ما قيل في حق الإمام الخوئي / السيد منير الخباز

الاجتهاد: الحديث عن سيدنا وأستاذنا وأستاذ أساتذتنا الامام الخوئي (قده) حديث ممتع وحديث صعب للغاية

فهو حديث ممتع لأنه حديث عن الفضيلة والفكر والعطاء وهذه مجموعة من الكمالات تعشقها النفس وتلتذ بذكرها وهو صعب لأن القلم الصغير لا يحيط بواقع العظمة ولا يصل لكنهها ولكن هدفا ساميا دعاني لكتابة هذه الأوراق وهو تسجيل الحقائق والاستفادة من سير العظماء ووفاء لبعض حقوق هذه المرجعية العملاقة التي أغدقت الأمة الإسلامية بعطائها الفكري والروحي فتعال معي أيها القارئ لنقف على جوانب النبوغ والعظمة في شخصية إمامنا الخوئي (قده) وهي ثلاثة :
١- الجانب الفكري.
٢- الجانب السلوكي.
٣- الجانب الإبداعي.

الجانب الفكري:

ان بروز الانسان كمفكر في أي حقل ثقافي ليس أمرا قريب المنال بل هو عنوان كبير يحتاج لكفاءات ذاتية واكتسابية تجتمع وتتلاحم لتعبد الطريق أمام الانسان حتى تصل به لقمة المفكرين وهذه الكفاءات منها الذكاء ومنها قوة الذاكرة ومنها النشاط الفكري المتواصل ومنها القدرة والمهارة في ايصال الأفكار للآخرين وهذه كلها توفرت في شخصية سيدنا المقدس (قده).

أ- ذكائه:
لقد بلغ سيدنا من حدة الذكاء ما جعله في مستوى العباقرة والنوابغ فاحاطته بعدة اختصاصات علمية وهي الفقه والأصول والرجال والفلسفة وعلم الكلام وإبداعه فيها دليل واضح على حدة الذكاء، وسرعة بديهته ونقضه للنظريات العلمية التي يسمعها دليل آخر أيضا

فقد روى لي العلامة الأستاذ الشيخ محمد علي المراغي أن مجموعة من الماركسيين زاروا سيدنا الخوئي (قده) وعرضوا عليه الأساس في الفلسفة الماركسية وهو أن العالم كله قائم على حركة الصراع بين المتناقضات على الصعيد التكويني وعلى الصعيد الذهني وأنه لا مانع من اجتماع النقيضين خلافا للفلسفة الإسلامية بل هو أمر لا بد منه للحركة التطورية

فانتقل السيد الخوئي (قده) بكل سرعة الى نقض الأساس المذكور بقوله اذا لم يكن هناك مانع من اجتماع النقيضين فكلامنا صحيح وكلامكم صحيح وان كانا متناقضين اذ لا مانع من اجتماع النقيضين فتحيروا في المناقشة

لأنهم ان قالوا كلام الإسلاميين غير صحيح فهذا خلاف الأساس المذكور وهو لابدية اجتماع المتناقضات وان قالوا بأن كلام السيد (قده) صحيح فهذا اعتراف منهم بكون فلسفتهم ليست حقائق مطلقة

ومن الشواهد على ذكائه ما نقل عن المرحوم آية الله الشيخ هاشم الآملي وهو من تلامذة المحقق آغا ضياء العراقي المشهورين، له كتاب بدائع الأفكار في تقريرات بحث أستاذه العراقي وقد سئل الآملي لماذا لاتحضرون بحث المحقق النائيني (قده) فأجاب لأنه محاط بأسود ينقضون كل إشكال يورد على المحقق وهم السيد أبو القاسم الخوئي والشيخ حسين الحلي (قدهما)

ومن أمثلة ما ذكرنا ما نقل عن المرحوم آية الله الشيخ محمد طاهر الخاقاني حيث قال السيد الخوئي سريع النقض بل هو على النقض أقدر منه على البناء ونحن وان لم نوافق الشيخ الخاقاني على تفاوت قدرة السيد الخوئي في مجال النقض والبناء ولكنها شهادة من عالم مجتهد معروف معاصر للسيد (قده) في التلمذة على أعلام النجف الأشرف.

ب_ ذاكرته :
لقد كان سيدنا المرحوم فريدا في قوة الحافظة وحضور الذاكره الذي صاحبه حتى بلغ سن الشيخوخة ومن الدلائل على قوة الذاكرة عنده ما قاله عن نفسه من أنه كان يحضر بحث الميرزا النائيني ولم تكن في تلك الأوقات مسجلات الصوت متوفرة في النجف ولم يكن يستخدم القلم للكتابة أثناء البحث بل كان يعتمد على ذاكرته فيحفظ أكثر ألفاظ البحث ونصوصه بمجرد القاء الميرزا له ويقرره بعد الفراغ من جديد على مجموعة من الطلاب الذين لا يستوعبون بحث الميرزا أو لا يجيدون فهم لغته

ولقد تشرفنا بحضور بحثه أوان شيخوخته وابتلائه بمشاغل مرجعيته وكان قليل الاعتماد على كتب الحديث بل كان يقرأ الروايات والآيات المستدل بها من حفظه دون الاعتماد على كتاب ونقل الأستاذ الشيخ مرتضى البروجردي أنه كان يحضر بحثه في الأصول فجاءت العطلة الرمضانيه وبعد انتهاء رمضان كان المفروض أن يبدأ السيد (قده) بحث ( هل يصح أمر الأمر مع علمه بانتفاء شرطه أم لا ) ولكنه غفلة أو لتراكم البحوث بدأ بحث اجتماع الأمر والنهي واستمر في البحث فترة من الوقت والطلاب في خجل أن ينبهوه على موضع البحث

ثم قام أحد الطلاب وقال بأن البحث قبل رمضان قد انتهى لبحث أمر الأمر مع علمه بانتفاء شرطه لا لبحث الاجتماع فتوقف السيد لحظات ثم شرع في نفس الوقت في بحث أمر الأمر وكأنه عن استعداد وتحضير وشواهد ذلك كثيرة.

ج_ روح النشاط :
واذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام لقد أبت همته القعساء الا الاحاطة والإلمام بكثير من المعارف والحقول فكان يجهد بدنه ويتعب فكره ويستنفد وقته في مختلف البحوث فلم يقتصر أيام دراسته على الحضور عند شخص معين ولا حصر الاستقاء من مشرب واحد ومنهل خاص بل انه استقى من المدارس الأصوليه الثلاث النائيني والعراقي والاصفهاني واستفاد من غيرهم أيضا كالميرزا علي الايرواني وشيخ الشريعة الاصفهاني

ولم يقتصر على الفقه والأصول بل تضلع في الفلسفه وعلم الكلام فمن ناحية الأصول يقول عن نفسه كما نقل عنه الأستاذ اية الله العظمى السيد علي السيستاني دام ظله بقوله “لكل شيئ علة مادية وعلة صوريه والعلة المادية لأصولنا أفكار الشيخ الاصفهاني الكمباني والعلة الصورية له أفكار المحقق النائيني”

ولقد كان الشيخ الاصفهاني فخورا به كما ينقل المرحوم اية الله السيد نصر الله المستنبط أنه حضر بحث الشيخ الاصفهاني فراه قليل الحضور فسأل المستنبط الشيخ الاصفهاني لماذا بحثكم قليل الرواد مع عمق أفكاركم ودقة بحوثكم فلو غيرتم مكان البحث الى مكان عام لربما كثر الحاضرون فأجابه الشيخ الاصفهاني” ان عندي تلميذين كل منهما عن ألف من الطلاب المحصلين وهما السيد أبو القاسم الخوئي والسيد الميلاني (قدهما)” احد المراجع الأعلام في زمانه

واذا نظرنا للفلسفة فنراه قد أغرق فيها وأحاط بجوانبها وقد سأله السيد السيستاني دام ظله عن حضوره في الفلسفة عند الشيخ الاصفهاني والشيخ البادكوبي استاذ الفلسفه في النجف في زمانه أن أيهما أقوى في الفلسفه فأجاب السيد الخوئي بجواب مذهل ان الفرق بينهما في الفلسفة كالفرق بين صاحب الكفايه وصاحب الحدائق في الفقه والأصول فمع أن الشيخ الاصفهاني كان كلامه الأصولي مبنيا على المصطلحات الفلسفيه دائما حتى قيل في حقه “فقهه أصول وأصوله معقول ومعقوله لا معقول” لكن كانت نسبة الاصفهاني في الفلسفة للشيخ البادكوبي كنسبة صاحب الحدائق لأن الشيخ يوسف خالص في الفقه وصاحب الكفاية غارق في الأصول.

ونهل سيدنا نمير علم الكلام على يد الشيخ محمد جواد البلاغي كما يظهر ذلك في كتابه البيان في تفسير القرآن ومن دلائل نشاطه العلمي وروحه المتوهجه بعشق العلم والمعرفة أنه يدرس أيام التحصيل وأيام التعطيل

وكان يحاضر في اليوم الواحد في الفقه والأصول والتفسير فترة طويله من حياته ونقل عنه الأستاذ السيد السيستاني دام ظله أنه قال له لا أعتقد أن أحدا من تلامذتي تعب مثل تعبي أيام دراستي الا ثلاثة وحتى بعد وصوله لمقام المرجعية وابتلائه بأعمالها ومهام الزعامة الروحية للعالم الشيعي ما ترك البحث والتدريس

فقد رأيناه شيخا كبيرا جاوز التسعين من عمره لا يقدر على الوقوف وحده الا في صلاته واذا أمسك القلم رجفت يداه الا في كتابة البحوث العلمية كما يقول عن نفسه وكان مصابا بضيق التنفس ومع ذلك لا يترك البحث فكان يأتي معتمدا على رجلين يمسكان به ويرقى المنبر ويؤدي وظيفة التدريس بلا ملل ولا ضجر وما هجر القراءة ولا التأمل والتفكر حتى بعد اصابته بالنوبة القلبيه ولم يترك مجلس الاستفتاء والاجابة عن الفتاوى حتى في مرضه الذي توفي فيه

حيث ينقل نجله العلامة السيد محمد تقي الخوئي حفظه الله أنه في يوم الجمعة أي قبل وفاته بيوم واحد كان مجهدا متعب القلب فجاءت لجنة الاستفتاء ومنهم الشيخ مرتصى البروجردي فأشفقوا عليه مما هو فيه لكن أبى الا الاجابة على الاستفتاءات فقرأ الشيخ البروجردي سؤالا مفاده هل يجوز للانسان العبث بجهازه التناسلي مع وثوقه بعدم الانزال أم لا فأجاب (قده) بالجواز فأشكل عليه نجله السيد محمد تقي بأنكم ذكرتم في بحوثكم في معنى قوله تعالى (( والذين هم لفروجهم حافظون الا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم )) بأن المراد بالحفظ الاقلاع عن جميع التصرفات والتقلبات الا مع الزوجة فكيف تجوزون العبث بالفرج فأجابه وهو في شدة مرضه ان الآية أمرت بالحفظ والحفظ انما يكون عن الغير لا عن النفس فان ذلك لا يسمى حفظا عرفا.

د_ بيانه:
بالرغم من كون السيد (قده) تركيا فارسيا ولكنه كان عربي البيان حسن الأسلوب سلس الالفاظ ينحدر في البيان الواضح بلا توقف , وكان بحثه مرتبا مبوبا واضح الملامح والزوايا يقوم التلميذ منه وهو مستوعب لأطراف البحث وان كان دقيقا حتى قيل في حقه (انه يجسم المعقولات)

وقد يقرأ التلميذ البحث الفقهي في كتاب الجواهر أو المستمسك فلا يراه واضحا تماما أو يقتنع ببعض الاراء المطروحة دون غيرها وبمجرد أن يحضر بحث السيد (قده) فان ذلك التشويش والغموض يزول تماما من ذهنه ويبدو المطلب جليا لا غبار عليه وتتبدل قناعته ومعتقده لقناعة أخرى فيرى أن مختار السيد (قده) من الأقوال بديهي لا يقبل الشك والريب لقوة البراهين المسوقة عليه وحسن العرض له.

٢- الجانب السلوكي :
لقد كان (قده) في سلوكه القدوة المثلى للعلماء والفضلاء يتجلى في شخصيته هدي بيت العصمة (ع) ومن أجل وضع النقاط على الحروف نشير لمجموعة من العناوين المشرقة في سيرته الطاهرة البيضاء.

أ- قربه الروحي :
انه مصداق بارز للفظ -العالم الرباني – فروحانيته تتلألأ في كثير من حركاته وأفعاله فتراه كثير التسبيح يستغل حتى الاوقات القصيرة في العبادة فيواظب على حفظ القرآن والتسبيح أثناء مجيئه من الكوفة للنجف ويقرأ دعاءا خاصا كلما قبض شيئا من الحقوق الشرعية بيديه ولا يقرأ في قنوت صلاته كما ذكر عن نفسه الا هذا الدعاء (( اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن المهدي في هذه الساعة….. الخ )) وكان من نعم الله عليه الى آواخر سنوات عمره أنه يقوم للصلاة وحده مع أنه كان لا يستطيع الوقوف على رجليه الا معتمدا على أحد في غير الصلاة.

ب- بره بوالده :
انه المثال الجلي لقوله تعالى (( وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا…. )) فقد نقل المرحوم آية الله السيد نصر الله المستنبط أن العلامة السيد علي أكبر (ره) والد السيد (قده) جاء للنجف الأشرف في السبعينات وكان ولده المقدس آنذاك زعيم الحوزة العلميه لكثرة تلامذته وتزاحم النوابغ حول منبره وحسن بيانه ودقة طرحه وعمق تحقيقاته ونظرياته فرغب والده في الحضور لبحثه ولكن بمجرد أن دخل المسجد – مسجد الخضراء – وهو مكان بحث السيد (قده) حتى نزل السيد من المنبر معتذرا بأني لا اقوى على الاعتلاء والتدريس مع وجود الوالد وكان اذا مشى معه تأخر عنه واذا تحدث لم يتقدم عليه في الحديث.

ج-ترفعه عن المظاهر :
كان يرى أن الرجل بمخبره لا بمظهره وكان يقدس المعنون ولا يبالي بالعنوان فقد نقل عنه المرحوم أية الله المستنبط أنه قال “ما سعيت للمرجعية أبدا ولا قصدت أن أقوم بأي تمهيد لها ولو لا إصرار مجموعة من فضلاء تلامذته عليه بعد المرحوم السيد البروجردي (قده) أن يتصدى للإجابة على بعض الاستفتاءات وقبض الحقوق في ظل مرجعية المرحوم السيد عبد الهادي الشيرازي (قده) لما تصدى لذلك

وكان يجلس أوائل مرجعيته في براني المرحوم الشيرازي (قده) لإجابة بعض الاستفتاءات حيث كانت له علاقة وطيدة بالسيد الشيرازي وهو الذي حضر تجهيزه وصلى على جنازته ، وذكر آية الله السيد علي السيستاني دام ظله عنه أنه كان لا يسال أي شخص يغيب عن مجلس بحثه أو مسجد صلاته عن سبب عدم حضوره ترفعا عن العناوين وخشية أن يعد ذلك دعوة منه للالتفاف حوله.

د- ولائه الحسيني :
كما كان يعشق العلم ويتفانى في المعرفة كان مغرما بحب أهل البيت (ع) وبولاء الحسين (ع) فكان يواظب على زيارة الحسين (ع) في كربلاء في كل مناسبة وكان يلتزم بالملابس السوداء منذ أول محرم حتى آخر صفر باعتبار أن إظهار الولاء لأهل البيت (ع) أهم من الكراهة الواردة في لبس السواد ما سوى العمامة والرداء اذا فرض التزاحم بين الكراهة والاستحباب في مقام العمل والا فأدلة استحباب إحياء الولاء مقدمة بالتخصيص أو الحكومة على أدلة الكراهة وكان صوته (ره) يرتفع بالبكاء والنحيب عند ذكر مأساة كربلاء في المآتم الحسينية.

ولهذا السلوك الطاهر والسيرة النقية وهبه الله توفيقات خاصة ما حظي بها أحد من المراجع المعاصرين له فقد وفقه الله لاخراج مئات من المجتهدين والفضلاء كما عبر بذلك آية الله العظمى السيد الكلبيكاني دام ظله الشريف عند تأبينه ووفقه الله لتدريس ست دورات في علم الأصول ووفقه الله باطالة عمره وتفريغ وقته واعطائه المدد البدني والفكري لانهاء تدريس دورة فقهيه كاملة وذلك نادر الحصول ووفقه الله لاخراج كتاب شامل في علم الرجال يغني عن غيره من كتب هذا العلم ووفقه الله لمنصب المرجعية العامة وجوار أمير المؤمنين (ع) حيا وميتا

ومن علي قد دنا موضعا وهكذا عاقبة المؤمنين
نودي فاهـتز لها مسمـعا انا فتحنا لك فتح مبـين
وأنشد التاريخ لما دعـــا أزلفـت الجـنة للمتـقين

ومن أهم توفيقاته اعتماد الحوزتين في النجف الأشرف وقم المقدسه على آرائه ونظرياته فتلامذته الان أقطاب التدريس والبحث ففي النجف الاشرف يرتكز البحث والتدريس على تلامذته وفي طليعتهم آية الله العظمى السيد علي السيستاني دام ظله وآية الله الميرزا علي الغروي حفظه الله وفي قم المقدسة تدور رحى البحث على تلامذته وفي طليعتهم آية الله الشيخ حسين الوحيد الخراساني وآية الله العظمى السيد محمد هادي الروحاني وآية الله الميرزا جواد التبريزي حفظهم الله وفي مشهد المقدسه يرتكز البحث المثمر على تلامذته وفي طليعتهم آية الله الميرزا علي فلسفي وآية الله السيد محمد تقي القمي حفظهم الله وكلهم الان مؤهلون للمرجعية العامة بعد وفاته رضوان الله عليه.

هـ- لطف تعامله :
أخلاقه أخلاق أهل البيت (ع) وسجاياه سجاياهم لطيف المعشر طيب النفس حسن الصحبه فمن الظرائف ما نقله نجله العلامة السيد محمد تقي الخوئي حفظه الله عنه حيث قال اني لم أكتب شهادة خطية بالاجتهاد لأحد الا لثلاثة:
الاول _ الميرزا علي الفلسفي
الثاني _ السيد علي السيستاني
الثالث _ أستاذي في المعالم وسبب اعطاء الثالث هو أنني عندما كنت أدرس معالم الدين في الأصول كنت كثير الاشكال على أستاذي فقال لي أستاذي انك ستصل لمقام المرجعية ولكنك اذا وصلت لذلك المقام ستنسى أستاذك الفقير الذي درسك المعالم فقلت له أبدا أنا لا أنسى فضلكم وعنايتكم فقال ما هو الضمان لذلك قلت أكتب لكم من الآن شهادة خطية بالاجتهاد حتى أكون ملزما بها بعد وصولي للمرجعية فقال اكتب فكتبت له شهادة خطية منذ وقت دراستي للمعالم

ومن الظرائف ما حدث بينه وبين العلامة الحجة الشيخ محمد تقي الجواهري حرسه الله فانه جاء يوما لبيت السيد (قده) فرأى وكيله في كربلاء خارجا من المنزل حاملا معه كيسا فيه كثير من الحقوق الشرعيه فقال له الشيخ الجواهري سوف أورطك مع السيد (قده) وجذب الكيس وأخذه منه وقال له الآن أنت ضامن لأنك فرطت في الأمانة فتوسل له وكيل السيد بمختلف الوسائل حتى رد الكيس عليه ودخل الشيخ الجواهري على السيد (قده) وروى له القصه بقصد اثارة الأنس والبهجة واذا بالسيد (قده) يبادره أما قولك بأنك أخذت كيس الحقوق فهو إقرار منك بأخذ الأموال وإقرار العقلاء على أنفسهم جائز وأما قولك بأنك أرجعته فهو دعوى تحتاج لدليل ولا بينة عندك على ذلك فأنت الآن الضامن للأموال لا وكيلنا فتحير الشيخ الجواهري في الجواب وضحك من في المجلس.

٣-الجانب الإبداعي :
ان ملكة الإبداع والابتكار تفتقر لعدة عناصر منها حدة الذكاء ومنها كثرة الخبرة في الفن المبتكر فيه ومنها الإصرار النفسي على الوصول للرأي المستقل عن بقية الآراء والنظريات وهذا ما كان متوفرا في شخصية المقدس المرحوم سيدنا الخوئي (قده) فانه أبدع في الأصول والفقه والرجال والتفسير والفلسفة وعلم الكلام وأتعرض هنا على نحو الاختصار لما أبدعه في حقل الأصول الذي هو فنه وميدانه.

الإبداع الأصولي :
لقد وضع نظرياته وابتكاراته على صعيد الأصول اللفظية وعلى صعيد الأصول العمليه فعلى صعيد الأصول اللفظيه نلاحظ مجموعة من الأطروحات الجديدة منها ما طرحه في تحديد مناط التمايز بين العلوم حيث وقع البحث عند الأعلام في مناط تمايز العلوم ووحدتها فذهب الفلاسفة الى كون المناط هو الموضوع فمع اختلاف الموضوع يختلف العلم ومع وحدته يكون العلم واحدا

وذهب المحقق الاخوند والاصفهاني الى كون مناط التمايز هو الغاية والغرض فالأبحاث المتجهة لغاية واحدة علم واحد والابحاث المتعددة الغايات علوم مختلفة وذهب بعض الأصوليين الى كون مناط التمايز والوحدة التسانخ الذاتي بين المحمولات أي محمولات مسائل العلم ولكن سيدنا الخوئي (قده) ذهب الى كون المناط متعددا حسب تعدد الهدف فان كان الهدف من تدوين العلم متعلقا بالموضوع فالوحدة به وان كان بالمحمول أو بالغاية أو بالجميع فالوحدة بها فلا يوجد مناط واحد بين العلوم كلها بل هو متعدد تعدد الهدف من تدوين العلم وهو رأى لم يسبقه أحد فيه

ومن نظرياته ما ذكره في مبحث الوضع حيث وقع النزاع بين الأصوليين في ان الوضع عملية اعتبارية أم تكوينيه فان كانت تكوينية فهل هي بمعنى القرن المؤكد بين اللفظ والمعنى كما ذهب اليه الفيلسوف الفرنسي راسل وتبعه السيد الصدر في أصوله أم بمعنى الوحدية بين اللفظ والمعنى كما ذهب له الميرزا علي الايرواني وان كان عملية اعتبارية فهل هي بمعنى التخصيص على نحو الفعل المصدري كما ذهب له أغلب الأصوليين أم بمعنى الاختصاص على نحو الاسم المصدري كما في عبارة الكفاية

وذهب سيدنا الى كونه عملية اعتبارية بمعنى التعهد بذكر اللفظ عند قصد المعنى سواء اكان تعهدا فرديا مقصودا أو تعهدا جماعيا مقصودا أم عفويا وبنى على ذلك عدة ثمرات في الأصول والرأي المذكور وان سبقه به المحقق النهاوندي ولكن طرحه بهذه الصياغة وبالأدلة المذكوره في كتب الأصول تجديد وتحديث.

ومن نظرياته ما طرحه في بحث المعنى الحرفي حيث عقد البحث هناك في كون الفارق بين المعنى الاسمي والحرفي هل هو فارق ذاتي أم فارق لحاظي فذهب المشهور ومنهم المحقق الاصفهاني والعراقي الى كونه فارقا ذاتيا وهو مسلك النسبيه الذي يعني كون المعنى الحرفي هو عين الربط بين المعاني الاسمية بحيث تكون ماهيته عين وجوده وذهب صاحب الكفاية الى كون الفارق فارقا لحاظيا مع وحدة المعنى في وعائه الحقيقي واختلف الأعلام في تفسير عبارة الكفايه في أن الفارق اللحاظي بنظره هل هو الاليه والاستقلاليه فالاليه تجعل المعنى حرفيا والاستقلاليه تجعله معنى اسميا أم هو المرآتيه والغائيه فالمرآتيه تعني كون المعنى حرفيا والغائيه تعني كونه معنى اسميا

وأما سيدنا الخوئي رضوان الله عليه فقد ذهب لمسلك خاص لم يسبق به وهو كون الفارق ذاتيا الا أن المعنى الحرفي هو تضييق المعاني الاسمية وتخصيصها بخلاف المعنى الاسمي فهو عبارة عن الاطلاق الذاتي أو الأصولي المتعلق للتضييق الحرفي .

ومن نظرياته ما قرره في بحث الاخبار والانشاء حيث أن المعظم من الاصوليين ذهبوا الى أن علاقة الجملة الاخبارية بالمعنى علاقة اخطارية فالخبر عبارة عن نسبة تامة بين الموضوع والمحمول وهو قابل للصدق والكذب باعتبار مطابقة النسبة للواقع وعدم مطابقتها والجملة الانشائيه علاقتها بالمعنى علاقة ايجادية اما الانشائية عبارة عن ايجاد المعنى باللفظ ولذلك لا يكون قابلا للصدق والكذب

ولكن سيدنا الخوئي رضوان الله عليه ذهب لمسلك جديد طرحت بذرته في كلمات المحقق الايرواني (قده) وهو كون علاقة الانشاء والاخبار بالمعنى علاقة واحدة وهي علاقة الابراز ولكن الفرق في المبرز بالفتح فان كان هو الاعتبار النفساني فالجملة انشائيه ولا يوجد أي ايجادية من قبل اللفظ للمعنى بل لا يراها معقولة أصلا وان كان من المبرز بالفتح هو قصد الحكاية فالجملة اخباريه ولا تقبل الصدق والكذب بذاتها كما يرى المشهور لأن قصد الحكاية أمر نفسي لا معنى لصدقه وكذبه

نعم تقبل الاتصاف بالصدق والكذب بلحاظ مضمونها في تطابقه مع الواقع وعدمه لا بلحاظ ذاتها ومن نظرياته في مباحث الألفاظ ما وقع الكلام فيه في بحث المطلق والمقيد وهو هل أن تقابل الاطلاق والتقييد تقابل السلب والايجاب أم تقابل الملكة والعدم فان كان الأول فلا يكون أحدهما مستحيلا في مورد يستحيل فيه الاخر وان كان الثاني فهما متلازمان امكانا واستحالة

وذهب سيدنا الخوئي (قده) للتفصيل بين مقام الاثبات ومقام الثبوت ففي مقام الاثبات يكون التقابل بينهما تقابل الملكه والعدم فالتقييد عبارة عن وجود ربطي في القضيه والاطلاق عبارة عن عدمه وأما في مقام الثبوت فالتقابل بينهما تقابل الضدين اللذين لا ثالث لهما لأن الجاعل ان لاحظ الماهية مرسلة بالنسبة للقيود فهذا اطلاق وان لاحظها مقترنة لأحد القيود فهو التقييد فكلاهما لحاظان ذهنيان ولا ثالث لهما لاستحالة الاهمال في الواقع

ورتب على ذلك عدة ثمرات علميه ، منها بحث امكان أخذ قصد القربه في متعلق الأمر حيث جاء بتصوير جديد للامكان وان ذهب الأكثر للاستحالة وفي بحث الوجوب التخييري وبحث الاطلاق والتقييد.

هذا كله على صعيد الأصول اللفظيه أما على صعيد الأصول العملية فهناك أيضا عدة ابتكارات لسماحته (قدس سره الشريف ) منها ما ذكره في بحث خبر الواحد من كون الشهرة غير جابرة ولا كاسرة حيث ذهب مشهور الفقهاء الى أن استناد مشهور العلماء الى خبر ضعيف يجبر ضعفه لأن الحجة هو الخبر الموثوق به وعمل المشهور من قرائن الوثوق كما أن اعراض المشهور عن العمل بخبر صحيح يوجب وهنه بل كلما ازدادوا اعراضا ازداد وهنا باعتبار أن اعراضهم مع كونهم أقرب لعصر النص كاشف عن وقوفهم على خلل في النص لم نقف عليه ولكن سيدنا اختار عدم الموضوعية للشهرة لا في الجبر ولا في الوهن أما بالنسبة للجبر فان الشهرة غير حجة في نفسها كما ذكر الأصوليون في بحثها والمفروض أن الخبر ضعيف السند فهو غير حجة أيضا وضم اللاحجة مع اللاحجة لاينتج الحجية فالنتيجة تتبع أخس المقدمات

وأما كون الشهرة من قرائن الوثوق فان أريد بالوثوق الوثوق الشخصي وهو الاطمئنان فالحجية حينئذ للاطمئنان لا للشهرة ولا للخبر الضعيف مضافا الى أن حصول الاطمئنان الشخصي بصحة الخبر نتيجة شهرة العمل به ليس أمر لازما وان أريد بالوثوق الوثوق النوعي فلا دليل على حجيته اذ مركز الحجية عند العقلاء الوثوق النوعي بالخبر الحاصل عن وثاقة المخبر به لا مطلقا ،

وأما بالنسبة للوهن للخبر الصحيح باعراض المشهور ففيه ان بناء العقلاء قام على حجية خبر الثقة على نحو اللاشرط ولم يقيد حجيته بعدم قيام ظن على خلافه فلا عبرة بالظن الحاصل على خلاف الخبر الصحيح سواء أكان شخصيا أم نوعيا ناتجا عن اعراض المشهور

وأما كشف الاعراض عن وقوفهم على خلل لم نقف علنه فهو غير تام لاختلاف المقياس بيننا وبينهم في مناط الوثاقة فلعل ماهو خدشة عندهم لا يكون بحسب نظرنا خدشة والأمور الحدسية لا حجية فيها لأحد على أحد وقد رتب على هذه الكبرى كثيرا من الثمرات في الفقه فمنها فتواه بثبوت الهلال بالتطويق في الليلة الثانيه من الشهر خلافا لمعظم الفقهاء لصحيحة محمد بن مرازم التي قال فيها عليه السلام ((اذا تطوق الهلال فهو لليلتين )) وهذه الصحيحة حجة عنده مع إعراض المشهور عنها وهي بمرأى منهم ومسمع

ومن نظرياته قوله بإنكار أصالة التخيير عند دوران الأمر بين المحذورين حيث اختلف العلماء في هذه الصوره فذهب بعضهم الى جريان التخيير الشرعي وبعضهم الى جريان التخيير العقلي مع الحكم بالاباحة الظاهرية كصاحب الكفاية وبعضهم ذهب الى جريان التخيير العقلي مع عدم حكم ظاهري كالمحقق النائيني (قده)

وأما سيدنا فأنكر كل ذلك وقال تجري البراءة في ذلك عقلا ونقلا ، أما البراءة العقلية التي هي عبارة عن قبح العقاب بلا بيان فموضوعها صادق على كل احتمال بخصوصه من احتمالي الحرمة والوجوب لأن كليهما غير معلوم فلم يتحقق البيان فتجري البراءة العقليه وأما البراءة النقليه فتجري لوجود المقتضى وهو عموم أدلتها وعدم المانع ،

ومن نظرياته التي سبقه الشيخ النراقي كما في رسائل الشيخ الانصاري عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميه وقد علل ذلك تعليلا يختلف عن تعليل النراقي وهو التعارض بين استصحاب الجعل واستصحاب ضيق دائرة المجعول فاستصحاب حرمة وطئ الحائض بعد طهرها وقبل الغسل مثلا معارض باستصحاب عدم جعل الحرمة لما هو أوسع من فترات الحيض ومع تعارضهما يتساقطان فلا يجري الاستصحاب في الشبهات الحكميه

ومن مبتكرانه التي لم يسبق بها اضافة قسم رابع على أقسام استصحاب الكلي فقد ذكر الأصوليون أن استصحاب الكلي على ثلاثة اقسام لأن الكلي اما متيقن الوجود بوجود فرد تفصيلي كالعلم بوجود كلي الانسان للعلم بوجود زيد ثم حصل الشك في ارتفاع الكلي للشك في ارتفاع الفرد ولا ريب عندهم حينئذ في جريان استصحاب الكلي واستصحاب الفرد وتارة يكون الكلي مرددا بين فردين فرد معلوم الارتفاع لو كان هو الحادث وفرد مقطوع البقاء لوكان هو الحادث فاذا تردد كلي الحدث بين الجدث الأكبر والحدث الأصغر وقد توضأ الانسان فلوكان الحادث هو الأصغر لقطع بارتفاعه ولو كان الحادث هو الأكبر لقطع ببقائه فهنا قالوا تجري الاستصحاب بالنسبة للكلي دون الفرد وتارة نعلم بحدوث الكلي في فرد ونعلم بارتفاع الفرد ولكن نشك في بقاء الكلي للشك في حدوث فرد مقارن لارتفاع الفرد الأول وهنا قالوا بعدم جريان استصحاب الكلي وعدم استصحاب الفرد

وأضاف السيد الخوئي رضوان الله عليه قسما رابعا ذكر أنه عرضه على أستاذه الاصفهاني فلم يجبه فيه وهو أن نعلم بالكلي في ضمن فردين أحدهما معلوم بالتفصيل والآخر بالاجمال فمثلا اذا علمنا بحدوث جنابة يوم الخميس واغتسلنا منها ثم رأينا أثر الجنابة على الثوب يوم الجمعة فحصل عندنا علم اجمالي بجنابة مرددة بين الجنابة الحادثه يوم الخميس فلا يجب الغسل وبين فرد آخر من الجنابة فيجب عنه الغسل والفرق بين هذا القسم والقسم الأول واضح فاننا هناك لاعلم لنا بفردين بل بفرد واحد وهنا يوجد علم بفردين

والفرق بينه وبين القسم الثاني أن هناك علما اجماليا بتردد الكلي بين فردين من دون علم تفصيلي بحدوث أحدهما وهنا يوجد علم تفصيلي بحدوث الفرد السابق والفرق بينه وبين القسم الثالث أنه في الثالث لا يوجد علمان بل علم واحد بحدوث فرد سابق وعلم اجمالي بحدوث فرد لاحق ورأى السيد الخوئي (قده) في هذا القسم القول بجريان الاستصحاب لحصول اليقين يوم الجمعة بحدوث الجنابه والتردد في ارتفاعها للتردد في أنها الفرد السابق الذي ارتفع أم فرد جديد فيجب الغسل منه لكن تعارض الاستصحاب أصالة بقاء الطهارة الحادثه بالغسل يوم الخميس ويتساقطان فيرجع لأصالة الاشتغال بالطهارة عند ارادة الصلاة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky