ذكرتم في القسم الاول من هذا الحوار أن عقد التأمين ان لم يكن مشتملا على الربا والقمار والغرر والتعليق فهو عقد صحيح ولا يحتاج الى الامضاء فهل هذا صحيح؟
نعم الامر كذلك بالنسبة الى عقد التأمين فمن وجهة نظري ان تحققت هذه الامور الثلاثة او الاربعة فالقضية محلولة.
أولا لا يوجد في عقد التأمين ربا. وذلك لانه زعم بعضهم وجود الربا في عقد التأمين، ويقول مثلا في عقد التأمين للعمر انت تعطي امولا ثم تأخذ اضعافها اذن فهذا ربا لأن الربا يعني الزيادة، أو مثل عقد التأمين التقاعدي فان هذا الانسان بعد تقاعده يبقى فترة طويلة يقبض أموالا وهي أكثر من الاموال التي اعطاها وهذا يعني ومن هنا يتحقق الربا.
وينبغي أن يقال في مقام الجواب أن الربا بمعنى الزيادة، الا أنه ليس كل زيادة ربا،
اولاً: الربا اما أن يكون ربا معاملي او ربا قرضي، ومن المسلم انه لا يوجد ربا في عقد التأمين، حتى لو جعلنا المعدودات في دائرة الربا. وبالطبع ان نظرنا وراي المشهور كذلك هو ان الربا ينحصر في المكيل والموزون الا انه من الممكن ان يأتي شخص ويدخل المعدودات ايضا في الربا ويقول ان النقود من المعدودات اذا فعقد التأمين ربا.
الا ان هذا الكلام يرد فيما اذا كان نفس النقود هي المعوض، من قبيل البيض الذي يقع معوضا، الا ان في باب عقد التأمين فلا تقع النقود هي المعوض في العقد، بل ان حصلت خسارة مالية الا انه في باب عقد التأمين فان النقود ليس معوضا بل المعوض هي جبران الخسارة الحادثة واذا لم تحصل خسارة مالية فبها ونعمت واما في عقد تأمين العمر فان الشخص يعطي العوض كي يتم اعطاؤه اخر عمره وبناء على هذا فليس هناك معاملة بين معطي التأمين وطالبه كي يقال ان النقود اصبحت هي العوض وهي المعوض.
وعليه فلا يوجد في عقد التأمين معاملة ربوية، من قبيل الهبة المعوضة او الهبة المشروطة، فان الواهب يهب بشرط ان تتحقق المعاملة، وفي عقد التأمين كذلك فان طالب التأمين يدفع هذه الاموال بشرط ان ان يكون يدفع معطي التأمين فلان مبلغ من المال اخر عمره.
وعليه فلا يصدق على عقد التأمين المعاملة عرفاً كي يقال بجريان الربا المعاملي فيها، بل هي مجرد عقد ليس فيه عنوان المعاملة والتجارة مثل الهبة المشروطة.
الا ان العرف لا يقبل كلامكم، لانه لا يرى تأمين الحياة والاستثمار نوعاً من المعاملة والتجارة بل حتى يعدها رسمياً من اقسام التأمين التجاري؟
كلاً، إن التأمين التجاري غير أن يكون نفس التأمين تجاري، نعم ان التأمين التجاري احد اقسام التأمين الا أنّ صدق عنوان المعاملة عليه محل ترديد الا ان عمدة الجواب هو ان يقال انه من وجهة نظرنا عدم جريان الربا في باب المعدودات.
واذا كان هناك قول نادر بجريان الربا في باب المعدودات فان صدق المعاملة في ما نحن فيه مشكوك، نعم العقد الذي يشمل على دفع مقدار من المال وانت تدفع لي في اخر عمري هذا المبلغ، ولكن لم نحقق معاملة في المقام،
وبعبارة اخرى يجب ملاحظة الربح في المعاملة ومع هذا الفرض يمكن تصور الربح والخسارة لدى الطرفين، وهذا غير متوفر في عقد التأمين لان عند عقد تأمين الحياة غالبا ما يكون الرابح هو الموجب للتأمين لا القابل وهكذا امر لا يمكن ان نجعله مصداق للتجارة والمعاملة.
هل ان عقد التأمين خال من الربا القرضي؟ لا سيما في عقد تأمين الحياة؟ فاحد الطرفين يقول اعطيك هذا المقدار من النقود ومن الممكن ان يستمر سنة واحدة أو 5 سنوات، لكن في مقابل ذلك يجب ان يدفع 20 سنة أو 30 سنة، اي أن شركة التأمين يجب ان تدفع نقودا اكثر، لا سيما اذا فسرنا القرض هو التمليك في مقابل الضمان، فانه في عقد التأمين هذا ايضا يوجد تملك في مقابل الضمان فان المؤمن عليه يملك مبالغ من النقود وفي مقابل ذلك شركة التأمين تتعهد بدفع المال، وعليه فهذا ربا قرضي! ومن وجهة نظري على هذا الاساس فان كثير من علماء اهل السنة اعتبروا أن عقد التأمين من الربا القرضي فهو غير مشروع.
الجواب على هذا السؤال واضح للغاية، ومن العجيب أن يكون السنة قد وقعوا بمثل هذا الوهم! ففي باب القرض أن النقود التي يقرضها المقرض في مقابله تشتغل ذمة المقترض بمقدار تلك النقود على سبيل المثال، يقرض الألف دينار، وفي مقابل ذلك تشتغل ذمة المقترض بألف دينار بدفع المبلغ بعد سنة، اذن فالضمان يتعلق بمقدار المال الذي يقرضه المقرض.
واما في عقد التأمين فليس الامر كذلك، فإن المؤمن عليه حينما يعطي المال لا يجعل الطرف الاخر ضامنا لها، إنما يقول مثلا: يجب ان تعطيني مقابل هذا المال مقدار من المال في بقية حياتي لانه انت ضامن لما ادفعه لك من الاقساط.
أو في التأمين ضد الحريق، فان الامر فيه اكثر وضوحاً، لأن الشخص يقول لشركة التأمين إنني سأدفع لك هذا المقدار من المال فاذا احترق بيتي، فإنكي تتعهدي بدفع الخسارة. اذن فالضمان معلق على حصول الخسارة ، لذلك لا يوجد في عقد تأمين ضمان للنقود التي دفعها الشخص .
مع انه في باب القرض تكون ذمة المقترض مشغولة بنفس النقود التي يدفعها المقرض، وعليه فاذا اعتبرنا النقود من باب المثلي فيجب ان يدفع مثلها وان اعتبرناها قيمي فيجب ان يدفع قيمتها، لكن من وجهة نظرنا فان النقود لا هي قيمة ولا مثلية وهذه النقطة دقيقة جدا والعجيب انهم لماذا غفلوا عنها والحقيقة انها ترجع الى ما ذكرناه في بداية البحث فانه وان كان تعريف القرض صادقا على عقد التامين الا ان العقلاء لا يرون ان عقد التأمين قرض.
على سبيل المثال، انظر إلى حليب الحيوان عندما يكون هناك مجهر، فقد نرى فيه جزيئات من الدم، والجزيئات التي يصدق عليها تعريف الدم، لكن العقلاء بالرغم من ذلك يقولون إن هذا ليس دمًا وهذا المقدار يكفي، وكذلك الشريعة تعول على هذا الامر. هنا أيضًا، فان العقلاء لا يرون عقد التأمين من مصاديق القرض، لان تمليك النقود ليس في قبال ضمان نفس تلك النقود.
كيف تجيبون على غررية عقد التأمين؟
يوجد لدينا في باب القرر روايتان: الأولى (نهى النبي عن بيع الغرر) والثانية: ( نهي النبي عن الغرر) والمشهور هي الاولى اي نهى النبي عن بيع الغرر، فان قلنا ان بيع الغرر باطل فانه يأتي هذا السؤال فهل ان كل معاملة غررية باطلة؟
والتحقيق هو اننا نقول نعم ان هذا التعميم صحيح فان كل معاملة باطلة، الا انه ما معنى الغرر؟ فهل معناه الخطر ولازمه الجهالة او معناه نفس الجهالة؟ فان كانت هي الجهالة فالجهالة باوصاف المبيع او بنفس المبيع او بتسليم المبيع؟ وهذه الابحاث ندرسها في مكانها.
ولكن بشكل عام لا ينبغي أن تكون المعاملة غررية، ومن الممكن ان يقول احد يوجد غرر في عقد التأمين مثلا فان العمر غير معلوم لانه لا ندري متى يموت الشخص الذي يريد التأمين؟!
أو في عقد تأمن الحريق فلا يعلم كم الخسارة؟ وليس فحسب يوجد جهالة في طرف المعوض بل حتى في طرف العوض يوجد جهالة لانه لا يعلم ان الشخص الى متى يجب ان يدفع النقود؟ فمن الممكن انه بد شهر واحد يحصل حريق في بيته لا سامح الله.
اذن في جميع عقود التأمين توجد جهالة غالباً، وهذا يعني انه يوجد من بين جميع اقسام عقود التأمين التي يوميا تضاف عقود تأمين جديدة لا يمكن فك الجهالة عنها، ان الفقهاء في باب الصلح لديهم كلام وفي وجهة نظري ان نظير هذا الكلام الذي يجري باب عقد التأمين حيث انهم يقولون في باب الصلح ان الجهالة لا تضر في الصلح فنسأل لماذا؟
فانهم يجيبون بان الصلح فيه جهة مهمة وهي ان يتم الوئام بين شخصين فانه يقول أحدهما اصالحك على ما عندي في البيت على ان تعطيني ما عندك في البيت لذا فالغرض الاصلي هو التصالح ولاجل هذا الغرض يتم التغاضي عن الجهالة اما في البيع فان الغرض الاصلي هو الربح والتجارة لذا يقول الشارع ان اقل جهالة يكون البيع باطلاً والاجارة ايضا كذلك الا انه في الصلح يقول ان الغرر والجهالة لا اشكال فيها.
لهذا الغرض نحن نقول انه في باب التأمين يوجد غرض اصلي وهو ان شخصا يريد ان يكون خاطره مرتاحا بحيث انه اذا دهاه امرا كما لو احترق بيتها لا يبقى صفر اليدين، وعقد التأمين هو الذي يجعل خاطره مرتاحا، وبما انه لديه غرض مهم، لذا فالجهالة لا تضر بذلك وهذا يعني ما ذكرناه سابقا من ان عقد التأمين ليس معاملة لان المعاملة تشتمل على الربح والخسارة لكن عقد التأمين ليس هو معاملة فيها ربح وخسارة بل فيه غرض اساسي لاجل الحفاظ على ذلك الغرض الاساسي حتى لو كان فيها جهالة او غرر فلا يمنع من ذلك.
بعبارة اخرى ان مسألة الغرر أمر عقلائي لذا يجب ان نرى العقلاء اين يقبلون بالغرر؟ ومن وجهة نظر العقلاء كما انهم يقبلون بالغرر في الصلح كذلك يقبلون به في عقد التأمين لان عقد التأمين يشتمل على غرض اساسي فلاجل الحصول على الغرض الاساسي نتفادى مسألة الغرر، لذا نحن لا ننفي موضوعا َوجود الغرر في عقد التأمين ومن المسلم وجود الغرر في عقد التأمين واقسامه الا ان هذا الغرر لا يضر بصحة العقد.
قلتم انه في الموارد التي يكون العقلاء قد جوزوا ذلك فان الغرر لا يضر بصحة العقد، وهذا الكلام انما يصح فيما اذا كان النهي عن الغرر امرا عقلائيا لا تعبديا مع ان النهي هنا تعبدي؟
ان مجرد وجود كلمة النبي (ص) في الرواية نهى النبي عن الغرر لا يلازم ان يكون النهي تعبدياً، وبقطع النظر عن الشريعة اذا كان في المعاملة جهالة بمقدار انملة فان العقلاء لا يقدمون فان العقلاء ما لم يعلموا ان هذا العقار 98 مترا او 100 مترا فانهم لا يقدمون على الشراء، وهم يجتنبون هذه المعاملة للجهالة فيها، وقد صحح الشارع هذا الامر.
وبناء على اي واحد من المبنيين فان النهي عن الغرر تعبدي وتأسيسي، وحتى لو قلنا انه امضائي فان الغرر مغتفر في عقد التأمين ولا اشكال فيه، لانه حتى لو كان الغرر تأسيسيا بكنهه بالتالي فيه ملاك ونفس ذلك الشارع الذي نهى في جميع المعاملات عن الغرر يقول لا اشكال في الغرر في عقد الصلح، وذلك لوجود الغرض المهم وهو التصالح، ونفس هذا البيان نقوله في باب عقد التأمين، لان الملاك واحد، واما اذا كان النهي عن الرر عقلائيا فالعقلاء في باب عقد التأمين يقدمون ولو كان الغرر موجودا.
احتمل البعض ان عقد التأمين ملحق بالقمار، لا سيما في مثل عقد تأمين الموت أو الحريق أو السرقة وأمثال ذلك حيث أن المعوض معلق على أحد الوجوه، وفي الوجه المحتمل الآخر لا يرجع ولو ديناراً واحداً إلى المؤمن فما هو وجهة نظر سماحتكم في هذه الشبهة.
كما ذكرنا سابقا يجب أن يرى العرف ان العمل والفعل يكون مصداقا من لاحد العناوين، ومن الواضج ان العرف والعقلاء لا يرون عقد التأمين من مصاديق القمار، وذلك لان احد مقومات القمار، غلبة احد الطرفين على الاخر وهذا المعنى لا يوجد في عقد التأمين، ويمكن ان يقال انه بالاضافة الى الاختلاف الماهوي هو الاختلاف في المقصود والغرض الذي يشتمل عليه عقد التأمين عن القمار.
السؤال الاخر حول التعليق لاسيما وان سماحتكم ترون ان المعوض في عقد التأمين هو تدارك الخسارة لا نفس التعهد او اطمئنان الخاطر، والتدارك معلق على وقع الحادثة المحتملة افليس يرد هذا الاشكال؟
ان الدليل على بطلان التعليق ليس الا الاجماع، والاجماع دليل لبي، لذا يجب ان يقتصر فيه على القدر المتيقن وهي العقود المتعارفة وعقد التأمين هو عقد جديد ولا يعلم انه مشمولا لدليل الاجماع، مضافا الى ذلك يمكن أن يقال أن التعليق المضر بالعقد إنما هو التعليق الذي يتحقق في اصل الانشاء، مع أن عقد التأمين غير معلق على اصل الانشاء، بل إن التحقق الخارجي للمعوض معلق على حصول الخسارة أو أمر آخر وهذا التعليق، غير التعليق المجمع على بطلانه.
نشكركم على اتاحتكم لنا هذه الفرصة.
المصدر: موقع مكتب آية الله الفاضل اللنكراني على النت
عقد التأمين بين الرفض والقبول (1).. حوار مع الأستاذ فاضل اللنكراني