شريف العلماء المازندراني

شريف العلماء المازندراني … قنديل حوزة كربلاء / محمد طاهر الصفار

الاجتهاد: هيَّأ الله للحوزة العلمية المباركة التي استمدت إشعاعها العلمي من علوم أهل البيت (ع) من يحفظ لها كيانها لتبقى عنواناً للدين ورمزاً للمذهب وروحه النابضة وذلك بجهود وتضحيات الرجال الأفذاذ والعلماء الأعلام من زعمائها على مدى تاريخها الطويل, ومن هؤلاء العلماء الأعلام والمجتهدين العظام العالم والمجتهد الكبير الشيخ شريف الدين محمد بن المولى حسن علي الآملي المازندراني الملقب بـ (شريف العلماء المازندراني), البحر الزاخر الذي يموج بالعلوم، والعلم الخفاق من أعلام مدرسة أهل البيت (ع).

يقول تلميذه السيد محمد شفيع بن السيد علي أكبر الموسوي الحسيني العلوي البروجردي، في كتابه (الروضة البهيَّة في الطرق الشفيعيَّة) في معرض حديثه عن أساتذته ومشايخه ثم يترجم لشريف العلماء المازندراني بالقول:

(فمنهم السالك في مسالك التحقيق، والعارج في مدارج التدقيق، مقنن القوانين الأصولية، مشيد المباني الفرعية، مفتاح العلوم الشرعية، مربي العلماء الإمامية، مدرِّس الطالبين جميعاً في جوار ثالث الأئمة، شيخنا، وأستاذنا ومربينا ووالدنا الروحاني والعالم الرباني، محمد شريف ابن ملّا حسن علي المازندراني.

ويتابع البروجردي القول: ولد شريف العلماء المازندراني في كربلاء المشرفة اشتغل أولاً على السيد الأستاذ السيد محمد المجاهد الطباطبائي, ثم على أستاذه أغا سيد علي والد السيد المجاهد، وفي تسع سنين في الأصول والفقه صار محسوداً بين الحاسدين ومستغنياً عن الاشتغال وقابلاً للإفتاء ومجتهداً بصيراً وجامعاً لجميع الشرائط المعتبرة …..)

تصدّرت كربلاء في عهد شريف العلماء الحركة العلمية في العالم الإسلامي وبلغت الذروة في تاريخها العلمي بفضل جهوده الكبيرة التي بذلها في سبيل إبقاء شعلة مدرسة أهل البيت (ع) العلمية والفقهية متوقدة ومضيئة في المجتمع حيث رفد الحوزات العلمية الشريفة بأبحاثه وتقاريره الفقهية والأصولية حتى أصبحت كربلاء منارة للعلم وقبلة للعلماء وطلاب العلم الذين توافدوا عليها للاستفادة من دروسه وأبحاثه.

يقول عنه الشيخ محمد حرز الدين في مراقد المعارف: (كان متكلماً فيلسوفاً بارعاً بالأصول، …. وأنه كان يحضر مجلس درسه ألف رجل أو يزيد بين عالم فاضل وكلهم من أهل التحقيق وجلهم صاروا مراجع تقليد ….)

انتهت لشريف العلماء زعامة الحوزة العلمية في وقته وأصبح علمها البارز وصرحها الشاخص وسبيلها اللاحب فعاشت بفضله كربلاء والحوزة مرحلة مشرقة حافلة بالمنجزات وأصبحتا نقطة مضيئة في تاريخهما العريق, ويدل قول السيد محسن الأمين في أعيان الشيعة على زعامته المتفردة حيث يقول في ترجمته:

(الشيخ محمد شريف بن حسن علي المازندراني الحائري المعروف بشريف العلماء, ولد في كربلاء وتوفي فيها سنة 1245هـ، ودفن قرب باب القبلة. شيخ العلماء ومربي الفقهاء مؤسس علم الأصول جامع المعقول والمنقول نادرة الدهر وأعجوبة الزمان … كان من أجلّة علماء عصره وشيوخ العلم….)

وتتجلى المكانة الجليلة والمنزلة العلمية العظيمة التي كان عليها شريف العلماء من خلال التراجم الكثيرة التي سلطت الضوء على حياته, خاصة وأن أكثر هذه التراجم هي من قبل تلاميذه ومعاصريه والذين عايشوا هذه الشخصية العلمية الكبيرة ورأوا علو مؤهلاتها وسمو معارفها والدور الكبير الذي برزت فيه في الأوساط العلمية.

يقول الأستاذ نور الدين الشاهرودي في كتابه تاريخ الحركة العلمية في كربلاء تحت عنوان حوزة كربلاء على عهد شريف العلماء:

(في عهد الرئاسة العامة لشيخ العلماء ومربي المجتهدين ومعلم الفقهاء الفحول المولى محمد شريف بن المولى حسن علي القبيسي المازندراني الحائري المعروف بشريف العلماء، أخذت الحوزة العلمية في كربلاء زخماً قوياً وطاقة إضافية نظراً لأن حلقات درسه وأبحاثه وتقريراته الفقهية والأصولية اجتذبت إلى مدينة كربلاء المئات بل الألوف من الفضلاء والطلاب والمبتدئين والمنتهين).

أسرته ونشأته

في أسرة علمية لها عراقتها في تاريخ الفقه والعلم ولد شريف العلماء المازندراني الذي حمل لواء أسرته العلمي وتتوج بلقبها الواغل في المعاجم العلمية والفقهية والأصولية, وقد سكنت هذه الأسرة ــ المازندراني ــ كربلاء في القرن الثالث عشر الهجري قادمة من موطنها الأصلي مدينة (مازندران) في إيران فعرفت بآل المازندراني التي أفرزت كبار العلماء والمجتهدين كان في طليعتهم الشيخ شريف العلماء.شريف العلماء المازندراني

درس المازندراني في بواكير حياته العلمية على يد العالم الكبير السيد علي الطباطبائي (صاحب الرياض) في الفقه والأصول كما درس على يد ولد السيد علي, السيد محمد المجاهد الطباطبائي وقد استمرت دراسته على يد هذين العلمين تسع سنين, ثم بدأ بعدها بالتدريس ونبغ في الأصول واتسعت أبحاثه ودروسه واشتهر في المدن والبلاد فوفد إلى كربلاء العلماء وطلاب العلم من النجف وإيران وغيرها حتى فاق عددهم على الألف ما بين طالب وعالم وكان من ضمنهم تلميذه المرجع الكبير والمجتهد الأعظم الشيخ مرتضى الأنصاري – قدس سره الشريف – الذي تزعم فيما بعد الحوزة العلمية.

ونظرا لتباين المكانة العلمية لطلابه فقد قسم دروسه إلى قسمين قسم للطلبة المبتدئين والقسم الآخر للعلماء المتقدمين فكان يقضي وقته وجهده على هذه الدروس ويحرص أشد الحرص على إنشاء جيل علمي بارز يقول الشاهرودي:

(قلّما وجد عالم وأستاذ بارع ومقتدر ومتمكن من قواعد علم الأصول مثله، وقد صرف عمره وأنهك جهده في تربية جيل من العلماء الأصوليين، ولهذا كان قليل التأليف، وإلى جانب ذلك كان أعجوبة في الحفظ والضبط، ودقة النظر وسرعة الانتقال في المناظرات والمباحثات الجدلية، لإلمامه التام بعلم الجدل، وكان يقوم بمهمة التدريس لساعات طويلة في اليوم .وكانت حلقات درسه تعقد بانتظام في المدرسة العلمية المعروفة باسم (مدرسة السردار حسن خان) وهي أكبر مدرسة علمية في كربلاء, قبل أن تمتد لها يد التخريب بمشروع إيجاد الشارع الدائري حول الحضرة الحسينية الشريفة).

تلامذته

كان من بين الآلاف من العلماء والطلاب الذين كانوا يحضرون دروسه من أصبح من كبار العلماء ومنهم من تزعم الحوزة العلمية ومن بين أبرز طلابه الذين صار لهم شأن كبير بعده الشيخ آغا بن عابد الشيرواني الحائري والمشهور بالفاضل الدربندي, والسيد إبراهيم بن محمد باقر القزويني الحائري, صاحب كتاب الضوابط, ومحمد سعيد البارفروشي, المعروف بـ سعيد العلماء والسيد محمد شفيع بن علي أكبر الجابلقي, والمولى محمد إسماعيل اليزدي الغروي الذي حل مكان أستاذه المازندراني بعد وفاته لحوالي سنة قبل وفاته, والشيخ مرتضى الأنصاري مجتهد الشيعة وزعيم الإمامية في وقته, وعبد الخالق بن عبد الرحيم اليزدي.

ويشير المولى حبيب الكاشاني في ترجمة المازندراني إلى التأثير الكبير للأستاذ على تلامذته فيقول: كان شريف العلماء أصولياً بحتاً مؤسساً لقواعد شريفة لم نسمع بمثلها، ويجلس في محضر درسه أزيد من ألف فاضل، من جملتهم الشيخ مرتضى الأنصاري، والسيد إبراهيم القزويني صاحب الضوابط، لأنه مقرراً له حتى قيل إن الضوابط من تقريراته ــ أي من تقريرات المازندراني ــ وسعيد العلماء البارفروشي والسيد سعيد البروجردي.

أثره العلمي وآثاره

كما يشير الشيخ العلامة المحقق أغا بزرك الطهراني في كتابه (الكرام البررة) إلى مكانته الكبيرة في الأوساط العلمية فيقول:

(هو الشيخ المولى محمد شريف بن المولى حسن علي الآملي المازندراني الحائري الشهير بشريف العلماء، من أعاظم العلماء في عصره، كان من رؤساء الدين وسلالة المذهب، وأبطال العلم وعمد الشريعة، ومن الحجج الإثبات وشيوخ الاجتهاد الأفاضل، تلمذ أولا في كربلاء على السيد محمد المجاهد، ثم حضر على والده السيد علي صاحب (الرياض) تسع سنين،

وعاد إلى إيران فزار مشهد الرضا (ع)، وعاد إلى العراق في أواخر أيام صاحب (الرياض)، فأشاد أستاذه بذكره واتجهت أنظار الطلاب والمشتغلين إليه، وتقاطروا عليه من كل حدب وصوب، وتهاتفوا عليه مثل تهافت الفراش على النور، فاشتغل بالتدريس والتربية، واتجه إلى المشتغلين بكله, ورأف بهم كما يرأف الوالد البار بأولاده،

وكان شديد العناية بهم كثير الاهتمام لهم، حرص على تفهيمهم بأساليب راقية، حتى تخرج من منبر درسه عشرات المجتهدين بل المئات، وكان يرفع طلابه إلى أوج الاجتهاد بمدة قصيرة لغزارة علمه وحسن تفهيمه، والمشهور أنه كان لا يفتر عن التدريس والمذاكرة ليلاً ونهاراً، حتى في شهر رمضان الذي جرت العادة على التعطيل فيه، ولذلك قل نتاجه العلمي، ولم يكن له في عالم التأليف ما يتناسب وعظيم مكانته، كما أنه لم يخرج ما كتبه إلى البياض).

ويصف السيد محسن الأمين تلك الفترة العلمية المضيئة في تاريخ كربلاء بالقول: وكان الحائر الشريف (كربلاء) يومئذ محط رحل أهل العلم، فيه ألف فاضل من علماء إيران، وكانوا يحضرون درس شريف العلماء)

ورغم أنه اهتم كثيراً بالتدريس إلى الحد الذي أهمل فيه جانب التأليف إلا أن المصادر تذكر له بعض الآثار, فقد ذكر له الشيخ أغا بزرك الطهراني في الذريعة إلى تصانيف الشيعة رسالة اسمها: جواز أمر الآمر مع العلم بانتقاء الشرط, وقال عنها: رسالة مبسوطة لشريف العلماء المولى محمد شريف بن المولى حسين علي الآملي المازندراني الحائري … توجد نسخته عند شيخ الإسلام الزنجاني في زنجان.

وتوجد للمازندراني بعض الكتب الخطية في مكتبات متفرقة منها بيع المعاملات والصرف والخيارات, والرسائل الكثيرة, ورسالة في مقدمة الواجب, كما توجد للمازندراني نسخ خطية في المكتبة الرضوية منها كتاب التقریرات, الذي كتب في حياة شريف العلماء بيد مهدی تونی الخراسانی عام 1204هـ ورسالة في الفقه, والذي يعود إلى سنة 1235هـ, ورسالة في مقدمة الواجب الذي کُتب سنة 1260 هـ, ورسالة في النسخ كتب سنة 1241 هـ في كربلاء المقدسة وشرح الصمدیة للشیخ البهائي الذي کتبه سنة 1341هـ.

توفي الشيخ شريف العلماء المازندراني سنة 1245 هـ ، ودفن بداره في كربلاء فاتجهت أنظار العلماء صوب النجف الأشرف لتحيط بدروس الشيخين علي وموسى ابني الشيخ جعفر كاشف الغطاء ودروس الشيخ مرتضى الأنصاري وانتقلت بوفاة المازندراني الحوزة العلمية من كربلاء إلى النجف

محمد طاهر الصفار

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky