الاجتهاد: قبل سنوات ليست بالبعيدة تشرفتُ عند زيارتي للنجف الأشرف بالمثول بين يدي سماحة المرجع الديني الأعلى، السيد السيستاني (دامت برکات وجوده)، فابتدأني بالسؤال عن أستاذي الشمس الخراساني (رضوان الله تعالى عليه)، وحين بشرته بِحُسن حاله قال لي بعد الإطراء والثناء عليه: (إني أعرفه بدقة النظر منذ قرابة خمسين سنة).
* نظراً لنقد السيد الأستاذ (قده) لمطالب الفلسفة فإنّ بعضهم قد اعتبره من روّاد مدرسة التفكيك، وقد أخبرته بذلك ذات مرة، فقال لي:” إني لا أنتمي لأيّ مدرسة من هذه المدارس، فلا أنا مع الفلسفة ولا ضدّها ، وإنما أراها علماً نظرياً كسائر العلوم الأخرى ، فما صحّ منها قبلته ، وما لم يصح رفضته “.
* كان يرفض التمسك بالفهم العرفي من غير إبراز ملاکه، ويبرر ذلك بأنّ الفهم العرفي ليس اعتباطياً، بل يستبطن ملاكات معينة، فلا يصحّ التمسك به من غير إبراز الملاك الذي يستبطنه. بل كان في بعض الأحيان ينتزع القاعدة العقلية أو غيرها من لسان النص، ويبرز أنّ كلام المعصوم (عليه السلام) ليس تعبدياً صرفاً، بل هو مبني على هندسة وحسابات دقيقة، يمكن الوصول إليها عبر التأمل.
بسم الله الرحمن الرحيم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين.
قبل سنوات ليست بالبعيدة تشرفتُ عند زيارتي للنجف الأشرف بالمثول بين يدي سماحة المرجع الديني الأعلى، السيد السيستاني (دامت برکات وجوده)، فابتدأني بالسؤال عن أستاذي الشمس (رضوان الله تعالى عليه)، وحين بشرته بِحُسن حاله قال لي بعد الإطراء والثناء عليه: (إني أعرفه بدقة النظر منذ قرابة خمسين (١) سنة).
بهذه العبارة الذهبية أردت أن أفتتح هذه السطور، راجياً أن أوفق لاقتباس ما يضيء الطريق من قبسات أشعة شمس الأستاذ المتوقدة.
اسمه ونسبه الشريف:
هو سماحة آية الله المعظم: السيد حسين نجل الميرزا السيد عباس الشمس الحسيني الخراساني.
ولادته:
ولد سماحة السيد الأستاذ المعظم الشمس الخراساني (قدس الله نفسه الزكية) سنة ۱۳۰٦ هجري شمسي – الموافقة لسنة ١٣٤٤ أو ١٣٤٥ هجري قمري تقريباً – في قرية “أبردة”؛ إحدى قرى مدينة مشهد المقدسة، من والدین کریمین، ربياه فأحسنا تربيته، وكان لوالده الكريم – الذي كان مكثراً من مجالسة العلماء والاستفادة منهم – واضح الأثر في تنشئته تنشئة دينية على طبق الأحكام الشرعية الفرعية.
نشأته:
ثم انتقل من قريته إلى مدينة مشهد طلباً للمعارف الإلهية في أوائل بلوغه، وبقي فيها مدة ثمان سنوات، قاطناً في مدرسة (نوّاب)، وتتلمذ خلال تلك المدة على يد العديد من أساتذة حوزة مشهد المقدسة، ومنهم:
١- الشيخ محمد تقي الأديب النيشابوري (قده)، حضر عنده (المطول) وأغلب الباب الأول من (مغني اللبيب).
۲ – السيد أحمد المدرس اليزدي (قده) – جدّ زوجته المحترمة – وقد حضر عنده كتاب (القوانين) و (شرح اللمعة)، وكان متخصصاً في تدريسهما.
٣- الشيخ الميرزا جواد الطهراني (قدّه) ، حضر لديه قسم (المكاسب المحرمة) من كتاب المكاسب .
٤- الشيخ هاشم القزويني (قده)، وقد حضر عنده قسمي البيع والخيارات من كتاب (المكاسب) و (الرسائل) و (الكفاية) و مقداراً من درس الخارج، وكان متميزاً ببراعة البيان والتسلط على المطالب .
وقد تحدث عنه سيدي الأستاذ ذات مرة فقال: لقد كان أستاذي الشيخ هاشم القزويني (قده) رجال العلم والبيان، حتى إنه لشدة جمال بيانه وقدرته على تيسير أعقد المطالب العلمية لما اتفق سفره إلى الحج، وكان الحج في ذلك الزمان يتطلب زمناً طويلاً، حضر طلابه عند بعض أعلام مشهد المشرفة، ولكنه بعد مرور مدة من الزمان حضر هذا المدرّس إلى مكان الدرس فلم يجد من الطلاب أحداً، فاحتمل أنه قد اشتبه عليه الوقت ولكنه تحرى وتأكد من دقة وقته، مما دعاه أن يبقى منتظراً حتى يئس من حضور طلابه، حينها راح يفحص عن سبب هذا الانقطاع الجماعي المفاجئ، فعلم بأنّ الشيخ القزويني (قده) قد رجع من الحج وشرع في الدرس.
٥- الشيخ الشمس ( قده)، وقد حضر عنده (شرح النظّام ) ، وكان – بحسب وصف الأستاذ – ماهراً ومتخصصاً فيه .
٦- الشيخ هادي الكدكني (قده) وكان من تلامذة (الآغا بزرك الحكيم)، وقد حضر عنده (شرح الإشارات) من أوله حتى النمط الثالث.
٧ – الشيخ غلام حسين المحامي (قده)،وقد حضر عنده منطق المنظومة، وبحث التعارض من الرسائل، وشيئاً من أجود التقريرات.
۸- الشيخ الميرزا مهدي الإصفهاني (قده) ، وقد حضر لديه قليلاً في بحث الخارج.
جدُّه ومثابرته في التحصيل :
حدثني الأستاذ الشمس الخراساني( أعلى الله درجته) ذات مرة فقال : لقد كنت في فترات التحصيل لا أتناول الطعام إلا والكتاب بين يدي، حتى إنّ عائلتي كانت تتأذى من ذلك أحياناً، وكنت ملتزمة بالإشكال على أساتذتي منذ بداية تحصيلي، حتى إنني عند دراستي للقوانين قد استمرّ في إشكال واحد لمدة أسبوع كامل، وكان مرتبطاً بمحذور الدور المذكور في مسألة علامية التبادر.
الهجرة إلى طهران :
وبعد أن أنهی تحصیلاته في (مشهد المقدسة) غادرها إلى (طهران)، وبقي فيها سنتين طلبة لتحصيل العلوم العقلية، فكان من أبرز أساتذته هناك :
١- الشيخ مهدي الحائري اليزدي (قدّه) ، وقد حضر عنده النمط الرابع من (شرح الإشارات) ، وكان – كما ينقل الأستاذ (قدّس سره) – شديد الاعتقاد بالفلسفة.
۲- السيد أبو الحسن الرفيعي القزويني (قده) ، وقد حضر عنده بعض الأجزاء من كتاب ( الأسفار ).
وتحدث سيدي الأستاذ (رضوان الله عليه ) عن أستاذه هذا، فقال : كان السيد الرفيعي ( قده) شديد الاعتقاد بنفسه فيما يرتبط بالعلوم العقلية، وذلك لشدة توغله فيها، حتى إنني سمعته يقول: ” إنّ علم الحكمة قائم بي”. وكان قد قال هذا الكلام مع وجود الحكيمين الآشتيانيين.
ومن لطائف العبارات التي كان ينقلها سيدي الأستاذ عن أستاذه العظيم السيد الرفيعي ( قدّس الله سرهما ) قوله: (العلم من المجرادت، فلا يحصل إلا بالتجرّد )، في إشارة منه إلى أنّ نيل العلم لا يتسنى لمن لم يجرّد نفسه عن المشاغل والصوارف، ويبذلها خالصةً له.
٣- الشيخ رضا القاضي (قده) – من تلامذة الشيخ أحمد الآشتياني (قده ) – وقد حضر عنده ( شرح المنظومة ).
ونقل لي الأستاذ ذات مرة قضيةً عن لسان أستاذه هذا ، فقال : لما أردت الذهاب إلى الحج، مررت بالنجف، ولما كنت مقلداً للميرزا النائيني (قده) ذهبت إلى بيته لآخذ نسخة من (المناسك) لأجل العمل على ضوئها ، فلما طلبتها وجيء لي بها، اطلع المحقق النائيني على ذلك، فقال: لا تأخذها ؛ فإنها مناسك السنة الماضية.
ويظهر من ذلك: أن بعض آرائه الشريفة قد تغيّرت ! ولذلك لم يأذن بالعمل على طبقها ، وهذا من مظاهر التثبت الشديد في أمر الفتوى، وهو ممّا يتميّز به مراجعنا العظام.
٤ – السيد أحمد الخونساري (قده ) ، وقد حضر عنده البحث الخارج فقهاً وأصولاً وكان الأستاذ الراحل ( طابت نفسه) يجلّ أستاذه هذا إجلالاً فائقاً، وقد تحدث عنه ذات مرة ، فقال: إنّ واحدة من الصفات العالية التي كان يتحلى بها السيد أحمد الخونساري (قده) : صفة الصمت، وقد كان تحليهِ بها إلى الحد الذي لم يكن يتكلم إلا أن يُسئل، وإن لم يُسئل بقيَ صامتاً لا ينبس ببنت شفة .
الهجرة إلى قم المقدسة :
ومن (طهران) هاجر إلى (قم المقدسة) ، فوردها بعد رحيل أستاذها الكبير السيد الحجة الكوهكمري (قده) بأسبوع، وبقي فيها سنة وأشهر، مستفيداً من أساطين أساتذتها، فكان منهم :
1- السيد حسين البروجردي (قده) ، وقد حضر عنده الأبحاث العالية في الفقه.
ومن لطائف ما سمعته من أستاذي الراحل عن أستاذه هذا: أنه – لشدة اهتمامه بمسألة التزكية – كان دائماً ما يفتتح درسه بالنصيحة والتوجيه لطلبته .
ومن جملة توجيهاته أنه خاطب الطّلاب في يوم من الأيام، فقال: ” إنني منذ أن طلبتُ العلم لم أنقطع عن طلبه لحظة واحدة، ومع ذلك لم أصل إلا لهذا المستوى الذي أنا عليه، فكيف إذن سيكون حال المقصّرين في دراستهم ؟!”
وذات مرة قال على منبر الدرس، وكان حينها في الثمانين من العمر: ” إنني قبل ثلاثين سنة كنت أتخيل نفسي مجتهداً “.
وهي عبارة مثيرة للانتباه، إذ هي تعني : أنّ ما كان عليه – وهو في الخمسين من عمره – كان يراه مجرد وهم للاجتهاد ومحض تخيل، والحال أنه في ذلك العمر كان مجتهداً مسلّم الاجتهاد، بل كان من وجوه الأساتذة والمجتهدين، ويفترض فيه أنه قد نقّح جميع مبانية العلمية وفرغ منها، إلا أنه مع ذلك قد عبّر عن ذلك الواقع بالوهم والخيال، بعد أن تمرّس في المطالب و تعمّق فيها.
٢- السيد روح الله الخميني (قده) ، وقد حضر عنده الأبحاث العالية في علم الأصول .
ومن اللطائف المرتبطة بحضوره في هذا الدرس، قال: كنّا في درس الأستاذ السيد الخميني (قده)، فأفاد مطلباً جديداً على خلاف مطالب الأعلام (قدهم)، فاستشكل عليه بعض المبرزين من تلامذته إشكالاً ناشئاً عن أنسه مطالب الأخرين ليس إلا، فقال له السيد:” إنّ الفرق بين مطلبي ومطالب غيري: أنها مطبوعة ومطلبي لم يطبع بعد، ولو كان مطبوعاً ومتداولاً لم تستوحش منه، وتشكل عليه “.
ونقل عنه ذات يوم قوله: ” من السهل صيرورة الإنسان عالماً، ولكنّ المشكل صيرورته إنساناً، وكان شيخنا – الشيخ عبد الكريم الحائري (أعلى الله درجته) – يقول: ” صيرورة الإنسان عالماً أمر مشكل، ولكن صيرورته إنساناً من المحالات”.
وأكمل السيد الخميني حديثه عن أستاذه المذكور، فقال : ” إنه لشدة تورعه عن الاستفادة من الأموال الشرعية التي كانت بين يديه – باعتباره أحد أكبر مراجع الشيعة آنذاك – لما توفي بات أهله جوعي في الليلة الأولى بعد وفاته”.
٣- العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده) ، وقد حضر عنده شطراً من كتاب (الأسفار) ، وخارج الأصول، وكان من زملائه في هذا الدرس السيد جلال الآشتياني ، والشيخ مهدوي کني.
وقد سألت سيدي الأستاذ ( طابت في الجنان نفسه) ذات مرة عن الفرق بين أستاذيه في المعقول السيد أبو الحسن الرفيعي والسيد العلامة الطباطبائي ( قدهما ) ، فقال : إنّ الأول كان مسلطاً جداً على المطالب الفلسفية، ولكنه لم يكن صاحب نظر فيها، والثاني لم يكن مستوى الأول في التسلط على الطالب ، ولكنه كان صاحب نظر فيها .
وتحدث الأستاذ غير مرة عن فضائل هذا السيد الجليل، فقال : إنّ السيد العلامة (قده) في الجزء الأخير من عمره الشريف كان قد كثّف كلّ جهوده لإتمام تفسيره الشهير ( الميزان) ، فخفف من دروسه الأخري .
وكان في تدريسه في مسجد (سلماسي) يجلس قرب المنير، إلا أنّ صوته كان هادئاً بحيث لا يسمعه الطلاب ، فلما طلبوا منه الصعود على المنبر قال : ” لو صعدت لم أنطق بكلمة “، وقد قال ذلك لشدة حيائه .
وكان إذا اشتدت حرارة الهواء تقلّ مدة درسه إلى ما يقارب العشر دقائق ، ولما استفسر منه زميلي السيد جلال الدين الآشتياني (طاب ثراه) عن ذلك قال : إنني كنت أصعد في الليل سطح المنزل لأعالج شدة الحرارة، ولكنني لم أستطع أن أحضّر المطالب بأكثر مما بينته لكم.
وتحدث الأستاذ (رضوان الله تعالى عليه) عن علاقة السيد العلامة بأستاذه المحقق الأصفهاني (قده) وعن غيرته الدينية، فقال : كنت أنا وزميلي السيد جلال الدين الآشتياني وشخص ثالث نحضر درس خارج أصول الكفاية عند العلامة الطباطبائي (قده) ، وكان منهجه عرض آراء المحقق الأخوند (قدس سره ) ثم التعقيب عليها بآراء المحقق الأصفهاني (قده) ، مع مناقشة ما لا يرتضيه منها، وبعد الفراغ من الدرس کان دیدنه الحديث عن المحقق الأصفهاني، حيث كان متيماً بشخصيته.
ولما توغل الفكر الشيوعي في إيران كان موضوع بحثنا يدور حول كيفية الجمع بين الحكمين الواقعي والظاهري، فكان ( رحمه الله تعالى ) يقول : ” إنّ الإنسان ليخجل أن يشتعل بمثل هذه الأبحاث، ومعولُ الماركسية يهدم بناء الإسلام ” ، ولم يهدأ له بال حتى كتب كتابه (أصول الفلسفة) في نقض أسسها الفلسفية .
وأما تواضع العلامة الطباطبائي (قده) فقد تحدث عنه ذات مرة فقال: كنت أراه حين تشرف بزيارة مشهد المقدسة يأتي إلى مجلس سيدي الميلاني (قده) ويجلس ساكتاً لا ينبس ببنت شفة، من غير أن يشارك في الضجيج والعجيج ، حتى إذا ما جلسَ بالمقدار الكافي أمسك بعصاه وقام خارجاً من المجلس ، وكأنه من عامة الناس الذين يدخلون ويخرجون من غير أيّ إثارة.
الرجوع إلى مشهد المقدسة :
وفي سنة ( ۱۳۳۲ هـ ش ) تقريباً رجع سماحة السيد الأستاذ (طابت نفسه) إلى مشهد المقدسة، بغرض الزواج والهجرة إلى النجف الأشرف، فصادف رجوعه مجيء أستاذه السيد الميلاني (قده) من العراق إلى مشهد المقدسة واستقراره فيها، ولما وجد عنده السيد الأستاذ (قدس سره) ضالته المنشودة قرر البقاء في مشهد من أجل الاستفادة من محضره الشريف، فبقي ملازماً له في أبحاثه العليا فقهاً وأصولاً حتى سنة وفاته (قده) (۱۳٥٤ هـ ش) في مدة جاوزت العشرين عاماً.
وعن هذا الاتفاق تحدث ذات يوم، فقال: كنت في جمع من علماء الحوزة الشريفة ، فسألني بعضهم : هل درست في النجف الأشرف ؟ فأجبته : إن كانت الدراسة في النجف الأشرف مأخوذة على نحو الموضوعية، فإنّي لم أدرس فيها ، وإن كانت مأخوذة على نحو الطريقية فإني قد درست فيها؛ لأنني حضرت عند السيد الميلاني (قده) وهو وجه من وجوه حوزة النجف، وبكلمة مختصرة : ” لقد جائتني النجف، ولم أذهب إليها “.
وقد أخذ حبّ أستاذه الكبير هذا بمجامع قلبه، فكان يكثر من الحديث عنه، وعن مكانته ، وعلاقته معه .
ومما سمعته منه، قال : إنّ أحد الأشخاص قال للمحقق الأصفهاني (طاب مقامه) : ” لماذا لا تدرس في مكان معروف، حتى يقبل عليك الطّلاب، وينتشر فكرك بصورة أكبر ؟ “، فأجابه قائلاً : ” إنّ لديّ تلميذين، كلّ واحد منهما يعدل ألفاً من الطّلاب، أحدهما السيد أبو القاسم الخوئي، والأخر السيد محمد هادي الميلاني (طاب ثراهما) “.
وقال أيضاً: كان الأستاذ السيد الميلاني (طيّب الله ثراه) في غاية الأدب، وقد سأله أستاذه المحقق العراقي (أعلى الله مقامه) ذات مرة عن درسه ودرس المحقق الأصفهاني ( أعلى الله درجته)- وكان السيد الميلاني يعتقد الأخير – فتحير في الإجابة احتراماً لمشاعر أستاذه ومكانته، ثمّ بعد التأمل أجابه جواب مبهم ، فقال : ” شيخنا ذلك معلوم لا يحتاج إلى بيان “.
وعن تلمذته لدى السيد الميلاني (قده) تحدث ذات يوم فقال: لم أكن طوال مدة حضوري بحث السيد الأستاذ الميلاني (طيب الله ثراه) أستشكل عليه إلا بعد الدرس ، خلافاً لما كانت عليه سيرتي مع سائر أساتذتي، وقد أرافقه أحياناً في السيارة فيما لوكان الجواب عن الإشكال يستدعي ذلك،
وأتذكر ذات مرة – وقد كان البحث مرتبطة بالركوع في الصلاة – أنني قد استشكلت عليه ولكنه خرج من محل الدرس ولم أصل معه إلى حلّ للإشكال، فاتفق أنني خرجت للحرم المطهر للإمام الرضا (عليه آلاف التحية) وجاء السيد الأستاذ الميلاني إلى هناك أيضاً، فلما لمحني أشار إليّ بيده المباركة ، ثم قال : ” إنّ إشكالاتك من موجبات شوقي إلى التدريس “، ويعلّق الأستاذ على ذلك بأنه من مظاهر حالة انشراح الصدر التي كان يعيشها السيد الميلاني (أعلى الله درجته ).
وذات مرة قال المرحوم السيد الميلاني للأستاذ: ” أعد إشكالك، فلما أعاده أجاب عنه وقال له: لا تترك الإشكال، فأنا أستفيد من إشكالاتك “.
وكان السيد الميلاني ( قدس سره) دائماً ما يشيد بالسيد الأستاذ، ومن ذلك قوله على منبر الدرس غير مرة – كما سمعت ذلك من غير واحد – : ( إنّ درسي لثلاثة أشخاص، وكان يعني بهم : السيد إبراهيم علم الهدى، والسيد محمد باقر الحجة، والسيد الأستاذ الشمس ( قدّست أسرارهم جميعاً ).
ومن شدة إحلال السيد الميلاني لسيدي الأستاذ (قدس سرهما) أنه لما علم أنّ الأستاذ (رضوان الله عليه) لا يملك بيتاً، اشترى له بيتاً واسعاً في منطقة مرموقة ، وملّكه إياه ، وقال: ( هذا لأهل التقوى ).
الزمالة والمباحثة :
في مسيرة السيد الأستاذ العلمية كانت له زمالة مع العديد من الأعلام، ففي دراسته في طهران كان أحد زملائه السيد رضي الشيرازي (دام ظله) ، وفي دراسته في قم المقدسة كان أحد زملائه السيد جلال الآشتياني ( قده) ، وأما في المرحلة الأخيرة فقد كان زميله ومباحثه السيد إبراهيم علم الهدی – رغم الفارق العمري بينهما – وكان هذا السيد الجليل أقدم تلامذة السيد الميلاني وأبرزهم.
وكان السيد الأستاذ شديد الاعتقاد بالسيد علم الهدى ، وقد سمعته غير مرة بقول عنه : إنه أفقه وأفضل علماء قم ومشهد المقدستين على الإطلاق، وأنه يحبط مطالب المحقق الأصفهاني (أعلى الله درجته) بشكل منقطع النظير ، ولكنه كان عالماً مجهول القدر، وقد ابتلي بابتلائات كثيرة في حياته، ويكفيك منها: إتلاف أغلب أو جميع مؤلفاته، والتي من أهمها حاشيته على (نهاية الدراية).
تدريسه :
وكان إلى جانب اشتعاله بالحضور عند أستاذه الميلاني (قده) مشتغلاً بتدريس الأبحاث العليا في الأصول، حيث شرع في تدريس الخارج في حياة أستاذه، وكان درسه الشريف – كما حدثني بذلك بعض الأساتذة – أحد درسين لا ثالث لهما عند فضلاء ميشهد المقدسة .
كما كانت له – إلى جانب ذلك – حوزه تدریس عامرة في علمي الكلام والحكمة، استفاد منها عدة من الوجوه .
وكانت علاقته بالتدريس علاقة عريقة، بدأت منذ بدايات مسيرته الدراسية، واستمرت حتى أواخر عمره الشريف، وكنت أتعجب أحياناً من استذكاره لبعض المسائل الأدبية التي كان يبيّنها، بل كان ينقل بعضها عن حواش غير معروفة ، ولما أبديت له تعجبي، قال لي :
إنني منذ أوائل أمري كنت مشتغلاً بالتدريس، وقد درست الكتب الأدبية كثيراً. وهذا يعني أنه قد قضى من عمره الشريف أكثر من خمس وسبعين سنة في الدرس والتدريس والتحقيق والتأليف.
العودة إلى (قم) المقدسة :
بعد وفاة أستاذه السيد الميلاني (قده) قرر السيد الأستاذ آية الله الشمس الخراساني الرجوع إلى (قم) المقدسة مرة أخرى، فرجعها أستاذاً محققاً في أوائل سنوات الثورة، وتقربياً في حدود سنة ( ۱۳۹۷ هـ ق )، وقد شرع بالتدريس في مدرسة السيد الگلبیگاني (قده) ، ثمّ انتقل إلى مسجد المعصومة الواقع في (صفائية) ، ثمّ انتقل في آخر الأمر – بعد أن ابتلي ببعض الأمراض الرئوية – إلى منزله، وبقي فيه مشتغلاً بالتدريس والتحقيق والتأليف إلى أخريات عمره المبارك، وكانت حلقات درسه متعدّدة ومختلفة، فبعضها في الفقه و بعضها في الأصول وبعضها في المعارف وبعضها في الحكمة وبعضها في التفسير، كما كانت بعض حلقاته يشارك فيها بعض أساتذة الخارج، بينما بعضها الآخر يشارك فيها غيرهم من الطلبة والمشتغلين .
من تلامذة آية الله الشمس الخراساني :
1- السيد علي الخامنئي .
۲ – الشيخ نعمة الله الجليلي .
٣- السيد أحمد الطباطبائي التربتي.
٤ – السيد علي أصغر الحسيني .
٥ – الشيخ مهدي الگنجي.
٦- الشيخ أبو الحسن القائمي .
٧- الشيخ عباس الظهيري .
۸ – الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني .
٩- الشيخ نعمة الله الصابري.
۱۰ – السيد صالح الحكيم .
۱۱ – الشيخ محمد باقر علم الهدی .
۱۲ – السيد جواد الشهرستاني .
١٣ – الشيخ حسين الخوراشادي .
١٤- السيد علي الشهرستاني .
۱٥ – السيد مير تقي الجرجاني .
١٦- الشيخ حسين گرايلي .
١٧- السيد علي النقيبي .
۱۸ – الشيخ حسن علم الهدی.
١٩ – الشيخ محمد حسن مهدوی مهر.
۲۰ – السيد علي أكبر بني هاشمي .
۲۱ – الشيخ مصطفي محامي .
۲٢ – الشيخ محمد الرجائي الشاهرودي.
٢٣. الشيخ عزیز الله فیاض الصابري.
٢٤. الشيخ محمد جواد أنصاریان .
وأغلب من ذكرت أسماءهم هم من أساتذة البحث الخارج في الحوزتين العلميتين المشرفتين : حوزة قم وحوزة مشهد، وهناك غير من ذكرتهم، ولكن ليس البناء على التتبع والاستقصاء.
علاقته مع تلامذته :
لم يكن الأستاذ آية الله الشمس الخراساني ( رضوان الله عليه ) أستاذاً فحسب، بل كان مربيّاً ؛ إذ كان شديد الاهتمام بتربية تلامذته تربية علمية وعملية .
أما تربيته العلمية: فقد كان آية الله الشمس الخراساني (طاب ثراه ) ضنيناً بوقته جداً، ولشدة صيانته بوقته وحرصه عليه كان يقول لطلابه: ” أنا لا أعطيكم عمري مجاناً، بل بمقابل إعطائي من أعماركم ” ، وكان يريد بذلك حثهم على كتابة دروسه وتقريرها، والاهتمام بتحقيق مطالبها ، فمتى ما رأى منهم تهاوناً في ذلك كان يبادر لتعطيل الدرس معهم من غير أدنى مجاملة، ويتفرغ لبحوثه وكتاباته ، أو يستبدلهم بآخرين .
وكان يصغي لإشكالاتهم إن لمس دقتها وقوتها، ويهتم بالإجابة عنها، حتى يقتلع الإشكال من أساسه، وإن أشكل مطلب من المطالب على بعض طلبته لم يكن يتأفف من إعادته المرة والمرتين والثلاث، وبيانات مختلفة ومتعددة، حتى يطمئن بأنّ الطالب قد أحاط بالمراد .
بل كان يستقبل أسئلة طلبته عبر الاتصال التلفون به في كل وقت، ويفرح لذلك و يأنس به، وإن التفت إلى شيء بعد المكالمة لم يكن يتحرج أن يعاود الاتصال بتلميذه ليخبره بما التفت إليه، أو يبسط له الكلام حوله في اليوم التالي .
وأحياناً – قبيل الدرس أو أثناءه أو بعده، أو في الجلسات الودية – كان يطرح سؤالاً حول مطلب مهم يرى ضرورة التنبيه عليه أو إلفات النظر إليه ، فإن أجاب المسؤول فرح وهشّ وبشّ ، وإن لم يستطع الإجابة، أو أجاب ولم تكن إجابته مطابقة للصواب ، كان ( رضوان الله عليه ) يبادر للإجابة، ويفيض على كلّ طالب بمقدار سعته ومستواه.
وأما تربيته العملية: فقد كانت سيرته وحدها دروساً فيّاضة بالهدى والصلاح والرشاد، إلا أنّ ذلك كان في كفّة واهتمامه بالإرشاد كان في كفة أخرى، فقد كان كثير النصح والتوجيه لطلابه ، ساعياً إلى تهذیب نفوسهم وتزكية أخلاقهم، ومتى ما رأى من أحدهم خلّة غير مرضية – كالغرور ، أو الكبر – كان يسعى لإصلاحها بطرق مختلفة ومتعددة .
وكانت تربية الطلاب همّاً من همومه الكثيرة والكبيرة ، فكان يقول لي، وهو على ما هو عليه من المنزلة والاشتغال الدائب: إني مستعد للذهاب إلى أي مجموعة من الطلاب – صغاراً أم كباراً – من أجل إسداء النصح إليهم، ولا زلت أتذكر أنه في فترة من الفترات كان يستقبل في صباح كل خميس مجموعة من طلبة إحدى الحوزات، ويلقي عليهم دروساً في الأخلاق وتهذيب النفس.
منهج العلمي (2):
١- منهجه في الأصول .
كان السيد الأستاذ (طابت نفسه) أصولياً متمحضاً، وكان كثيراً ما يردد عبارة لأستاذه الكبير السيد الميلاني (رضوان الله عليه ) يقول فيها: (من لا أصول له لا فقه له)، ويقول : إني لأعتقد بما قاله عن بصيرة و بينة وبرهان .
ومنهجه في علم الأصول يتميز بالعديد من المزايا ، غير أنني سأقتصر على ذكر ثلاث منها :
الميزة الأولى: عدم التسليم بأي قاعدة من قواعد البحث، وأخذها كأصل موضوعي مفروغ عنه، بل كان في بداية كل بحث يعتمد على قاعدة عقلية أو غير عقلية يخضعها لمشرط التحقيق، ولا يلج في البحث حتى يحقق حالها، ومن ذلك تحقيقه حول معنى حجية المسألة الأصولية في الفقه،
فالكثير من علماء الأصول قد بنوا على كونها حجة منطقية، وأخذوا ذلك أخذ المسلمات، وهذا ما أوقعهم – بنظره الشريف – في العديد من المشاكل المنهجية، حيث اضطروا للالتزام بخروج العديد من المسائل عن حريم علم الأصول، واعتبروا البحث عنها استطرادياً مع أنها من أمهات المسائل الأصولية، ولكنه (قدس سره) من البداية قد استشكل في ذلك، وبني على أنّ حجية المسألة الأصولية هي الحجة الأصولية لا المنطقية، وأن الحجة المنطقية ما هي إلا بعض المبادئ التصديقية للمسألة الأصولية، وبذلك تخلص من جميع الإشكالات التي كانت تقف في طريقه .
الميزة الثانية: الوقوف عند المصطلحات، فكان يتناول كل مصطلح ترتكز عليه المسألة التي يريد أن يبحثها، ويحلله ويقوم بتشريحه ومتابعة جذوره، مما جعله يتوقف عند الكثير من المصطلحات ويتأمل فيها .
نظير ما اصطلحوا عليه من عدّ (عدم المانع) أحد أجزاء العلّة التامة، فإنه كان يرفضه رفضاً تاماً، ويحمله على المساحة الظاهرة؛ إذ أنّ العدم لا شيئية له حتى يؤثر في غيره، والبرهان يقضي بلابدية أن تكون أجزاء العلة من الأمور الوجودية، ولذا فإنه كثيراً ما كان يقول : ” إنَّ كلَّ شيء قُيّدَ في مقام الإثبات بالعدم، فمعنى ذلك أنّ وجوده مانع، وليس عدمه شرطاً “.
ومن الحوادث اللطيفة التي أتذكرها في بداية تشرفي بالحضور بين يديه الكريمتين أنه سألني: هل قرأت منظومة الحكيم السبزواري في الفلسفة؟ فأجبنه بالنفي، فأمرني بدراستها، وحينها حاولت استغلال الفرصة وطلبت منه تدریسي إياها، ولكنه أحالتي على أحد قدماء تلامذته، وهو سماحة الحجة الشيخ نعمة الله الجليلي ( طاب ثراه )،
وحين ذهبت إليه لطلب الدرس قال لي: أنت ماذا تحضر لدى السيد الأستاذ؟ فقلت له: خارج الأصول، فقال لي: ” إنّ درسه سيغنيك عن دراسة المنظومة ، فإنّ فقه الأستاذ الشمس أصول ، وأصوله معقول “،
وقد صدق فيما قال رحمه الله: إذ أنني رغم دراستي للمنظومة بعد ذلك لدى أحد الأساتذة المتخصصين في تدريسها (حفظه الله وأدام وجوده ) إلا أنني قد استفدت من درس الأستاذ الشمس ( قدس سره ) كثيراً فيما يرتبط بهذا الجانب .
الميزة الثالثة: التأصيل للقواعد العقلية، حيث كان يرى بأنّ علم الأصول يبتني على كثير من القواعد العقلية، وكان أحد مشاريعه الفكرية التي اهتمّ بها اهتماماً بالغاً تأليفاً و تدریساً هو التأصيل لتلك القواعد، فإن كانت القاعدة كلامية اهتمّ بجذورها الكلامية وتحقيقها طبقاً لقواعد علم الكلام، وإن كانت القاعدة فلسفية حققها طبقاً لأسسها الفلسفية، وقد حقق في هذا السبيل عشرات القواعد، نظير قاعدة أنّ الواحد لا يصدر منه إلا الواحد، والواحد لا يصدر عن المتعدد، وقاعدة التحسين والتقبيح العقليين، وقاعدة اللطف، ونحو ذلك.
وكان دائما ما يقول: ” إنّ الباحث في علم الأصول لا يمكن أن يكون مجتهداً فيه ما لم يجتهد في مبادئه، وإلا كان ذلك من تحقق المعلول بغير علة “.
۲ – منهجه في الفقه .
حدثني الأستاذ الراحل (طاب ثراه) ذات مرة فقال : كان السيد الميلاني (قدس سره) إذا قال له أحد طلبته في توجيه بعض الروايات: ” هذا ما يقتضيه الفهم العرفي ” يقول له : ” العرف بي سواد ” أي : أن العرف أمي .
ومن هنا كان فقه السيد الأستاذ (قدس سره) فقهاً صناعياً محضاً، يتعامل فيه مع النصوص والأدلة كما يتعامل الرياضي مع الأرقام والكسور، وكما يتعامل المهندس مع الأدوات الهندسية، فلم يكن يستعين بالعرف إلا في موارد الارتكازات العرفية المحكمة، وكان يخضع كل شيء للدقة ، ويجعل له قياسات ثابتة .
ففي الوقت الذي تجد فيه التمسك بـ (مناسبات الحكم والموضوع) أمراً غير منضبط بضابطة محددة، كان ( طابت نفسه ) يقنّن ذلك ، ويرجعه لأحد أسباب ثلاثة، أحدها اقتضاء الموضوع لتوسعة المحمول أو تضييقه، أو العكس، والآخر التعليل ، والثالث تنقيح المناط ، وكان يعني به قيام القرينة الخارجية على التصرف في موضوع الحكم توسعة أو تضييقاً .
وكان يرفض التمسك بالفهم العرفي من غير إبراز ملاکه، ويبرر ذلك بأنّ الفهم العرفي ليس اعتباطياً، بل يستبطن ملاكات معينة، فلا يصحّ التمسك به من غير إبراز الملاك الذي يستبطنه .
بل كان في بعض الأحيان ينتزع القاعدة العقلية أو غيرها من لسان النص، ويبرز أنّ كلام المعصوم (عليه السلام) ليس تعبدياً صرفاً، بل هو مبني على هندسة وحسابات دقيقة، يمكن الوصول إليها عبر التأمل، وإن يسّر الله تعالى لي تبييض ما قررته من أبحاثه الشريفة في خمس المكاسب فإني أرجو أن أبرز به بعض ما تميّز به (رضوان الله تعالى عليه ) في هذا الجانب .
٣ – منهجه في علمي الكلام والحكمة .
حين طبعتُ كتابي ( التوحيد بين الفلسفة المادية والمدرسة العرفانية ) تقريراً لأبحاث السيد الأستاذ آية الله الشمس الخراساني ( قده ) ذهبت عائداً لأستاذي الحجة الشيخ أبو الحسن القائمي (طاب ثراه ) – وهو أحد تلامذة الأستاذ الشمس القدامی – وأهديته نسخة من الكتاب، فقال لي : ” إنّ بعضهم كان يصنّف السيد الشمس من الحكماء، ولكنه حين اطلع على كتاب التوحید علم أنه من نقّاد الحكمة “.
ونظراً لنقد السيد الأستاذ (قده) لمطالب الفلسفة فإنّ بعضهم قد اعتبره من روّاد مدرسة التفكيك، وقد أخبرته بذلك ذات مرة، فقال لي:” إني لا أنتمي لأيّ مدرسة من هذه المدارس، فلا أنا مع الفلسفة ولا ضدّها ، وإنما أراها علماً نظرياً كسائر العلوم الأخرى ، فما صحّ منها قبلته ، وما لم يصح رفضته “.
وهكذا كان منهجه ( رضوان الله تعالى عليه ) فلم يكن يذعن لأي معلومة نظرية، كلامية أو فلسفية، بل كان ناقداً محققاً ، ولذا فإنه قد ضرب بكثير من القواعد النظرية عرض الجدار ، وبني على خطئها في الجملة أو بالجملة ، نظير قاعدة السنخية، فإنه ( أعلى الله درجثه ) كان يرى اختصاصها بموارد التكثّر بالتجزؤ دون موارد التكثّر بالإبداع، وكذا قاعدة عدم جواز تخلف المعلول عن علته، فإنه قيدها بالفاعل بالطبع دون الفاعل بالاختيار ، وهكذا .
من مؤلفات آية الله الشمس الخراساني المطبوعة :
١- توحيد ناب ، أي : التوحيد الخالص .
۲ – توحید از نگاهی نو ، أي: التوحيد من وجهة نظر جديدة، وقد كتب قسماً منه في المستشفى ، وهو مبتلى بالقلب والرئة ، فكان مثار تعجب الأطباء .
وقد حدثني عن ذلك ذات مرة فقال: لقد ألّفت جزءاً من كتابي (التوحيد) حال تنويمي في المستشفى، وقد دخل علىّ الطبيب المشرف على حالتي ، وكنت مشغولاً حينها بغسل يدي، فقال : يا سيد إنّي لا أدخل عليك إلا وأراك كاتباً أو متطهراً ، فقلت له: ” إنّ طالب العلوم الدينية منذ أن يبدأ مسيرة طلبه للعلم لا ينقطع عن ذلك حتى يوضع في قبره ” ، فقال : يا ليت أنّ كل طلبة العلم كما تقول.
۲ – الأمر بين الأمرين ، وقد سمعت من سيدي الأستاذ: إنه لم يقتنع بكل ماكُتب
وقيل فيه، سوی المثال الذي ذكره السيد الخوئي، فتوسل بالإمام علي بن موسی الرضا ( عليه السلام ) ، وكان هذا الكتاب نتيجة توسله .
3 – مشكاة الأصول ، ويتكون من ثلاثة مجلدات ، وهو ما تشرفت بتقريره من أبحاثه الأصولية ، وقد حصل هذا الكتاب – بحمد الله وتوفيقه – على جائزة كتاب الحوزة في قم المقدسة لسنة ١٤٣٠هـ .
٤- التوحيد بين الفلسفة المادية والمدرسة العرفانية .
٥ – التوحيد بين براهين الفلاسفة وأدلة المتكلمين، وقد شرفني الله تعالى بكتابة هذا الكتاب وسابقه تقريراً لأبحاثه العالية في المعارف الإلهية .
وله ( قدّس سره ) غير هذه الكتب المطبوعة عشرات الرسائل والأبحاث المخطوطة في مختلف حقول المعرفة – فقهاً وأصولاّ وكلاماً وفلسفة ورجالاً – ونسأل الله تعالى أن يوفق المعنيين لطباعتها وإخراجها إلى النور في القريب العاجل .
کمالاته النفسية :
كان السيد الأستاذ الشمس ( رضوان الله عليه ) إلى جانب شموخه العلمي ، يتسمّ بالكثير من الكمالات النفسية التي تكشف عن اهتمامه الفائق بتهذیب نفسه وتربيتها ، وسوف أقتصر على عرض بعضها :
١- التواضع الشديد ، فمتى ما طرقت باب منزله أجابك بنفسه، واستقبلك بابتسامة لا تفارق محياه من حين دخولك إلى حين خروجك، وكان يخدم ضيوفه بنفسه فيهيء لهم الشاي والحلوى بمنتهى الرضا والتودد .
وكثيراً ما كنت أراه – على ما هو عليه من عظيم الشأن – واقفاً عند بعض الحوانيت لشراء بعض السلع والحاجيات، ثم يحملها بيديه المباركتين من غير أن يستعين بأحد.
۲ – الاهتمام بالعبادة والطاعة، حيث لا زلت أتذكر حين كان درسي لديه قبيل صلاة الظهر بساعة أو أكثر أنه كان يصرّ على إنهاء الدرس قبل ربع ساعة من الأذان، حتى إنه قد استعان على ذلك في فترة من الفترات بوضع ساعة صغيرة أمامه ، وكان يقول : إنني أحتاج أن أتهيأ للصلاة قبل وقتها .
وكان له أنس شديد بالقرآن الكريم والأدعية الشريفة، فكان يحفظ الكثير منها عن ظهر قلب ، ويتلذذ بقرائتها عند الاستشهاد بها، ويرشد إلى لطائف ونكات فيها لا يلتفت إليها إلا من اندمج معها وغاص في أغوارها.
٣- الورع الشديد، فقد كان أحياناً يتفضل بإعطائي بعض مکتوباته، وكنت ألاحظ أنه يكتب في ذيل كل ورقة حرف الخاء (خ) ، فسالته ذات مرة ماذا تعني هذا الرمز الذي لا يكاد يفارق ورقة من الأوراق ؟ فابتسم ( طابت نفسه) ابتسامته العذبة ، وقال : أريد به أنّ الورقة قد تمّ تخميسها .
٤ – الاهتمام بأمور المسلمين، فقد كان يتابع أحداث العالم أولاً بأول، وكان يصاب بحالة من الهم والحزن الشديدين إذا دهم بلاد المسلمين مكروه، بالمستوى الذي كان يسليه النوم ويؤثر على صحته .
٥- عدم المجاملة في الحق ، فكان آمراً بالمعروف ونهي عن المنكر، من غير أن تأخذه في الله لومة لائم ، غير عابئ بما يجرّه ذلك عليه من المكاره .
وإني لأتذكر له في ذلك مواقف كثيرة ، ومنها : أنّ أحد المسؤولين قد صرّح في خطاب عام له بأنّ كلمة ( مولاه) في حديث الغدير لم يفهم منها المسلمون معنى الإمامة والولاية، فتارت حينها ثائرة سيدي الأستاذ وغيرته الدينية، وكتب رسالة في قرابة عشرين صفحة، وبعث بها إلى جميع الشخصيات ذات النفوذ، داعياً لها للتحرك لردّ ذلك الانحراف ، وكان دائماً ما يقول : ” إنّ كفارة الجاه والصيت والمنصب هي الاستفادة منه في الصدع بالحق ورد الأباطيل”.
٦- الزهد والتقشف، فقد نأى بنفسه عن الدنيا ومفاتنها نأياً شديداً ، وأدار ظهره لها بالكلية، فلم يكن يعبأ بالعناوين ولا بالمظاهر، وكانت تهدی له الهدايا النفيسة من تلامذته ولكنّه كان يأبى قبولها إلا بصعوبة بالغة ، وإذا قبلها وزعها على غيره ، ولم يكن يدّخر منها لنفسه إلا ما يكون له فيه مسیس حاجة.
وكان لباسه وأثاثه في غاية التواضع، فعباءته من أرخص العباءات ثمناً، وقباؤه لعلًه ليس له سواه، وحين صعب عليه في أخريات عمره الشريف الجلوس على الأرض، واضطر للجلوس على كرسي اشترى بضعة كراس بلاستيكية بخسة الثمن، رغم أنّ مجلسه الشريف كان مقصداً للعلماء وكبار الشخصيات .
وهكذا قضي حياته بعيداً عن دائرة الضوء ، مشتغلاً بنفسه وتربية طلبته، زاهداً في الدنيا وما فيها ، وغير مكترث بشيء من ملذاتها وزخارفها.
۷- الذوبان في محبة أجداده الطاهرين (عليهم السلام) ، ويكفيك أنه (طابت نفسه) مع ما كان عليه من الاشتغال بتحقيق المطالب العلمية والتفكير فيها ، إلا قد خصص جزءاً من وقته لكتابة الشعر فيهم، حتى اكتمل لدیه دیوان کامل باللغة الفارسية في مدحهم ورثائهم (عليهم السلام).
وكان ( رضوان الله عليه ) عارفاً بهم (عليهم السلام) ، ومعظمّاً لمقاماتهم، وكثيراً ما كان يقول: ” إنّ العبارة الواردة في الدعاء الرجبي ( لا فرق بينك وبينه إلا أنهم عبادك ) قد اختزلت خلاصة المعرقة”.
وكان من دأبه كلما أخبره شخص بعزمه على زيارة أحد المعصومين (عليهم السلام) إيصاؤه بأن يزور بالنيابة عنه زيارة (أمين الله) المعروفة، وكانت لها مكانة سامية في نفسه الطاهرة .
وإن أنسى فلا أنسى توصيته الدائمة، حيث كان يقول: ” ادع لي بحسن الخاتمة ” بأن أموت على محبة محمد وآل محمد والبراءة من أعدائهم.
وفاته:
وبعد عمر مديد حافل بالعطاء، وعامر بالدرس والتدريس والتأليف وتربية العلماء والفضلاء والمجتهدين، وصقل النفس بالكمالات المعنوية، لبي آية الله الشمس الخراساني نداء ربه الكريم – في أحد مستشفيات (تركيا ) – في يوم الخميس الموافق للتاسع والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين بعد الأربعمالة والألف من الهجرة النبوية، عن عمر يناهز السابعة والتسعين، وقد أوصى أن ينقل جثمانه الشريف للنجف الأشرف ليدفن بجوار مثوي جده أمير المؤمنين ( عليه السلام )، فجزاه الله عن العلم وأهله خير جزاء المحسنين، ولقاء نضرة وسروراً وراحة وحبوراً ، وأعلى درجته عند أجداده الطاهرين ( صلوات الله عليهم أجمعين ).
وللتاريخ أقول : إن من الغرائب والعجائب التي اتفقت يوم وفاته أنّ اسمه الشريف – المطابق لمسماه – هو( الشمس) ، وقد اتفقت وفاته وانکساف شمسه وغياب نوره في يوم كسوف الشمس المعروف بالكسوف الحلقي، ووصلتني خبر وفاته والكسوف لم يأخذ بعد في الإنجلاء.
وقد أجاد أحد شعراء بلادنا الحبيبة حين وصف هذا الحدث فقال :
اليوم شمسان من آيات الكبرى إحداهما كسفت من فقدها الأخرى
وكذلك أجاد الولد العزيز الشاعر المتألق أحمد شكري آل سيف (زيد توفيقه) في قوله :
أتراه للشمس كان كسوفاً أم هي ” الشمس ” آذنت بمغيب
وختاماً أقول: أيها الأستاذ العظيم، والوالد المربّي، لقد عشت غريباً ومت غربياّ، فسلام عليك يوم ولدت، ويوم متَ، ويوم تبعث حياً.
وإنا لله وإنا إليه راجعون
أقل تلامذتك
ضياء بن المرحوم السيد عدنان الخباز القطيفي
فجر الجمعة : 30 / 4 / 1441 هـ
الهوامش
1 – أو ستين ، والترديد مني .
2- وألفت النظر ها هنا إلى أنني بصدد بيان منهجه العلمي فقط ، ولست بصدد بيان آرائه الشريفة ، فإنه كان صاحب نظر في مختلف العلوم والمعارف الحوزوية، كالمنطق والحكمة والأدب والفقه والأصول والكلام ، ولعل الله تعالى يوفقني لعرض ما علمته منها في مقالة مستقلة .
تحميل بصيغة بي دي إف
قبسات من أشعة الشمس