الكفر

ماذا نريد في حوار الدين والعلمانية؟ / الشيخ مازن المطوري

الاجتهاد: إن ما نسبه المتحدث في برنامج المراجعة غير دقيق وغير صحيح ويفتقر للمراجعة والاطلاع على الآراء في المسألة، لأنه يقول بضرس قاطع إن علماء الشيعة اتفقت كلمتهم على الحكم بكفر المخالفين باطناً وواقعا! وهذا غريب جداً كيف اتفقت كلمتهم والحال أن السادة البروجردي والكوهكمري والصدر والسيستاني والشيخ حسين وحيد الخراساني وآخرين يخالفون في ذلك؟! أين الضرس القاطع؟ فالذي يظهر بالتتبع أنه ضرس منخور وليس قاطعاً.

ماذا نريد في حوار الدين والعلمانية؟ وهل يتوقّف بناء الأوطان والتعايش على تفاصيل المواقف الفقهية والعقيدية والأخروية؟

لا تهتم العلمانية بالمصير الأخروي للإنسان، ولا تعطيه أهمية كبرى، وإنما تركّز العلمانية على عالم الدنيا والحياة المعاشة.

أما المصير الأخروي فلا تنظر إليه، بل غالب العلمانيين ونتيجة لما يتبنّونه في نظرية المعرفة يعتبرون المصير الأخروي ووجوده أمراً غير قابل للاختبار والتحقق والتأكّد منه. وقد يتلطّف بعضهم ويجعله في دائرة الممكن إذ لم ينفه بضرس قاطع!

إذن تهتم العلمانية بالمصير في الحياة الدنيا وطريقة إدارة الحياة بين البشر المختلفين فكرياً وأيديولوجياً. وهذا الغرض والهدف الذي تتوخّاه العلمانية لا ينفع فيه الدخول في بحث المصير الأخروي، بل الدخول فيه والحديث عن قبول الأعمال وعدمه مضيعة للوقت وجدل لا معنى له.

إذن ما هو السبيل الأسلم والصحيح في إطار حوار الدين والعلمانية؟

والجواب: أن البحث الصحيح هو التركيز على هذا الهدف (إدارة الحياة والأوطان والتعايش بما يستلزمه من المساواة أمام القانون وفي الحقوق والواجبات)، وهذا الهدف يتحقق عبر الموقف من الدماء والأموال والأعراض، أي بما يحقق الأمن العام وحفظ النظام، فأي اتجاه فكري وأي رأي فقهي يحفظ ويحترم هذه الأمور (مهما كان تقييمه للآخر، ومهما كان رأيه في عقيدته ومصيره الأخروي) فهو يحقق الغرض والهدف في إدارة الحياة والأوطان، ويكون العنصر المشترك في حوار المتدينين والعلمانيين، فضلاً عن السنة والشيعة.

حينئذٍ يجب أن نتوجّه إلى الآراء في حكم الآخر لنرى هل تحقق هذه الآراء الغاية والهدف أو لا تحققها؟ أعني هدف وغاية التعايش والمساواة أمام القانون وفي الحقوق والواجبات.

وبما أن الكلام المتداول يتعلّق بحكم المسلم الآخر من غير مذهب أهل البيت عليهم السلام، بسبب المفرقعات الإعلامية التي أثارها بعضهم وهي مجانبة للحقيقة،

فهنا يجب أن نلاحظ أن الآراء في هذه المسألة ثلاثة:

الأول: رأي نادر جداً تبنّاه بعض الأخباريين، وهم يقولون: إن غير الإمامي كافر ظاهراً وباطناً في الدنيا والآخرة!

الثاني: رأي تبنّاه جملة من الفقهاء كالسادة الراحلين البروجردي والكوهكمري ومحمد باقر الصدر (رحمهم الله)، ومن المعاصرين سماحة السيد السيستاني (دام ظله)، وغيرهم. وهؤلاء يقولون: إن غير الشيعي مسلم ظاهراً وباطناً في الدنيا والآخرة، فبمجرّد أن ينطق الإنسان بالشهادتين ويؤمن بهما في قلبه فهو مسلم مؤمن.
وفي خصوص السيد الصدر فقد بحث المسألة بحثاً مستوعباً في الجزء الثالث من كتاب بحوث في شرح العروة الوثقى.

الثالث: رأي ذهب إليه جمهرة من الفقهاء، وهم يقولون إن غير الشيعي مسلم ظاهراً وفي الدنيا، ولكنه ليس مسلماً واقعاً وباطناً وفي الآخرة.

وقبل أن تستفزّك بعض هذه الآراء وتتسرّع، يجب أن تلاحظ:

١- يلتزم أصحاب هذه الآراء الثلاثة بأن المسلم غير الشيعي محقون الدم والمال والعرض، ولو تحرّينا الدقة قلنا إن غالب فقهاء الشيعة يلتزمون بأن غير الشيعي محقون الدم والمال والعرض لوجود أدلّة واضحة في ذلك.

٢- غالب أصحاب هذه الآراء وبعد وضوح إلتزامهم بحرمة الدم والمال والعرض يحققون الهدف في هذه الحياة، الهدف الذي يتحاور فيه المتدين والعلماني والشيعي والسنّي، أعني التعايش والمساواة أمام القانون وفي الحقوق والواجبات.

٣- البحث كل البحث هو فقهي وليس كلاميّاً عقيدياً، فالبحث الفقهي بحث في الإطار الذي تتحقق فيه الآثار القانونية كحرمة الدم والمال والعرض وجواز التزاوج وترتيب أحكام النسب والمواريث.

ولذلك تجد الفتاوى الواضحة في أن المسلم كفؤ المسلم فيجوز زواج الشيعي من السنية وزواج السني من الشيعية، وتترتّب أحكام النسب والإرث، فالسني يرث الشيعي والشيعي يرث السني (وفق تفاصيل طبقات الإرث)، ولو كان السنّي كافراً لما ورثَ الشيعي لأن الكافر لا يرث المسلم إذ الكفر حاجب عن الإرث، كما أن القتل حاجب (كما لو قتل الابنُ أباه فلا يرثه).

٤- حشر مسألة قبول الأعمال في الآخرة من عدمه، والمصير الأخروي من عدمه، لا معنى له، لأن هذا بحث كلامي وليس فقهياً. كما أن هذه المسألة لا دخالة لها في مسألة التعايش وترتيب الأحكام القانونية الدنيوية كحرمة الدم والمال والعرض وثبوت النسب والمواريث والديات.

فلو كان البحث في المصير الأخروي وفي قبول الأعمال من عدمه وشروط ذلك، فهذا شأن علماء الكلام والعقيدة، وليس من شأن المؤمن بالعلمانية ولا معنى لدخوله في هذه المجالات، فضلاً عن أن هذه المسألة لا ربط لها بقواعد التعايش وما تحكمه من قوانين وتشريعات.

وقد يتوهّم أحدهم ويقول: كيف يتحقق التعايش وأنتم لا تجيزون الصلاة خلف إمام الجماعة السنّي؟ أو تشترطون التشيّع في قبول الأعمال والثواب؟

ولكن هذا التوهّم ساذج جداً، وذلك:
أولاً هذه المسألة فيها تفصيل واختلاف في الآراء بين الفقهاء.

وثانياً: لا علاقة لمسألة اشتراط (الإيمان بمعناه الخاص) في إمام الجماعة وفي مرجع التقليد أو في توزيع بعض الحقوق الشرعية بمسألة التعايش؛ لأنها متعلقة بالموقف العبادي للإنسان وما يدل عليه الدليل ومدى توفّر الشروط المطلوبة فيه حتى تفرغ ذمته أمام الله تعالى، وفي هذا المجال حتى بعض الشيعة لا يُصلّى خلفهم وليس الأمر مقتصراً على غير الشيعي.

بناءً على ما تقدّم ذكره من وجود آراء ثلاثة في المسألة يتضح أن ما نسبه المتحدث في برنامج المراجعة غير دقيق وغير صحيح ويفتقر للمراجعة والاطلاع على الآراء في المسألة، لأنه يقول بضرس قاطع إن علماء الشيعة اتفقت كلمتهم على الحكم بكفر المخالفين باطناً وواقعا! وهذا غريب جداً كيف اتفقت كلمتهم والحال أن السادة البروجردي والكوهكمري والصدر والسيستاني والشيخ حسين وحيد الخراساني وآخرين يخالفون في ذلك؟! أين الضرس القاطع؟ فالذي يظهر بالتتبع أنه ضرس منخور وليس قاطعاً.

وحتى بالنسبة للرأيين الأول (النادر الذي يحكم بالكفر الظاهري والباطني)، والثالث (الذي يحكم بالكفر الواقعي دون الظاهري)، فأصحابهما يستثنون المستضعف، بمعنى أن الحكم ثابت للعالم المنكر الذي ثبت عنده الدليل ولكنه ينكره عناداً. فهو عالم بأن النبي (ص) قد نصب الإمام علياً (ع) ولكنه مع ذلك ينكره، وهذا في حقيقته رد على الرسول وتكذيب له، وهو على خلاف الإيمان برسالته.

فيتضح من هذا:

أولاً ليس الرأي المُسلّم عند الشيعة أن غير الشيعي كافر باطناً، بل هو رأي من آراء.

وثانياً: يلتزم غالب فقهاء الشيعة بحرمة الدم والمال والعرض في غير الشيعي.

وثالثاً: الذين يقولون هم كفّار في الآخرة يلتزمون أن الكفر الأخروي خاص بالعلماء العارفين الجاحدين دون القاصر والمستضعف، ولو من جهة عدم تساويهما في ميزان التعامل الأخروي.

