دراسة نقدية لمنظومة الاقتصاد الإسلامي الإمام محمد باقر الصدر أنموذجا

دراسة نقدية لمنظومة الاقتصاد الإسلامي الإمام محمد باقر الصدر أنموذجا

ان علم الاقتصاد الاسلامي كما يراه الصدر لا يمكن ان يولد ولادة حقيقية الا اذا جسد هذا الاقتصاد في كيان المجتمع، بجذوره ومعالمه وتفاصيله، ودرست الاحداث والتجارب الاقتصادية التي يمر بها دراسة منظمة.

موقع الاجتهاد: مكننا القول أن كتابي (اقتصادنا) و(فلسفتنا) اللذين صدرا في أوائل الستينيات، ثم بعد ذلك كتاب (الاسس المنطقية للاستقراء) تمثل المراجع الرئيسة التي جمعت أفكار ومعارف الامام محمد باقر الصدر في مجالات الفلسفة والعقيدة والاقتصاد، وهي ايضا ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم تزداد اهميتها من حيث كونها المراجع الفكرية الهامة للطلاب والباحثين في مجالات الفكر الاسلامي.

لكن الكتاب (اقتصادنا) من بين جميع كتب (الصدر)(1) يعد علامة مميزة وذلك لاسباب عديدة اهمها:
اولا: انه جاء في ظروف سياسية وعقائدية وفكرية خاصة نتيجة الصراع الدائر في ذلك الحين بين المعسكر الرأسمالي والمعسكر الشرقي الماركسي في السيطرة على الواقع العربي والاسلامي، حيث طرحت مسألة قدرة الاسلام على مواجهة التساؤلات والمشاكل التي يمثلها مثلث السلطة والاقتصاد والنظام الاجتماعي… فكان صدور كتاب (اقتصادنا) ليكون الدراسة الموضوعية التي تتناول بالنقد والبحث المذاهب الاقتصادية للماركسية والرأسمالية والاسلام في أسسها الفكرية وفي جوانبها التفصيلية.. كما جاء كتاب اقتصادنا تلبية لحاجة المجتمع الذي فرض على (السيد الصدر) ان يغير في اولوياته في الكتابة.

ثانيا: انه محاولة جديدة وجادة في مجال الكتابة والبحوث الاسلامية (الحوزوية) من حيث المستوى والموضوع والمنهج، حيث يشكل المنهج جزءاً أساسياً في البنية المعرفية للكتاب وهو المقياس الاول في نجاحه، فالمنهج بما ينطوي عليه من ترسيم للهيكل النظري، وعرض للمادة، ورجوع الى النصوص الأصيلة, وطريقة الاحتجاج واصول المحاكمة كل ذلك جعل الكتاب محل اعجاب وتقدير من الخصوم قبل الاصدقاء.
ثالثا: شكل الكتاب محاولة تأسسية قصد منها تقديم صورة نظرية متكاملة للاقتصاد الاسلامي، حيث أن ما سبق هذه التجربة من محاولات اتسم قسم كبير منها بالمحدودية او اتى ناقصا يلبي حاجة محددة او محاولات تميزت بردود فعل عقائدية جادة تجاه الفكر الماركسي او الشيوعي.

ينقل السيد محمد الحسيني عن الاستاذ محمد المبارك (2) قوله: نذكر من هذه المؤلفات نماذج أربعة لعلها احسن ما كتب في الموضوع على تفاوت في خصائصها وظروف تأليفها:
1 – العدالة الاجتماعية في الاسلام، لسيد قطب، وقد كان كتاباً رائداً في العالم العربي والإسلامي وكان له أثره العميق الواسع الانتشار إذ ترجم إلى كثير من اللغات ولا يزال هذا الكتاب يحتفظ بقيمته لما اشتمل عليه من خطوط عميقة ومفاهيم واضحة مع تحديد للهدف الذي وضع من اجله وهو كما يحدد نفسه كتاب في (سياسة المال) فيما يتعلق بالعدالة الاجتماعية وليس في الكتابة عن (النظام الاقتصادي في الاسلام).
2 – (الإسلام والنظم الاقتصادية المعاصرة) للأستاذ ابي الاعلى المودودي وربما كان المودودي أسبق المؤلفين المسلمين الى الكتابة في هذه الموضوعات في رسائل وبحوث نشرت باللغة الأوردية ثم ترجمت الى العربية وانتشرت في البلاد العربية بعد سنوات كثيرة من ظهورها في الهند ثم باكستان وله بحوث ومؤلفات قيمة اخرى ومنها كتاب (الربا) وآخر في (ملكية الارض) حيث يمتاز العرض الفكري الموضوعي.
3 – (اشتراكية الاسلام) للدكتور مصطفى السباعي ويمتاز بغزارة المادة التي جمعها ونسقها، وحرارة الدعوة الى نظام الاسلام، وان كان أخذ عليه التوسع في تفسير بعض النصوص مضاهاة للاشتراكية بدافع الحرص على دفعها وسد الطريق عليها اجتهاداً منه، ولو لم تعاجله المنية لكان عازماً على اخراج طبعة منه تشتمل على تعديل لبعض آرائه وتجلية لمقاصده فيما أسيء فهمه كما علمت منه، رحمه الله..
4 – (اقتصادنا) للباحث الاسلامي المفكر السيد محمد باقر الصدر وهو أول محاولة علمية فريدة من نوعها لاستخراج نظرية الاسلام الاقتصادية من أحكام الشريعة من خلال استعراضها استعراضا تفصيلياً بطريقة جمع فيها بين الاصالة الفقهية ومفاهيم علم الاقتصاد ومصطلحاته وقد جعل المؤلف كتابه جزأين كبيرين خصص اولهما لعرض المذهبين الرأسمالي والماركسي ومناقشتهما ونقدهما نقداً علمياً والثاني لاستخراج معالم النظرية الاسلامية في الاقتصاد (3) .

يرتبط الاقتصاد في فكر الامام الصدر ارتباطا وثيقا ومتلازما مع الايمان بالله الذي هو المالك الحقيقي الوحيد للكون وكل ما فيه من ثروات، وانه قد استخلف الانسان على ما يملك وقد استحق الانسان شرف خلافة الله في الارض لان الاستخلاف يعني الاحساس بالمسؤولية وشرف الامانة والانسان هو الكائن الارضي المتميز بالاحساس بالمسؤولية، ومن هنا كان من الطبيعي ان يتصرف الانسان في الامانة التي يتحملها وفقا لاوامر الله.. وان احكام الثروة في الاسلام تمثل جانباً من اوامر الله تعالى التي تتجدد بها درجة الامانة والالتزام الانساني، غير ان هذه الاحكام تعطي اسلامياً من خلال صورتين (4) احداهما: الصورة الكاملة اسلامياً والاخرى: الصورة المحدودة اسلاميا.
اما الصورة الكاملة فهي الصورة التشريعية التي تعطي اسلامياً في مجتمع كامل يراد بناء وجوده على أساس النظرية الاسلامية واقامة اقتصاده على ضوء شريعة السماء، والصورة المحدودة هي الصورة التشريعية التي تعطي اسلامياً في حالة فردية لشخص يعنى شخصياً بتطبيق سلوكه وعلاقاته مع الاخرين على أساس الاسلام غير انه يعيش ضمن مجتمع لا يتبنى الاسلام نظاما في الحياة بل يسير وفق انظمة اجتماعية وايديولوجية عقائدية اخرى.

والفارق بين الحالتين كبير، وتبعا لذلك تختلف الصورتان عن بعضهما ويمكن ان تلخص اهم أسباب الاختلاف بما يلي:
اولا: ان عدداً من الاحكام الثابتة في الشريعة يتجاوز قدرة الفرد ويعتبر حكماً موجها نحو المجتمع وهذا النحو من الاحكام لا موضع له في الصورة المحدودة التي ترسم للفرد المسلم سلوكه الاقتصادي بينما هي جزء اساسي في الصورة الكاملة لاقتصاد المجتمع الاسلامي ومثال ذلك انظمة وتشريعات الضمان والتوازن الاجتماعي في المجتمع الاسلامي (5) .
ثانيا: ان المؤشرات الاسلامية العامة التي تشكل اساساً للعناصر المتحركة في الاقتصاد الاسلامي وما ينجم عنها من تداخل في تكون الصورة الكاملة لاقتصاد المجتمع الاسلامي مع أنها كثيراً ما لا تلعب اي دور في الصورة المحدودة لسلوك الفرد المسلم لانها على الاكثر ترتبط بصيغ تشريعية يصنعها ولي الامر والحاكم الشرعي وفقاً لصلاحياته الشرعية وتجسيداً لمسؤوليته في قيادة المجتمع على ضوء تلك المؤشرات.
ثالثا: ان الحالة المحدودة او حالة الفرد المسلم الذي يعيش ضمن مجتمع لا يتبنى الاسلام منهجا للحياة في حالة معقدة وتحتوي تناقضا بين التكليف الشرعي والضرورات التي لا يجد لها تبديلا في المجتمع وكثيراً ما تولد ظروفا شاذة لها احكام استثنائية تختلف عن طبيعة الاحكام التي تأخذ موضعها الطبيعي في الصور الكاملة لاقتصاد المجتمع الاسلامي، ويبدو ان نظام البنوك والمصارف في المجتمعات الحديثة خير مثال يوضح هذه المسألة، فالاول قد يسمح له بأخذ الفائدة على ما يودعه في تلك البنوك باعتبارها مالا مجهول المالك فيأذن له الحاكم الشرعي في اخذها وصرفها، واما النظام الاسلامي فهو يرفض الفائدة رفضا كاملا ويربط الارباح البنك بالعمل وبما يساهم به من جهد منتج في الحياة الاقتصادية.

حسن-سلمانأقسام الكتاب:

تلخيص-الافكار-الاساسية-من-كتاب-اقتصادناالقسم الاول: التوزيع الاولي لمصادر الثروة الطبيعية
* القسم الثاني: الانتاج وكيف يتم التوزيع.
1 – اهمية الانتاج.
2 – الانتاج الاولي.
3 – الانتاج الثانوي.
* القسم الثالث/ التصرف في الاموال.
1 – تبادل المال والربح التجاري.
2 – استهلاك المال وعمليات الصرف.
* القسم الرابع: مسؤوليات الدولة العامة

الاقتصاد الاسلامي جزء من كل

يعتبر العلامة الصدر اننا في وعينا للاقتصاد الاسلامي، لا يجوز ان ندرسه مجزءاً بعضه عن بعض نظير ان ندرس حكم الاسلام في حرمة الربا، او سماحه بالملكية الخاصة، بصورة منفصلة عن سائر اجزاء المخطط العام، كما لا يجوز ايضا ان ندرس مجموع الاقتصاد الاسلامي، بوصفه شيئاً منفصلا وكيانا مذهبياً مستقلا عن سائر كيانات النظرية الاجتماعية والسياسية، وعن طبيعة العلاقات القائمة بين تلك الكيانات.. انما يجب ان نعي الاقتصاد الاسلامي ضمن الصيغة الاسلامية العامة، التي تنظم شتى نواحي الحياة في المجتمع.
كما يجب ايضا أن لا نفصل بين المذهب الاسلامي(6) بصيغه العامة، وبين أرضيته الخاصة التي اعدت له، وهيأ فيها كل عناصر البقاء والقوة للمذهب، لذلك يجب ان ندرك الصيغ المحسوسة على ارضيات مختلفة، إذ ينسجم كل شكل مع ارضية معينة، وقد لا تصلح ارضية لشكل آخر، ولا يصلح ذلك الشكل لارضية أخرى، كذلك الصيغة العامة للمذهب فانها تحتاج الى ارضية تمدها بالعقيدة والمفاهيم والعواطف التي تلائمها.
وهكذا يتضح ان الاقتصاد الاسلامي يترابط في خطوطه وتفاصيله، وهو بدوره جزء من صيغة عامة للحياة، وهذه الصيغة لها أرضية خاصة، وعلى هذا الاساس يوجد المجتمع الاسلامي حين يكتسب الصيغة والارضية معاً، ويستقيم منهج البحث في الاقتصاد الاسلامي، حين يدرس الاقتصاد الاسلامي بما هو مخطط مترابط ويوصفه جزءاً من الصيغة الاسلامية العامة للحياة (7) .

وبناء على ذلك فان الارضية للمجتمع الاسلامي، ومذهبه الاجتماعي تتكون من العناصر التالية:
1 – العقيدة: التي تمثل القاعدة المركزية في التفكير الاسلامي، والتي تحدد نظرة المسلم الرئيسة الى الكون بصورة عامة.
2 – المفاهيم التي تعكس وجهة نظر الاسلام في تفسير الاشياء، على ضوء النظرة العامة التي تبلورها العقيدة.
3 – العواطف والاحاسيس التي يتبنى الاسلام نشرها وتنميتها، الى صف تلك المفاهيم، فالعواطف الاسلامية وليدة المفاهيم الاسلامية، والمفاهيم الاسلامية بدورها موضوعة في ضوء العقيدة الاسلامية الاساسية، فالتقوى مثلا هي ميزان الكرامة والتفاصيل بين افراد الانسان، وتتولد عن هذا المفهوم عاطفة اسلامية بالنسبة الى التقوى، وهي عاطفة الاحترام والتقدير.
وبناء على ما تقدم يعتبر العلامة الصدر أن هناك اوجه ترابط فيما بين الاقتصاد وباقي مفاهيم الاسلام (8) .

الاقتصاد الاسلامي ليس علما

إن الاقتصاد الاسلامي جزء من المذهب الاسلامي الشامل لشتى فروع الحياة، والاقتصاد الرأسمالي جزء من المنظومة الرأسمالية التي تستوعب بنظرتها التنظيمية المجتمع كله، كما أن الاقتصاد الماركسي جزء ايضا من المذهب الماركسي الذي يبلور الحياة الاجتماعية كلها في اطاره الخاص.
أن الاقتصاد الماركسي يحمل في رأي الماركسية طابعا علميا، لانه يعتبر في عقيدة انصاره نتيجة محتومة للقوانين الطبيعية التي تهيمن على التاريخ وتتصرف فيه (9) ، وعلى العكس من ذلك المذهب الرأسمالي، فانه لم يضعه أصحابه كنتيجة ضرورية لطبيعة التاريخ وقوانينه، وانما عبروا به عن الصورة الاجتماعية التي تتفق مع القيم العملية والمثل التي يعتنقونها.
واما المذهب الاسلامي فهو لا يزعم لنفسه الطابع العلمي، كالمذهب الماركسي، كما انه ليس مجرداً على أساس عقائدي معين ونظرة رئيسية الى الحياة والكون، كالرأسمالية (10) .
وحين نقول عن الاقتصاد الاسلامي انه ليس علما فهذا يعني أن الاسلام دين يتكفل الدعوة الى تنظيم الحياة الاقتصادية كما يعالج سائر النواحي في الحياة وليس علما اقتصاديا على طراز علم الاقتصاد السياسي، فهو حينما يضع مبدأ الملكية المزدوجة على سبيل المثال، لا يزعم انه بذلك يفسد الواقع التاريخي لمرحلة معينة من حياة الانسانية، أو يعكس نتائج القوانيين الطبيعية للتاريخ، كما تزعم الماركسية حين تبشر بمبدأ الملكية الاشتراكية، بوصفه الحالة الحتمية لمرحلة معينة من التأريخ والتفسير الموضوعي لها.
فالامام الصدر يرى ان على الباحث العلمي أن يأخذ الاقتصاد المذهبي في الاسلام قاعدة ثابتة للمجتمع، والذي يحاول تفسيره وربط الاحداث فيه بعضها ببعض، فهو في هذا نظير الاقتصاد السياسي لعلماء الاقتصاد الرأسماليين، الذين فرغوا من وضع خطوطهم المذهبية، ثم بدأوا يفسرون الواضع ضمن تلك الخطوط ويدرسون طبيعة القوانين التي تتحكم في المجتمع الذي تطبق عليه، وهكذا اذن يمكن ان يتكون للاقتصاد الاسلامي علم- بعد ان يدرس دراسة مذهبية شاملة من خلال دراسة الواقع في هذا الاطار-

والسؤال هو: متى وكيف يمكن وضع علم الاقتصاد الاسلامي، كما وضع الرأسماليون علم الاقتصاد السياسي، أو بتعبير اخر علم الاقتصاد الذي يفسر احداث المجتمع الرأسمالي؟.
وهنا يجيب السيد الصدر على هذا السؤال من خلال الامرين التاليين:
الاول: جمع الاحداث الاقتصادية من التجربة الواقعية للحياة وتنظيمها تنظيما علمياً يكشف عن القوانين التي تتحكم بها في مجال تلك الحياة، وشروطها الخاصة.
الثاني: البدء في البحث العلمي من مسلمات معينة تفترض افتراضاً ويستنتج في ضوئها الاتجاه الاقتصادي ومجرى الاحداث.
أما التفسير العلمي على الاساس الاول، فهو يتوقف على تجسيد المذهب في كيان واقعي قائم، ليتاح للباحث ان يسجل احداث هذا الواقع، ويستخلص قوانينها وظواهرها العامة، وهذا ما ظفر به الاقتصاديون الرأسماليون، حين عاشوا في مجتمع يؤمن بالرأسمالية ويطبقها، فاتيج لهم ان يضعوا نظرياتهم على أساس تجارب الواقع الاجتماعي التي عاشوها، ولكن شيئاً كهذا لا يتاح للاقتصاديين الاسلاميين لان الاقتصاد الاسلامي بعيد عن مسرح الحياة الاجتماعية فهم لا يملكون من حياتهم اليوم تجارب عن الاقتصاد الاسلامي خلال التطبيق، ليدركوا في ضوئها طبيعة القوانين التي تتحكم في حياة تقوم على أساس الاسلام.

واما التفسير العلمي على الاساس الثاني فمن الممكن استخدامه في سبيل توضيح بعض الحقائق التي تتميز بها الحياة الاقتصادية في المجتمع الاسلامي بالانطلاق من نقاط مذهبية معينة، واستنتاج آثارها في مجال التطبيق المفترض، ووضع نظريات عامة عن الجانب الاقتصادي في المجتمع الاسلامي على ضوء تلك النقاط.
وخلاصة القول في هذه المسألة فان علم الاقتصاد الاسلامي كما يراه الصدر لا يمكن ان يولد ولادة حقيقية الا اذا جسد هذا الاقتصاد في كيان المجتمع، بجذوره ومعالمه وتفاصيله، ودرست الاحداث والتجارب الاقتصادية التي يمر بها دراسة منظمة (11).

التمييز بين المذهب الاقتصادي والعلم

لقد حاول السيد الصدر شرح المفهوم الذي يعنيه من كلمة (المذهب) وذكر ان المذهب الاقتصادي للمجتمع هو عبارة عن الطريقة التي يفضل ذلك المجتمع اتباعها في حياته الاقتصادية وحل مشاكلها العلمية(12)، بينما عرف علم الاقتصاد بأنه ذلك العلم الذي يتناول تفسير الحياة الاقتصادية وأحداثها وظواهرها، وربط تلك الاحداث والظواهر بالاسباب والعوامل العامة التي تتحكم فيها(13)، وعلى هذا الاساس لا يمكن ان نتصور مجتمعنا دون مذهب اقتصادي لان كل مجتمع يمارس انتاج الثروة وتوزيعها لابد له من طريقة يتفق عليها في تنظيم هذه العمليات الاقتصادية وهذه الطريقة هي التي تحدد موقفه المذهبي من الحياة الاقتصادية.

كما أن اختيار طريقة معينة لتنظيم الحياة الاقتصادية ليس بالامر الاعتباطي، وانما يقوم دائما على اساس أفكار ومفاهيم معينة، ذات طابع أخلاقي او علمي او اي شيء آخر، وهذه الافكار والمفاهيم تكون الرصيد الفكري للمذهب الاقتصادي القائم على أساسها، وحين يدرس اي مذهب اقتصادي يجب ان يتناول من ناحية: طريقته في تنظيم الحياة الاقتصادية، ومن ناحية اخرى رصيده من الافكار والمفاهيم التي يرتبط المذهب بها. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو مدى امتداد ساحة المذهب الاقتصادي؟ وما هي العلامة التي تميز الفكر الاسلامي عن غيره.. وهنا يعود السيد الصدر ويضيف الى المعنى الذي قدمه عن الحد الفاصل بين المذهب والعلم ويعتبر ان التمييز بينهما وان كان يشير الى الفارق الجوهري، لكنه لم يعد يكفي في الوقت الذي نحاول ان نكتشف مذهبا اقتصاديا معينا.
ان هناك من يعتبر مجال المذهب الاقتصادي مقتصراً على توزيع الثروة فحسب، فلا علاقة للمذهب بالانتاج، لان عملية الانتاج تتحكم فيها القوانين العلمية، مستوى المعرفة البشرية بعناصر الانتاج وخصائصها وقواها(14).
ولا تختلف عملية انتاج الحنطة أو النسيج مثلا باختلاف طبيعة المذهب الاقتصادي فالاقتصاد هو علم قوانين الانتاج، والمذهب الاقتصادي هو: فن توزيع الثروة، وكل بحث يتعلق بالانتاج وتحسينه وايجاد وسائله وتحسينها فهو من علم الاقتصاد.
ويبين الكتاب أن هذا الفصل بين العلم والمذهب على أساس اختلاف المجال الذي يمارسه أحدهما على مجال الاخر، ينطوي على خطأ كبير لانه يؤدي الى اعتبار الصفة المذهبية والصفة العلمية نتيجتين لنوعية المجال المدروس، فاذا كان البحث في الانتاج فهو بحث علمي، واذا كان في التوزيع فهو بحث في المذهب، مع أن العلم والمذهب يختلفان في الطريقة والاهداف، لا في الموضوع ومجالاته، فالبحث المذهبي يظل مذهبياً ومحافظا على طابعه ما دام يلتزم طريقته واهدافه الخاصة، ولم يتناول الانتاج نفسه، كما ان البحث العلمي لا يفقد طبيعته العلمية اذا تكلم عن التوزيع ودرسه بالطريقة والاهداف التي تتناسب مع العلم.
ولاجل ذلك نجد ان فكرة التخطيط المركزي للانتاج- التي تتيح للدولة الحق في وضع سياسة الانتاج والاشراف عليه، هي احدى النظريات المذهبية المهمة التي تعتبر من مقومات بعض المذاهب والانظمة الاشتراكية، مع العلم أن التخطيط المركزي للانتاج والسماح لهيئة عليا كالدولة بممارسة هذا التخطيط لا يعني بالضرورة تملك تلك الهيئة لوسائل الانتاج، كما لا يتصل بمسألة توزيع هذه الوسائل على الافراد.
ففكرة التخطيط المركزية للانتاج اذن فكرة مذهبية، تتصل بالمذهب الاقتصادي، وليست بحثا بالرغم من أنها تعالج الانتاج لا التوزيع.
وعلى العكس قد نجد كثيرا من الافكار التي تعالج قضايا التوزيع تندرج في علم الاقتصاد، بالرغم من صلتها بالتوزيع دون الانتاج، فـ(ريكاردو) حين كان يقرر مثلا: أن نصيب العمال من الثروة المنتجة، لا يزيد على القدر الذي يتيح لهم معيشة الكفاف.. لم يكن يقصد بذلك أن يقرر شيئاً مذهبياً ولا ان يطلب من الحكومات فرض نظام اقتصادي للاجور، وانما كان يحاول ان يشرح الواقع الذي يعيشه العمال والنتيجة الحتمية لهذا الواقع، بالرغم من عدم تبني الدولة لفرض حد اعلى من الاجور، وايمانها بالحرية الاقتصادية بوصفها دولة رأسمالية.
وبعد ما تقدم فان العلامة الصدر يرى أن المذهب الاقتصادي يشمل كل قاعدة أساسية في الحياة الاقتصادية تتصل بفكرة (العدالة الاجتماعية).. اما العلم فيشمل كل نظرية تفسر واقعا من الحياة الاقتصادية، بصورة منفصلة عن افكار مسبقة او مثل عليا للعدالة او القيم.

عملية اكتشاف الاقتصاد الإسلامي

يعتبر العلامة الصدر ان العملية التي نمارسها في دراسة المذهب الاقتصادي الاسلامي تختلف عن طبيعة العمل الذي يمارسه رواد المذاهب الاخرى، لان الباحث الاسلامي يحس منذ البداية بالفارق الاساسي بين موقفه من المهمة التي يحاول انجازها، وموقف أي باحث مذهبي آخر ممن مارسوا عملية البحث في عالم الاقتصاد.
فالفكر الاسلامي امام اقتصاد منجز تم وضعه، وهو مدعو الى تمييزه بوجهه الحقيقي، وتحديده بهيكله العام، والكشف عن قواعده الفكرية وابرازه بملامحه الاصيلة، ونفض غبار التأريخ عنها، والتغلب بقدر الامكان على كثافة الزمن المتراكم والمسافات التاريخية الطويلة، وايحاءات التجارب غير الامينة التي مارست –ولو اسميا- عملية تطبيق الاسلام، والتحرر من اطر الثقافات غير الاسلامية التي تتحكم في فهم الاشياء، وفقاً لطبيعتها واتجاهها في التفكير.
وعليه فان مهمة الباحث في الاقتصاد الاسلامي ليست عملية انشاء المذهب الاقتصادي في الاسلام او ابتداع الانظمة الاقتصادية الاسلامية، وانما هي عملية الكشف عن المذهب الاقتصادي واستظهار الحلول الاقتصادية الاسلامية فيما يعرض للمجتمع من مشاكل اقتصادية(15)، وتترتب على هذا الفارق الأساسي مسألة محاولة التغلب على كل هذه الصعاب واجتيازها للوصول الى اقتصاد اسلامي يمثل نقاء المذاهب الاسلامية وهي بطبيعة الحال وظيفة المفكر الاسلامي.
أما دور المفاهيم في عملية الاكتشاف فانها تساهم في تذليل العقبات التي تعترض سبيل الباحث الاسلامي، وتقوم بتيسير فهم النصوص الشرعية التي يعتمدها في عملية اكتشافه المذهب الاقتصادي في الاسلام، فمثلاً التصور الاسلامي للملكية على انها عملية استخلاف للمال والثروة يجعل من الخلافة لحساب الجماعة ولحسابه ايضاً، ويهيئ الذهنية الاسلامية ويعدها لقبول النصوص الشرعية التي تحد من سلطة المالك وفقاً لمتطلبات المصلحة العامة، ويرى الإمام الصدر ان تردد بعض الفقهاء في قبول هذه النصوص الشرعية التي تسوغ انتزاع الملكية من بعض اصحابها يعود الى جهلهم في فهم تلك النصوص ودور المفاهيم الاسلامية في بلورة هذه الأحكام.
فالمفاهيم الاسلامية اذن هي وجهات نظر، وتصورات اسلامية في تفسير الكون وظواهره، او المجتمع وعلاقاته، او اي حكم من الأحكام المشترعة، وهي لذلك لا تشتمل على احكام بصورة مباشرة، ولكن قسماً منها بالرغم من ذلك ينفعنا في محاولة التعرف على المذهب الاقتصادي الاسلامي، وهو ذلك القسم من المفاهيم المتصل بالحياة الاقتصادية وظواهرها، أو باحكام الاسلام المشترعة فيها، وبهذا المعنى تصحيح المفاهيم الاسلامية في الحقل الاقتصادي تشكل الاطار الفكري، الضروري في بلورة وفهم النصوص الشرعية، كما ان بعض المفاهيم يقوم بانشاء قاعدة يرتكز على اساس المشرع الاسلامي، لملء الفراغ الحاصل في الساحة الاجتماعية والاقتصادية.

خصائص الاقتصاد الاسلامي

وللمذهب الاقتصادي الاسلامي صفتان اساسيتان تبدوان جليّاً في مختلف خطوطه وتفاصيله وهما الواقعية والاخلاقية، فالاقتصاد الاسلامي اقتصاد واقعي واخلاقي معاً، في غاياته التي يرمي الى تحقيقها، وفي الطريقة التي يتخذها لذلك.
أما الصفة الاولى وهي الواقعية فهو (اقتصاد واقعي في غاياته، لانه يستهدف في انظمته وقوانينه الغايات التي تنسجم مع واقع الانسانية، بطبيعتها نوازعها وخصائصها العامة، ويحاول دائما ان لا يرهق الانسانية في حسابه التشريعي، ولا يحلق بها في اجواء خيالية عالية فوق طاقاتها وامكاناتها..
انما يقيم مخططه الاقتصادي دائماً على اساس النظرة الواقعية للانسان، ويتوخى الغايات الواقعية التي تتفق مع تلك النظرة) (16)، فهو يسعى الى تحقيق العدالة الاجتماعية، والتوازن الاجتماعي من خلال نظم الحماية التي شرعها للانسان، بل ويسعى ايضاً الى محاربة الفقر ومشاكل العوز من خلال خلق الظروف المناسبة التي تحمي الانسان وتضمن له كرامته وانسانيته وحريته.
اما الصفة الثانية للاقتصاد الاسلامي كما يراها المفكر محمد باقر الصدر، فهي الصفة الاخلاقية التي تعني من ناحية الغاية ان الاسلام لا يستمد غاياته التي يسعى الى تحقيقها في حياة المجتمع الاقتصادي، من ظروف مادية وشروط طبيعية مستقلة عن الانسان نفسه، كما تستوحي الماركسية مثلاً غاياتها من وضع القوى المنتجة وظروفها، وانما ينظر الى تلك الغايات بوصفها معبرة عن قيم عملية ضرورية التحقيق من ناحية خلقية، فحين يقرر ضمان حياة العامل مثلاً، لا يؤمن بأن هذا الضمان الاجتماعي الذي وضعه نابع من الظروف المادية للإنتاج وانما يعتبره ممثلاً لقيمة عملية يجب تحقيقها.
وتعني الصفة الخلقية، من ناحية الطريقة ان الاسلام يهتم بالعامل النفسي، من خلال الطريقة التي يضعها لتحقيق اهدافه وغاياته، فهو في الطريقة تلك، لا يهتم بالجانب الموضوعي فحسب- وهو ان تتحقق الغايات- وانما يعنى بوجه خاص بمزج العامل النفسي والذاتي بالطريقة التي تحقق تلك الغايات، ولذلك فان الاسلام لا يكتفي بأخذ المال من الغني لحساب الفقير، وانما يتصدى في الوقت ذاته لخلق دافع خلقي وعبادي في تحقيق تلك العملية، فقد يؤخذ من الغني مال لاشباع الفقير مثلاً، وهنا تتحقق الغاية الموضوعية التي يتوخاها الجانب الاقتصادي من وراء مبدأ التكافل، ولكن هذا ليس هو كل المسألة في حساب الاسلام، بل هناك الطريقة التي تم بها تحقيق التكافل العام، لان هذه الطريقة قد تعني مجرد استعمال القوة في انتزاع الضريبة من الأغنياء لصالح الفقراء، وهذا قد يكفي في تحقيق الجانب الموضوعي من المسألة، ولكن الاسلام لا يقر هذه الطريقة الا مقترنة بالدافع الخلقي الذي هو عامل الخير وجانب العبادة والواجب، ولاجل ذلك تدخل مسألة الفرائض المالية في موضوع العبادات الشرعية، فالاسلام اذن لا يقتصر في مذهبه الاقتصادي على تنظيم الوجه الخارجي للمجتمع، وانما ينفذ الى اعماقه الروحية والفكرية، ليوفق بين المحتوى الداخلي، وما يرسمه من مخطط اقتصادي واجتماعي، ولا يكتفي في طريقته ان يتخذ اي اسلوب يكفل تحقيق غاياته، وانما يمزج هذا الاسلوب بالعامل النفسي والدافع الذاتي الذي ينسجم مع تلك الغايات ومفاهيمها.

ماهي عناصر الصورة الكاملة للاقتصاد الاسلامي؟

وفي مقام الاجابة على هذا التساؤل يفترض بنا ان نبدأ بتحليل العلاقات الانسانية الاقتصادية وانواعها حيث ان الانسان يمارس نوعين من العلاقات:
أحدهما: علاقاته مع الطبيعة من خلال ممارسته للعمل ومحاولته السيطرة عليها والحصول على ما فيها من خيرات، وهذا النوع من العلاقات تجسده عادة عملية الانتاج باشكالها المختلفة.
والآخر: علاقاته مع الانسان الآخر الذي يشاركه حقه في الاستفادة من الطبيعة وخيراتها وهذه العلاقات تجسدها عادة عملية التوزيع في اشكالها المختلفة.
وفي تصورنا الاسلامي فان علاقات الإنتاج يجب ان تتأثر باستمرار بتطور خبرة الانسان بالطبيعة وتقدمه العلمي وإذا كانت هذه الخبرة متنامية باستمرار فمن الطبيعي ان تتطور علاقة الانسان مع الطبيعة باطراد ويزداد سيطرة عليها.
واما علاقات التوزيع فهي تقوم في التصور الاسلامي على الحقوق الانسانية الثابتة ومنطق خلافة الله في الارض، وعلى هذا الاساس يمكن تقسيم عناصر المجتمع في ضوء الاسلام الى ثلاثة اقسام:
القسم الاول: عناصر ثابتة وهي العناصر التي تنظم علاقات التوزيع وفقاً لمبادئ العدالة الاجتماعية والخلافة العامة للانسان على الارض وهذه العناصر قد وضعت في الاسلام على شكل احكام منصوصة في الكتاب الكريم والسنة النبوية او مستخلصة من الأحكام المنصوصة.
القسم الثاني: عناصر متحركة في مجال التوزيع وتنظيم علاقاته تدعو الضرورة اليها بسبب المستجدات والمتغيرات في عملية الانتاج وملابساتها ومدى ما يمكن لهذه المتغيرات من ايجاد فرص جديدة للاستغلال ويدخل في هذا القسم العناصر الاسلامية المتحركة التي تحدد مؤشراتها من خلال الشريعة الاسلامية، ومثال هذا القسم تحديد الحاكم الشرعي حداً اعلى لا يسمح بتجاوزه مثلاً في عملية احياء الارض او غيرها من مصادر الثروة الطبيعية.
القسم الثالث: عناصر متحركة في مجال الانتاج وتحسينه و تطوير ادواته وتنمية محصوله وهذه العناصر متطورة بطبيعتها ولا معنى لافتراض الثبات في علاقات الانسان بالطبيعة ما دامت هذه العلاقات وليدة الخبرة والتجربة البشرية..
وضع الاسلام القسم الاول من العناصر على شكل احكام ثابتة، ووضع المؤشرات العامة لتحديد القسم الثاني من العناصر، وبهذا او ذاك ضمن تحقيق تصوراته العامة عن العدالة الاجتماعية وسلامة التوزيع في المجتمع الاسلامي.
اما القسم الثالث فهو متروك للدراسات العلمية وما تتوصل اليه الخبرة البشرية في هذا المجال، وعلى الدولة في المجتمع الاسلامي ان ترسم سياسة اقتصادية للانتاج تقوم على العناصر المتحركة المستوحاة من تلك الدراسات والخبرات على ان تكون اهداف السياسة منسجمة مع تقييم الاسلام وتوجيهه الحضاري، وكما يجب على الدولة في هذا المجال ان تتوخى في رسم سياسة الانتاج ازالة العوائق الطبيعية بالاستفادة من خبرات العلم ومنجزاته ووضع خطة موجهة له تقوم على اساليب الاحصاء، كذلك على الدولة ان تزيل العوائق السياسية على استثمار المجتمع لثروته، وتقضي على الظواهر التي تمس كرامة الامة وسيادتها على ثروتها.

الهوامش:

1. لقد طبعت الآثار الكاملة للسيد محمد باقر الصدر في خمسة عشر مجلداً.
2. محمد الحسيني، محمد باقر الصدر، دراسة في سيرته ومنهجة، ص163.
3. محمد المبارك، الاقتصاد، مبادئ وقواعد عامة، ص20.
4. المجموعة الكاملة للشهيد الصدر، من كتاب الاقتصاد، ج12، ص63.
5. اقتصادنا، ص667.
6. اقتصادنا، ص291.
7. المصدر نفسه، ص293.
8. اقتصادنا، ص294.
9. اقتصادنا، ص311.
10. يراجع كتاب فلسفتنا، التمهيد، موضوع الفرق بين المذهب الاسلامي والمذهب الرأسمالي.
11. اقتصادنا، ص315.
12-13-14-16 / كتاب (اقتصادنا)

15 – مجلة قضايا اسلامية، عدد 3، 1996، ص316

الكاتب: الدكتور حسن سلمان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky