خطبة السيدة زينب (ع) تذمُّ أهل الكوفة وليس الشيعة/ الشيخ محمد صنقور

الاجتهاد: الخطبة المنسوبة للسيدة زينب عليها السلام في أهل الكوفة هل هي معتبرة فهناك من ينفي أو يشكك في صدورها لأنَّها اشتملت على الذم لعموم أهل الكوفة والحال أن في الكوفة شيعة صادقون في تشيعهم وكذلك فإنَّ التعميم يشمل النساء ولا ذنب لهنَّ فيما وقع.

الجواب:

أورد الخطبة المأثورة عن السيدة زينب ابنة أمير المؤمنين (ع) التي ألقتها في الكوفة الشيخُ المفيد رحمه الله في كتابه الأمالي بسندٍ له عن حذلم بن ستير(بشير) قال: قدمتُ الكوفة في المحرَّم سنة إحدى وستين عند منصرف عليِّ بن الحسين عليهما السلام بالنسوة من كربلاء ومعهم الأجناد محيطون بهم، وقد خرج الناسُ للنظر إليهم، فلما أقبَلَ بهم على الجمال بغير وطاء جعل نساء أهل الكوفة يبكين وينتدبن، فسمعتُ عليَّ بن الحسين عليهما السلام وهو يقول بصوتٍ ضئيل وقد نهكته العلَّة وفي عنقِه الجامعة، ويدُه مغلولةٌ إلى عنقه: ألا إنَّ هؤلاء النسوة يبكين، فمَن قتلنا ؟!

قال: ورأيتُ زينبَ بنت عليٍّ عليهما السلام ولم أرَ خَفِرة قطُّ أنطقَ منها، كأنَّها تُفرغُ عن لسان أمير المؤمنين عليه السلام . قال: وقد أَومأتْ إلى الناس أن اسكتوا، فارتدَّت الأنفاسُ وسكتت الأصواتُ فقالت:

الحمدُ لله والصلاة على أبي رسول الله، أمَّا بعد يا أهل الكوفة، ويا أهل الختل والخذل، فلا رقأت العبرة، ولا هدأت الرنَّة، فما مثلُكم إلا: {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ}. ألا وهل فيكم إلا الصلَف النطف، والصدر الشنف، خوَّارون في اللِّقاء، عاجزون عن الأعداء، ناكثون للبيعة، مضيعون للذِّمَّة، فبئس ما قدَّمتْ لكم أنفسكم أن سخِط اللهُ عليكم، وفي العذابِ أنتم خالدون.

أتبكون؟! إي واللهِ فابكوا كثيراً، واضحكوا قليلا، فلقد فُزتُم بعارِها وشَنارِها، ولن تغسلوا دنسَها عنكم أبدا. فسليلُ خاتم الرسالة، وسيِّدُ شباب أهل الجنَّة، وملاذُ خيرتكم، ومفزعُ نازلتكم، وأمارةُ محجَّتكم، ومدرجةُ حجتكم خذلتُم، وله قتلتم؟! ألا ساء ما تزرون، فتعساً ونكسا، فلقد خاب السعيُ، وترِبت الأيدي، وخسرت الصفقة، وبُؤتم بغضبٍ من الله، وضُربتْ عليكم الذلَّةُ والمسكنة.

ويلكم أتدرون أيَّ كبدٍ لمحمَّدٍ فريتم، وأيَّ دمٍ له سفكتم، وأيَّ كريمةٍ له أصبتم؟ {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} ولقد أتيتم بها خرقاءَ شوهاءَ طِلاعَ الأرض والسماء. أفعجبتُم أنْ قطرت السماءُ دما؟! ولعذابُ الآخرة أخزى، فلا يستخفَّنكم المهَل، فإنَّه لا يُحفزه البدار، ولا يخافُ عليه فوت الثأر، كلا إنَّ ربَّك لبالمرصاد. قال : ثم سكتتْ، فرأيت الناس حيارى ، قد ردوا أيديهم في أفواههم..”(1)

بعض مصادر الخطبة:

هذا وقد أورد هذه الخطبة الشيخ الطوسي رحمه الله في كتابه الأمالي (2) وأوردها مع اختلافٍ في بعض الألفاظ الشيخ الطبرسي (3) وأوردها ابن أعثم الكوفي( ت: 314 ه) في كتاب الفتوح(4) وأوردها في كتاب البلدان أحمد بن محمد الهمداني (ت: 240ه)(5) وأوردها ابن طيفور(ت: 280ه) في بلاغات النساء ولكنَّه نسبها لأم كلثوم(ع)(6) وأوردها وابن شهراشوب في المناقب(7) وابن حاتم الشامي المشغري (ت: 664) في الدر النظيم(8) والسيِّد ابن طاووس في اللُّهوف(9) وابنُ نما الحلي في مثير الأحزان(10) وابنُ حمدون(ت: 562) في التذكرة الحمدونيَّة (11) والخوازميُّ في مقتل الحسين (ع) (12) وأبو سعد منصور بن الحسين الرازي الآبي ( ت: 421ه) في كتابه نثر الدر(13) .

هذا المقدار من المصادر صالحٌ للإثبات التأريخي:

فهذا المقدار من المصادر صالح للإثبات التأريخي فليس ثمة قضية من القضايا التأريخية التفصيليَّة تثبت بأكثر من ذلك إلا أنْ يمنع مانع فيكون مقتضياً للارتياب في الوقوع أو الصدور، والمقام ليس كذلك إلا ما قيل من إنَّ الخطاب من السيِّدة بالتقريع والذم موجَّه لعامَّة أهل الكوفة، وقد اشتمل على نسبة القتل والخذلان لعمومهم وفيهم الشيعة الذين لم يشاركوا في قتل سيِّد الشهداء (ع) قطعاً، وفيهم النساء، ولا ذنبَ لهنَّ فيما وقع، إذ لم يشاركنَ في القتل، ولا يُنتظر منهنَّ المؤازرة ولهذا لا تصحُّ نسبة الخذلان لهنَّ، فنسبةُ القتل والخذلان لعموم أهل الكوفة والحال أنَّ فيهم مَن لا ذنبَ له يبعثُ على الارتياب في صدور الخطبة من السيِّدة زينب (ع) هكذا قيل.

مناقشة الإشكال:

والجواب: المتفاهم عرفاً من خطاب السيِّدة زينب (ع) لأهل الكوفة هو أنَّه متوجِّه لغالبيتهم، فالمقصودون بالذمِّ والتقريع هم الغالبيَّة، وأَّمَّا الصالحون والمعذورون واقعاً في تخلُّفهم والذين التحقوا بركب الحسين (ع) فاستُشهدوا أو لم يستشهدوا فهؤلاء ليسوا مقصودين بالذمِّ والتقريع.

فمثلُ هذا الخطاب الذي يتمُّ توجيهه إلى قبيلةٍ أو أهل بلدة أو شريحة من المجتمع يُحمل عرفاً على إرادة الغالبيَّة، ولهذا لا يجد المتكلِّم حاجةً للاستثناء، وذلك اتكالاً على فهم المتلقِّي والذي هو بمثابة القرينة المطَّردة لمثل هذه الخطابات، فحين يذمُّ القرآنُ المجيد بني إسرائيل على لسان موسى (ع) وينسبُ إليهم العبادة للعجل كما في قوله تعالى:{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ}(14) فإنَّ أحداً لا يفهمُ من ذلك إرادة الجميع رغم أنَّ الخطاب موجَّهٌ لعامة قومه، وكذلك حين نسب القرآن المجيد عبادة العجل لقوم موسى(ع) في قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ}(15) وكذلك حين خاطب بالذمِّ والتقريع قوم موسى في قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}(16) فإنَّ الآيات نسبتْ لقوم موسى (ع) العبادة للعجل ووصفتهم بالظالمين وشنَّعتْ عليهم قولهم{سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} ونسبتْ إليهم الشغف بعبادة العجل وأنَّ ذلك نشأ عن كفرهم، وليس من أحدٍ يفهم من ذلك العموم والاستيعاب ففي قوم موسى (ع) صالحون وأتقياء، ولهذا لا نجد تنافياً بين هذه الآيات وبين قوله تعالى : {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}(17)

فالآيات التي نسبتْ عبادة العجل لقوم موسى (ع) ووصفتهم بالظالمين ونسبتْ إليهم الكفر والعصيان قصدتْ من ذلك الغالبيَّة وإلا لما صحَّ القول في موضع آخر إنَّ في قوم موسى أمَّة يهدون بالحقِّ وبه يعدلون.

كذلك هو الشأن فيما خاطبت به السيِّدةُ زينب(ع) أهل الكوفة بقولها: “يا أهلَ الختل والخذل” ووصفتهم بقولها: “خوَّارون في اللِّقاء، عاجزون عن الأعداء، ناكثون للبيعة، مضيِّعون للذِّمَّة” وفيما أسندته إليهم في قولها:” ويلكم أتدرونَ أيَّ كبدٍ لمحمَّدٍ (ص) فريتم، وأيَّ دمٍ له سفكتم، وأيَّ كريمةٍ له أصبتم” فالمقصودون بالخطاب والتقريع والذم واسنادِ القتل هم غالبيَّة أهل الكوفة في تلك الحقبة، ومؤدَّى ما أفادته أنَّ الغالبية إمَّا أن يكونوا شركاء في القتلوإمَّا أن يكونوا ممَّن تورَّط بجريرة الخذلان لسيِّد الشهداء(ع).

