الاجتهاد: الامام علي بن أبي طالب بن عبد المطلب، هو ابن عم النبي “صلى الله عليه وسلم” ، وزوج ابنته فاطمة. ولد بمكة في الثالث عشر من شهر رجب سنة ثلاثين من عام الفيل، وهو أحد السابقين الأولين الى الاسلام. قال أنس رضي الله عنه: “بعث النبي يوم الاثنين وكان علي في دينه يوم الثلاثاء”، وكان عمره يوم أسلم عشر سنوات ، ولم يسجد لوثن قط . ولهذا خص بكلمة “كرم الله وجهه”.
نشأته في رعاية النبي
كان في كنف النبي منذ نشأته. فقد كان أبو طالب ذا عيال كثيرة فقال النبي لعمه العباس: يا عم ان أخاك أبا طالب كثير العيال. فانطلق بنا اليه فلنخفف عنه من عياله، آخذ واحدا وتأخذ أنت آخر، فتكفلهما عنه.
فقال العباس: نعم . فانطلقا، وأخذ الرسول علي {عليه السلام}ا فضمه إليه ، وأخذ العباس جعفرا فضمه إليه، فلم يزل على مع رسول الله حتى بعثه الله فلبى على دعوة الرسول”(1) .
ولذا تشبع بروح الرسول الطاهرة وبأدبه الجم، وشب والعلم يتفجر من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، واشتهر بالورع والزهد والتقشف ومعرفة المسائل العقائدية حتى قال ابن أبي الحديد(2): كان علي {عليه السلام} أبا علم الكلام في الاسلام لأن المتكلمين أقاموا مذهبهم على أساسه.
كما كان أحد الشجعان المشهورين والخطباء المعروفين، حتى قيل أنه أخطب الناس بعد الرسول، وكان أعلم الناس بالسنة المحمدية، وأقضاهم في مشاكل المسلمين، ومن المكثرين في الفتوى والمتأصلين في الفقه.
من أقواله الحكيمة
ومن حكمه قوله : “الفقيه كل الفقيه من لا يُقنط الناس من رحمة الله، ولا يؤمنهم من عذاب الله ، ولا يرخص في معاصي الله، ولا يدع القرأن رغبة منه إلى غيره”
ومما أثر عنه قوله: يا دنيا غري غيري . لقد طلقتك ثلاثا لا رجعة فيها. فعمرك قصير، وخطرك حقير. آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق”.
ولما كثر الكلام في خلافته عن القضاء والقدر، وسأله أحد الناس قائلا : ” أخبرنا عن مسيرتنا إلى الشام أكان بقضاء الله وقدره؟ فقال:
والذي فلق الحبة ، وبرأ النسمة، ما وطئنا موطئا ولا هبطنا واديا الا بقضاء الله وقدره”، فقال الرجل: “فعند الله أحتسب عنائي، وما أرى لي من الأجر شيئا !. فقال علي {عليه السلام} : ” لقد عظم الله أجركم في مسيركم وأنتم سائرون، وفي منصرفكم وأنتم منصرفون، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ، ولا اليها مضطرين” .
فقال الرجل: فكيف والقضاء والقدر ساقنا ؟ ! فقال علي {عليه السلام}: ” ويحك لعلك ظننت قدرا لازما وقضاء حتما ، لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب، والوعد والوعيد ، والأمر والنهي، ولم تأت لأئمة من الله لمذنب، ولا محمدة لمحسن، ولم يكن المحسن أولى بالمدح من المسيء، ولا المسيء أولى بالذم من المحسن .. ان الله سبحانه أمر تخييرا ، ونهى تحذيرا ، وكلّف يسيرا ، ولم يعص مغلوبا، ولم يطع مكرها، ولم يرسل الرسل الى خلقه عبثاً،
فقال الرجل: فما القضاء والقدر اللذان ما سرنا الا بهما ؟! فقال علي {عليه السلام}: ” هما الأمر من الله والحكم(3)”، ثم تلا قوله تعالى ” وقضى ربك ألا تعبدوا الا اياه”. فاطمأن الرجل إلى أن القضاء والقدر لا يتنافى مع اختيار العبد.
مكانته الفقهية
أما من ناحية فقه علي {عليه السلام} فقد كان فقيها متضلعا في العلم، بصيرا بدقائق الفقه، وكان مرجعا لأصحابه في الفتوى، وحل المشكلات الكبيرة، وكان ممن عرفوا بكثرة الفتوى. وكان يقول: سلوني عن كتاب الله فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أنزلت بليل أم نهار، في سهل أو جبل، وكانت فتاواه مرجعاً لغيره ، وندر أن مسألة من مسائل الشريعة والفقة خاصة لم يكن له راي فيها.
ويروي صاحب الطبقات أن الذين كانوا يفتون في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام ثلاثة نفر من المهاجرين : عمر وعثمان وعلي {عليه السلام} ، وثلاثة نفر من الأنصار : أبي بن کعب، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت،
وقال الشعبي: ثلاثة كان يستفتي بعضهم من بعض فكان عمر وعبد الله بن مسعود وزید بن ثابت، وكذلك كان علي {عليه السلام} بن أبي طالب وأبي بن كعب وأبو موسى الأشعري .
ويمتاز علي {عليه السلام} بين فقهاء المسلمين في عصره بأنه جعل الدين موضوعا من موضوعات التفكير والتأمل، ولم يقصره على العبادة واجراء الاحكام. فقد امتاز بالفقه الذي يراد به الفكر المحض والدراسة الخالصة وأمعن فيه ليغوص في أعماقه على الحقيقة العلمية .
قال عنه ابن عباس رضي الله عنها: «اذا حدثني ثقة بفتوى عن علي {عليه السلام} لا أعدوها أبدا». ويقول العقاد: وكان علي {عليه السلام} في مسائل القضاء والفقه يتجاوز التفسير الى التشريع – لعله يقصد التصرف على حكم الله بالاجتهاد – كلما وجب الاجتهاد بالرأي الصائب والقياس الصحيح.
وبرغم أن علياً {عليه السلام} كان مرجعا لكثير من أصحابه في الفقه وأمور الدين، وأن عمر كان يرجع اليه في كثير من الأحكام ويأخذ برأيه، وأنه تولى القضاء في عصر الرسول، وأنه دخل الكوفة التي كانت عاصمة الخلافة في عهده وعرف الناس فيها فقهه وعلمه الا أن قصر المدة وما صاحبها من فتن وانقسامات جعلت أثره الفقهي فيها غير واضح عند كثيرين.
وقد صح عنه أنه نهى أصحابه عن انتهاب أموال أعدائهم المماثلين في صفين من أنصار معاوية ، الا السلاح الذي قتلوا به والدواب التي حاربوا عليها. ولما قيل له: «كيف وقد حل لنا قتالهم ، فلم يحمل لنا سبيهم ومالهم؟!” قال : ” ليس على الموحدين سبي ، ولايغنم من اموالهم الا ما قاتلوا به وعليه، فدعوا مالاتعرفون، والزموا ما تعرفون(4).
ولو كان غيره ممن خفى عليه الفقه او ممن لايغوصون فيه غوصه، أو ممن تؤثر فيهم الأهواء ، وتسيطر على تفكيرهم الخصومات لاستباح كل سبيهم وأمواهم.
كان عمر يستشيره ويأخذ برأيه
ومما استشار فيه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب على بن أبي طالب، وأخذ مشورته ورأيه فيه ، أنه جيء لابن الخطاب في خلافته بأمراة زانية يشتبه في حملها لاجراء الحد عليها، فاستفتي عليا{عليه السلام}، فافتاه بوجوب الابقاء عليها حتى تضع جنينها، وقال له:”ان كان لك سلطان عليها فلا سلطان لك على ما في بطنها”.
كما يروي انه انتزع امرأة من أيدي الموكلين باقامة الحد عليها في خلافة عمر فسأله عمر في ذلك فقال : وأما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المبتلي حتى يعقل؟ قال : “بلى “. قال : “فهذه مبتلاة بني فلان. فلعلة أتاها وهو بها”. قال عمر : “لا ادري”. قال علي {عليه السلام} : “أنا لا ادري”. لكن الحدود تدرأ بالشبهات.
ومن فقهه – وقد استشاره عمر فيها يكون عليه الحكم ، وقد اشتركت امراة وآخر في قتل ابن زوجها – فاشار علي {عليه السلام} بقتل كل من اشترك في قتله. وقال : «أرايت يا أمير المؤمنين لو أن نفرا اشتركوا في سرقة جزور فأخذ هذا عضوا وهذا عضوا. أکنت قاطعهم ؟، قال : “نعم”، قال علي {عليه السلام} : وذلك».
فأخذ عمر برأيه. وكتب إلى عامله الذي وقعت في ولايته هذه الواقعة قائلا : ” اقتلها فوالله ، لو اشترك فيه أهل صنعاء كلهم لقتلتهم”.
وهذا الرأي من الامام علي {عليه السلام} يدل على نظر فقهي دقيق، واعتبار صائب للمصلحة العامة، اذ لو منعنا القصاص بسبب الاشتراك في القتل تطبيقا لقاعدة المماثلة. وأخذ للنفس بالنفس. للجأ إلى ذلك الجناة تهربا من عقوية القصاص الى الدية التي هي عقوبة مالية محضة، والعقوبة المالية مهما يكن قدرها والشان فيها فأنها دون عقوبة القصاص وأقل منها ردعا.
وقد اتجه إلى هذا الراي الذي قاله علي {عليه السلام} بن أبي طالب جمع من الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب، منهم : مالك ، وأبو حنيفة والشافعي رضي الله عنهم. وخالف في ذلك كل من ابن عباس ، والزبير بن العوام ، ومعاذ بن جبل، فرأوا أن الذي يجب في هذه الحالة وأمثالها الدية لا القصاص ، اعتبارا للمساواة والمعادلة ، وليس في قتل الجماعة بالواحد مساواة، وهو ما اتجه اليه أحمد بن حنبل في احدی روايتين عنده.
کما حدث أن استشار عمر أصحابه بالنسبة لما فضل عنده من مال الغنائم، فأشاروا عليه بتأخير قسمته وامساكه الى وقت الحاجة، وكان علي {عليه السلام} بين الحاضرين لكنه لم يبد رأيا.
فساله عمر عن رأيه فقال :” أرى أن يقسم بين المسلمين”، وروي في ذلك حديثا عن رسول الله، فأخذ عمر براي علي {عليه السلام} المستند إلى نص وأعرض عن رأي الآخرين، وقد استدل بعض الفقهاء بهذا على عدم اعتبار الاجماع السكوتي، لانه لو كان حجة ملزمة لما ساغ للامام على أن يسكت على رأي يعارضه .
ومن صور استشارة عمر لعلي {عليه السلام} . انه لما أرسل في استدعاء امرأة فأسقطت – من خوفها – جنينها، فاستشار عمر أصحابه وقال عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان: (انما انت مؤدب ولا شيء عليك)، وقاسا ذلك على مؤدب امرأته، ولكن عليا {عليه السلام}قال : “أما الاثم فارجو أن يكون محطوطا عنك، وأرى عليك الدية” ، وقاس ذلك على القتل الخطأ.
مراعاته في آرائه للمصلحة العامة
ومن دقة علي {عليه السلام} في فقهه وسعة أفقه في اجتهاده، ومراعاته للصالح العام في أحكامه واستنتاجاته حكمه بتضمين الصناع اذا ما هلك الشيء في أيديهم حتى يقيم الصانع الدليل على أن الهلاك لم يكن بسبب منه أو اهمال وقال :” لا يصلح الناس الا ذاك”.
ووجه المصلحة فيه أن الناس لهم حاجة إلى الصناع، وهم يغيبون عن الامتعة في غالب الأحوال، والأغلب في الصناع التفريط وترك الحفظ، فلو لم يثبت تكليفهم مع مسيس الحاجة اليهم لافضى ذلك إلى ترك الاستصناع كلية، وذلك شاق على الخلق، أو أعمالهم من غير تضمين عند دعواهم الهلاك ، فتضيع الأموال ، وتتطرق الخيانة، ويقل الاحتراز، فكانت المصلحة التضمين ترجيحا لجانب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، مع أنهم في الصدر الأول وقبل خلافته كانوا لا يضمنون لان السلعة في يدهم امانة، والفاعدة الشرعية أن الأمين لا يضمن الا بالتمصير أو الاعتداء، وعبء اثبات ذلك على مدعیه.
ومن فقه علي {عليه السلام} حكمه بعدم تحريم المرأة على من عقد عليها في مدة عدتها من غيره عالما بذلك، وانما يفرق بينهما حتى تنقضي عدّتها من الاول فقط، ثم يحل له أن يعقد عليها بعد ذلك لبطلان العقد الأول الذي حدث في مدة العدة من الزوج الأول.
مخالفا بذلك رأي عمر الذي رای تحريمها علیه تحريما مؤبدة لاستعجاله شيئاً جعل الله له فيه اناة. وذلك منه عقوبة سياسية من باب الترويع والتخويف. لكن عليا {عليه السلام} يرى أنه لا يوجد سبب من أسباب تأييد التحريم، ومع هذا فقد رأى أن يعزرهما القاضي بما يراه مناسبا دون تغيير للحكم الشرعي.
ومن فقهه ايضا قوله في توريث الجد مع الاخوة عند افتقاد الاب، وقد اختلف الصحابة في هذه المسألة اختلافا كبيرا لعدم ورود نص فيها. ففي البخاري يروی عن علي {عليه السلام} وعمر ويزيد ابن ثابت وابن مسعود في الجد قضايا مختلفة.
وقد ذكر البيهقي في ذلك اثارا كثيرة. وقد جعله ابن عباس کالاب کما روى البيهقي عنه وعن غيره، وروى عن طريق الشعي أنه كان من رأی أبي بكر وعمر أن الجد أولى من الاخ.
کما روى البيهقي أن عليا{عليه السلام} شبه الجد بالبحر والنهر الكبير. والأب بالخليج المأخوذ منه، والحفيد واخونه كالساقين الممتدتين من الخليج. والساقية الى الساقية اقرب منها إلى البحر.
ألا ترى اذا سدت احداهما أخذت الأخرى ماءها ولم يرجع إلى البحر، اي انه كان يرى عدم توريث الجد مع الاخوة لأنهم أولى بالارث منه وأقرب، لأن الشارع نص على ميراثهم ولم ينص على ميراث الجد، ولأنهم يعصبون الانثى منهم على أن الجد لايعصب الجدة ولا يعصب أخته في الارث من حفيده .
وبرغم سلامة التفكير الفقهي ، وسلامة الاستدلال العقلي المنطقي عليه فان عليا {عليه السلام} عدل عنه، واتجه إلى القول بتوريث الجد مع الأخوة كما أن عليا {عليه السلام} قضى بجلد شارب الخمر ثمانين جلدة وعلل ذلك بقوله : ” انه اذا شرب هذي ، واذا هذي افتری، وعلى المفتري ثمانون جلدة”.
فاعتبر رضي الله عنه الشرب وسيلة ذريعة للقذف. وأعطاء حكمه في مقدار العقوبة، وكان ذلك في عصر عثمان اذ جمع للصحابة واستشارهم في عقوبة شارب الخمر ولم يكن لها في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم” حد مقدر واما جرى الزجر فيه مجرى التعزير ، ولما انتهى الأمر إلى أبي بكر قدره على طريق النظر باربعين. حتى قضى علي {عليه السلام} في عهد عثمان بما نفى ووافقه عليه الصحابة (5).
براعته في حساب الفرائض
وكان رضي الله عنه بارعا في حساب الفرائض فقد روی ان امراة سالته عن نصيبها في تركة أخيها الذي مات عن ستمائة دينار ولم يعطها الورثة سوى دينار واحد. فقال لها: هل لاخيك زوجة؟ قالت نعم ، قال : وبنتين وأما ؟ قالت : نعم. قال : ومات عن كم اخ وأخت ؟ فقالت : عن اثني عشر اخا وعني .
فقال : معك حقك الذي خصك!! وهذا يدل على عقلية رياضية ممتازة، ودقة في الحساب، وتمكن من علم الفرائض، لأن الزوجة لها الثمن في هذه الحالة وقدره خمسة وسبعون دينارا، وللبنتين الثلثان أربعمائة دينار، وللأم السدس وقدره مائة دينار، ويقسم الباقي بعد ذلك وقدره خمسة وعشرون دينارا على الاخوة الاثني عشر والاخت السائلة: للذكر مثل حظ الاثنين فيكون للأخ الذكر ديناران وللأخت دینار واحد . ولذا فان ابن مسعود قال: إنه أعلم أهل المدينة بالفرائض.
كان أقضى الصحابة
وكما اشتهر علي {عليه السلام} بالفقه وكثرة الفتوى فانه اشتهر بالقضاء والمهارة فيه حتى شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بأنه اقضى الصحابة ، في حديث طويل يقول فيه : ” أقضاكم علي {عليه السلام} “.
ويروى أنه – وقد عرضت عليه قضية في اليمن – فقال : “أقضي بينكم فان رضيتم فهو القضاء، والا حجزت بعضكم عن بعض حتى تأتوا رسول الله ليقضي بينكم.
فلما قضى بينهم ابوا أن يتراضوا وأتوا رسول الله وعرضوا عليه خصومتهم وما حكم به علي {عليه السلام} بينهم، فأید رسول الله ما حكم به وقال : ” هو ما قضي بينكم”.
ويروى أنه قال : “بعثني رسول الله قاضيا وأنا حديث السن، فقلت يارسول الله: تبعثني إلى قوم بينهم أحداث ولا علم لي بالقضاء” قال : ان الله سيهدي لسانك ويثبت قلبك . قال رضي الله عنه: فما شككت في قضاء بين اثنين”.
وكان كرم الله وجهه يقدر للقاضي سلطانه وقدره. ويخضع لقضائه ورأيه حتى لو خالف اجتهاده، ومن ذلك انه وقعت خصومة بين أمير المؤمنين علي {عليه السلام} بن أبي طالب وأحد اليهود على ملكية درع فاحتكما إلى القاضي شريح، فطلب القاضي من علي {عليه السلام} شاهدين، فاستشهد بابنه ومولاه، وكان علي {عليه السلام} يرى جواز الاستشهاد بهما.
لكن القاضي قال له: أما شهادة مولاك فقد اجزتها ، وأما شهادة ابنك فلا أجيزها. اذ كان يری عدم جواز شهادة الابن للاب، ولم يغضب علي {عليه السلام}، وانما تقبل هذا الرأي قبولا حسنا.
وقد كان الامام علي {عليه السلام} يحرص كل الحرص على التمسك بسنة الرسول وابتناء أحكامه عليها،
وكان أكثر الخلفاء رواية للحديث، فقد روى عنه خمسمائة وستة وثمانون حديثا. وقالت عنه السيدة عائشة: إنه أعلم من بقي بالسُّنة ، وكان کرم الله وجهه يحتاط للأخذ بما يروي له عن الرسول بما لم يسمعه منه، وكان منهجه في الاحتياط أن يستخلف الراوي على صدق روايته. ويروي عثمان بن المغيرة الثقفي عن علي بن ربيعة عن اسماء بن الحكم الفزاري أنه سمع عليا{عليه السلام} يقول : «کنت اذا سمعت من رسول الله حديثا نفعني الله بما شاء أن ينفعني به، وكان اذا حدثني غيره استحلفته فاذا حلف صدقته ..”.
منهجه الفقهي
هذا هو فقه علي {عليه السلام}، ومنه نتبين منهجه الفقهي بوضوح، فهو يستوثق من الخبر الذي ينسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم باستحلاف صاحبه، ويتجه إلى الراي باحثا عن ما يحقق مصالح الناس ويتفق مع أحوالهم في غير العبادات، ولا يقف عند ظواهر النصوص، وانما يغوص فيها.
أما في الأمور التعبدية وما لايدرك بالعقل فانه ينهي عن استعمال الراي فيها، فقد روى عنه أنه قال: ” لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أولى بالمسح من أعلاه”، وكان صاحب مدرسة فقهية نقلت فقهه في البقاع. وان كانت احكامه وقضاياه لم تجمع الا انها منثورة في كتب الفقه والتفسير.
أما سياسته فقد كان علي {عليه السلام} يرى أنه أحق بالخلافة لقرابته من رسول الله، ولما بايع الناس أبا بكر وأرسل لعلي {عليه السلام} يسأله البيعة والدخول فيها دخل فيه المسلمون قال: ” انا أحق بهذا منكم، فانتم أولى بالبيعة لي. أخذتم هذا الأمر من الأنصار. واحتججتم عليه بالقرابة من رسول الله، وتاخذونه منا أهل البيت غصبا. وانا احتج عليكم مثل ما احتججتم به على الانصار . نحن أولى برسول الله حيا وميتاُ.
ولما رغب أبو بكر في أن يقبله الناس بیعته. احتج عليه الناس، وأصروا على البيعة .. ثم بايعه علي {عليه السلام} بعد موت زوجه السيدة فاطمة وكان ذلك بعد وفاة أبيها بخمسة وسبعين يوما.
ولما تمت البيعة لعلي {عليه السلام} بعد مقتل عثمان، أخذ بعض الصحابة على أمير المؤمنين على أنه لم يتعقب الجناة بعد مقتله ليقتص منهم، وحدثت فتنة ترتبت عليها الحرب بين المسلمين. وقبل علي {عليه السلام} التحكيم بناء على رأي أغلبية انصاره. فلما حدثت الخديعة لم يقبل علي {عليه السلام} نتيجة التحكيم فخرج عليه فريق من أتباعه .. وكان ما كان من قتال وفتن.
وكان يقول كما ينقل عنه ابن تيمية: لابد للناس من امارة بارة كانت أو فاجرة(6). فقيل يا أمير المؤمنين هذه البارة قد عرفناها في بال الفاجرة؟! فقال : تقام بها الحدود وتأمن بها السبل ويجاهد بها العدو .. ويقسم بها الفيء . وكان يقول: سمعت رسول الله يقول: ” انها ستكون فتن”، قلت: “فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: “كتاب الله فيه خبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم وحكم ما بينكم ….”
ويؤثر عن ابن حنبل قوله : أن الخلافة لم تزين عليا{عليه السلام}. بل على زينها .
ورحم الله عليا فقد كانت فيه خصال اربع، لاتكون خصلة واحدة للانسان الا يحق له – كما يقول الشافعي – أن لايبالي بأحد: أنه كان زاهدا، وكان شجاعا، وكان شريفا، کما خص کرم الله وجهه بعلم القرأن والفقه.
والحق أن عليا كان بطلا بكل ما تحويه هذه الكلمة من معان. حتى قال عندما طعنه ابن ملجم سنة 40 هـ طعنة قاتلة: ” ان مت فاقتلوه، ولا تمثلوا به(7) ، وان لم أمت فالامر الي في العفو والقصاص !!” ، فانظر اليه في أحرج المواقف، وهو يحرص على التطبيق الفقهي الدقيق.
اذ قد نهاهم عن التمثيل به، تحقيقا للمساواة في القصاص، وترك الأمر اليه في العفو عنه اذا لم يمت وكتب الله له البقاء .. ولكن الله اختاره مع الشهداء والصالحين.
الهوامش
* نشر في مجلة العربي الكويتية العدد 205 ديسمبر1975 ص54 – 59
(1) سيرة ابن هشام ج۱ ص۲64
(۲) راجع شرح نهج البلاغة.
(۳) راجع عقيدة الشيعة الإمامية للسيد هاشم معروف ص 66 / 67.
(4) تراجم اسلامية للنواوي ص۲۱.
(5) عقوية شرب الخمر من العقوبات التعزيرية لا الحدود.
(6) قال ذلك حين اعترض عليه أنه رضي التحكيم، وقالوا قولتهم المشهورة: لا حكم الا الله، فأجابهم : كلمة حق يراد بها باطل، لابد للناس من امارة بارة أو فاجرة ، فهم يريدون أن بلغوا الأمارة ، وهو يقول ان الله مع الحكم ، ولكن لابد من حاكم يفصل بينهم في الخصومات سواء كان عادلا أو ظالما (العربي).
(۷) تكملة الكلمة فأني سمعت النبي يقول : ” ایاکم والمثلة” ، ولو بالكلب العقور ، «العربي».
المصدر: مجلة الموسم العدد السابع السنة الثانية 1990
الدكتور محمد سلّام مدكور رحمه الله من علماء الاصلاح والتجديد الذين تعرضوا للإهمال والتعتيم، حتى انني لم اجد من كتب ترجمة له، وهذه نثارات مما وجدته عنه.
ولد مدكور في العقد الثاني من القرن العشرين.
وقد أعجب مدكور في شبابه بالسيد جمال الدين الأفغاني، وكان باكورة ما كتبته يداه كتاب متخصص في سيرته يُعد من أهم المراجع عن ذاك الامام الهمام، وقد نشره في رمضان سنة ١٩٣٧.
ولم يكتف مدكور بالجهاد بالقلم، بل حمل السلاح، وجاهد اليهود في حرب فلسطين، سنة ١٩٤٨، وكان شاهداً على خيانات اليهود ونقضهم للعهود.
وقد تخصص مدكور في الفقه، وكتب الكثير من الكتب الفقهية والاصولية المهمة، مثل (نظرية الاباحة) و (مباحث الحكم عند الأصوليين) و(موجز الوقف) و(احكام الاسرة) و(احكام الجنين) و(تنظيم النسل) وغيرها.
وكذلك نشر مدكور كثيراً من الابحاث المحكمة والمقالات في جريدة الاهرام ومجلة الرسالة والعربي، وهي تنتظر من يجمعها ويخرجها للمستفيدين.
وقد انتدب مدكور فترة للتدريس في جامعة الكويت،من سنة ١٩٧٨-١٩٨٢،وشارك في اعداد موسوعة الفقه الاسلامي.
وتولى مدكور رئاسة قسم الشريعة بكلية الحقوق بالقاهرة، وتولى كذلك التدريس في المرحلة العليا، واشرف على الكثير من الرسائل، وتخرج على يديه الكثير من العلماء الكبار، ومنهم: وهبة الزحيلي، ومحمد اديب الصالح.