والأغرب أن المتحدث في برنامج المراجعة قال: (ولكن أنا بالنسبة إليّ إذا أثبت كفره لا أُثبت إهدار دمه.. لأن الأعلام من يثبت كفره يقول إذا كان في دار الإسلام فليس مهدور الدم.. يعني يكون من أهل الذمة، أو أي عنوان آخر)!

وحتى تكتمل المفرقعات الإعلامية قال: (واحدة من أهم الركائز التي استندت إليها المؤسسة الدينية وخصوصاً المؤسسات والحوزات الشيعية، قالوا ليس الفقيه مسؤولاً عن تشخيص الموضوعات، المسؤول المكلّف)! ثم ضرب مثالاً بالخمر!!

وفي الواقع إن هذين المقطعين يثبتان أن الرجل لا علاقة له بالفقه من قريب أو بعيد، بل يُجلّ طالب مرحلة المكاسب المحصّل عن التفوّه به، وذلك لأمور:

أولاً: ما تقدّم في أن غالب فقهاء الشيعة يلتزمون أن غير الشيعي محقون الدم ومحترم المال والعرض.

ثانياً: كيف يقول (يعني يكون من أهل الذمة أو أي عنوان آخر)! والحال أن الفقهاء يفتون أن المسلم كفؤ المسلم في الزواج، وأن النسب يثبت بين الزوجين المختلفين مذهبياً، وأن المواريث تثبت بين المختلفين مذهبياً، فهل تثبت هذه الأحكام بهذا الإطلاق للكتابي!

ثالثاً: إن فقهاء الشيعة محتاطون في الدماء، وعلى طوال التاريخ كانت مظلومية الشيعة وما تحمّلوه من مشاق جرّاء احتياطهم في الدماء.

رابعاً: أما دعوى أن الفقهاء يقولون إن الفقيه ليس مسؤولاً عن تشخيص الموضوعات، والمسؤول هو المكلف!! فهذا من المقاتل في كلامه وتوقف الإنسان على مقدار تتبعه وفهمه، والمضحك أنه ساق الخمر مثالاً! وذلك:

إن الرجل يخلط بين الموضوعات الخارجية وبين الموضوعات الشرعية وعلاقتها بالفقيه، فتحديد وإثبات أن السائل الفلاني خمر أو لا، هذا موضوع خارجي صرف ليس من صلاحية الفقيه ولا وظيفته التدخل فيه، وإنما وظيفته بالنسبة إليها أن يبيّن الحكم الشرعي وهو حرمة شرب الخمر.

بينما هناك مواضيع شرعية وليست خارجية صرفة، من قبيل الصلاة والصيام والعقود والإيقاعات والمعاملات، وفي هذا القسم كما أن الفقيه يبيّن الحكم ويستنبطه، فهو كذلك المسؤول عن إثباته خارجاً، فالكفر والارتداد وما أشبه لا يحق لأي مكلّف التدخل فيها وإثباتها لشخص، وإنما وظيفة الفقيه الجامع للشرائط، أي القاضي الشرعي في مجلس القضاء.

فهل تحديد أن هذا السائل المشكوك خمر أو لا يشبه تشخيص أن فلاناً من الناس كافر أو لا! إن تشخيص الموضوعات غير الصرفة أي المستنبطة والتي اخترعها الشارع وفرض فيها حدوداً وقيوداً إنما هي من وظيفة الفقيه دون المكلّف. إضافة إلى تعطيل الحدود في زمان الغيبة.

وفي الختام أُثبت نصاً للفقيه السيد الحكيم (ره) ذكره في المستمسك بعد تعرّضه لهذه المسألة حيث قال في بيان الكفر والمراد منه:

( الكفر المدعى عليه الاجماع في كلام الحلي وغيره، إن كان المراد منه ما يُقابل الإسلام فهو معلوم الانتفاء فإن المعروف بين أصحابنا إسلام المخالفين. وإن كان المراد به ما يقابل الإيمان، كما هو الظاهر .. لم يُجد في إثبات النجاسة لأن الكافر الذي انعقد الاجماع ودلّت الأدلة على نجاسته ما كان بالمعنى الأول [أي مقابل الإسلام لا الإيمان]..

وأما النصوص فالذي يظهر منها أنها في مقام إثبات الكفر للمخالفين بالمعنى المقابل للإيمان كما يظهر من المقابلة بين الكافر والمؤمن، فراجعها). وبعد أن ذكر طرفاً من النصوص قال: (فالقرائن الداخلية والخارجية قاضية بكون المراد من الكفر في النصوص السابقة ما لا يكون موضوعاً للنجاسة، والظاهر أنه هو المراد من الكفر في كلمات أصحابنا). [مستمسك العروة الوثقى، ج١، ص٢٤١- ٢٤٢].

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky