خاص الاجتهاد: أعتقد أنّ مرحلة الشيخ الوحيد البهبهاني وأتباع مدرسته هي من أقل مراحل تاريخ فقه الشيعة تناولاً بالبحث والدراسة، وأقلها تعرضا للنقد والتمحيص والتحليل؛ بل يمكن القول أنّ ظهور الوحيد البهبهاني عند الشيعة في تلك الفترة التي شهدت أوج هجمات الأخباريين التي استهدفت الاجتهاد وعلم الأصول لهي من الأمور المدهشة في تاريخ تطور علوم الحضارة الإسلامية.
على الرغم من كلّ تلك الكتب والمقالات التي دوّنت إلى اليوم باللغتين الفارسية والعربية حول تاريخ الفقه عند الشيعة الإمامية يمكننا القول بلا مواربة أنّه إذا ما استثنيا حالات قليلة نجد أننا نفتقر إلى دراسة أو بحث مفيد حول هذا الموضوع، ويمكن أن نذكر هنا فقط كتاب الدكتور السيد حسين مدرسي الطباطبائي كتأليف علمي ذا شأن في هذا المجال؛
ولكن حتى هذا الكتاب وبسبب ماهيته لا يمكن اعتباره تاريخاً جامعاً للفقه الشيعي الإمامي، في حين أنّ جلّ اهتمام الحوزة العلمية قد انصب في المئتي سنة الأخيرة على تدريس الفقه والأصول؛ فجاءت أكثر إبداعات علماء الشيعة وأعمالهم المميزة في هذين المجالين، وهي التي يمكن تسجيلها والنقاش حولها في نفس هذه الفترة.
ومن الطبيعي أنّ الفقهاء مطلعون أكثر من غيرهم _ ومنهم أساتذة الجامعة المتخصصين _ على تلك الإبداعات والآثار، ولكن ما تتميز به المناهج الأكاديمية من أسلوب التتبع التاريخي العلمي، ومراجعة مصادر ومراجع متنوعة، وبسبب كون النظرة هنا إلى الموضوع من الخارج، لجميع ذلك يكون للأبحاث الأكاديمية نتائج أكثر فائدة أحياناً، ولا سيّما أنّه ينبغي الالتفات بدقة إلى مسألة مهمة للغاية موجودة في مثل هذه الأبحاث، وربما لا يكترث لها كثيراً في الحوزة العلمية، وهي مسألة تأثر الفقه والأصول عند الشيعة بنظيريهما عند أهل السنة، وهي قضية مهمة للغاية، يسبب تجاهلها عدم إمكان الوصول إلى فهم كاف ودقيق للفقه والأصول عند الشيعة حتّى في مراحلهما المتأخرة.
نعم لقد تمّ تأليف وتصنيف مجموعة من الكتب حول تاريخ الاجتهاد الشيعي، ولكنّ لم يخلو أيٌّ منها وللأسف من قصور ونقص في بعض الجوانب، ولم يضمّ بعضها إلى اقتباسات عن كتب التراجم، وخلا من أيّ صبغة نقديّة أو تحليلية، وبعضها اقتصر على إيراد الكليات.
وهنا أعتقد أنّ مرحلة الشيخ الوحيد البهبهاني وأتباع مدرسته هي من أقل مراحل تاريخ فقه الشيعة تناولاً بالبحث والدراسة، وأقلها تعرضا للنقد والتمحيص والتحليل؛ بل يمكن القول أنّ ظهور الوحيد البهبهاني عند الشيعة في تلك الفترة التي شهدت أوج هجمات الأخباريين التي استهدفت الاجتهاد وعلم الأصول لهي من الأمور المدهشة في تاريخ تطور علوم الحضارة الإسلامية،
هذا التطور الذي شهد تجربة أصول الفقه الشيعي وعلم قواعد الفقه في ذلك العصر، وهو من الأعصار الممتازة والثمينة جدا في تاريخ التشيّع الإمامي، وباعتقادي أنّ أحد أسباب ظهور مثل هذه الحركة _ مضافا إلى حركة الأخباريين _ هو تدقيق وتمحيص فقهاء الشيعة في المناهج الفقهية والأصولية لأهل السنة، والاستفادة من تجاربهم وأبحاثهم، ومن المباني النظرية لعلمي الفقه وأصول الفقه عندهم.
وينطق هذا الأمر خاصّة على الشيخ جعفر كاشف الغطاء وعلى عدد من أتباع مدرسته، فيجدر بنا إجراء دراسة معمقة بناء على هذا المبنى للإبداعات والنظريات الدقيقة الأصولية وللقواعد الفقهية والحقوقية لكلٍ من الشيخ البهبهاني، وجعفر كاشف الغطاء، وبعض أبنائه (الشيخ موسى والشيخ علي)، وتلامذته، ولما ورد في بعض الكتب؛ من قبيل العوائد للملا أحمد النراقي، والعناوين للمير عبد الفتاح، (وهي في الحقيقة تقريرات ابني الشيخ جعفر)، وآثار الشيخ أسد الله صاحب المقابس، والشيخ محمد تقي صاحب الهداية وصاحب الفصول، والأبحاث التي طرحها شريف العلماء، والتي استمرت فيما بعد في آثار صاحب الضوابط والشيخ الأنصاري.
وقد بلغ التمحيص أوجَهُ في علوم الأصول والحقوق وتعمقت التأملات في القواعد الفقهية والفرضيات الحقوقية في عصر الوحيد البهبهاني والسيد محمد مهدي بحر العلوم وصاحب القوانين، وفيما بعد بين تلامذتهم في أصفهان والنجف وكربلاء قبل عهد الشيخ الانصاري، ولا يمكن مقارنة أيٍّ من النتاجات العلمية في المراحل السابقة من تاريخ الفقه والأصول عند الشيعة بمستوى الدقة العقلية لهذه المرحلة.
وإذا ما أردنا أن نذكر أثرا علميا باللغة الإنجليزية قام بتعريف علوم ومعارف هؤلاء الأعلام العظام في المجال الحقوقي لعلماء وحقوقي العالم ومؤرخي علم الحقوق سوف نرى أننا تقريبا لم نقم بأيّ عمل، وأنّ أيدينا فارغة في هذا الشأن، ومن الجيّد أنّه في العقدين الأخيرين نشطت حركة طباعة كتب تلك المرحلة، وهناك الكثير من النصوص بين يدينا اليوم، ولاسيّما نصوص الكثير من التقريرات الفقهية والأصولية لدروس القرن الثالث عشر القمري.
وبناء على تلك النصوص يمكننا اليوم الوصول إلى تصوّر أكثر وضوحا لتاريخ أصول الفقه الشيعي في تلك الفترة، ومنذ سنوات بدأ في اللغة الإنجليزية الاهتمام بتاريخ الفقه والأصول عند الشيعة في مرحلة غلبة التيار الأخباري في العصر الصفوي، وتمّ نشر دراسات جيدة في هذا الإطار، ولكن لا يوجد دراسة جامعة تستحق الذكر تتحدث عن مرحلة غلبة الأصوليين وإزاحتهم للأخباريين.
* الدکتور حسن انصاري :
خريج السوربون، وطالب الحوزة العلمية في قم وطهران، متخصص في علم الكلام والفلسفة والشريعة الاسلامية، واصول الفقه. حصل على شهادة الحوزة العلمية بعد دراسته في الحوزة العلمية في قم وطهران بين 1985-2002 في الفلسفة وعلم الكلام والشريعة. نشر العديد من البحوث والدراسات والمؤلفات في علم الكلام والفلسفة ومن الشخصيات البارزة في مجال نقد النسخ والمخطوطات والكتب القديمة.