الاجتهاد: يحتل الحديث بشأن علاقة الدين بالسياسة مساحة عريضة لدى المهتمين بهذا الخصوص بين النفي والاثبات. أما من أنكر العلاقة بينهما (1) – الدين والسياسة – فقد ذهب الى أن الإسلام شريعة روحية تعيدية، ولا يعدو أن يكون دعوة دينية مقصورة على مجرد الاعتقاد وإقامة الصلات الروحية بين العبد وربه، فلا تعلق لهذا الدين بالشؤون المادية في الحياة السياسة والحرب والمال وما الى ذلك.
وقالوا: أنه لا علاقة للدين بشؤون الدنيا وسياسة أمور العباد، وقد عبّروا عن ذلك بالقول ( لا سياسية في الدين، ولا دين في السياسة)، بل زادوا على ذلك قولهم: (ان الدين يجب أن ينزوي بين جدران المساجد. بوصفها مجالا للتعبد، وإن يدع شؤون الدنيا وساحة السياسة لمذاهب البشر الوضعية وفلسفاتهم الإنسانية، طبقا لمبدا (دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله)،
وقد تأسس على ذلك شبهات فرعية أهمها:
أولا: القول بأن ما أنزل الله تعالى تكليف فردي.
ثانيا : أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن حاكما ورجل دولة، بل اقتصر دوره على كونه رجل دين، ولا علاقة لدينه بالدولة ونظامها.
ثالثا: ان الخلافة قد قامت بمبادرة انقلابية بعد وفاة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وقد نالها الأقوى، لا الأحقُ بها.
وقد انتهى أصحاب الرأي المذكور الى القول: أن المطالبة بتطبيق الشريعة لا معنى له، وان الزمن قد تجاوزه، ويدعون الى حصار الدين وتحجيم دوره، ويخلصون من هذا كله الى ان النظام الالهي لا يمكن تطبيقه، وان العمل بالشريعة يؤدي الى اختلال النظام وسفك الدماء.
واما نُظراؤهم – ممن يرى اثيات العلاقة بين الدين والسياسة – فقد اعتبروا ان ما ادعاه المنكرون يُمثل دعوی مُغرضة تقف وراءها حملات التبشير المسيحية باهداف يهودية، وأطماع استعمارية قديمة تهدف الى ابعاد الدين والمتدينين عن مسرح العمل السياسي لتتسنى لهم الفرص الكافية لاستعبادهم ونهب ثرواتهم الغنية اذ انهم خطوا خطوات عدة في سبيل تكريس هذا المفهوم السلبي الخاطئ عن السياسية والعمل السياسي وذلك من خلال تفسيرهم الخاطيء والمنحرف للسياسة بكونها تمثل مجموعة من الرذائل الخُلقية والممارسات اللاانسائية المليئة بالدجل والنفاق، أو محارية علماء المسلمين وتصفيتهم جسديا والتشويه بهم اعلامياً، وعزلهم عن الأوساط الجماهيرية وإبعادهم عن الحكم والوصول الى السلطة (2).
وبعد الاطلاع والتوغل في استقراء آراء القائلين باثبات العلاقة بين الدين والسياسة، فانه يمكن ايجاز نظريتهم من خلال الآتي:
أولا: أصل مقولة الفصل بين الدين والسياسة
منذ انتقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الرفيق الأعلى وبدء مرحلة الخلافة الاسلامية من بعده، ظل المسلمون يفهمون الإسلام فهما شموليا معتقدين توفيقه بين أمور الدين والدنيا أو الدين والدولة أو السياسية والدين، وان الله تعالى لم يُفرط في كتابه الكريم – القرآن – من شيء، واستمر هذا الاعتقاد حتى جاء النظام السياسي التركي الجديد بقيادة مصطفی اتاتورك فألغى نهائياً الخلافة الإسلامية بانهائه الخلافة العثمانية فخلا العالم الاسلامي، للمرة الأولى في تاريخه ممن يحمل لقب الخليفة، ومحا بالفعل من الأرض الخلافة محواً.
وقد كان على اثر ذلك أن تطلعت دوائر اسلامية عديدة لأستنئاف نظام الخلافة بدوافع عدة، فثمة فريق رأی أن الخلافة واجهة يقف خلقها المسلمون في تصديهم لزحف الغرب الاستعماري، وعامل توحد لبلادهم، وفريق ثان عدها تراثاً وثالث اعتقد ان اقامتها وأجب وأصل من أصول الاسلام وعلی أساس ذلك فانهم لم يتعاملوا مع اطروحة علي عبد الرزاق في (الإسلام وأصول الحكم) (3) بوصفها بحثا أكاديمياً في مجال الفكر السياسي بقدر ما كان أسهاماً في معركة سياسية حامية
ويرى هؤلاء أن القول بانکار علاقة الدين بالسياسة هو قول يجانب الحقيقة تماماً، فمن بديهيات الفكر الاسلامي أنه نظام شامل للحياة، والسياسية من أهم شؤونه ومجالاته، فلا يُتصور أن يدع الاسلام هذا الجانب المهم . السياسة . ويهمله دون أن يرسم له الاطار العريض وينص على المباديء التوجيهية العامة فيه، ثم يترك التفاصيل والجزئيات للناس يتصرفون فيها بما يناسب ظروف زمانهم ومكانهم دون أن ينفلتوا من توجيهات هذا الاطار العام وتلك الأصول الكلية، أي دون أن ينصرفوا عن جوهر هذا الدين وروحه وهديه.
ولا شك أن علاقة الاسلام بالسياسة ثابتة في المرجعية الإسلامية . القرآن والسنة . نظرياً وفي واقع تاريخ الاسلام عملياً، ومن الاشارات القرآنية في ذلك قوله تعالى: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ(4) وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا(5)، فأولي الأمر هنا – وان انصرفت الى كل من يحمل مسؤولية- تنصرف الى الولاية العظمى في الإسلام، وهي ولاية أمر المسلمين أو رئاسة الدولة الإسلامية، فلولي أمر المسلمين حق الطاعة على زعيته شريطة أن يكون ملتزماً بمبادئ الإسلام وتوجيهاته أي مطيعاً لله ولرسوله كما يوضح ذلك صدر الآية.
لقد أكد بعض الفقهاء ان لم يكن أكثرهم على العمل السياسي وممارسة السياسة، واعتبروها من أهم الواجبات الشرعية الالزامية على المسلم ولا سيما العلماء انفسهم، إذ صرحوا بوجوب اقامة الحكم الإلهي الشرعي وتولي الفقهاء العدول زمام الحكومة وأمر الناس تطبيقاً للعدالة الإسلامية والانسانية(6).
يقول السيد محمد الحسيني الشيرازي: (فالواجب الشرعي على العالم الديني کوجوب الصلاة والصيام أن يهتم لابعاد الحكام الظلمة عن الساحة الإسلامية ليُمسك زمام الامة العلماء الراشدون، فيسيرون بالأمة كما أراد الله سبحانه)(7).
ثانيا: الواقع التاريخي للدولة الاسلامية
المتتبع لسيرة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) يبدو له بوضوح أنه تصرف منذ أن وطئت قدماه قباء بضواحي يثرب كأنه يسير على خطة محكمة وضعها من قبل، وحانت فرصة تنفيذها بهذه الهجرة المباركة فسار في هذا المضمار خطوة بعد خطوة، ابتداءاً ببناء المسجد الذي أصبح رمزا لوجود الأمة المادي، بالإضافة الى وجودها المعنوي، فلم يكن المسجد موضعا للصلاة فحسب، بل كان موضع اجتماع المسلمين وسماع الأخبار،
وكان النبي القائد يقيم بجواره وينظم شؤون الدولة، ثم آخى (صلى الله عليه وآله وسلم) بين المهاجرين والأنصار ليشكل بذلك جماعة المؤمنين على أسس متينة، ولأن مجتمع المدينة لم يقتصر على المسلمين بل ضم من بقوا على حالهم ولم يدخلوا في الاسلام من العرب واليهود، لذا فقد وضع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الدستور المنظم للعلاقات بين هذه الجماعات وحدد لكلٍ حقوقه وواجباته فيما عُرف بالصحيفة التي وصفها د.مراد هوفمان بانها: تص دستوري توافرت که ابعاد ثورية قانونية نظرية ورؤية منهجية بعيدة المدى فضلاً عن تقرده التاريخي في باب العلاقات بين طوائف الدولة وفئاتها(8).
اذن بهذه المعطيات قامت الدولة التي اشتملت على الأمة التي سكنت أرضاً ذات معالم، وقادها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) واهتدت بمعالم القران الكريم، وقد مارس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالاضافة الى التوجيه الديني مسؤوليات القيادة النبوية، مستنداً الى قواعد الدين، فنظم شؤون الحرب والسلم، وعقد المعاهدات، وجبي الأموال وانفاقها في وجوهها، وعين الولاة والقضاة، وبالجملة فقد أدار شؤون هذا المجتمع الجديد الذي أخذ شكل دولة ناشئة، وما الدولة في المفهوم المعاصر الا أرض وشعب وقيادة وحكومة.
ثالثا شهادات غير المسلمين على كون الاسلام دين ودولة
لم يقتصر الحديث حول اثبات علاقة الدين بالدولة بعلماء الإسلام بل تعدى ذلك الى المستشرقين الذين أيّدوا الطبيعة الشمولية للاسلام واهتمامه بامور الدنيا وشان السياسة، وهذه طائفة من شهاداتهم بهذا الشأن:
يقول د. فتز جرالد: ليس الاسلام ديناً فحسب، ولكنه نظام سياسي أيضاً وعلى الرغم من أنه قد ظهر في العهد الأخير بعض أفراد من المسلمين ممن يصفون أنفسهم بأنهم عصريون يحاولون أن يفصلوا بين الناحيتين فان صرح التفكير الاسلامي كله قد بُني على أساس أن الجانبين متلازمان لا يُمكن أن يُفصل أحدهما عن الآخر.
ويقول نللينو: لقد أسس محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في وقت واحد ديناً ودولة وكانت حدودهما متطابقة طوال حياته.
ويؤكد د. شاخت: أن الاسلام يعني أكثر من دین، انه يُمثل أيضاً نظريات قانونية وسياسية، وجملة القول: أنه نظام كامل من الثقافة يشمل الدين والدولة معاً.
ويقول ستروثمان: الإسلام ظاهرة دينية سياسية، اذ ان مؤسسه كان نبياً وكان حاكماً مثالياً خبيراً باساليب الحكم.
ويقول أرنولد: كان النبي في نفس الوقت رئيساً للدين ورئيساً للدولة.
ويقول جب: الاسلام لم يكن مجرد عقائد دينية فردية، وإنما استوجب اقامة مجتمع مستقل، له اسلوبه المعين في الحكم، وله قوانينه وانظمته الخاصة به.
ويخلص الباحث من خلال آراء الفريقين المتقدمة حول جدلية الاثبات والنفي لعلاقة الدين بالسياسة الى الاشارة لعناية الإسلام منذ بداياته الأولی بشؤون الحكم والسياسية ما يدل على أن العلاقة بينهما – الدين والسياسة – أصيلة وثابتة ومستقرة ولا يمكن انكارها أو التشكيك فيها، وأما الدعوة الى الفصل بينهما فما هي الا ترويج للفكر العلماني ومحاولة للقضاء على فكرة الأمة في أذهان المسلمين، وأما ما جاء به على عبد الرازق صاحب كتاب (الإسلام وأصول الحكم) فلا يعدو عن كونه فكرة جاءت لهدم فكرة الأمة من أساسها، وانه يمكن الاستناد إلى ما ذهبنا اليه من خلال ما جاء في صريح النصوص القرآنية والسنة الشريفة بهذا الشأن اضافة الى شهادات غير المسلمين من المستشرقين وعلماء الغرب، وكذلك الى التطبيق العملي لمباديء الدولة الإسلامية كل ذلك يؤكد عناية الإسلام بشؤون السياسة والحكم وان قل هذا التطبيق الصحيح لمبادئ الاسلام على مدار التاريخ، بل لقد أساء بعض الحكام المسلمين التعلاقة الدين بالسياسة طبيق العملي لهذه المبادئ.
الهوامش
(1) هنالك العديد من الدراسات ذهبت الى التنكر للعلاقة بين الدين والسياسة ومنها، ينظر: المستشرقون والاسلام محمد قطب، مكتبة وهبة، القاهرة، ط ٢ ١٤٢٠ هـ، ١٩٩٩ م. الاسلام وأوربا: تعايش أم مجابهة، انجي كارلسون، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، ٢٠٠٣ م. أوهام العلمانية حول الرسالة والمنهج، توفيق يوسف الواعي، دار الوفاء، القاهرة، ١٩٩٢ م. القدس مدينة واحدة وعقائد ثلاث، كارلين ارمسترونج، ترجمة: فاطمة نصر ومحمد عناني، دار الكتب المصرية، القاهرة، ١٩٩٨م. الاسلام والغرب، روم لاندور، ترجمة: منير البعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت ١٩٦٢ م. بلاد العرب، ديفيد جورج هوجارت، ترجمة: صبري محمد حسن، دار الاهرام- القاهرة. الاسلام والغزو الفكري، محمد عبد المنعم خفاجي، عبد العزيز شرف، دار الاجيال، بيروت، ط 1، ١٤١١ هـ – ١٩٩١ م. صورة الاسلام في الاعلام الغربي، محمد بشارى، دار الفكر، ٢٠٠٤ م. حضارة الاسلام، جوستان لوبون، ترجمة: عبد العزيز جاويش وعبد الحميد العبادي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة- ١٩٩٤ م والتبشير العالمي ضد الاسلام، عبد العظيم المطعني، مكتبة النور – القاهرة، ١٩٩٢ م وغيرها.
(2) ينظر: فاضل الصفار، الحرية السياسية، دار العلوم: ط ۲، ۲۰۰۸م، ص ۲۱. 2)
(3) تدور حول القول بان الخلافة دخيلة على الاسلام، وهي مصدر قهر واستبداد، وقد كانت نكبة على الاسلام والمسلمين عبر تاريخها، وان الاسلام دين خالص وعلاقة بين العبد وربه، ولا صلة له بشؤون السياسة وأمور الدولة.
(4) الشورى : ٣٨.
(5)النساء:59.
(6) ينظر : فاضل الصفار ، الحرية السياسية، ۲۳.
(7) المصدر نفسه، ص۲۳
(8) ينظر: د. مراد هوفمان، الاسلام کبدیل، مؤسسة بافاريا، الترجمة العربية. مجلة النور الكويتية، ط1، ۱۹۹۳م، ص 143
المصدر: كتاب (الفقه السياسي عند الإمام علي عليه السلام) للدكتور ناصر هادي الحلو