الميرزا مهدي الأصفهاني

علم الأصول عند الشيعة وعدم اقتباسه عن السنة عند الميرزا مهدي الأصفهاني

 الاجتهاد: هل يمكن القول إن علم الأصول مُقتبس من السنة؟ هل صرّح الأئمة (ع) بشيء عن ذلك أم لا؟ في الحقيقة المقصود به هو معرفة ما إذا كان علم الأصول علما دخيلا على الحوزة الشيعية، شأنه في ذلك شأن الفلسفة والعرفان اللذين اعتبرهما الميرزا مهدي  الأصفهاني عِلمين دخيلین مأخوذين عن اليونانيين بمكر وخدعة من قبل الحكام الظالمين، فیکون علم أصول الفقه كذلك علماً دخيلا بواسطة بعض الذين أرادوا حرف الدين عن مساره الصحيح. بقلم الباحث حسين مفيد

أورد الأخباريون بعض الإشكالات على الأصوليين في عيّنة من البحوث الأصولية كالحجج وجواز العمل بالظنّ والقياس أو عدم جوازه، ورأوا أن تلك البحوث تدل على ميل الأصوليين نحو المنهج السُنّي وأنّ قواعدهم الأصولية مستوحاة من فكر السنّة، وهي غريبة عن معارف العترة النبوية (ع) وعلومهم.

وبالنظر إلى مقدمة الميرزا الأصفهاني حول هذا الموضوع والتي أشرنا إليها آنفاً فإنه يعتقد:

أولا: أن ما ذكره الفقهاء الأصوليون لا يختص بأهل السنة على الرغم من استخدام قسم منهم بعض مصطلحات أهل السنة(1).

ثانيا : أن هذا الاعتراض على الأصوليين بالذات وخاصة من ابتعد منهم في كتبه وبحوثه عن مبادئ الأئمة (ع) هو أمر منسوب إليهم خطأً في هذا البحث – أي اتّباعهم منهج الظن والقياس، بينما أورد الميرزا الأصفهاني نفسه بعض الإشكالات على الشيخ الأنصاري في بحثه مسألة جواز الإفتاء بغير علم واجتهاد(2)،

وهو بذلك لا يؤمن بأنّ مثل تلك المطالب ومثل هذه الإشكالات بل وتيّار الأصوليين الإمامين عموما، تصطبغ بصبغة أهل السنّة:

“وأما لعن الأخباريين وسبّهم وطعنهم على علمائنا الأصوليين ليس في محله، وما ينسبون إليهم من أنهم عاملون بالظنّ والرأي والاجتهاد والقياس والاستحسانات ومُعرضون عن الكتاب وأحادیث المعصومين ومشرّعون للأحكام، كلها نسبة في غير محلّها وذلك لأن نوع الأصوليين لا يعملون إلا بالكتاب والسنة،

والشاهد على ذلك متونهم الفقهية فإنهم لا يستدلّون في واقعة من الوقائع إلا بالطرق الشرعية أو الوظائف المجعولة الشرعية ولا يعملون بالظن والتخمين والاجتهاد بمعناه المعروف لدى السنّة، وفي كتب أصولهم لا يبحثون إلا عن الحجج الإلهية” (3).

وأما السؤالان الآخران اللذان ينبغي الإجابة عنهما بهذا الصدد فهما: هل يمكن القول إن علم الأصول مُقتبس من السنة؟ هل صرّح الأئمة (ع) بشيء عن ذلك أم لا؟

في الحقيقة يبدو أن السؤال الثاني أوسع من السؤال الأول والمقصود به هو معرفة ما إذا كان علم الأصول علما دخيلا على الحوزة الشيعية، شأنه في ذلك شأن الفلسفة والعرفان اللذين اعتبرهما الميرزا الأصفهاني عِلمين دخيلین مأخوذين عن اليونانيين بمكر وخدعة من قبل الحكام الظالمين، فیکون علم أصول الفقه كذلك علماً دخيلا بواسطة بعض الذين أرادوا حرف الدين عن مساره الصحيح.

ويبدو أن الضرورة تقتضي هنا البحث في السؤال في كلا المجالين المذكورين، وأن نسأل أولا:

هل يمكننا الحصول على علم يمكن تسميته بـ: «علم أصول الفقه» كمقدمة ووسيلة لاستنباط الأحكام الدينية من أحاديث الأئمة (ع) بحيث تكون هيكليّته وتشكيلته العامّة متطابقة مع علم الأصول وفي الوقت نفسه يكون باستطاعة أي مفکر البحث في تفاصيل البحوث وتقدیم آرائه ومقترحاته بشأنها؟

لقد أجاب الميرزا الأصفهاني صراحة عن هذا السؤال بالإيجاب قائلاً إن الأئمة (ع) أنفسهم كانوا قد قدّموا الطرق العقلية والعقلانية من أجل رفع الاختلافات واتخاذها أسلوباً في استنباط احکام الشريعة وفي مقام الإفتاء، واعتبر أن عملية الاستنباط ستغدو مستحيلة من دون ذلك:

“ولمّا كان أساس الدنيا على الامتحان والاختبار المساوق لعصيان البشر وبقاء الجهل بالأحكام والتحيّر في مقام العمل لعدم وصول الفتيا للعوامّ والكبريات للفقهاء والعلماء، يكون من كمال الشريعة وتماميّتها تعيين الوظائف في مرتبة الحيرة والشك في الحكم الشخصي طبق الأحكام العقلية عند الشك في الحكم الشخصي وهي في تلك المرتبة أصول وقواعد كليّة للتحيّر في مرتبة العمل.

فالحجج والطرق أساس لكشف الأحكام، والأصول العملية قواعد كلية في مرتبة الحيرة والجهل بالأحكام الشخصية، ولهذا سمّيت حجيّة هذه الحجج والأصول العملية أصولًا للأحكام الفرعية.

فالأصول التي جاء بها الرسول (ص) وبيَّنها آل الرسول (ع)، حجية الحجج والوظائف المقررة لحال الحيرة” (4).

وهكذا يتّضح لنا من كلام الميرزا الأصفهاني أنه كان مؤمنًا بأن أساس علم الأصول هو ما قاله الأئمة (ع) للفقهاء والعامة على السواء في مقام الحيرة إزاء الأحكام الراهنة أو كبريات الكليات؛

لكن الجدير بالذكر هو أن الميرزا الأصفهاني لا يقف عند هذا الحدّ، فقد يعتقد بعضهم – وهو ما يمكن ملاحظته أيضا في كلام العلماء الأخباريين – أن الأصول التي يقصدها الأئمة (ع) هي شيء مختلف عن تيار الفقهاء الإمامية وأنه لا حاجة إطلاقا إلى علم الأصول المعروف في الوقت الحاضر في استنباط الأحكام الشرعية؛ بل تكفي علوم اللغة العربية لفهم الأمور والمسائل الدينية:

“العاشر: أن المجتهدين يقولون إنه لا يبلغ أحد رتبة الفتوى ومعرفة الحديث إلا مَن عَرف المقدمات الستّ… والأخباريون لا يشترطون غير معرفة كلام العرب ومنه بعض مسائل النحو والتصريف؛ بل ربما منع بعضهم من اشتراط النحو والتصريف مطلقا وللمسألة موضع آخر، ومعرفة اصطلاحات أهل البيت (ع)، ومعرفة محاوراتهم وما عدا ذلك ليس بشرط سوى المتوقف فهم کلام العرب عليه (5).

ويرى الميرزا الأصفهاني أن هذه التهمة باطلة ويسمّيها بالجهل في حق أولئك الذين كانوا روّادًا في الاقتباس من أنوار الأئمة (ع) وأنه لولا تحمّلهم المشاقّ التي واجهوها لانهارت أركان الدين، ويشير إلى أنًّ عملية استنباط الأحكام الدينية مختصة بالفقهاء الذين يفهمون المتعارض بدوًا في كلام الأئمة (ع) ويعرفون العقل وأحكامه والمسائل العقلانية الفطرية التي قام الدين على إمضائها وتحديدها وتقديرها وردعها لإزالة الاختلافات،

وكذلك الذين أدركوا حجية العقل والعلم وعدم حجية القياس واليقين الصادرين عنهما وحجية خبر الثقة وظواهر الكلام وقاعدة الفراغ والتجاوز، وتعرّفوا إلى الروايات المتعلقة بإزالة الاختلاف بين الروايات الأخرى(6).

وهكذا نرى أن عملية استنباط الأحكام الفعلية للمكلفين والإخبار عنها بواسطة العلم بالمكلف. وهو ما يُعرَف بالإفتاء – وقبول المكلف بذلك والعمل وفقا له – وهو ما يُسمّى بالتقليد(7)

وهو يختلف عن الإخبار أو نقل الحديث عيناً أو مضمونًا – هي من ضمن تکالیف العباد (8) وممّا أُسنِد إلى الفقهاء في جميع الأبواب أو في باب معيّن، وبإمكان هؤلاء، بعد تخصيص العمومات وتقیید المطلقات والجمع بينهما، الأمر والنهي في مقام تعيين التكليف الشخصي للمكلّف (9)، ويتعذّر قيام الفقهاء بهذا العمل إلا بعد معرفة الأصول التي بيّنّاها في العبارات السابقة.

وهنا ربما طرح أحدهم إشكالا في علم الأصول – والذي عُرِف في ما بعد بتضخّم علم أصول الفقه – قائلا: هل يمكن اعتبار ما هو معروف اليوم باسم الأصول الفقهية الأصول الفقهية نفسها التي أشار إليها الأئمة (ع) أم أنّه علم بالغَ فيه الأصوليون واختلطت معه الكثير من الأفكار والآراء الدخيلة التي واجهت الفقهاء عن وعي ودراية أو عن جهل و غفلة على مر التاريخ؟

للإجابة عن هذا السؤال لا بدّ من الإشارة إلى أن الميرزا الأصفهاني يرى أن ما هو موجود لدينا اليوم من الأصول الفقهية أكبر وأضخم مما يحتاج إليه الفقية وأنها أصول مُبالغ فيها كثيراً بالقياس إلى أصول الأئمة (ع)،

كما هي الحال مثلًا في بحث الألفاظ الذي لا يُدرجونه بالتأكيد في دائرة علم الأصول وأبحاثه (10) بل لا يقبلون تطويل البحث إلى هذا الحدود ولو أُدخلت هذه المباحث في دائرة البحث الفلسفي(11)، ويكتفون من بحث الحجج بالمقدار الضروري لمعالجة الدليل الفقهي”(12).

وهذا ما دفع الميرزا مهدي الأصفهاني إلى إيجاز رسائله الأصولية الأخيرة واختصارها وذكر كلّ ما ينفع الفقيه من الفقه وتعبيد الطريق أمامه، لكنّه مع ذلك يرى أن السبب الرئيس في تضخيم الأصول والمبالغة فيها – كما قلنا – يکمن في اعتراض الحكام الظالمين وسعيهم إلى نشر العلوم البشرية التي أدّت إلى الخلط بين البحوث وإثارة شبهات علماء السنة من خلال حثّهم على الاستعانة بالوسائل العلمية الدخيلة والتشكيك في العلوم الدينية،

فكانت نتيجة ذلك قيام علماء الإمامية بتدوین علم الأصول بالشكل الذي نراه في الوقت الحاضر من أجل دفع شبهات المخالفين وإزالة العوائق عن طريق أتباع آل البيت (ع) لتسهيل عملية الاستنباط (13).

لذلك نرى الميرزا مهدي الأصفهاني يستخدم تعابير قويّة يصرّ بواسطتها في بداية آخر رسالة له في الأصول على تمجيد الفقهاء الأصوليين الكبار في الماضي مؤكّدًا من خلال مدحه الشيخ الطوسي والشيخ المفيد والسيد الشريف المرتضى والعلامة الحلي والشهيدين والشيخ الأنصاري، مؤكّدًا أنّ ما قام به هؤلاء يُمثّل التيّار الأصليّ للفقه عند الإمامية وأنه ليس كما يصفه بعضٌ على أنّه جزء من العلوم البشرية(14).

الهوامش

(1) مهدي الأصفهانيّ، مصباح الهدی، تسخة الحضرة الرضوية المقدسة، ص 3 .
(2) مهدي الأصفهاني، الإفتاء والتقليد، نسخة الدامغاني، ص 123.
(3) مهدي الأصفهاني، رسالة في القرعة، نسخة السيد مرتضی طباطبایی العسکری.
(4) مهدي الأصفهاني، أصول الوسيط، نسخة صدر زاده، ص 986.
(5) عبد الله السماهيجي، منية الممارسين في أجوية الشيخ ياسين، الاختلاف العاشر.
(6) مهدي الأصفهاني، مصباح الهدی، نسخة الحضرة الرضوية المقدسة، ص2
(7) مهدي الأصفهاني، في الإفتاء والتقليد، نسخة صدر زاده، ص 890 .
(8) مهدي الأصفهاني، في الإفتاء والتقليد، نسخة السيد مرتضی طباطبایی العسکری ، ص 127
(9) المصدر نفسه.
(10). كان الميرزا الأصفهاني – سواء خلال دورة التقريراث أو في الدورات المتأخرة في بحث موضوع الألفاظ – يعتقد أن مفتاح ذلك موجود في فهم كلام القائل. (انظر على سبيل المثال كتابه : أصول الوسيط، ص 1): ” أول ما يحتاج إليه الفقيه هو علم اللغة المقدسة العربية”.(محمود التولايی، تقریرات الأصول لأبحاث الميرزا الأصفهاني، ج 1، ص 76)
(11) محمود التولايي، تقريرات الأصول، ج 1، ص 76 فما بعد، في عدم كون مباحث الألفاظ من الأصول.
(12) مهدي الأصفهاني، الأصول الوسيطة، نسخة صدر زاده، ص 986,
(13) مهدي الأصفهاني، مصباح الهدی، تسخة الحضرة الرضوية المقدسة، ص 3.
(14) المصدر نفسه، ص 4.

المصدر: مقالة بعنوان: الإتجاه الأصولي عند ميرزا مهدي الأصفهاني، في كتاب “الميرزا مهدي الأصفهاني رائد التفكيك في المعرفة الدينية، تأليف: مجموعة مؤلفين.

 

 

إقراء أيضاً في هذا السياق:

تاريخ علم الأصول

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky