الاجتهاد: وجه المفكر علي المدن البصري، رسالة مفتوحة جريئة إلى المرجع الديني الأعلى السيد علي السيستاني، محذراً فيها من التداعيات “الكارثية” لتعديل قانون الأحوال الشخصية رقم (1) لسنة 2025 وما نتج عنه من “مدونة الأحوال الشخصية وفقاً للمذهب الجعفري”، التي أقرها البرلمان مؤخراً.
واعتبر المدن، في رسالته المؤرخة في 18 أيلول/سبتمبر 2025، أن هذا المشروع القانوني (التعديل والمدونة) يلحق “ضرراً بالغاً بالمصالح الوطنية العليا” ويتضمن “مخالفات دستورية متعددة”، مشيراً إلى أن تمريره تم بـ”عجالة” ودعم من رئاسة الجمهورية والسلطة القضائية، رغم الانتقادات الواسعة من الباحثين والمختصين.
ويشدد المدن في رسالته على أخطر ما يثير القلق، وهو “زج اسم المرجعية العليا” تحت عنوان “المرجع الديني الأعلى” ضمن المدونة، مؤكداً أن هذا الاستغلال يتم “لإسكات الأصوات المعارضة” بالضغط على العراقيين الذين يكنون الاحترام العميق لهذا العنوان.
وقال المدن إن هذا الفعل قد وضع المرجعية “في قلب جدل دستوري وسياسي وقانوني داخلي ودولي كبير”، مناشداً المرجع السيستاني، بصفته رمزاً جامعاً ومؤتمناً على العدالة، أن يتجاوز دوره الروحاني التقليدي إلى “واجب قانوني وسياسي يتمثل في حفظ سيادة هذا البلد وصيانة استقلال مؤسساته الوطنية ورعاية وحدة أبنائه”.
ثماني “نقاط إشكالية” تهدد الدولة المدنية
لخص المدن البصري اعتراضه على القانون في ثماني نقاط جوهرية تُوضح “الجوانب الإشكالية” للمشروع، أبرزها:
تأجيج الانقسام الهوياتي: تحويل الحق في التزام العراقيين بأحوالهم الشخصية وفق مذاهبهم إلى “فصل قانوني وهوياتي” في “مدونات” شخصية مستقلة، ما يزيد من انقسام الشعب الواحد.
تقييد حرية المواطن: إلزام من يختار المدونة بتبعاتها “إلى الأبد دون حق له بالتراجع أو التغيير”.
انتهاك حقوق المرأة: منح الرجل حق اختيار المدونة، وفرضها على المرأة “دون رضاها وخارج الاتفاق السابق” للزواج.
تأسيس سلطة قضائية موازية: إنشاء “مجلس علمي” مُعين من قبل رئيس ديوان الوقف الشيعي تكون قراراته مرجعية للقضاء الذي يفترض أن يكون مستقلاً.
تجاوز صلاحيات البرلمان: تحوّل هذا المجلس غير المنتخب إلى “سلطة تشريعية فيما لا نص فيه”.
تجاهل السيادة القضائية: إفساح المجال لجهة خاصة غير عراقية الجنسية (تحت عنوان “المرجع”) لتكون قراراتها “ملزمة للقضاء العراقي وتمارس صلاحياته”.
تحويل القضاة إلى موظفين: إلزام القضاة العراقيين بالعودة إلى هذه الجهة في موارد عديدة (كالتطليق والخلع والإرث)، مما يحولهم إلى “مجرد موظفين تنفيذيين”.
المرجعية شريك في المسؤولية؟
ختم المدن رسالته بالتحذير من أن هذا المشروع يؤسس لفكرة أن المرجعية “شريك أساسي” في مشروع المدونة، وأنها “أعلى سلطة من القضاء الوطني”. وحذر من تبعات ذلك على مفهوم “الدولة المدنية” التي كان السيد السيستاني من الداعين لها، وكذلك على “تقاسم مسؤولية الآثار الناجمة عن تطبيق هذه المدونة” اجتماعياً داخلياً ودولياً.
وفيما يلي نص الرسالة:
رسالة إلى المرجع السيستاني (طال بقاؤه)
سماحة المرجع الديني الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني (دام ظلكم الوارف)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
لقد كان تعديل قانون الأحوال الشخصية رقم (١) لسنة (٢٠٢٥م)، وما نتج عنه من “مدونة الأحوال الشخصية وفقا للمذهب الجعفري” التي صوّت عليها البرلمان بنحو عجول بتاريخ (٢٧ / ٨ / ٢٠٢٥م)، موضع نقد واسع من قبل جمهور كبير من الكُتّاب والباحثين والمختصين، وقد اتفقت آراؤهم جميعًا على أنّ هذا المشروع (تعديل القانون + المدونة) يلحق ضررًا بالغًا بالمصالح الوطنية العليا، فضلًا عن اشتماله على مخالفات دستورية متعدّدة. ومع ذلك، مضى أصحاب المشروع في تمريره بلا تردّد، بل وحظي بدعم رئاسة الجمهورية، التي كان يُنتظر منها الإصغاء إلى أصوات المعترضين، ثم جاء دعم القضاء ليزيد الأمر تعقيدًا.
لقد اعتاد العراقيون، مع الأسف، أن تُدار قضاياهم المصيرية من قبل بعض الفاعلين السياسيين والدينيين بقرارات متسرّعة وصلبة وأحادية، دون تريّث أو مراجعة أو اعتبار لدروس الماضي. وكانت نتيجة هذه السياسة الارتجالية الجسورة أثمانًا باهظة دفعها البلد في محطات تاريخية سابقة، ومع ذلك لا يبدو أنّ صانعي القرار اليوم قد وعوا الدرس، أو تحلّوا بالصبر والحكمة اللازمة.
وما يزيد الأمر خطورة أنّ المشروع الأخير قد زجّ اسم المرجعية العليا تحت عنوان “المرجع الديني الأعلى” في هذه المدونة، متخذا من هذا العنوان وسيلة ضغط لإسكات الأصوات المعارضة، وذلك استنادًا إلى ما يعرفه الجميع من تقدير العراقيين واحترامهم لهذا العنوان الكبير. قد يكون البعض فعل ذلك بدافع التزلف والنفعية، فيما فعله بعض آخر عن حسن نية وعدم استيعاب لحجم التداعيات. غير أنّ النتيجة واحدة: استغلال اسم المرجعية بما يضعها في قلب جدل دستوري وسياسي وقانوني داخلي ودولي كبير.
سماحة السيد الكريم؛
إنّ المرجعية، كما تؤكدون دائما بحق، ليست اسمًا لشخص بقدر ما هي عنوان رمزي جامع، أكبر من الأفراد والأسماء، يتمتع بتبجيل عميق في قلوب المؤمنين. وهي لأجل ذلك، وبسببه، مؤتمنة على قيم العدالة والإنصاف. وبخصوص العراق، حيث الحاضنة التاريخية الأعظم لهذه المرجعية، فإن المرجعية أمام واجب إضافي يتجاوز دورها الروحاني التقليدي، وهو واجب قانوني وسياسي، يتمثل في حفظ سيادة هذا البلد وصيانة استقلال مؤسساته الوطنية ورعاية وحدة أبنائه سياسيا واجتماعيا.
في ضوء ما تقدم، فإن من الجدير بالاعتبار التنويه على بعض النقاط المهمة المتعلقة بهذا المشروع (التعديل + المدونة)، والتي توضح بعض الجوانب الإشكالية فيه:
أولاً: أنه فسّر حق العراقيين بالتزامهم في أحوالهم الشخصية بمذاهبهم وأديانهم، والذي كان من الممكن أن يحصل في مدونة قانونية واحدة، إلى “فصل قانوني وهوياتي” في “مدونات” شخصية مستقلة تزيد من انقسام الشعب الواحد.
ثانياً: أنه قيّد حرية العراقيين في أحوالهم الشخصية، إذ من يختار “المدونة” يُلزَم بها إلى الأبد دون حق له بالتراجع أو التغيير.
ثالثاً: أنه منح الرجل حق استحداث التزام جديد، يتمثل في اختيار هذه المدونة أو تلك، يفرضه على المرأة (الزوجة) دون رضاها وخارج الاتفاق السابق الذي تعاقدا عليه عند الزواج.
رابعاً: أنه أسس “مجلسا علميا”، هو عبارة عن لجنة يختارها رئيس ديوان الوقف الشيعي، لا تكون قراراتها نافذة إلا بموافقته، ومع ذلك جعُل مرجعية للقضاء الذي يفترض أن يكون مستقلًّا.
خامساً: أن المجلس المذكور، وهو جهة غير منتخبة، تحول إلى سلطة تشريعية فيما لا نص فيه تتجاوز البرلمان.
سادساً: أن هذا المشروع أقر مبدأ “ضامن الجريرة” بنحو يلغي مبدأ المسؤولية الشخصية المنصوص عليه في الدستور، ويفرض تغييرات كبيرة في قانون العقوبات.
سابعاً: أنه أفسح المجال لجهة خاصة – تحت عنوان “المرجع” – لم يشترط فيها “الجنسية العراقية” لتكون قراراتها ملزمة للقضاء العراقي، بل وتمارس صلاحياته، وفي ذلك ما يتناقض مع السيادة القضائية الوطنية.
ثامناً: أنه ألزم القضاة العراقيين في موارد عديدة (في التطليق والتفريق والخلع والفقد والوصية والولاية والإرث) بالعودة إلى الجهة ذاتها، مدعيا (أي هذا المجلس) أنه الناهض بالتواصل بين الاثنين (القضاء والمرجع)، محولا القضاة بذلك إلى مجرد موظفين تنفيذيين.
سماحة السيد المبجّل
إنّ خطورة هذا المشروع لا تقتصر على النقاط السابقة فقط، بل وتشمل أيضا، أنّه يؤسس لفكرة أن المرجعية شريك أساسي في مشروع “المدونة”، بل وأنها أعلى سلطة من القضاء الوطني، وهو أمر له تباعات كبيرة، سواء فيما يبقى من معنى “الدولة المدنية” التي كان سماحتكم – ومن خلال خطب صلاة الجمعة – أحد الداعين لها في السنوات الماضية، أو في “تقاسم مسؤولية الآثار الناجمة عن تطبيق هذه المدونة في المجال الاجتماعي”، وعلى الصعيدين الداخلي والدولي.
إنّ كلمة المرجعية في هذا الظرف الحساس لا تتعلق بمذهب أو طائفة، بل تتعلق بمستقبل العراق وأمنه الاجتماعي والدستوري، دولة وشعبا. وكما عهدناكم دائمًا صوتًا للحكمة والتروي، يحفظ الوحدة والسيادة الوطنية، ويرسخ من الحياة الدستورية والقانونية في دولة مدنية، فإنّ الناس بانتظار موقفكم الصريح الذي يضع حدًّا لهذا التوظيف لاسم المرجعية في غير موضعه، ويصون مكانتها من أن تتحوّل إلى أداة بيد الساسة أو الإدارات، تتحمل مسؤولية قراراتهم وما ينتج عنها من تداعيات.
هذا، وتقبلوا وافر الدعوات لكم بدوام الصحة والسلامة
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
علي المدن البصري
كتبه يوم الخميس (١٨) / أيلول / ٢٠٢٥ م
الموافق لـ (٢٦) / ربيع الأول / ١٤٤٧ هـ