فقه السياسة الخارجية في السيرة النبوية

فقه السياسة الشرعية الخارجية في السيرة النبوية / الدكتور علاء الدين الأمين الزاكي

خاص الاجتهاد: لا شك أن أسلوب إرسال الرسائل إلى الملوك والأمراء كانت له عدة فوائد للدولة الإسلامية و أثمر عدة نتائج منها مايلي: [1] دخول بعضهم الإسلام كالنجاشي ملك الحبشة. [2] إظهار اللين من بعضهم كالمقوقس الذي قدم هداياه للنبي(ص). [3] كشفت هذه الرسائل مواقف بعض الملوك والأمراء من الدعوة الإسلامية، ودولتها في المدينة كموقف کسری.

إن من صميم عمل السياسة الخارجية أن ينظر الإنسان إلى من حوله ثم يبحث عن الوسائل الفعالة للتعامل معهم إما بالحرب أو السلم أو غيرهما، فقد كانت هناك قبل الإسلام دول كبرى وإمبراطوريات عظمى تسيطر على العالم،

ومنها من أظهر له العداء وسعي لقتاله، فكان لابد من ايجاد سبيل لإظهار الندية لها وإشعارها بوجود الحق، فكان من السياسة التفريق بين العدو المقاتل والعدو الذي يمكن التفاوض معه فسلك النبي صلى الله عليه وسلم عدة طرق في علاقاته الخارجية بحسب الحال وما تقتضيه السياسة دون موالاة أو مداهنة أو مجاملة فإليك هذه الطرق في المطالب الآتية:

المطلب الأول: سياسة الحوار عبر الوسائل المتاحة

والحوار قد يفيد الإنسان كثيراٌ، خاصة في الظروف الصعبة، وفي حالة الحاجة إلى ترتيب الأولويات، ولكن ليس بأي ثمن، بل حوار يعلو فيه الحق و تعلو فيه كلمته، وقد استخدم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الاسلوب بوسائل مختلفة،

منها مايلي:

أولا: وسيلة التفاوض المباشر، فالعمل العسكري أو الحرب وإن كانت أسرع في فرض الإرادة إلا أنها لا تمثل نهاية المطاف بل إنها ليست غاية في حد ذاتها، وإنما هي وسيلة، وكذلك قد لا تؤثر في قهر الخصم وتدمير عزيمته. لذا يعد التفاوض أحد المخارج السياسية نحو الاستقرار وترتيب الأمور والاستعداد.

ولو عدنا إلى سيرة النبي المصطفى صلوات الله وسلامه عليه لوجدنا في قصة صلح الحديبية مثالاً رائعاً في فن التفاوض. ومن أبرز ملامحه ما یلي:

[1] التمهيد لعملية التفاوض بإيجاد أرضية خصبة يقوم عليها. وتمثل ذلك في عدة مواقف منها:

{أ} تحييد بعض الزعماء فلما بعثوا إليه الحليس بن علقمة، أو ابن زبان، وكان يومئذ سيد الأحابيش، وهو أحد بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن هذا من قوم يتألهون، فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه.

فلما رأى الهدي يسيل من غرض الوادي في قلائده وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محله رجع إلى قريش ولم ويصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعظاما لما رأى فقال لهم ذلك فقالوا له: أجلس فإنما أنت أعرابي لا علم لك؛ فغضب عند ذلك وقال: يا معشر قريش و الله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم، أيصد عن بيت الله من جاء معظما له والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد. قال: فقالوا: له مه كف عنا يا حليس حتى نأخذ الأنفسنا ما نرضى به) (1).

{ب} إعلانه أنه لم يأت لقتال، وإنما جاء معتمراً وأرسل عثمان رضی الله عنه ليؤكد ذلك.

{ج} ومع ذلك لم يُخِف عن الوفود المفاوضة ما عليه من قوة، فلما قال عروة بن مسعود الثقفي: إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله لا تدخلها عليها عنوة أبدا وايم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا، وأبو بكر الصديق وكان قاعداً خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد فقال: أمصص بظر اللات، أنحن ننكشف عنه؟) (2)

ولما جلس عروة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يتناول لحية رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو يكلمه قال: و المغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله صلى الله عليه و سلم في الحديد، قال فجعل يقرع يده بعقب السيف إذا تناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول اكفف يدك عن وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل أن لا تصل إليك، قال فيقول عروة: ويحك ما أفظك وما أغلظك قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له عروة: من هذا يا محمد ؟ قال: هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة، قال أي غُدَر …)(3)

[2] التركيز على الأهم من الأمور، وهي مسألة الدين، وجعل كل القضايا خادمة لهذا الهدف، حيث لم يكتب بند واحد يثني النبي صلى الله عليه وسلم عن دعوته قريش بعد أن كانت دائما حريصة على ذلك، حيث عرضوا عليه من قبل الملك والمال والسيادة مقابل الدين.

وهذا يدل دلالة واضحة على أن قريشا أيقنت ثبات النبي صلى الله عليه وسلم على الحق، لذلك لم تعرض ذلك أبدا في التفاوض، وأصبح من قبل المسلمات المتفق عليها ضمنا. و عرضت فقط الرجوع و العودة العام القادم.

ثانيا: وسيلة التفاوض غير المباشر عن طريق إرسال الرسائل والسفراء.

فقد ذكرت كتب السنة والسيرة النبوية أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى کِسرَی و إلى قَيصر وإلى النَّجاشي وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالی)(4).

ومن أهم هذه الرسائل مايلي:

[1] بعث النبي صلى الله عليه وسلم دحية بن خليفة الكلبي بكتاب إلى هرقل عظيم الروم، وذلك في مدة هدنة الحديبية هذا نصه:

بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، إلى هرقل عظيم الروم، سلام علی من اتبع الهدی: أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام…)(5).

[2] و أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب إلى كسرى ملك الإمبراطورية الفارسية، مع عبد الله بن حذافة السهمي، فلما قرأه مزقه، فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمزقوا كل ممزق)(6)

[3] و أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب إلى النجاشي ملك الحبشة، فقد أرسله مع عمرو بن أمية الضمري)(7)

[4] أما كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس حاكم مصر فقد بعثه صلى الله عليه وسلم مع حاطب بن أبي بلتعة اللخمي، فقال خيرا وقارب الأمر، غير أنه لم يسلم، وأهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم عدة هدايا كان من بينها مارية القبطية رضي الله عنها، ولما ورد جواب المقوقس إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ضَنَّ الْخَبِيثُ بِمُلْكِهِ وَلا بَقَاءَ لِمُلْكِهِ)(8).

[5] و بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم شجاع بن وهب أخا بني أسد بن خزيمة برسالة إلى المنذر بن الحارث بن أبي شمر الغساني صاحب دمشق)(9).

[6] و أرسل رسول الله صلى الله عليه و سلم سلیط بن عمرو العامري بكتاب إلى هوذة بن علي الحنفي)(10)

[7] و أرسل صلى الله عليه وسلم أبا العلاء الحضرمي بكتابه إلى المنذر بن ساوي العبدي أمير البحرين) (11)

ومما لا شك فيه أن أسلوب إرسال الرسائل إلى الملوك والأمراء كانت له عدة فوائد للدولة الإسلامية و أثمر عدة نتائج منها مايلي:

[1] دخول بعضهم الإسلام كالنجاشي ملك الحبشة.

[2] وإظهار اللين من بعضهم كالمقوقس الذي قدم هداياه للنبي صلى الله عليه وسلم.
[3] كشفت هذه الرسائل مواقف بعض الملوك والأمراء من الدعوة الإسلامية، ودولتها في المدينة كموقف کسری.

ويمكن القول إن هذه الفوائد الثلاثة حققت مكاسب كثيرة للدولة الإسلامية واستطاعت الدولة الإسلامية من خلال ردود الفعل المختلفة هذه تجاه الرسائل أن تنتهج نهجاً سياسياً وعسكرياً واضحاً ومتميزاً.

ومن أهم نتائجها:

{1} أرسي الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه السياسة أسلوباً جديداً في التعامل الدولي لم تكن تعرفه البشرية من قبل.

{ب} أصبحت للدولة الإسلامية مكانتها وقوتها، وفرضت وجودها على الخريطة الدولية لذلك الزمان. قال بعض العلماء: (و هكذا، فإن رسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمراء العرب والملوك المجاورين لبلاده تعتبر نقطة تحول في سياسة دولة الرسول صلى الله عليه وسلم الخارجية، فعظم شأنها، و أصبحت لها مكانة دينية وسياسية بين الدول، وذلك قبل فتح مكة، كما أن هذه السياسة مهدت لتوحيد الرسول صلى الله عليه وسلم لسائر أنحاء بلاد العرب في عام الوفود)(12).

وعلى الأمة أن تستفيد من هذه الدراية السياسية التي فاقت التصور، وأصبحت مثالا لمن جاء بعده.

ومن أعظم ما يستفاد من هذه الدروس المهمهة والمفيدة للأمة في هذا الزمان مايلي:

[1] العزة التي يجب أن يتحلى بها المسلم وهو يدعو إلى الحق، وعدم الرهبة من كافر مهما بلغت قوته و عظم ملكه. فقد أظهر صلی الله عليه وسلم قوة وشجاعة فائقتين، فلو كان غيره لخشي عاقبة ذلك الأمر، لا سيما أن بعض هذه الكتب قد أرسلت إلى ملوك أقوياء، على تخوم بلاده، کهرقل وكسرى والمقوقس، ولكن حرص رسول الله و عزيمته على إبلاغ دعوة الله، و إيمانه المطلق بتأييد الله سبحانه وتعالى، كل ذلك دفعه لأن يقدم على ما أقدم عليه.

[2] المسلم لا يكون سلبيا في السياسية وهو يعيش مع غيره على البسيطة، بل يكون مبادراً يتعايش مع غيره بفهم الشرع لا بفهم الغير. وهذا واضح في خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر قول الله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (13)

[3] مشروعية إرسال السفراء المسلمين إلى زعماء الكفر؛ لأن كل كتاب كان يكتبه الرسول صلى الله عليه وسلم يكلف رجلا من المسلمين بحمله إلى المرسل إليه.

[4] مشروعية الكتابة إلى الكفار في أمر الدين والدنيا.

المطلب الثاني: سياسة الموادعة:

وفي إطار السياسة الخارجية لدولة المدينة وادع النبي صلى الله عليه وسلم القبائل المجاورة للمدينة وتسمى هذه بسياسة حسن الجوار.

فعقد النبي – صلى الله عليه وسلم – في العام الثاني من الهجرة المعاهدات مع القبائل المجاورة للمدينة لا سيما تلك القبائل التي كانت على الطريق التجارية المؤدية إلى الشام، فمن ذلك موادعة بني ضَمرَة، وهم بَطنٌ من كنانة وكان نص وثيقة المُوادَعة على النحو التالي :

“بسم الله الرحمن الرحیم. هذا كتاب من محمد رسول الله لبَني ضَمرة، فإنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم، وإنّ لهم النصر على من رَامَهم – إلا أن يحاربوا في دين الله – ما بل بحر صوفةٌ وإن النبي إذا دعاهم لنصره أجابوهُ عليهم بذلك ذمة الله وذمة رسوله، ولهم النصر وأتقی)(14)

كما عقد النبي معاهدة مع بني مُدلِج وكانت على نفس النحو من وثيقة بني ضمرة. ووادع جهينة.

والذي لا يخفى على أحد أن هذه المعاهدات كانت من أجل عدة أهداف:
الأول: تحييد هذه القبائل في قضية الصراع بين المسلمين والمشركين، وألا يكونوا يداً مع المشركين على المسلمين.
الثاني: تأمين الحدود الخارجية للدولة

الثالث: اعتراف هذه القبائل بدولة المسلمين
الرابع: تهيئة هذه القبائل لقبول الإسلام، والدخول فيه.
الخامس: التفرغ لقتال قريش العدو الأول الذي يتربص بالمسلمين على قاعدة أخف الضررين وأهون الشرّين. فإن مقتضيات السياسة الشرعية قد تدفع المسلمين إلى التحالف العسكري أو الاقتصادي أو التجاري، مع أي من الكتل القائمة، وأن التحالف السياسي له أصل في الشريعة، وضرورة يوجبها استهداف رفع الضرر الحاصل أو المرتقب.

 

الهوامش

(1) سيرة ابن هشام 280/4.
(2) سيرة ابن هشام 280/4.
(3) عيون الأثر – ابن سيد الناس 2/ 116
(4) (1) أخرجه مسلم برقم 4709.
(5) البخاري برقم 5905 و مسلم برقم 4707.
(6) أخرجه البخاري برقم 64.
(7) أخرجه ابن سعد في الطبقات 99/8.
(8) الطبراني في الكبير 24/ 306 ، وابن سعد في الطبقات 134/1.
(9) المعجم الكبير – الطبراني20/8 .
(10) ابن سعد في الطبقات1/ 262
(11) الطبراني في الكبير برقم 14588، ابن سعد في الطبقات1/ 263
(12) انظر: التاريخ السياسي والعسكري لدولة المدينة، ص351.
(13) سورة آل عمران الآية: 64.
(14) الطبقات لابن سعد 1 /275 .

 

المصدر: قسم من مقالة بعنوان: فقه السياسة الشرعية من خلال السيرة النبوية- للأستاذ الدكتور علاء الدين الأمين الزاكي .

جامعة أفريقيا العالمية/كلية الشريعة والدراسات الإسلامية – الكتاب الأول من مؤتمر الدولي الأول للسيرة النبيوية 11 – 12 / يناير 2013 الخرطوم – السودان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky