الاجتهاد: يقول المؤلف السيد سامي البدري في تمهيد كتابه (الإمام الحسن عليه السلام في مواجهة الانشقاق الأموي): وجدت من الناحية التاريخية ثلاثة اطروحات عرَّفت بالحسن(عليه السلام) ودوافع صلح الإمام الحسن ونتائجه وهي: اطروحة الاعلام الاموي: أنَّ تنازل الحسن (عليه السلام) عن السلطة بخطة من معاوية، واطروحة الاعلام العباسي: أن الحسن (عليه السلام) تنازل عن السلطة رغبة في المال والحياة المترفة، و الحسن ( عليه السلام) في روايات اهل البيت( عليهم السلام) امام هدى عالج الانشاق وفتح الطريق لهداية أهل الشام ان ارادوا الهداية.
أطروحة الإعلام الأموي: أنَّ تنازل الحسن (عليه السلام) عن السلطة بخطة من معاوية:
لا نملك مصادر اموية تتحدث عن صلح الإمام الحسَن (عليه السلام)، وانما الذي بين ايدينا مصادر عباسية تنقل عن رواة مخضرمين عاشوا العهدين العباسي والأموي امثال معمر بن راشد اليماني (ت 154هـ) و یونس الايلي (ت160هـ) وعبيد الله بن أبي زياد الرصافي (ت158) وضمرة بن ربيعة القرشي الحمصي الفلسطيني (ت ۲۰۲هـ) الذين رووا عن الزهري قصة الصلح، وعوانة بن الحكم (ت158هـ) وعثمان الطرائفي (ت ۲۰۳هـ) ومحمد بن عبيد (ت۲۰۲هـ) وسفيان بن عيينة (ت ۱۹۸هـ) ، وقد نصت كتب الرجال في ترجمة عوانة بن الحكم انه كان يضع الأخبار لبني امية.
ومن المؤكد ان الزهري كان يضع الأخبار لبني أمية وولاتهم وقد طلب منه والي العراق خالد القسري أن یکتب السيرة ولا يذكر فيها عليا الا أن يجده في قعر الجحيم! وقد روي معمر روايات السيرة عن الزهري واوردها كاملة عبد الرزاق الصنعاني وقد جاءت خالية من ذكر علي (عليه السلام).
وفي ضوء ذلك فان قصة صلح الإمام الحسن (عليه السلام) بروايات هؤلاء عن الزهري وغيره تعكس الرؤية الأموية لا محالة. والبادي للصلح في روايتهم هو معاوية، وهي قضية صحيحة اساسا ، ولكن ما الذي طلبه معاوية من الحسن (عليه السلام)؟
هل طلب معاوية من الحسن (عليه السلام) أن يتنازل عن السلطة مقابل اموال يغدقها عليه؟ كما في رواية البخاري عن ابن عيينة (اعرضا عليه) أي المال. واعتمدها المؤرخون السلفيون الذهبي وابن كثير وغيرهما، والمحدثون، ابن حجر والعيني وغيرهما في شرحهما للبخاري وقد استنبطوا منها رافة معاوية بالمسلمين وقدرته في تدبير الملك!
ام طلب معاوية من الحسن (عليه السلام) أن توقف الحرب وان يكون الحسن (عليه السلام) حاكما في العراق والبلاد التي بايعته وان يكون معاوية حاكما في الشام والبلاد التي بايعته؟ وهو الصحيح.
فقد طلب معاوية ذلك من علي (عليه السلام) بعد التحكيم، ورفضه علي (عليه السلام)، لان معاوية باغ وحكم البغاة هو قتالهم ولايجوز الصلح معهم الا لمفاوضات املاً بان يرجع البغاة عن بغيهم، ثم كرر الطلب معاوية بعد على (عليه السلام) وقد انقسمت الأمة باختيارها فبايعت في الشام معاوية وبايعت في العراق الحسن (عليه السلام)، وفي ظل هذا الوضع الجديد لايمكن لمعاوية أن يعرض على الحسن (عليه السلام) غير ما عرضه على أبيه علي (عليه السلام) في حياته بان يبقى كل على بلده الذي بايعه واعتقد بأمامته، لأنه يعلم حق العلم ان علیا (عليه السلام) ومن بعده الحسن (عليه السلام) له مشروعه في احياء سنة النبي (عليه السلام) و التي عطلها الخلفاء، وقد تبناه اهل العراق كما تبنى اهل الشام معاوية في السير على نهج عثمان والشيخين .
وقد رفض الحسن طلب معاوية ذلك لأنه يؤدي إلى تكريس الانشقاق في الأمة و تکریس جهل أهل الشام بمشروع علي (عليه السلام)، وعرض عليه الحسن (عليه السلام) مشروعه الذي لم يخطر في باله، ولا بال أحد من رجالاته، عرض عليه توحيد الأمة وتوحيد حكومتها بنظام يحدده الحسن (عليه السلام) وهو الكتاب والسنة دون سيرة الشيخين وبشروط اضافية من قبيل امان شيعة علي (عليه السلام) في العراق ، وان يكون الأمر للحسن (عليه السلام) بعد معاوية وان لا يذكر عليا (عليه السلام) الا بخير وغير ذلك وان يكون الحاكم هو معاوية وبعد موته يكون الحسن (عليه السلام) وهكذا كان الأمر لعشر سنوات حيث عاشت الأمة افضل ايامها من الأمان والحرية في العبادة.
لقد غيب الاعلام الاموي الانجاز العظيم للحسن (عليه السلام) الذي بشر به النبي (عليه السلام)، أن ابني هذا سيد سيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين. وجعلوه صلحا، كان الداعي اليه معاوية الذي بذل الأموال لسد دین الحسن (عليه السلام) ومعالجة حالات كانت بحاجة الى المال !
ومن هنا كان الحسن (عليه السلام) مرضيا لدى المحدثين والسلفيين قاطبة لانه اثر حقن الدماء على الحرب مستجيبا لمعاوية الرؤوف بالمسلمين !
اطروحة الاعلام العباسي : أن الحسن (عليه السلام) تنازل عن السلطة رغبة في المال والحياة المترفة:
ثار الحسنيون على العباسيين (سنة 144هـ) بقيادة محمد بن عبد الله بن الحسن في المدينة ثم قتل وقام من بعده اخوه ابراهيم بن عبد الله بن الحسن في البصرة ثم قتل بسهم طائش في معركة بين البصرة والكوفة ووجد العباسيون انفسهم بحاجة إلى توجيه الاعلام وجهة تسقيطية للحسنيين من خلال ترویج ما اسسه الاعلام الأموي في الحسن (عليه السلام) مع تطوير و اضافات تقتضيها المرحلة و كانت هذه الاضافات هي تسقيط الكوفة بوصفها قلعة المؤيديين للحسنيين وللامام الصادق (عليه السلام) وقد وضع الخليفة الدوانیقي ابي جعفر الخطوط العريضة لهذا الاعلام فقال :
.. ثمَّ قام بعده الحسن بن علي (عليهما السلام)، فو الله ما كان برجل، عرضت عليه الأموال فقبلها، ودسَّ إليه معاوية إني أجعلك ولي عهدي ، فخلع نفسه وانسلخ له مما كان فيه. وسلَّمه إليه وأقبل على النساء يتزوج اليوم واحدة ويطلق غداً أخرى ، فلم يزل كذلك حتى مات على فراشه .
وفيما يخص الكوفيين قال :
(ثم قام من بعده الحسين بن علي (عليهما السلام) ، فخدعه أهل العراق وأهل الكوفة أهل الشقاق والنفاق والإغراق في الفتن ، أهل هذه المدرة السوء، /وأشار إلى الكوفة / فوالله ما هي لي بحرب فأحاربها ، ولا هي لي بسلم فأُسالمها ، فرَّق الله بيني وبينها فخذلوه وأبرزوا أنفسهم منه ، فأسلموه حتّى قتل.
ثمَّ قام من بعده زید بن علي (عليهما السلام)، فخدعه أهل الكوفة وغرّوه ، فلمّا أظهروه وأخرجوه أسلموه ، وقد كان أبي محمد بن علي ناشده الله في الخروج وقال له: لا تقبل أقاويل أهل الكوفة فإنا نجد في علمنا أن بعض أهل بيتنا يصلب بالكناسة ، وأخشى أن تكون ذلك المصلوب، وناشده الله بذلك عمّي داود وحذًّره (رحمه الله) غدر أهل الكوفة ، فلم يقبل ، وتمّ على خروجه ، فقتل وصلب بالكناسة) (1)
ولما قتل ابراهيم بن عبد الله بن الحسن امر المنصور ان يطاف برأسه بالكوفة سنة 145 هجرية وخطب قائلا: (يا أهل الكوفة عليكم لعنة الله وعلى بلد انتم فيه … سبئية (2)، خشبية(3) ، قائل يقول : جاءت الملائكة وقائل يقول جاء جبريل …
لَلَعَجَب لبني أمية وصبرهم عليكم ، كيف لم يقتُلوا مقاتلتكم ويسبوا ذراریكم ، ويخربوا منازلكم.
أما والله يا اهل المَدَرَة الخبيثة لئن بقيت لكم لأذلنكم). (4)
لقد انتج الاعلامان الاموي والعباسي كمية هائلة من الروايات الكذب في قضية الصلح لم تتسبب في ظلم الامام الحسن (عليه السلام) وظلم العراقيين حسب، بل تسببت في تشويه الرؤية الاسلامية الصحيحة في مسالة (لو بایعت الأمة لحاكمين)، و تغييب اخبار تجربة وعهد هو من اروع العهود الاسلامية بعد عهد النبي (ص) وعهد الامام علي (عليه السلام) امتاز بالامان التام والحوار الصادق والتعددية المذهبية المبنية على القناعة وظهور المرجعية الدينية المستقلة عن السلطة متفرغة الى عمل الخير و تعليم الناس، وانصراف الدولة إلى وظيفتها الأساسية من تحقيق الامان داخليا وخارجيا وتوزيع الحقوق على اهلها دون التدخل في الشؤون الدينية للأفراد العهد الذي تتوق اليه و تتطلع نحوه كل شعوب العالم بلا استثناء،
الحسن ( عليه السلام) في روايات اهل البيت( عليهم السلام) امام هدى عالج الانشاق وفتح الطريق لهداية أهل الشام ان ارادوا الهداية:
لابد من التمييز بين روایات اهل البيت والمصادر الشيعية التي الفت للاحتجاج باحادیث العامة عليهم فما ورد في كتاب الإرشاد للشيخ المفيد في قصة الصلح اساسه روایات ابي الفرج في كتابه مقاتل الطالبيين، وما فيه من اخبار مقتل الحسين (عليه السلام) اساسه روایات ابي مخنف في كتابه مقتل الحسين الذي رواه الطبري، فان هذه الروايات لا يغير من واقعها رواية الشيخ المفيد لها، فهي تبقی روایات عامية، والذي نريده بروایات اهل البيت (عليهم السلام) هو ورودها عنهم وفي مصادر امامية معتبرة، وفي هذا الصدد فاننا نجد صلح الإمام الحسن (عليه السلام) وشخصيته واهل الكوفة في رواياتهم بصورة أخرى تغایر ما عليه الاعلام الأموي والعباسي.
فالحسن (عليه السلام) احد الأئمة الهداة المعصومين الاثني عشر الذين عينهم النبي صلى الله عليه وآله سلم لهداية الامة من بعده في قصة المباهلة وحديث الكساء وغيرها، اما سيرته الشخصية فقد تحدث عنها حفيده الامام الصادق (عليه السلام) يصفه كان أعبد الناس في زمانه، وأزهدهم وأفضلهم، و كان إذا حج حج ماشيا، وربما مشي حافيا، و كان إذا ذكر الموت بکی، وإذا ذكر القبر بکی، وإذا ذكر البعث والنشور بکی ، وإذا ذكر الممر على الصراط بکی، وإذا ذكر العرض على الله تعالى ذكره شهق شهقة يغشى عليه منها .
وكان إذا قام في صلاته ترتعد فرائصه بين يدي ربه عز وجل، وكان إذا ذكر الجنة والنار اضطرب اضطراب السليم، ويسأل الله تعالى الجنة، ويعوذ به من النار.
اما دوافع الصلح عند الحسن(عليه السلام) فقد بينها بوضوح تام حين ساله ابو سعید وقد اوردنا الرواية في أول الكتاب مستقلة، حين قال علة مصالحتي لمعاوية علة مصالحة النبي لقريش، وبذلك وضع مقياسا دقيقا لدراسة الصلح ودوافعه واهدافه وانجازاته.
وقد ذكر الامام الباقر (عليه السلام) صلح الإمام الحسن (عليه السلام) فقال فيه: (والله للذي صنعه الحسن بن علي كان خيرا لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس والقمر).
ان هذه الصيغة من الكلام تشير الى ان : نتائج الصلح هي من سنخ الهداية التي يقول فيها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام): (وأيم الله لأن يهدي الله على يديك رجلا خير لك ما طلعت عليه الشمس وغربت ولك ولاؤه يا علي)(5)
لقد حفظ الحسن (عليه السلام) بصلحه وحدة القبلة ووحدة الكتاب إلى يوم القيامة ، ثم اوصل احادیث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في امامة علي (عليه السلام) واهل بيته (عليهم السلام) الالهية ، واخبار سيرة علي (عليه السلام) المشرقة مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعده وفي الكوفة ايام حكمه، وفتح باب الاهتداء بعلي (عليه السلام) لمن اراد من أهل الشام إلى يوم القيامة فاي خير اعظم من هذا الخير !
وقد انطلق البحث في هذا الكتاب من قول الامام الحسن علا نفسه وانتهى إلى الخير الذي انتجه الصلح واشارت اليه رواية الإمام الباقر (عليه السلام)
الهوامش:
(1) المسعودي، مروج الذهب ج3، ص:۳۰۱، وكانت بوادر التحسس من الكوفيين قبل ذلك روی البلاذري في انساب الاشراف ج۳ ص ۱50. قال: قال المدائني: (کتب ابو مسلم الى ابي العباس: أن اهل الكوفة قد شاركوا شيعة أمير المؤمنين في الاسم، وخالفوهم في الفعل، ورأيهم في آل علي (عليه السلام) الذي يعلمه أمير المؤمنين، يؤتي فسادهم من قبلهم باغوائهم اياهم وأطماعهم فيما ليس لهم، فالحظهم یا أمير المؤمنین بلحظة بوار، ولا تؤهلهم لجوارك، فليست دارهم لك بدار. وأشار عليه أيضا عبد الله بن علي بنحو من ذلك فابتني مدينة بالأنبار وتحول اليها وبها توفي).
(2) اي اتباع عبد الله بن سبأ الذي ادعي له أنه مبتدع الوصية لعلي (عليه السلام) المشابهة لوصية موسی ليوشع (عليه السلام)الذي يترتب عليها البراءة ممن تجاوز على موقعه.
(3) في النهاية لابن الأثير: الخشبية: هم أصحاب المختار بن أبي عبيد، ويقال لضرب من الشيعة: الخشبية. وفي المشتبه للذهبي: الخشبي: هو الرافضي في عرف السلف . أقول: وسياتي في ترجمة المختار الروايات التي وضعوها في حقه للغض من شخصيته .
(4) البلاذري ، انساب الاشراف ج۳ ص 269،
(5) الكليني، الكافي،ج5ص28، الطوسي، تهذيب الأحكامج6ص141.
من كتاب الإمام الحسن ع في مواجهة الانشقاق الأموي / دراسة تكشف لاول مرة اسرار جديدة عن صلح الإمام الحسن وتثبت انه كان فتحا مبينا لمشروع علي عليه السلام الاحيائي للسنة
تأليف: السيد سامي البدري
الناشر: دار الفقه للطباعة والنشر
الطبعة: الاولى 2012م
عدد الصفحات: 618
الحجم: 8.5 MB