حواضنُ الخطبة الشريفة:

وهذا الذي أفادته السيِّدة قد ورد في خطاب الإمام الحسين (ع) لأهل الكوفة يوم العاشر عند قوله (ع) : ” .. وَإِيّانا تَخْذُلُونَ، أَجَلْ وَاللهِ ! الْخَذْلُ فيكُمْ مَعْرُوفٌ، وَشَجَتْ عَلَيْهِ عُرُوقُكُمْ، وَتَوارَثَتْهُ أُصُولُكُمْ وَفُرُوعُكُمْ، وَنَبَتَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ وَغَشِيَتْ بِهِ صُدُورُكُمْ ، فَكُنْتُمْ أَخْبَثَ شَيْء سِنْخاً لِلنّاصِبِ وَأَكْلَةً لِلْغاصِبِ، أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى النّاكِثينَ الَّذينَ يَنْقُضُونَ الاَْيْمانَ بَعْدَ تَوْكيدِها ، وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفيلاً فَأَنْتُمْ وَاللهِ ! هُمْ..”(18)

وكذلك ورد في كلام لمسلمِ بن عقيلٍ قال لمبعوثِه إلى الحسين (ع) بعد أسره: ” إنَّ ابن عقيل بعثني إليك وهو أسير في أيدي القوم، لا يرى أنَّه يمسي حتى يقتل، وهو يقول : ارجع فداك أبي وأمي بأهل بيتك ولا يغررك أهلُ الكوفة ، فإنَّهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنَّى فراقهم بالموت أو القتل، إنَّ أهل الكوفة قد كذبوك – وكذبوني- وليس لمكذوبٍ رأي”(19) يعني أنَّهم غدروا ونكثوا البيعة.

وورد قبل ذلك عن الامام الحسن (ع) قال في مقام البيان لبعض أسباب الصلح: ” والله ما سلَّمتُ الأمر إليه إلا أنِّي لم أجد أنصاراً، ولو وجدتُ أنصارا لقاتلته ليلي ونهاري حتى يحكم الله بيني وبينه، ولكني عرفتُ أهل الكوفة، وبلوتُهم ، ولا يصلحُ لي منهم مَن كان فاسداً ، إنَّهم لا وفاء لهم. ولا ذمَّة في قولٍ ولا فعل، إنَّهم لمختلفون ، ويقولون لنا:إنَّ قلوبهم معنا وأنّ سيوفهم لمشهورة علينا..” (20)

وأما ما ورد عن أمير المؤمنين (ع) فكثير ، ومنه قوله (ع) في إحدى خطبه كما في الكافي للكليني “.. أَلَا وإِنِّي قَدْ دَعَوْتُكُمْ إِلَى قِتَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَيْلاً ونَهَاراً وسِرّاً وإِعْلَاناً وقُلْتُ لَكُمْ اغْزُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَغْزُوكُمْ فَوَاللَّه مَا غُزِيَ قَوْمٌ قَطُّ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إِلَّا ذَلُّوا فَتَوَاكَلْتُمْ وتَخَاذَلْتُمْ حَتَّى شُنَّتْ عَلَيْكُمُ الْغَارَاتُ ومُلِكَتْ عَلَيْكُمُ الأَوْطَانُ… هَذَا أَخُو غَامِدٍ قَدْ وَرَدَتْ خَيْلُه الأَنْبَارَ وقَتَلَ حَسَّانَ بْنَ حَسَّانَ الْبَكْرِيَّ وأَزَالَ خَيْلَكُمْ عَنْ مَسَالِحِهَا وقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ والأُخْرَى الْمُعَاهَدَةِ فَيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وقُلْبَهَا وقَلَائِدَهَا ورِعَاثَهَا مَا تُمْنَعُ مِنْه إِلَّا بِالاسْتِرْجَاعِ والِاسْتِرْحَامِ ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ مَا نَالَ رَجُلاً مِنْهُمْ كَلْمٌ ولَا أُرِيقَ لَه دَمٌ فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا أَسَفاً مَا كَانَ بِه مَلُوماً بَلْ كَانَ عِنْدِي بِه جَدِيراً فَيَا عَجَباً عَجَباً واللَّه يَمِيثُ الْقَلْبَ ويَجْلِبُ الْهَمَّ مِنِ اجْتِمَاعِ هَؤُلَاءِ عَلَى بَاطِلِهِمْ وتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ فَقُبْحاً لَكُمْ وتَرَحاً حِينَ صِرْتُمْ غَرَضاً يُرْمَى يُغَارُ عَلَيْكُمْ ولَا تُغِيرُونَ وتُغْزَوْنَ ولَا تَغْزُونَ ويُعْصَى اللَّه وتَرْضَوْنَ فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي أَيَّامِ الْحَرِّ قُلْتُمْ هَذِه حَمَارَّةُ الْقَيْظِ أَمْهِلْنَا حَتَّى يُسَبَّخَ عَنَّا الْحَرُّ، وإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي الشِّتَاءِ قُلْتُمْ: هَذِه صَبَارَّةُ الْقُرِّ أَمْهِلْنَا حَتَّى يَنْسَلِخَ عَنَّا الْبَرْدُ كُلُّ هَذَا فِرَاراً مِنَ الْحَرِّ والْقُرِّ، فَإِذَا كُنْتُمْ مِنَ الْحَرِّ والْقُرِّ تَفِرُّونَ فَأَنْتُمْ واللَّه مِنَ السَّيْفِ أَفَرُّ، يَا أَشْبَاه الرِّجَالِ ولَا رِجَالَ حُلُومُ الأَطْفَالِ وعُقُولُ رَبَّاتِ الْحِجَالِ لَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَرَكُمْ ولَمْ أَعْرِفْكُمْ مَعْرِفَةً واللَّه جَرَّتْ نَدَماً وأَعْقَبَتْ ذَمّاً قَاتَلَكُمُ اللَّه لَقَدْ مَلأْتُمْ قَلْبِي قَيْحاً وشَحَنْتُمْ صَدْرِي غَيْظاً وجَرَّعْتُمُونِي نُغَبَ التَّهْمَامِ أَنْفَاساً وأَفْسَدْتُمْ عَلَيَّ رَأْيِي بِالْعِصْيَانِ والْخِذْلَانِ حَتَّى لَقَدْ قَالَتْ قُرَيْشٌ إِنَّ ابْنَ أَبِي طَالِبٍ رَجُلٌ شُجَاعٌ ولَكِنْ لَا عِلْمَ لَه بِالْحَرْبِ لِلَّه أَبُوهُمْ وهَلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَشَدُّ لَهَا مِرَاساً وأَقْدَمُ فِيهَا مَقَاماً مِنِّي لَقَدْ نَهَضْتُ فِيهَا ومَا بَلَغْتُ الْعِشْرِينَ وهَا أَنَا قَدْ ذَرَّفْتُ عَلَى السِّتِّينَ ولَكِنْ لَا رَأْيَ لِمَنْ لَا يُطَاعُ”(21)

فهذه النصوص -وغيرها كثير يطول المقام بعرضها- تمثِّل حاضنة صالحة لتأكيد الصدور للخطبة المأثورة عن السيِّدة زينب (ع) فالتشكيك في صدورها لأنَّ في الكوفة شيعةً صادقين في تشيُّعهم، هذا التشكيك لا يصحُّ، فإنَّ المقصودين بمثل هذه الخطابات هم الغالبيَّة، كما أنَّ المقصودين بمثل هذه الخطابات هم غالبية أهل الكوفة في تلك الحقبة التي صدرت مثل هذه النصوص في ظرفها، ولهذا لا تصحُّ معالجة النصوص استناداً إلى ما آل إليه واقعُ الكوفة بعد ردح من الزمن.

لم يكن غالبية أهل الكوفة من الشيعة قي تلك الحقبة:

فالكوفة التي اضطرت أميرَ المؤمنين (ع) للقبول بالتحكيم بعد رفع المصاحف، وتوانت عن الاستجابة لدعواته الدؤوبة في العودة إلى حرب الشام بعد فشل التحكيم، وتوانت حتى عن الاستجابة لدعواتِ أمير المؤمنين (ع) في المؤازرة على ردِّ الغارات التي كانت تشنُّها سرايا الشام على أطراف الكوفة وأطراف الحواضر الإسلامية وتعيثُ فيها فساداً وقتلاً وهتكاً للأعراض، والكوفة التي ألجئت الإمامَ الحسن المجتبى (ع) للقبول بالصلح، وهدَّد شيوخُ عشائرها بتسليم الامام الحسن (ع) أسيراً إلى معاوية، والكوفة التي خذلتْ مسلم بن عقيل ولم تُحرِّك ساكناً وهي ترى جثمانه يُسحب في الأسواق، والكوفةُ التي كان يُطاف في أسواقها وأحيائها برأس الحسين (ع) ويُصلب أياماً على باب الجامع دون أنْ تثأر أو حتى تستنكر بما يتناسب وحجم الجريمة، والكوفة التي تُساق في أزقَّتها أسرةُ الرسول الكريم (ص) على هيئة السبايا فلا تثأر وتكتفي بالبكاء والندبة، هذه الكوفة لم تكن حينذاك غالبيَّة أهلها من الشيعة كما يتوهَّم البعضُ وكما يُروِّج لذلك آخرون بل لم يكن للشيعة حينذاك كيانٌ وازن بل لم تكن ثمة قبيلة واحدة يُمكن اعتبار جميع أفرادها أو أكثريتهم من الشيعة، فالشيعة كانوا أفراداً متناثرين في أوساط القبائل تحكمهم أعرافها وطبيعة ولاءاتها، نعم ثمة محبُّون لأهل البيت(ع) بمعنى أنَّهم يرونهم أنَّهم أجدر من الولاة الظلمة بإدارة شؤونهم، وهؤلاء لم يكونوا أغلبيَّة أيضاً ولكن عددهم لم يكن قليلاً، هؤلاء كانوا يُحبُّون أهل البيت (ع) لقرابتهم من رسول الله (ص) ولنزاهتهم وحسن الظنِّ بهم أنهم الأكفأ والأجدر والأحرص على إدارة شؤون الناس بالعدل والانصاف، فكانوا يُحبُّونهم لذلك ولكنهم لم يكونوا على استعداد للتضحية بأرواحهم ومصالحهم ومصالح عشائرهم في سبيل تغيير الواقع الفاسد الذي غلبَ عليه الأمويون وأتباعهم، فكانوا يأملون من أهل البيت (ع) أن يُغيروا هذا الواقع الفاسد دون أن يكونوا على استعدادٍ حقيقي للوقوف معهم لبلوغ هذه الغاية، بل بلغ بهم الوهن حداً لا يرون معه بأساً في الممالئة لأعداء أهل البيت (ع) والاصطفاف معهم إذا اقتضت ذلك مصالحُهم الشخصية أو مصالح زعماء عشائرهم، وهذا معنى ما أفاده الإمام الحسن(ع) في مقام التشخيص للواقع المؤسِف الذي ألجأه للصلح : : “أنَّ قلوبهم معنا ، وأنَّ سيوفهم لمشهورةٌ علينا ..”

لماذا اختار الحسين(ع) الكوفة إذا كان ذلك هو واقع أهلها:

وأمَّا لماذا اختار الامام الحسين(ع) الكوفة إذا كان ذلك هو واقع أهلها فجوابه بإيجاز شديد وقد فصَّلناه في مقالاتٍ عديدة هو أنَّ الكوفة كانت هي الخيار الوحيد المتاح لاحتضان نهضتِه المباركة بعد أنْ خذلتْه الحجاز فاضطر للخروج من المدينة إلى مكة الشريفة ومكثَ فيها شهوراً أربعة يدعو ويُحشِّد ولكن دون جدوى، واستنصر زعماء البصرة وكاتبهم وقال: لهم” فَاِنَّ السُنَّةَ قَدْ أُميتَتْ، وَإِنَّ الْبِدْعَةَ قَدْ أُحيِيَتْ..”(22) فلم يعبئوا وما اكترثوا، فلم يستجب له سوى عددٍ وازن من أبناء الكوفة ولكنَّهم ضعفوا حين جدَّ الجد فخذلوه وأسلموه لأعدائه الأمويين وأتباعهم.

فالإمام الحسين (ع) كان يدرك واقع الكوفة ولكن المصير إليها كان هو الخيار الوحيد المتاح لاحتضان نهضته، فالوالي على الكوفة من قبل الأمويين حينذاك وهو النعمان بن بشير كان ضعيفاً ويحب السلامة والموادعة، والكثير من أبناء الكوفة كانوا يكرهون الأمويين لعظيم الظلم الذي أصابهم منهم والبخس والتضييق الذي كان ولاة الأمويين يسوسونهم به فكانوا يرون في موت معاوية فرصةً لتغيير واقعهم، هذا مضافاً إلى أنَّ في الكوفة عدداً وازناً يكنُّ الحبَّ لأهل البيت (ع) فحفَّزتهم الظروف لإبداء الاستعداد لمناصرة الإمام الحسين (ع) فذلك هو ما دفع الإمام الحسين (ع) للمصير إليهم لا لأنَّه يجهل واقعَهم بل لأنَّ ذلك هو الخيار المتاح في مقابل الخيارات الأخرى، فهو على أيِّ تقدير قد عقد العزم على النهضة منذ أنْ بلغه في المدينة موتُ معاوية، فحين لم يجد في المدينة مَن ينهض به وكذلك لم يجد في مكة والبصرة من ينهض بهم – وهي الحواضر الأهم حينذاك- اختار أنْ يستثمر ظروف الكوفة ليجعل منها منطلقاً لنهضته ولكنَّهم عجزوا وأخفقوا فأخطأوا حظَّهم كما أخفقت الحواضرُ الأخرى فأخطأت حظَّها. فالخذلان لسيِّد الشهداء (ع) الذي مُنيت به الكوفة مُنيت به الحواضر الأخرى واللهُ ساءلهم جمعياً عن الحِنث العظيم الذي اقترفوه بحقِّ سيِّد الشهداء(غ) وحقِّ الإسلام ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

وخلاصة القول إنَّ ما اشتملت عليه خطبةُ السيِّدة زينب (ع) مطابقٌ للواقع الذي كانت عليه غالبية أهل الكوفة في ذلك الظرف ولا يجد الباحث صعوبةً تذكر للوقوف على واقع أهل الكوفة وأنَّهم كانوا أخلاطا من أهواءٍ شتى ومتباينة وأنَّ غالبيتهم خوَّارون -كما أفادت السيدة زينب(ع)- تسوقهم الظروفُ وتميلُ بهم حيث مالت وإنْ كانت على خلاف ما يُحبُّون أو سلكت بهم حيثُ يكرهون . فذلك كان واقعهم كما نصَّت على ذلك الكثيرُ من الكلمات المأثورة عن أمير المؤمنين (ع) في نهج البلاغة وغيره والكلمات المأثورة عن الإمام الحسن (ع) والإمام الحسين (ع) والإمام زين العابدين (ع) ومسلم بن عقيل.

وهنا يحسن بنا التنبيه على عددٍ من أمرين استكمالاً للجواب:

ثورة التوابين لم تكن استثناءً:

الأمر الأول: إنَّ ثورة التوابين لم تكن استثناءً للواقع الذي كان عليه غالبيَّة أهل الكوفة، فالباعث عليها كان هو الشعور العميق بالذنب والندم على تقاعسِهم وخذلانهم لسيِّد الشهداء(ع) رغم أنَّهم أو الكثير منهم كانوا ممَّن كاتب الإمام الحسين(ع) يستنصرونه، وبايعوا سفيره على بذل المهج إلا أنَّهم لم يفوا له ببيعتِه فتلكئوا عن مؤازرته والمبادرة إلى اللِّحاق به أو تهيئة الأجواء لدخوله الكوفة، ولبدوا في بيوتهم وأحيائهم رغم استنصاره ومناشدته لهم، فلم يكن منهم سوى الاغضاء والتجاهل والتربَّص لما تتمخَّض عنه الأحداث، وذلك هو ما دفع الأمويين وأتباعهم إلى استضعافه ( روحي فداه) ومحاصرته وقتله أبشع قتلةٍ دون تأثُّم، فذلك هو ما أحدث في ضمائر التوَّابين شعوراً بالذنب والندم على احجامهم وتخاذلِهم عن نصرة سيِّد الشهداء فلم يجدوا وسيلةً للخلاص من الشعور العميق بالإثم سوى العمل على أخذ الثأر لسيِّد الشهداء(ع) من الأمويين وأتباعهم، ولهذا لجأوا إلى وجهائهم ممَّن يُنتظر منهم المؤازرة على ما عقدوا العزم عليه من الأخذ بالثأر من الأمويين فبايعوا على ذلك سليمان بن صرَد الخزاعي (رحمه الله) والمسيَّب بن نجبة الفزاري(رحمه الله) وآخرين فبلغ عددُ من بايعوا سليمان بن صرد ونوابه ستة عشر ألفاً (23) إلا أنَّه حين جدَّ الجد لم ينفر معه منهم سوى أربعة آلاف وتخلَّف عنه اثنى عشر ألفاً رغم بيعتهم المؤكَّدة، ورغم أنَّ الأمويين كانوا حينذاك في أسوأ أحوالهم وأضعفها، فالكوفة والبصرة والحجاز قد خرجت من سلطانهم وكانت الكوفة حينذاك تحت نفوذ عبد الله بن الزبير وكان عليها من قِبَله عبد الله بن يزيد الأنصاري ولم تكن الكوفة مستقرةً في يده، وكان من مصلحتِه ومصلحة ابن الزبير خروج التوابين لحرب الأمويين ورغم ذلك تخلَّف أكثرُهم عمَّا كانوا قد عقدوا العزم عليه، فاضطر سليمان بن صرد – بعد استنفارٍ وانتظار لهم بالنخيلة- أن ينفرَ لحرب الأمويين بما لا يزيد يتجاوز ربع العدد الذين بايعوا .

ولتوثيق ما ذكرناه من الباعث لثورة التوابين نكتفي بنقل نصِّ واحد رعاية للاختصار:

أورده الطبري وغيره: قال: “لمَّا قتل الحسين بن علي ورجع ابن زياد من معسكره بالنخيلة فدخل الكوفة تلاقت الشيعة- بمعنى المحبَّة والانحياز لأهل البيت وليس بمعنى الايمان بإمامتهم الإلهيَّة- بالتلاوم والتندم ورأت أنَّها قد أخطأت خطأً كبيرا بدعائهم الحسين إلى النصرة وتركهم إجابته ومقتله إلى جانبهم لم ينصروه ورأوا أنَّه لا يغسل عارهم والإثم عنهم في مقتله إلا بقتل مَن قتله أو القتل فيه ففزعوا بالكوفة إلى خمسة نفر من رؤوس الشيعة إلى سليمان بن صرد الخزاعي، وكانت له صحبة مع النبيِّ (ص) وإلى المسيَّب بن نجبة الفزاري وكان من أصحاب علي وخيارهم وإلى عبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي وإلى عبد الله بن وال التيمي وإلى رفاعة بن شداد البجلي ثم إنَّ هؤلاء النفر الخمسة اجتمعوا في منزل سليمان بن صرد وكانوا من خيار أصحاب عليٍّ .. فلما اجتمعوا إلى منزل سليمان بن صرد بدأ المسيَّب بن نجبة القوم بالكلام فتكلَّم فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيِّه (ص) ثم قال:

أمَّا بعد فإنَّا قد ابتلينا بطول العمر والتعرُّض لأنواع الفتن .. وقد كنا مغرمين بتزكية أنفسنا وتقريظ شيعتنا حتى بلا اللهُ أخيارنا فوجدنا كاذبين في موطنين من مواطن ابن ابنة نبينا (ص) وقد بلغتنا قبل ذلك كتبُه وقدمت علينا رسلُه وأعذرَ إلينا يسألُنا نصره عوداً وبدءً وعلانيةً وسراً فبخلنا عنه بأنفسنا حتى قُتل إلى جانبنا لا نحن نصرناه بأيدينا ولا جادلنا عنه بألسنتنا، ولا قويناه بأموالنا، ولا طلبنا له النصرة إلى عشائرنا، فما عذرنا إلى ربِّنا وعند لقاء نبيِّنا (ص) وقد قُتل فينا ولدُه وحبيبه وذريتُه ونسلُه، لا والله لا عذر دون أنْ تَقتلوا قاتله والموالين عليه أو تُقتلوا في طلب ذلك، فعسى ربُّنا أن يرضى عنَّا عند ذلك، وما أنا بعد لقائه لعقوبته بآمن، أيها القوم ولُّوا عليكم رجلا منكم فإنه لابد لكم من أمير تفزعون إليه ورايةٌ تحفون بها أقول قولي هذا وأستغفرُ الله لي ولكم قال فبدر القوم رفاعة بن شداد بعد المسيب الكلام فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي (ص) ثم قال أما بعد فان الله قد هداك لأصوب القول ودعوتَ إلى أرشد الأمور بدأت بحمد الله الثناء عليه والصلاة على نبيه (ص) ودعوت إلى جهاد الفاسقين وإلى التوبة من الذنب العظيم فمسموعٌ منك مُستجابٌ لك مقبولٌ قولُك، قلت ولَّوا أمركم رجلاً منكم تفزعون إليه وتحفُّون برايته وذلك رأيٌ قد رأينا مثل الذي رأيت فإن تكن أنت ذلك الرجل تكن عندنا مرضيَّاً وفينا متنصحا في جماعتنا محبَّا وإن رأيت ورأى أصحابنا ذلك ولينا هذا الامر شيخ الشيعة صاحب رسول الله (ص) وذا السابقة والقدم سليمان بن صرد المحمود في بأسه ودينه والموثوق بحزمه أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم قال ثم تكلم عبد الله بن وال وعبد الله بن سعد فحمدا ربهما وأثنيا عليه وتكلما بنحو من كلام رفاعة بن شداد فذكرا المسيب بن نجبة بفضله وذكرا سليمان بن صرد بسابقته ورضاهما بتوليته فقال المسيَّب بن نجبة أصبتم ووفقتم وأنا أرى مثل الذي رأيتم فولوا أمركم سليمان بن صرد” ” قال فتكلم سليمان بن صرد .. فقال: .. أما بعد فإنِّي والله لخائف ألا يكون آخرنا إلى هذا الدهر الذي نكدت فيه المعيشة وعظمت قيه الرزية وشمل فيه الجور.. إنا كنا نمد أعناقنا إلى قدوم آل نبيِّنا ونمنِّيهم النصر ونحثُّهم على القدوم فلما قدموا ونينا وعجزنا وادهنا وتربصنا وانتظرنا ما يكون حتى قتل فينا ولدينا ولد نبينا وسلالته وعصارته وبضعة من لحمه ودمه إذ جعل يستصرخ ويسأل النصف فلا يعطاه اتخذه الفاسقون غرضا لنبل ودرية للرماح حتى أقصدوه وعدوا عليه فسلبوه ألا انهضوا فقد سخط ربُّكم ولا ترجعوا إلى الحلائل والأبناء حتى يرضى الله والله ما أظنُّه رضياً دون أن تناجزوا مَن قتله أو تبيروا ألا لا تهابوا الموت فوالله ما هابه امرؤ قط إلا ذل كونوا كالأولى من بني إسرائيل إذ قال لهم نبيهم إنكم ظلمتم أنفسكم باتِّخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فما فعل القوم جثوا على الركب والله ومدوا الأعناق ورضوا بالقضاء حتى حين علموا أنه لا ينجيهم من عظيم الذنب إلا الصبر على القتل فكيف بكم لوقد دعيتم إلى مثل ما دعي القوم إليه أشحذوا السيوف وركبوا الأسنة وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل حتى تدعوا حين تدعوا وتستنفروا…” (24)

أقول: هذا النصُّ صريحٌ في إقرار التوابين بخذلانهم للإمام الحسين (ع) وأنَّه كان بوسعِهم الانتصار له ولكنَّهم لم يفعلوا فرغم أنَّه (ع) كان يستصرخُهم وواتَر عليهم الكتب والرسل عوداً وبدء وسراً وعلانية يستنجدهم ويستنصرهم إلا أنَّهم أحجموا عن الانتصار له والاستجابة لدعواته، فلم يكتفوا بعدم المصير إليه رغم قربه منهم بل إنَّهم لم يجادلوا عنه ولم يمدوه بأموالهم ولم يطلبوا النصر له من عشائرهم بل داهنوا وتوانوا وتربَّصوا وانتظروا ما يكون إلى أنْ قُتل ولدُ النبي (ص) وعُصارتُه وبضعةُ لحمه ودمه، إذ جعل يستصرخ ويسأل النصَف فلا يُعطاه فكان أنْ “اتَّخذه الفاسقون غرضا للنبلٍ ودرية للرماح حتى أقصدوه وعدوا عليه فسلبوه”

كان لنساء الكوفة نصيب في التخذيل والممالئة:

الأمر الثاني: لم يكن الرجال وحدهم الذين خذلوا الإمام الحسين (ع) فكان للنساء نصيبٌ في ذلك بالتثبيط والتخذيل والتخويف بعواقب الأمور، ويؤشِّر لذلك ما أورده الشيخُ المفيد في الارشاد والطبري في تاريخه وابن الأثير في الكامل أنَّ المرأة تأتي ابنها وأخاها وتصرفه عن مسلم بن عقيل والذي كان قد دعا إلى محاصرة قصر الأمارة:

قال في الإرشاد: “.. وكانت المرأة تأتي ابنها أو أخاها فتقول: انصرف، الناس يكفونك، ويجيء الرجل إلى ابنه وأخيه فيقول: غدا يأتيك أهلُ الشام، فما تصنع بالحرب والشر؟ انصرف، فيذهبُ به فينصرف . فما زالوا يتفرِّقون حتى أمسى ابنُ عقيل وصلى المغرب وما معه إلا ثلاثون نفساً في المسجد..”(25)

وأورد الدينوري في الأخبار الطوال ما يقرب من هذا النصِّ قال: ” وكان الرجلُ من أهل الكوفة يأتي ابنه، وأخاه، وابن عمِّه فيقول: انصرف، فإنَّ الناس يكفونك. وتجيء المرأة إلى ابنِها وزوجها وأخيها فتتعلَّق به حتى يرجع. فصلَّى مسلم العشاء في المسجد، وما معه إلا زهاء ثلاثين رجلا”(26)

وعليه فالتشكيك في صدور الخطبة لأنَّها اشتملت على ما يعمُّ النساء والحال أنَّه لا ذنبَ لهنَّ فيما وقع إذ لم يشاركنَ في القتل، ولا يُنتظر منهنَّ المؤازرة ولهذا لا تصحُّ نسبة الخذلان لهن، هذه التشكيك – كما اتَّضح – ليس في محلِّه فكان للنساء نصيبٌ في التخذيل والتثبيط والممالئة كما في الكثير من نساء المقاتلين، نعم ثمة من النساء من كان لهنًّ دور مشرِّف كالسيِّدة طوعة التي آوت مسلم بن عقيل (ع)

والحمد لله ربِّ العالمين

الشيخ محمد صنقور

17 محرم الحرام 1447ه

14 يوليو 2025م

————————

1- الأمالي- الشيخ المفيد – ص321 ، 324.

2-الأمالي- الشيخ الطوسي- ص 92.

3- الاحتجاج – الطبرسي- ج2/ 29.

4- الفتوح – ابن أعثم الكوفي- ج5/ 121.

5- كتاب البلدان -أحمد بن محمد الهمداني (ت: 240ه)- ص 224.

6- بلاغات النساء- ابن طيفور- ص 23.

7- مناقب آل أبي طالب- ابن شهراشوب- ج3/ 261.

8- الدر النظيم – وابن حاتم الشامي المشغري-ص560،

9-اللهوف – السيد ابن طاووس- ص87،

10- مثير الأحزان- ابن نما الحلي- ص 66.

11- التذكرة الحمدونية- ابن حمدون-ج6/ 264،

12-مقتل الحسين – الخوارزمي- ج2/ 40.

13- كتاب نثر الدر-أبو سعد منصور بن الحسين الرازي الآبي ( ت: 421ه)- ص 63.

14- سورة البقرة : 54.

15-سورة الأعراف: 148.

16-سورة البقرة : 93.

17-سورة الأعراف: 159.

18- تاريخ مدينة دمشق- ابن عساكر-ج14/ 219.

19-الإرشاد – المفيد- ج2/ 59.تاريخ الطبري-الطبري- ج4/ 280.

20-الاحتجاج – الطبرسي- ج2/ 12.

21-الكافي -الكليني-ج5/ 6.

22- أنساب الأشراف- البلاذري- ج2/ 78، تاريخ الطبري- الطبري- ج4/ 266، البداية ووالنهاية- ابن كثير- ج8/ 170، مثير الأحزان- ابن نما الحلي- ص17،

23- تاريخ الطبري- الطبري- ج4/ 452، الكامل في التاريخ – ابن الأثير- ج4/ 175، المنتظم في تاريخ الامم والملوك – ابن الجوزي-ج6/35.

24-تاريخ الطبري -الطبري- ج4 / ص427، وقريباً منه ما أورده البلاذري في أنساب الأشراف ج6 / ص364، الكامل في التاريخ -ابن الأثير- ج3 / ص249، ذوب النضار -ابن نما الحلي- ص75، الفتوح -ابن أعثم- ج6 / ص204.

25- الارشاد – المفيد – ج2/ 54. الكامل في التاريخ- ابن الأثير- ج4/ 31.

26-الأخبار الطوال- الدينوري-ص 239.

 

 

المصدر: مركز الهدى للدراسات

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

Clicky