وهو الأستاذ الجليل – يجيب برحابة صدر على اعتراضاتهم (٢)
يشجع الطلبة على التحقيق والاجتهاد العلمي
إن المألوف أن يخيم الصمت على الحاضرين في مجالس التعزية ويكتفون بالإصغاء بعد أن يصعد الخطيب المنبر ويقرأ التعزية، ولكن الحال يختلف مع الدروس الاجتهادية، إذ أن الواجب والضروري فيها فسح المجال للطلبة بأن يعرضوا ما يدور في أذهانهم من أسئلة وإشكالات، وقد حدث مراراً أن يقول الإمام أثناء الدرس – عندما يلاحظ عدم طرح الطلبة للأسئلة – : هذا ليس مجلس تعزية! لماذا لا تعترضون على ما أقوله؟» كان الإمام بذلك يشجع الطلبة على التحقيق والاجتهاد العلمي (٣)
إعترض على عدم اعتراضهم
حدث يوماً أن أياً من الطلبة لم يناقش أو يستشكل بشيء على ما قاله الإمام أثناء الدرس، فاعترض الإمام على ذلك وقال : هذا مجلس درس و بحث علمي وليس مجلس وعظ وخطابة ! لماذا أنتم ساكتون لا تتكلمون (٤).
لا تقبلوا بأي رأي علمي تعبداً
تحدثنا مع الإمام – بعيد خروجه من السجن – عن أساتذة الحوزة – ومن الذي ينبغي اختياره، وقد قلت لسماحته يومها: إذا أردتم إضافة أحدٍ إليهم فاسمحوا لنا بالاعتراض والرفض إذا لم تر مصلحة في هذا الاختيار، فنعرب لكم عن آرائنا بصراحة فقال : هذا ما أريده أرغب أن تتحدثوا معي بصراحة».
والصراحة هي من ممزيات الإمام البارزة، وكان يسمح لنا أن نتحدث معه بصراحة، مثلما كان يقول بشأن البحث العلمي: لا تقبلوا بأي رأي علمي تعبداً بل اذعنوا له بعد المناقشة والتفكر، وكان حاله كذلك في الشؤون السياسية أيضاً (٥).
دروسه تربي مجتهدين
كان الإمام يحث طلبته على البحث والتحقيق العلمي ويفسح لهم المجال للتعبير عن آرائهم العلمية، ويعترض إذا لم يناقش أحداً منهم الآراء التي يبينها في مجلس تدريسه ويقول: «هل هذا مجلس تأبيني لكي تلتزموا الصمت؟!».
ولذلك كانت دروس تربي مجتهدين حقاً، وقد وصفها أحد الزملاء في تلك الأيام بقوله: إن الذي يحضرها يشعر ـ من حيث لا يدري ـ بأنه صار مجتهداً وصاحب رأي في المسائل العلمية، وقد عرفت قيمة دروس الإمام عندما حضرت دروس الأساتذة الآخرين فأدركت عمق ما تتميز به دروسه عن دروسهم.(٦)
إبعاد الرهبة من مناقشة آراء الأعاظم
كان الكثيرون من فضلاء الحوزة يحضرون دروس الإمام فقط بدافع التحرر – بمعونتها – من أسر التقليد، لأنها كانت تربي الطلبة على النقد للآراء والتحقيق فيها ومناقشتها كان الإمام يعرض في هذه الدروس آراء لبعض الأعاظم الذين يكفي مجرد ذكر أسمائهم للقبول والإذعان لآرائهم العلمية دون أبسط نقاش لكن الإمام كان يورد عليها أحياناً ما يصل إلى (۱۱) إشكالاً .
كان لنا أساتذة يربون طلبة جامدين لا يناقشون الآراء العملية أما الإمام فكان يسعى إلى زرع روح النقد العلمي في طلبته، كان أحياناً يقول – إذا لم يناقش أحد ما يقوله رغم مضي ساعة على بدء الدرس : ليس هذا مجلس تعزية لكي تكتفوا بالاستماع لما أقوله ينبغي أن تعلنوا عن وجودكم على الأقل، فيتضح أنه يوجد شخص آخر غيري في هذا المجلس (٧) .
يشجع الطلبة على النقاش
كانت هيبة الإمام وقوة شخصيته تسلب الآخرين الجرأة على مناقشة ما يقوله أثناء إلقاء الدرس لكنه كان يعترض على ذلك الطلبة ويشجع على النقاش وينبه على ذلك إذا مرت أيام دون أن يناقش أحد ما يقوله أو يطالب بتوضيحات له (٨) .
ويصغي لمناقشاتهم
كانت هيبة وعظمة الإمام تسلب من الأشخاص العاديين الجرأة على إطالة التحدث معه أو التفوه بما يخالف الأدب، أما في مجلس الدرس فكان يشجع من يناقش أقواله أو يطلب توضيحاً لها على النقاش برحابة صدر ووجه بشوش وإبتسامة، ويصغي لما يقوله الطالب السائل ثم يجيبه بحالة تبعث السرور والرضى في قلب السائل إضافةً على حصوله على الجواب المقنع (٩)
كسر حالة الصمت في دروس الحوزة النجفية
كان المألوف في حوزة النجف العلمية أن لا يناقش الطلبة ما يقوله الأستاذ ولا يتكلمون أثناء إلقائه الدرس، وذلك لكي لا يضيع وقت الحاضرين في الدرس في النقاش والإجابة على أسئلة الطلبة، لكن الإمام كسر هذه الحالة في حوزة النجف، فكان طلبته يناقشون ما يقوله أثناء الدرس وكان هو يجيب على إشكالاتهم ملتزماً بالإصغاء لها والجواب عليها حتى لو كان بعضها لا يستحق الإثارة (١٠) .
مكافاة للذين يثيرون الإشكالات العلمية
كان الإمام يشجع الطلبة دائماً على النقاش والسؤال والانتقاد العلمي إثناء إلقائه الدرس، ولم يكن ذلك يؤذيه أبداً بل على العكس كان يقلقه أن لا يتكلم الطلبة بشيءٍ أثناء الدرس، وكان يكرر القول:
“تعاملوا بنظرة نقدية مع كل رأي يُعرض هنا، فلا ينبغي الإذعان فوراً لأي رأي علمي حتى لو كان صاحبه من أساطين العلم، بل يجب مناقشته بدقة .
ولذلك كان بعض الأصدقاء يكتبون بعض الإشكالات على أقوال الإمام فكان ذلك يسره ويعطيهم مكافأة على ذلك (١١)؟!
عدم السماح بخنق حرية التفكير
من الظواهر التي أوجدها الإمام في حوزة النجف والتي لم تكن مألوفة فيها، هي ظاهرة نقد آراء الأساتذة في الدروس الفقهية، فكانت الأولوية في حوزة النجف لمكانة أصحاب الآراء العلمية وتأتي قضية أدلة هذه الآراء في مرتبة ثانوية، وهذه الحالة كسرها الإمام، وكان الكثيرون من فضلاء الحوزة يتعجبون من إصغاء الإمام بدقة لمناقشاتهم أثناء الدرس وجوابه عليها في حين لم يكن لأي من الطلبة في بعض الدروس التي حضرناها لأساتذة آخرين حق السؤال أثناء الدرس بحجة أن وقت الدرس مشترك بين الجميع فلا يمكن تخصيصه للإجابة على أسئلة أحدهم، وبهذه الذريعة كانت تُخنق حرية التفكير(١٢)
يعين الطلبة على دراستهم
حضرت على مدى ثمان سنين دروس الإمام الذي كان يُحيطني بوافر الرعاية واللطف لأنني كنتُ أعرض أحياناً أسئلة أو إشكالات على بعض المسائل العلمية التي يطرحها ، فكان يصغي لها ويجيب عليها بلطف ومودة، وهذه الرعاية لم يكن يخصني بها وحدي، بل كان يشمل بها جميع الطلبة الحاضرين في الدراسة فكان بذلك يعينهم على دراستهم (١٣)
إهتمامه بتقوية الروح المعنوية السامية في طلبته
كان الإمام كثيراً ما يقرن شرحه لأحاديث الأئمة الأطهار في دروسه الفقهية بالحديث عن حالاتهم المعنوية السامية لكي لا يكون حديثه عن بحوث العلوم الإسلامية جافاً بل يكون مفعماً بما يؤدي الى تكامل الروح المعنوية في الطلبة إضافة إلى الروح العلمية(١٤).
الهوامش
(١) آية الله الشيخ جعفر السبحاني مجلة (حوزة)، العدد: ۳۲.
(٢) حجة الإسلام والمسلمين السيد مهدي اليثربي، كتاب خطوات في أثر الشمس)، ج:٠٤ ص : ٣٠٩
(٣) حجة الإسلام والمسلمين الشيخ مصطفى الزماني، كتاب (حوادث خاصة من حياة الإمام الخميني)، ج : ٠٥ ص : ٨٦
(٤) آية الله الشيخ محمد رضا التوسلي، المصدر السابق، ج: ۲، ص : ٢٥.
(٥) آية الله الشيخ أبو القاسم الخزعلي، كتاب خطوات في أثر الشمس ، ج ٣، ص ٤٤.
٦) آية الله الشيخ محمد رضا التوسلي، مجلة (حوزة)، العدد: ٤٥)
(٧) آية الله الشيخ عباس علي عميد الرنجاني مجلة (بيام انقلاب)، العدد: ١٦١
(٨) حجة الإسلام والمسلمين الشيخ علي الدواني، كتاب حوادث خاصة من حياة الإمام الخميني)، ج : ٦ .
٩) آية الله الشيخ حسن القديري، ملحق صحيفة جمهوري اسلامي الخاص بالذكرى السنوية الثانية لوفاة الإمام الخميني.
(١٠) حجة الإسلام والمسلمين السيد عبد المجيد الهيرواني كتاب (خطوات في أثر الشمس)، ج:۲، ص: ۲۸
١۱) آية الله السيد عباس خاتم اليزدي، كتاب (حوادث خاصة من حياة الإمام الحسيني)، ج : ٢
(١۲) آية الله الشيخ عباس علي عميد الزنجاني مجلة (بيام انقلاب)، العدد : ١٦
(١٣) آية الله الشيخ يوسف الصانعي ، مجلة بيام انقلاب ، العدد ٥٨
١٤) حجة الإسلام والمسلمين الشيخ مصطفى الزماني، كتاب (حوادث خاصة من حياة الإمام الخميني)، ج : ٣ ص : ١٧٨
المصدر: كتاب قبسات من سيرة الإمام الخميني في ميدان التعليم الحوزوي والمرجعية ، إعداد: غلام علي رجائي.
نبذة عن الكتاب
يختص هذا الجزء من هذه الموسوعة كتاب (الإمام في ميدان التعليم الحوزوي والمرجعية) بعرض لطائفة من الذكريات التي تبين جوانب من سيرة الإمام في الوسط الحوزوي في اثنتين من أهم الحوزات العلمية الشيعية هما حوزة النجف الأشرف وحوزة قم المقدسة.
ولا يخفى أن لهذه الحوزات دوراً مهماً ومحورياً في حفظ الإسلام والدفاع عنه وترويجه وتعريف الناس بأحكام مدرسة أهل البيت في الحوادث الواقعة المستجدة وفي شؤونهم الحياتية المختلفة وخدمتهم وقيادتهم على الصراط المستقيم, فهي التي تخرج الفقهاء الذين هم حصون الإسلام, والعلماء الربانيين الذين يبلغون رسالات ربهم ويخشونه ولا يخشون سواه, وطلبة العلم المجاهدين المرتوين من فقه الكتاب والسنة المحمدية النقية التي حفظها أئمة العترة النبوية الطاهرة- صلوات الله عليهم أجمعين.
هوية الكتاب:
اسم الكتاب: الإمام في ميدان التعليم الحوزوي والمرجعية
النشر: الدار الإسلامية بيروت – لبنان
إعداد: علي الرجائي
عدد الصفحات: 162 صفحة