خاص الاجتهاد: العلامة السيد منير الخباز: هناك حاجة ضرورية للاجتهاد / في مثل هذا الزمن المفتقر لوجود المجتهدین، هناك وظیفة عینیّة تعیینيّة علی کلّ من له قدرة، وکل من یری في نفسه القدرة أن يصل إلى مرحلة الاجتهاد./ بدون هذین العنصرین (التأمّل والتّرکیز) لا یمکن الوصول إلى الاجتهاد! سنة واحدة بتأمّل، تَعدِل عشر سنوات من الحضور بلا تأمّل وترکیز، بل وأكثر من ذلك.
ما نقدّم لكم قراءنا الأعزاء، توصيات للعلامة السيد منير الخباز لطلبة العلم، التي تفضل بها في الجلسة الأخيرة من درس بحثه الفقهي الخارج (مكان المصلي) في السنة الدراسية الماضية (1440هـ).
بسم الله الرحمن الرحیم وصلی الله علی محمد وآله الطیّبین الطاهرین.
نحتاج إلى مجتهدين وإن يصل بعض مراتب الاجتهاد
لا ريب أنّ الجمیع یعلم بأنّ الطائفة الإمامیة تحتاج إلى مجتهدین، ولا إلی مجرّد فضلاء، ولا إلی مجرد مبلغین، ولا إلی مجرد خطباء منبر، فإنّ الطائفة الإمامية خصوصاً في عصرنا الحاضر تمرّ بمحاط صعب من حيث موجة التّشکيکات، سواءً علی مستوی العقائد أو علی مستوی حكمة التشريع الإسلامي ومستوی سلامة التشریع الإسلامي عن النقض والخدش.
وبالتالی فدفع هذه الشبهات والتّصدی لدحضها، یحتاج إلی علماء مجتهدین متضلعين. فإذن فهناک حاجة ضروریة للاجتهاد، لا أنّ هناک مجرّد حاجة لمبلّغ أو خطیب أو أيّ مستویً من المستویات.
فلابد من الاجتهاد. وهو المصداق الأجلى والمتيقّن من قوله عزّوجلّ : فلولا نفر من کل فرقة منهم طائفة لیتفقّهوا في الدّین ولینذروا قومهم إذا رجعوا إلیهم لعلهم یحذرون.”.
وهو المصداق المتيقّن من أحادیث مدح العلماء: علماء أمّتي أفضل من أنبیاء بنی إسرائيل، وسائر الأحاديث التي مَدَحَت العلماء. فالقدر المتيقن من العالِم، مَن کان مجتهداً متضلعاً.
وبالتالی هناک وظیفة عینیّة تعیینيّة علی کلّ من له قدرة، وکل من یری في نفسه القدرة أن يصل إلى مرحلة الاجتهاد، یتعیّن علیه ذلک، في مثل هذا الزمن المفتقر لوجود المجتهدین.
ولأجل هذا، علی طالب العلم أن لا ییأس من هذا الطریق، بل أن یلقّی النّفس علی أنه یستطیع الوصول إلى درجة الاجتهاد.
لیس مهما أن یصل الی أعلى درجات الاجتهاد. فالإجتهاد له درجات وله مراتب. هناک اجتهاد مطلق بنحو أتَمّ، وهناک اجتهاد مطلق بنحو أقلّ، وهناك إجتهاد متجزّي. علی أي حال، الاجتهاد له درجات. ولذلک فقهاءنا “رضوان الله علیهم” القُدامى في إجازاتهم، أحيانا یکتبون: بلغ درجة الاجتهاد وأحيانا یکتبون: بلغ درجة من الاجتهاد.
فهناک اجتهاد مطلق وهناک اجتهاد متجزّی. المهم أن یصل إلی درجة وافية من درجات الاجتهاد. وهذا مطلوب ومطلوب في مثل هذه الفترة ومثل هذا الزمن بشکل ضروريّ. لذلک، کل طالبِ علمٍ یری في نفسه القدرة یتعیّن علیه ذلک.
أما کیف یصل إلى هذه الدرجة؟ وکیف ینالها؟
ینالها بالتًّعب. وبدون تعب لايفيد. ولو کانت ذهنیة الطالب أعلى المستویات. ونحن نتکلم عن خبرة. أنا في الحوزه منذ أربعين سنة. الآن أكملت أربعين سنة وأنا فی الحوزة. عاشرنا أساتذة وزملاء من مختلف الطّبقات والأجناس، ورأينا من هو أذکی منّا بدرجات، وأعلى ذهنیة منّا بدرجات، لکن ما وصلوا لماذا ؟ للکَسَل، وللتّنبله! لأنه کسول ولأنه لایرید أن یتفرّغ، ولأنه لایرید أن يُصِرّ على نفسه بالبحث والتدقیق والتنقيب، لا يصل، ولو کان أعلى درجات الذکاء.
وبالعکس، هناک أناسٌ عاشرناهم، ذهنیّتهم متوسطة، لا هم من الأذکیاء ولا هم غبیّ، متوسطة، وصل إلى درجات من الاجتهاد والفضل وأصبح أستاذ من أساتذة البحث الخارج في الحوزات العلمیة. إذن، المدار علی التّعب وعلی العمل.
الترکیز والتَفَرُّغْ.. العنصرين الأساسيين للوصول إلى الاجتهاد
لابد من عنصرین: ترکیز وتَفَرُّغْ. وبدون هذین العنصرین لا یمکن الوصول إلى الاجتهاد. أن یکون عنده تفرّغ. يتفرّغ لهذه المادة التي يدرسها، فقهاً وأصولاً کلاماً. أيّ مادة یدرسها. والترکیز، لابدّ أن یُرکّز علی الکلمات التي یسمعها. مالفرق بین هذا المطلب وذاك المطلب؟ لماذا هذا الوجه یرید وهذا الوجه لایرید؟ ما هو المقصود من هذه الکلمة في هذا المقام؟
متی ما بدأ التّرکیز، سیصبح التركيز طبیعي بالنسبة إليه. في البداية التركيز صعب عليه، لأنه غير متعوّد على التركيز، لكن، متى ما بدأ التركيز سيصبح أمر طبيعي بالنسبة إليه. لما ذا هذه الکلمة دون ذاک؟ لما ذا هذا الوجه دون ذاك؟ لماذا هذا الدلیل دون ذاک؟ لماذا هذا؟ ماهو وجه الإشكال فی هذا الکلام؟ ما هو وجه القبول فی هذا الکلام؟
متی ما عَوَّدَ ذهنه علی أن یَطرَحَ هذه الأسئلة علی ذهنه، وفي کل مطلب یَسمع، (هل هذا الکلام مقبول، أم غیر مقبول؟ هل هذه الکلمة صحیحة أم غیر صحیحة؟ هل هذا الوجه مقبول أم لا وهكذا.. ) متى ما عوّد ذهنه علی السؤال والتّدقیق، مَلَكَ قوّة الترکیز والتّفرّغ بمعنی العمل.
لابد أن یُحَضِّر للدّرس قبل الحضور، حتی یکتشف زوایا الدّرس. یستطیع أن یفهم أن کلام الأستاذ صحیح أم خطأ. وأما لو إقتصر حضوره في الدرس علی مجرد الفهم.
يعني إن لا يحضّر الدرس، فإذن متى سیصل إلى مرحلة الإشکال؟ يحتاج إلى مراجعة ومراجعة، حتی یصل إلى مرحلة الإشکال.
بينما إذا حضَّرَ الدّرس قبل الحضور، من نتیجة هذا، (مثلاً بحث معروف، یبحث فیه الأستاذ، يقرأ الإنسان هذا الباب، في العروة في بحث السید الخوئي وهکذا.. في الفقه وفي الأصول، معروف أطراف البحث، ولا يلزم أن یعرف كل الدقائق).
فعلى الطلبة تحضير البحث قبل الحضور. والمباحثة مع شخصین یفیده، وهو یفید ذلک الشخص. فالمباحثة ضروریة جداً.
العنصر الثالث الحوار والمناقشة مع الأستاذ
والعنصر الثالث هو: الحوار مع الأستاذ. کثیرٌ من الأمور لا تفهمها إلا بالحوار. ونحن جرّبنا هذا، نحن نقرأ المطالب في مصباح الأصول، الأصولیة، نرى أنه واضحة، لأن عبارة “المصباح” سلسة وسهلة، نقرأ المطالب فی بحوث السید الخوئي “تقریراته”، التنقیح أو المستند أو.. نتيجة أنه المطلب سهلٌ، لأن العبارة سهلة، بمجرد أن نأخذ مناقشة مع الأستاذ نكتشف أنه لا.. . ما کنّا نحسب أنّنا فهِمنا، تبیّن أنه .. لا، فإنّ له مطالب أخرى یتوقف علیها، وأنّ له مغازی أخرى لم نلتفت إليها. إذن، الحوار مع الأستاذ عنصر ضروري للوصول إلى فهم واقع المطالب وكنه المطالب.
وبالتالي، على الإنسان أن يسلک هذا الطریق، طریق التّعب وطریق الترکیز حتی یتصل درجة من درجات الاجتهاد أو درجة الاجتهاد وأن لا ییأس!
کثیر من الطلبة یقول: أنا ليس مستوى فهمي مثل هولاء! هذا لیس عیباً، ولیس مانعاً. بل تصل بالتَّعب، حتی لو لم یکن مستوی فهمك مستواهم.
وکثیر من الطّلبه یقول بأنّه: هذه بحوث طویلة وعریضة! في الإشکال إشکالٌ وفي الإشکال إشکال وفي الإشكال إشكال و… فمتی أنا أحیط بهذه الإشکالات؟!
ما هو الغرض من التطويل
لا تحتاج أن تحيط بهذه الإشکالات، یکفي أن تُمرّن ذهنك علی ذلک. مثلاً نحن في البحوث نطوّل، طبيعتنا التطويل، سواءً في بحث الأصول أو في البحث الفقه. الغرض من هذا التّطويل لیس أن يستوعب الطالب کل المطالب، بل الغرض أن یتعلّم کیفیة الإشکال والنقد والإبرام، هذا هو الغرض.
ربّما تَحضُر بابٌ واحد ومملوء هذا الباب بالقواعد الأصولیة والفقهیة والرجالية، فتَتَعلّم کیفیة المقارنة وكيفية التطبيق وإن لم تحضر باباً آخر.
الغرض من التطویل هو تعلیم الطالب کیفیة تطبیق القواعد، لا أنّ الغرض أن یستطوعب الطالب كل المطالب، قد لايمكنه ذلك الإستيعاب، لكنه یتعلّم مِن هذا العَرض المطالب المختلفة، أصوليةً أو رجالیة أو فقهیة، فإنّ الغرض من البحث الخارج هو التمرين علی الوصول إلى القدرة علی الإستنباط، هذا هو الغرض .
أو أنَّ الطالب یقرأ بعض العبارات ولا يفهم، خصوصاً “المُستمسک” مثلاً، لايفهم الطالب بأول وهلة، أو کلمات “العراقي” لا یفهم الطالب بأول وهلة، لكن بالتّعوُّد سیفهمه.
علی الطالب أن لا ییأس، لا من إغلاق العبارات، ولا من کَثرة المطالب، ولا مِن ضعف ذهنه بعض مستویات الإشکال والنقض والإبرام، کل هذا لیس عوامل اليأس! إذا جَدَّ سَیَصل، وإذا تعب، سیصل. وَرَدَ عنهم “علیهم السلام”: أعطِ العلمَ کلّك، یُعطِکَ بعضه. متی ما تعب، فإنّه سیصل.
على الطالب أن یستغل أيّام الإجازة والعطلة الصیفیّة
وستأتي أيّام العطلة والإجازه الصیفیة الطویلة التي قد تستغرق ثلاثة أشهر أو شهرین ونصف، نحن عازمون علی الرجوع إلى البحث أثناء شهر ذي القعدة ولکن نقول: الطالب عليه أن یستغل أيّام العطلة الصیفیّة، في أيّ بحث، لا أقول خصوص البحث الفقهي، حتى لو كان البحث العقائدي، أو البحث قرآني، المهم أن یستغلّه في التأمل. قدرة التّأمّل لا تذهب المطالب من ذهنك.
لیس لک حق أن تُهمِل نفسک. (ثلاثة شهور تهمل نفسک) لا .. ليس من حقک هذا. أنت طالب تعبتَ على نفسک، كيف تهمل نفسك لمدة ثلاثة أشهر!! علیک أن تختار بحثاً يقتضي التأمّل. حتی لو بحث قرآني أو بحث تفسیري أو کان بحث كلامي .
المهم أن تختار بحثاً تحافظ من خلاله علی قدرة الذهن علی التّأمّل والتّدقیق. تَخرج في هذه المدّة ببحث قرآني، لکن عن تأمّل ونُبل. هذا یجعلک مازلت في إطار التأمّل والتدقیق الحوزویين.
فلیَستغلّ الطالب أیّام الإجازة، کما أنّ السنّة الآتیة إن شاء الله إذا أبقانا الله وإیّاکم وکنّا قادرین في السنه القادمة.
إذا الطالب لم توفّق في السّنة السابقة، لاأقل في السنة القادمة یعوّد.
لم يقدر في السنّه السابقة، وشغلته الأعمال والموانع، الآن في السنة القادمة، يعهد نفسه عهداً علی أن يکون من أهلها، یعنی من أهل البحث والتدقيق؛ بمراجعة الدروس وبالمباحثه فیها وبالحوار مع الأستاذ وبالترکیز والتأمل. ستصل إن شاءالله.
سنة واحدة بتأمّل، تَعدِل عشر سنوات من الحضور بلا تأمّل وترکیز، بل وأكثر من ذلک.
نسال الله لنا ولکم دوام التوفیق والتصدیق والتأیید لخدمه الدین والمذهب والحمدلله رب العالمین والصلاة والسلام علی أشرف الأنبياء والمرسلین محمد وآله الطاهرین.