إعادة فتح باب الاجتهاد لتزكية الفقه من الإسرائيليات

فرحات عثمان: من الواجب إعادة فتح باب الاجتهاد لتزكية الفقه من الإسرائيليات

الفقه الإسلامي الذي نعمل به إلى اليوم مجرد اجتهاد من حملة علم كان معظمهم من الموالي، أي كان مخيالهم مُشبعا بتعاليم اليهودية والمسيحية. فقهنا إذن كله إسرائيليات شوّهت سماحة دين الإسلام وإناسته فمسخته أي مسخ ؛ لذا، يتحتّم وجوبا إعادة فتح باب الاجتهاد لتزكيته منها !

موقع الاجتهاد: المتعارف عليه في الفقه الإسلامي هو أن الإسرائيليات، ومفردها إسرائيلية، هي الخبر يُروى عن مصدر إسرائيلي؛ والنسبة طبعا لإسرائيل، وهو لقب يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم. عموما، الإسرائيليات إذن هي الأخبار التي داخلت دين الإسلام عن مصادر ومزاعم يهودية أو نصرانية.

هذا، وقد بيّن ابن خلدون بما لم يعد يدعو للشك أن حملة العلم في الإسلام كانوا من الموالي، أي ممن، إذا كانت ديانته توحيدية، يأخذ بتعاليم العهد القديم والعهد الجديد من الكتاب المقدس، إذ أن هذا الأخير كان المرجع الأسنى لكل ما رسب في الإسلام، لا من قصص فقط، بل وأيضا من تعاليم يهودية ونصرانية.

تفشّي الإسرائيليات في الإسلام :

لقد اشتهر عند أهل الإسلام إطلاق مصطلح الإسرائيليات على جميع ما يُستعمل من أفكار وحوادث وروايات مأتاها اليهود و النصارى. لذا، أدركوا باكرا ما فيها من مضرّة للدين الجديد، فعملوا على مناقشتها للتمييز بين ما كان منها صحيحا في إسناده ومتنه فقبلوه، عملا بالقاعدة المعروفة في علم الحديث؛ وما كان ضعيفا لا يتناسب مع تعاليم الإسلام ومقاصده، فرفضوه.

إلا أن هذا العمل الضروري للحفاظ على روح الدين القيـّم لم يكن من العلمية بمكان؛ وقد تفطّن المسلمون المتأخرون إلى ذلك عندما أمكنهم التعرّف على التوراة والأناجيل في أصولها ولم يعد يخفى منها على الباحث أي شيء. بهذا أمكن التمحيص في عمل الأوائل ونقض قيمة البعض مما كان لا يُشك في صحّته، بما في ذلك ما نجده في كتب أهل الثقة كصحيح البخاري.

مثال هذا، من القرآن، ما يرويه هذا الصحيح عن الآية 45 من سورة الأحزاب (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا) أنها توجد في التوراة بينما لا شيء فيها من ذاك. أما من السنة، فالمثال يتعلّق مثلا بما يرويه ابن كثير عن كعب الأحبار عن هاروت وماروت ، فيعتبره موثوقا، ولا صحة لذلك.

نعم، لقد انتقد العديد من أهل الإسلام الإسرائيليات لما فيها من مخالفة للعقل والمنطق، بينما هما لب لباب القرآن. إلا أن هؤلاء لم يأخذوا تماما بأمر الله في تحكيم العقل في كل شيء مما يحتمل التأويل لأحكامه عوض الاعتماد في ذلك على ما كان متواترا من مفاهيم عند اليهود والنصارى. ذلك لأنهم دربوا على الاكتفاء بتوثيق ما يصل إليهم عن طريق العنعنة والنقل عن الرواة الثقاة دون إحكام للمنطق وتنبّه لما تفرضه مقاصد الشريعة.

ذلك لأنه حتى في حال توافق بعض الإسرائيليات مع الشريعة، فجلها من المنحول وليس فيه حقيقة أي شيء في معظم الأحيان من التوراة الحقّة والأناجيل كما وصلونا. ثم ما رسب من الإسرائيليات ليس ضرورة في الفرقان ولا متوافقا بتاتا مع مقاصد الشريعة الإسلامية التي ليس لنا اليوم غنى عنها.

من هذا مثلا ما كان مخالفا للشريعة الإسلامية مناهضا لها، كالحديث عن الزاني والزانية، ما نُسب إلى عبد الله بن سلّام بخصوص آية الرجم المزعومة. فلا رجم في القرآن خلافا للتوراة، ومن يقول بالرجم لا يأخذ إلا بالتوراة لا بالفرقان!

كذلك الحال في تجريم الردة وشرب الخمرة وااللواط، إذ كل هذا من رواسب االعادت اليهودية والمسيحية في دين القيمة الذي لم يحرّم ما حرّمه في هذه المواضيع الكتاب المقدس، إذ كان الإسلام فيها علمي التعاليم كما يقرّها اليوم العلم نفسه.

لا شك أن الذي ساعد على تسرّب الإسرائيليات في دين الإسلام ما كانت عليه المجتمعات العربية وغير العربية بعد إسلامها من قرب العهد بالدين الثوري الجديد، إذ أتى حقا بثورة عقلية لم تكن معهودة، خاصة في مجتمعات بدائية، غير قارئة عموما. لذلك كان الأقرب في ذهن العموم ومن السهل المقبول ما عُرف عندها من سالف العقائد التوحيدية. ولا شك أن الأمّية الشائعة عند العرب جعلتها تقدّر أي تقدير معرفة القساوسة وعلم الأحبار المتواجدين على أرضها وسائر الأمصار بعد الفتح الإسلامي، وقد علمنا تقديره لديانات أهل الكتاب، بما فيهم أهل الأفستا من المزدكية.

أهم المشتهرين بالإسرائيليات :

لإدراك مدى فحش تفشيّ الإسرائيليات في الحنيفية المسلمة إلى حد مسخ سماحة تعاليمه، لنذكّر بأهم المروّجين المعروفين للإسرائيليات. من اليهود، هناك بدون أدنى شك عبد الله بن سلاّم، ووهب بن منبه وكعب الأحبار الذي كان صديقا للخليفة عمر، مكينا عنده. هذا، والأوّل المذكور من الصحابة والأخيران من التابعين.

وكان كثير من التابعين ممن روى الإسرائيليات من تلاميذ هؤلاء، وأغلبهم معروفون محترمون، منهم: قتادة ومسروق ومجاهد وعكرمة والحسن والضحاك وسعيد بن جبير وزيد بن أسلم، وعطاء وطاووس، وغيرهم.

هذا، ولا يشك المسلمون اليوم أن مزاعم هؤلاء وغيرهم خدمة الإسلام لم تكن ثابة وأن العديد منهم كانوا من المدلّسين؛ إلا أنهم أخفوا كذبهم فخفى على كثير من أهل الحديث. وكان على رأسهم رئيسهم كعب الأحبار؛ ولم يكن وهب بن منبه بأكثر صدق، إذ هناك من وصفه بالدعيّ الكاذب.

أما عن أهم أتباع التابعين ممن اشتهر بالإسرائيليات والكذب على الإسلام، عن قصد أو عن غير قصد، فيمكن أن نذكر ابن جريج النصراني الرومي الذي اشتهر بقبيح التدليس، والكلبي والسدّي اللذان عُرفا في الكوفة بالكذب إلى حد أن الطبري كان يتجنـّب النقل عنهما.

وقد اجتنب عالمنا الجليل النقل أيضا عن مقاتل بن سليمان لنفس السبب، وهو الذي يقال عنه أنه صاحب أقدم تفسير للقرآن. مع العلم أن عمدة المغازي، أي ابن أسحاق، كان أيضا عند الطبري ممن يدلّس، بل وحسب العديد من أهل الفقه.

هذا، ونحن لو اعتمدنا موسوعة القرآن العظيم لعبد المنعم الحفني، الذي تابعناه هنا في فضحه للإسرائيليات في دين الإسلام، لنعجب أي عجب، في سياق وصفه الفاضح لخطورة الإسرائيليات في الإسلام، لتفشيها في ديننا أفحش التفشي، فهي من أهم الشبهات والإشكالات فيه.

وهو يعدد النماذج الكثيرة منها، ذاكرا أمثلة بعينها، مثل ما رسب من إسرائيليات عند مقاتل صاحب كتاب «التفسير الكبير»؛ بل ويذهب أيضا إلى اتهام الطبري ببعضها في كتابه «جامع البيان في تفسير آي القرآن».

ولا يتردد الحنفى في ذكر نفس الشيء بالأمثلة الحية، مع تعداد ما ثبت فيها من إسرائيليات، عن العديد من المراجع وأصحابها مثل الثعلبي في «الكشف والبيان عن تفسير القرآن»، إذ يعدّه من المكثرين في الإسرائيليات. ويقول طبعا نفس الشيء في تلميذه البغوي، المحدّث والمفسّر، رغم أنه يُقال عنه أنه محي السنة وركن الدين.

ويأتي الكلام متشابها أيضا عن ابن عطية الغرناطي، صاحب «المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز»، الذي نوه به ابن خلدون؛ والزمخشري في «الكشّاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل»، وهو من المعتزلة كما هو معلوم؛ والفخر الرازي في كتابه «مفاتيح الغيب»، الذي اعتُبر موسوعة علمية؛ والقرطبي في «الجامع لأحكام القرآن»، وهو من أجل التفاسير وأعظمها نفعا؛ والنسفي في «مدارك التنزيل وحقائق التأويل»، المُختصر من تفسيري البيضاوي والزمخشري؛ والخازن في كتابه «لباب التأويل في معاني التنزيل» الذي جمع فيه بين مسندي الشافعي وابن حنبل والكتب الفقهية الستة الهامة والموطأ وسنن الدارقطني.

هذا، ولا ينسى صاحب موسوعة القرآن العظيم ذكر ابن كثير وتفسيره الأكثر شيوعا بين الناس، أي «تفسير القرآن العظيم»، مع العلم أنه كان تلميذ ابن تيمية، ويُعد تفسيره من أجود التفاسير بعد تفسير القرطبي. ويذكر أيضا السيوطي وكتابه «الدر المنثور في التفسير المأثور»، والألوسي صاحب «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم».

ولا يتردّد عبد المنعم الحفني في التذكر باتهام ابن عباس بالأخذ بالإسرائيليات، هذا الذي لُقّب بترجمان القرآن وحبر الأمة، متسائلا عن مدى صحة اشتهاره «بأنه من المُدخلين للإسرائيليات في تسفير القرآن وهو العمدة في ذلك ورأس الرواة للإسرائيليات». وهو لا ينفي عنه هذا الاتهام، ويسحبه أيضا على أبا هريرة متسائلا إن كان الرجل حقا تلميذا للإسرائيليين؟ كما يطرح نفس السؤال بخصوص عبد الله بن عمرو بن العاص مذكّرا أنه كان يُقال عنه أنه كان إسرائيلي الميول.

كل هذا، وغيره كثير، يحتّم على المسلمين اليوم، بدون أدنى شك، غربلة تراثهم للتمييز فيه بين الغث مما فيه الغش للمسلمين، والسمين الذي هو ما صحّ في ملّتهم؛ فبذلك وبذلك فقط يتم إنقاذ إبريز الدين القيّم من شبهات الإسرائيليات التي مسخته وحوّلته من دين تنويري إلى هذه الملة الظلامية الداعشية.

من الضروري إذن حتما وفي أقرب وقت إعادة بفتح باب الاجتهاد لإخراج الإسلام من البلبلة التي أصبح عليها جرّاء اللخبطة القيمية التي طغت على عقول أهله، فإذا هم يأخذون بتعاليم اليهودية والمسيحية ويعدّونها إسلامية ! فهل من مسخ أكبر لدين جاء مهيمنا ومصححا لما قبله ؟

المصدر: أنباء تونس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky