خاص الاجتهاد: يتناول هذا المقال التطور التاريخي والمكانة السياسية والجهادية للمجتمعات الشيعية وعلمائها، خاصة في جبل عامل (لبنان)، بوصفهم أقلية دينية اضطرت إلى اتخاذ التقية مسلكاً في مواجهة الولاة الجائرين من غير الشيعة (المماليك والعثمانيين)، وسعوا للحفاظ على كيانهم الثقافي والمذهبي تحت مسمى “دار الإيمان”.
يخلص المقال إلى أن التفاعل والتآزر بين شيعة العالم الإسلامي (خاصة إيران ولبنان) هو هاجس مذهبي وثقافي وسياسي موحد وليس مجرد مساعدة إنسانية. وعليه، فإن دعم إيران لشيعة لبنان يُمثل تقوية للعمق الاستراتيجي للثورة الإسلامية وسداً منيعاً في الخط الأمامي لجبهة المقاومة في مواجهة نظام الهيمنة والعدو المشترك (النظام الصهيوني). بقلم: رئيس معهد الأنظمة الإسلامية في المعهد العالی للعلوم والثقافة الإسلامیة حجة الإسلام والمسلمين السيد سجاد إيزدهي، نُشر في مجلة “باسدار إسلام”
ظلّ الشيعة والفقهاء الشيعة، على مدى سنوات طويلة من عصر الغيبة، حيث خضعت دار الإسلام والبلدان الإسلامية لسلطة الولاة الجائرين من غير الشيعة، ظلوا على الدوام، بوصفهم أقلية دينية، يواجهون الإيذاء والتهديد والقمع من قبل هؤلاء الولاة. وبناءً على ذلك، اتخذوا التقية مسلكًا لهم وفقًا للمنطق الشيعي. وسعوا في هذا المضمار إلى الحفاظ على كيانهم الثقافي والمذهبي، وذلك في سياق مقاومة الاستبداد والجور، وتحقيق المقاصد والأهداف الكلية للدين والمذهب في المجتمع عبر الأخذ بالاستراتيجيات والحلول والمنهجيات العقلانية المستلهمة من النصوص الشرعية
وعلى الرغم من أنَّ العالم الإسلامي، منذ عهد بني أمية وبني العباس (إلا في أزمنة محدودة)، ظلَّ تحت حُكم وسيطرة الحكام المُنتمين للمذهب السُنّي، وأنَّ القسم الأعظم من العالم الإسلامي كان يتشكل من المسلمين السُنّة، إلا أنَّ العالم الإسلامي كان يشمل دائمًا مجتمعات عاشت في العديد من مناطق المجتمع الإسلامي أو (دار الإسلام) وفقًا للمذهب والثقافة ونمط الحياة الشيعي، وكانت عمليًا تمتلك هوية ومصيرًا مشتركًا تحت عنوان (دار الإيمان). وتكوّنت هذه المجتمعات من عدد كبير من الشيعة والعلماء الشيعة والحوزات العلمية، وكانت تقطن مناطق واسعة من إيران والعراق وجبل عامل (لبنان) واليمن وغيرها.
وعلى الرغم من تفرق المجتمعات الشيعية في نقاط مختلفة من العالم الإسلامي، وبالتالي غياب التواصل الوثيق اللغوي والثقافي والاتصالي بينها، إلا أنَّ الرابط المذهبي والهاجس المشترك لهذه المجتمعات حول المذهب الشيعي، وضرورة تماسك الشيعة للحفاظ على الهوية الشيعية، وتآزُر قوتهم لـِ تطوير ونشر التشيع، أدّى إلى الكثير من الاتصالات والتفاعلات بين هذه المجتمعات، خاصة على مستوى النخب والفقهاء. ومِن ذلك ما يمكن الإشارة إليه من حُضور علماء هذه المناطق في بعض الحوزات العلمية في مناطق أخرى لـِطلب العلم وإفادته.
دور ومكانة علماء جبل عامل (لبنان) في العالم الإسلامي
لقد كانت منطقة جبل عامل في لبنان منذ القرون الإسلامية الأولى من المناطق الشيعية في العالم الإسلامي، وعلى الرغم من وقوعها ضمن المناطق الغربية للعالم الإسلامي وكونها بعيدة عن مراكز التجمّع الشيعي الرئيسية مثل العراق وإيران، فقد تميزت دائمًا بشعب مؤمن وملتزم ومُكافح، وكانت مهدًا لنمو ورقي العلماء والحوزات العلمية الغنية والقوية.
ومِن أبرز علماء هذه المنطقة الذين أحدثوا تحولًا وتطورًا في التشيع في مناطقهم، بل وفي مناطق شيعية أخرى، يمكن الإشارة إلى الشهيد الأول والشهيد الثاني والشيخ البهائي والمحقق الكركي والشيخ الحُرّ العاملي والسيد عبدالحسين شرف الدين. إنَّ بقاء وتطور التشيع في تلك المنطقة، بل والتحول الذي شهده المذهب الشيعي في العديد من أنحاء العالم الإسلامي، مدين للجهود العلمية والعملية لهؤلاء الأعلام.
علماء جبل عامل كأعلام للمقاومة
يُصنَّف علماء منطقة جبل عامل ضمن علماء المقاومة من عدة جوانب:
الجانب التاريخي: مقاومة السيطرة السُنّية (المماليك)
من جهة، شهدت منطقة مصر وبلاد الشام في فترة حُكم المماليك (القرنين السابع والعاشر الهجري)، الذين كانت لهم ميول مذهبية سُنّية، جهوداً كبيرة لتعزيز سلطة مذاهب أهل السُنّة. كان هذا الجهد يهدف في الغالب إلى كسب الشرعية السياسية والدينية من العلماء، وقد ترتّبت عليه عواقب وخيمة، مثل هجرة جزء من الأهالي والعلماء، وألحق أضراراً بحوزة جبل عامل العلمية.
بطبيعة الحال، فإنَّ السيطرة الشاملة للحكام المعادين للشيعة من أهل السُنّة (المماليك) استدعت بذل جهد كبير من قبل العلماء الشيعة للحفاظ على الهوية الشيعية وضمان بقائها بين شيعة المنطقة. لقد ضمن العلماء المجاهدون في هذه الديار، بتضحياتهم وفدائهم، حفظ واستمرار الهوية المذهبية والشيعية لهذه المنطقة وشيعتها. وقد نال الكثير من هؤلاء العلماء شرف الشهادة في هذا المسار، ليصبحوا بذلك قدوة للكثير من الشيعة.
الجانب الفكري: قيادة التطور الفقهي
من جهة أخرى، كان تحول المجتمع الشيعي مرهوناً بالتحولات الفكرية وتقديم خارطة طريق لحياة الشيعة تتناسب مع متغيرات العصر. وعليه، يمكن اعتبار الكثير من فقهاء هذه المنطقة ممثلين لتحول الفقه في العهد الفقهي الخاص بهم، وروّاداً لتطور المذهب وتوسعه في تلك الفترة.
إنَّ من الأمور التي تدل على ريادة هؤلاء الفقهاء في مجال المقاومة هو تقديمهم خارطة طريق للمقاومة ونمط حياة مؤمن داخل المجتمعات الشيعية. وعلى سبيل المثال، فقد ألَّف الشهيد الأول كتاب “اللمعة الدمشقية” بناءً على طلب من شمس الدين محمد الآوي، وهو من أنصار السلطان علي بن مؤيد، آخر حكام السربداريين في خراسان، وذلك لتوجيه الشيعة في تلك البلاد.(1)
ومن الطبيعي أنَّ ما أزال المسافة المكانية الشاسعة بين السربداريين في خراسان وعلماء جبل عامل هو الهاجس المشترك المتعلق بـالهوية الشيعية وتقديم المساعدة للشيعة في سائر أنحاء العالم الإسلامي.
وكدليل على ذلك، طلب السلطان علي بن مؤيد، بصفته آخر أمير للسربداريين في خراسان (عام 766 هـ)، رسميًا من الشهيد الأول القدوم إلى خراسان وتولي منصب المرجعية فيها.
وقد ورد في جزء من رسالته إلى الشهيد الأول ما يلي:
“إنّنا لا نجد بيننا من يُعتَمَد على فتواه من الناحية العلمية، ولا يجد الناس من يتلقون عنه العقائد الصحيحة. نسأل الله تعالى أن تتفضلوا علينا بشرف الحضور وإفاضة النور، لكي نتبع علمكم ونتعلم من سيرتكم طريقة الحياة. إذا تكرمتم بالحضور إلى هنا متوكلين على الله، ودون تقديم أي عذر، فسيكون ذلك إحساناً عظيماً.” (2)
ورغم أنَّ الشهيد الأول لم يقبل هذا الطلب، فقد ألَّف كتاب “اللمعة الدمشقية” ليكون دليلاً وإرشادًا للشيعة في خراسان الخاضعة لحُكم السربداريين.
يمكن الإشارة إلى حضور علماء من حوزة الحِلّة، مثل العلامة الحلّي وبعض الفقهاء الآخرين من منطقة الحِلّة، في بلاط الحكام المغول، وتأثيرهم البالغ في ميل السلطان محمد خدا بنده إلى المذهب الشيعي والترويج له في إيران.
وفي هذا السياق، قام العلامة الحلّي بتأليف كتاب “نهج الحق وكشف الصدق”، وانطلق برفقة فخر المحققين من مدينة الحِلّة نحو مدينة سلطانية، حيث توجّه إلى بلاط السلطان محمد. وقد أهدى العلامة للسلطان كتابين، هما “منهاج الكرامة” و”نهج الحق”، وهما كتابان لـمعرفة الأئمة المعصومين (عليهم السلام) ودورة كاملة في علم الإمامية.
حضور علماء لبنان في البلاط الصفوي
من بين فقهاء منطقة جبل عامل الذين كان لهم تأثير بالغ في توسيع رقعة التشيع، خاصة في إيران، هو المحقق الكركي. فبعد تأسيس الدولة الصفوية في إيران وإعلان المذهب الشيعي مذهباً رسمياً للبلاد، قَدِمَ المحقق الكركي إلى إيران بدعوة من الحكام الصفويين الذين اعتنقوا المذهب الشيعي، وذلك من أجل إدارة البلاد على محور القوانين والأحكام الشيعية.
بذل المحقق الكركي جهوداً كبيرة في ترويج المذهب الشيعي في إيران، وتعميق الفكر الشيعي، وتحويل التشيّع من تشيّع اعتقادي وصوفي إلى تشيّع اعتقادي وشرعي.
جاء المحقق الكركي إلى إيران بدعوة من الشاه إسماعيل (3)، وكان ذلك في أجواء الصراع بين الدولة العثمانية والدولة الصفوية والضغوط والتشديدات المفروضة على الشيعة في المناطق الخاضعة للسيطرة العثمانية. وفي عهد الشاه طهماسب، وصل إلى منصب شيخ الإسلام، الذي كان يُعد أعلى منصب ديني. واستغلَّ الكركي هذه الفرصة على النحو الأمثل لإصلاح بعض شؤون وقوانين البلاط، واستفاد أقصى استفادة من هذا المناخ لـنشر مذهب التشيع وترسيخ مبادئه في المناطق الخاضعة لحُكم الصفويين (4).
من أجل تثبيت حاكمية الدولة الصفوية الشيعية في إيران (باعتبارها منافسًا للسيطرة العثمانية ذات المذهب السُنّي)، أقرَّ [المحقق الكركي] للسلاطين الصفويين شرعية ثانوية نيابةً عن الفقهاء.
وكجزء من دوره كمؤسسة سياسية اجتماعية، ومثابة وسيلة إعلام قوية للربط بين الحاكمية وعامة الشعب، أصدر الكركي حُكماً بجواز إقامة صلاة الجمعة [في ظل غياب الإمام المعصوم]. كما أضفى طابعاً رسمياً على الأموال العامة للدولة الصفوية في صورة الخراج [الضرائب على الأراضي]، وذلك بتأليف كتاب “قاطعة اللجاج”.
امتداد نفوذ عائلة الكركي
لاحقاً، تقلَّد ابنا المحقق الكركي وأحفاده، الذين كانوا في الغالب من العلماء، مناصب حكومية رفيعة مثل شيخ الإسلام وحتى الصدر الأعظم في الدولة الصفوية. ويُعدُّ الميرداماد [محمّد باقر بن محمّد الحسيني الاسترآبادي] من أحفاد المحقق الكركي من جهة ابنته، وكان جزء من شهرته ونفوذه مدينًا لانتسابه إلى المحقق الكركي. ومن بين علماء جبل عامل الذين كان لهم حضور وخدمات مؤثرة في إيران، يمكن الإشارة إلى الشيخ حسين بن عبدالصمد (والد الشيخ البهائي)، الذي شغل مناصب رفيعة لسنوات طويلة في مدن هرات ومشهد وقزوين.
أما ابنه، الشيخ البهائي، فقد كان عالماً فذّاً وذا صيت، ومن المقربين جداً للشاه عباس، وقدّم خدمات جليلة لإيران، ومن ذلك بناء المساجد والمباني الشهيرة التي لا يزال يُشار إليها بالخير حتى يومنا هذا.
حضور علماء إيران في لبنان ودور الإمام الصدر
إنَّ أهمية لبنان وشيعته، كـخط مقدّم للمقاومة ضد نظام السلطة، بلغت حداً أنه بعد وفاة المرحوم السيد عبدالحسين شرف الدين، وبناءً على دعوة العديد من شيعة لبنان واقتراح من آية الله البروجردي، هاجر الإمام موسى الصدر إلى هذا البلد لإدارة شؤون الشيعة هناك.
قدم الإمام الصدر خدمات جمة لتنمية ونهضة المجتمع الشيعي اللبناني على الأصعدة الثقافية والعلمية والسياسية والعسكرية. في هذه المرحلة، وبالإضافة إلى الجهود المبذولة لـتعزيز الهوية الشيعية، أسَّس شيعة جنوب لبنان، بمساعدة ومرافقة الشهيد مصطفى شمران، حركة “أمل” كمنظمة شبه عسكرية في مواجهة سيطرة النظام الصهيوني.
مرحلة ما بعد الثورة الإسلامية ونشأة المقاومة الإقليمية
مع انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية، ترسَّخ المزيد من التفاعل بين شيعة لبنان وإيران، لدرجة أنَّ الشهيد مصطفى شمران عاد إلى إيران لمواجهة عدوان النظام البعثي العراقي، ودافع عن البلاد في مناصب مختلفة، وفي نهاية المطاف استُشهد في هذا المسار المقدس.
لقد أدت ضرورة التفاعل بين شيعة إيران ولبنان إلى إرسال قوات استشارية من الحرس الثوري الإيراني إلى لبنان، الأمر الذي أسهم في خروج النظام الصهيوني من جنوب لبنان وتشكيل منظمة المقاومة، “حزب الله”.
القيادة المعاصرة ومحور المقاومة
في العصر الحالي، حيث اتخذت المقاومة منحى إقليمياً، وقامت العديد من المجتمعات الشيعية في العراق ولبنان واليمن وأفغانستان وباكستان وغيرها، بمرافقة ودعم من الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بالثورة في وجه نظام الهيمنة الذي تتزعمه أمريكا وحلف الناتو، وبدأت بمواجهة ممثل هذا النظام (النظام الصهيوني), تولى الشهید السيد حسن نصر الله، بصفته رجل دين تخرج في حوزتي قم والنجف العلميتين، قيادة الخط الأمامي في مواجهة النظام الصهيوني المشؤوم، وحوّل جنوب لبنان عملياً إلى عمق استراتيجي للمقاومة الإسلامية.
وفي زمن هجوم الإرهابيين الدواعش على المناطق والعتبات المقدسة للشيعة في سوريا والعراق، هبَّ أعضاء حزب الله لمساعدة قوات المقاومة. ونتيجة للتفاعل والتآزر بين قوى المقاومة الشيعية، مُني تنظيم داعش بالهزيمة، وتم تأمين أمن الأضرحة المقدسة، ونجت منطقة المقاومة من شرّ سيطرة الأعداء.
الخلاصة
بناءً على النقاط المذكورة أعلاه، يجب القول إنَّ شيعة العالم الإسلامي، الذين يتشاركون هاجساً مذهبياً وثقافياً وسياسياً موحداً لتحقيق غايات التشيّع، قد كانوا دائماً سنداً لبعضهم البعض في مكافحة الأعداء والتخلُّص من المشاكل، وعملوا على تذليل الصعاب من خلال تفاعلهم المشترك. وعليه، يجب النظر إلى المجتمعات الشيعية في العالم الإسلامي على أنها كيان متكامل وموحد، يتداعى بعضه لبعض في الأوقات والظروف اللازمة، مما أدى إلى تقوية الشجرة الطيبة للتشيع، ولم يتجاهلوا يوماً احتياجات بعضهم البعض.
وفقاً لهذا المنطق، فإنَّ المساعدة والمُساندة التي يقدمها شعب إيران المؤمن والمقاوم إلى شيعة لبنان الأبطال والأسر المتضررة جراء الهجمات الوحشية والإجرامية للنظام الصهيوني الغاصب، ليست مجرد مساعدة لشعب لبنان، بل هي دعم للخط الأمامي لجبهة المقاومة الشيعية في مواجهة العدو المشترك. وهي مستندة إلى أدلة مختلفة، منها: الضرورة الإنسانية، والدينية، والمذهبية، والثقافية، والاجتماعية.
إنَّ تعزيز المنطقة الشيعية الاستراتيجية والمؤثرة، والمُنجِبة للعلماء والمُقاومة، في جنوب لبنان، هو في الحقيقة تقوية للعمق الاستراتيجي للثورة الإسلامية، وسعي نحو توسيع منطق الثورة، ويُعدُّ سدّاً منيعاً في الخندق الأمامي للمقاومة ضد نظام الهيمنة والسلطة.
الهوامش
1. الشهيد الأول، اللمعة [الدمشقية]، المجلد 1 (المقدمة)، ص. 23 و 24.
2. العلامة الأميني، شهداء الفضيلة، ص. 168.
3. جعفريان، الصفوية: من الظهور إلى الزوال، ص. 98.
4. التنكابني، قصص العلماء، ص. 347