حاول الأئمة المعصومين في مجال التعايش مع الآخر، التمییز بین «الاسلام» و «الایمان» وإلغاء التلازم بين ” الكفر الفقهي” و” الكفر الحقيقي”. يعني لو فرضنا أن شخصاً هو فی الحقیقة کافر بسبب الخطأ والشبهة في الإعتقاد أو السلوك، هذا لایعنی أنه بالضرورة كافر فقهي، وقد يصدق عليه عنوان «المسلم». فعنوان «المسلم» هو حكم وضعي فقهي له عدة أحكام تكليفية. بقلم : الشيخ محمد مرواريد
خاص بالاجتهاد: التعايش السلمي مع الآخر والإعتراف بحقوقه هو أحد المباديء المسلّمة في الروايات. هناك عدد من الروايات التي تدعو بشكل مباشر للتعايش السلمي مع المخالفين على الشكل التالي:
مداراة الناس، منع السب والشتم لمعتقدات أهل السنة، مثل : ” کونوا لنا زیناً ولاتکونوا علینا شیناً ” أو روایة «عودوا مرضاهم و اشهدوا جنائزهم. وكذلك روايات “حسن المعاشرة” و “الصداقة” و “الأمانة” و” الوفاء بالعهد في التعامل مع المخالف، ومشاركة جنائزهم والتحبّب والتودّد إليهم. ذكرت معظم هذه الروايات في المجلد الثاني من كتاب الكافي صفحة 635 تحت عنوان “كتاب العشرة” .
لكن الأمر هو أن أهل البيت “عليهم السلام” لم يكتفوا بالأمر المباشر فقط؛ بل حاولوا تغيير جميع التصنیفات بين الناس و التسميات والتهم التي تُلصق بالأشخاص؛ لأن الكثير من الفتاوي والآراء المتضاربة مع التعايش السلمي تنشأ مبادئها من نظرة صاحب الفتوى والرأی بحقائق «الإسلام» و«الإيمان» و «الكفر».
أولا: بطلان ثنائية الإيمان والكفر
من المحاولات الأخرى للأئمة المعصومين عليهم السلام هي بطلان ثنائية الإيمان والكفر. وفقا للنظرة الموجودة في الروايات «الكفر» و«الإيمان» هما عددي الصفر والمائة ولا ينبغي إلحاق الأعداد الموجودة بين الصفر والمائة بأحد هذين العددين. الكثير من الشيعة وأهل السنة يعتبرون جميع الأشخاص الذين يعانون من الخطأ في العقائد أن الإيمان لا ينطبق عليهم وينسبونهم إلى الكفر الحقيقي. بينما الروايات تدل على هذا الأمر وهو أن هناك أقسام أخرى موجودة في عرض الإيمان والكفر.
تفيد بعض الروايات بأن: أکثر الناس لیسوا مؤمنا ولا کافرا. ومن بين الفئات الست، تختص فئتين بالمؤمن والكافر والذين واضح ظروفهم الأخروية. أما الباقي سميت ب” الضالين” الذين لم يحدد ظروفهم الأخرؤية. . (1)
القسم الاول: وفقا لهذه الروايات وبقرينة المقابلة مع الأقسام الأخرى، “المؤمنون” هم الذين يعتقدون بالله والرسول وولاية الأئمة عليهم السلام ويطيعونهم. كما أن العمل يعد جزء الإيمان في الروايات الكثيرة.(2)
إذا لم ينطبق هذا التعريف على شخص فليس بمؤمن ويدخل في أقسام أخرى؛ على الرغم أنه يُطلق أحياناً على الإعتقاد القلبي بولاية الأئمة المترافق بالضعف في الإطاعة والتسليم أنه إيمان.
القسم الثاني: هم “الكافرون” الذين لا يمتلكون الإعتقاد الكامل في قلوبهم بسبب العناد والجحود. لذلك وبدون إحراز قيد «العناد» لا يمكن الوصول إلى الكفر الحقيقي لشخص وأنه من أهل جهنم.
القسم الثالث: هم ” المستضعفين” الذين لايعرفون الحق والباطل ولايدركون الإختلاف. والذين يعبّر القرآن عنهم ب” «لا یستطیعون حیلة ولا یهتدون سبیلاً.
وعلی أساس بعض الروایات فی أصول الكافي وغيره من كتب الحديث، يقول الإمام في شرح هذه الآية: لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لاَيَهْتَدُونَ سَبِيلاً.( نساء، 98 و 99.)
القسم الرابع : «المُرجَون لِأمر الله»(106 توبة) الذین أسلموا ، لكن لايستقر الإيمان في قلوبهم حتى يحسبون مؤمنا ويدخل الجنة. كما لم ينكرو واعياً حتى يحسبون كافراً و يدخل النار. هذا القسم ينتظرون الإرادة الإلهية. «إما یعذّبُهم و إما یَتوبُ علیهم.»(توبة 106)
القسم الخامس: هم المذنبون من اهل الایمان الذین آمنوا قلبیا و لکن صدرت منهم أخطاء اعترفوا بها و تابوا عنها .تستند الروایات الی هذه الآیة الکریمة “وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (102توبة)
القسم السادس: الذین هم ” أصحاب الأعراف” والذين يساوي الخیر والشر فیهم.
منها روایة هذه: علي بن ابراهيم عن ابيه عن ابن ابي عمير عن هشام بن سالم عن زراره قال :
دَخَلْتُ أَنَا وَ حُمْرَانُ أَوْ أَنَا وَ بُكَيْرٌ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ ع قَالَ قُلْتُ لَهُ إِنَّا نَمُدُّ اَلْمِطْمَارَ قَالَ وَ مَا اَلْمِطْمَارُ قُلْتُ اَلتُّرُّ فَمَنْ وَافَقَنَا مِنْ عَلَوِيٍ أَوْ غَيْرِهِ تَوَلَّيْنَاهُ وَ مَنْ خَالَفَنَا مِنْ عَلَوِيٍ أَوْ غَيْرِهِ بَرِئْنَا مِنْهُ فَقَالَ لِي يَا زُرَارَةُ قَوْلُ اَللَّهِ أَصْدَقُ مِنْ قَوْلِكَ فَأَيْنَ اَلَّذِينَ قَالَ اَللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ إِلاَّ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلرِّجَالِ وَ اَلنِّسَاءِ وَ اَلْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لاَيَهْتَدُونَ سَبِيلاً أَيْنَ اَلْمُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اَللَّهِ أَيْنَ اَلَّذِينَ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً أَيْنَ أَصْحَابُ اَلْأَعْرَافِ أَيْنَ اَلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ( الکافي، ج2، ص 382)
يتضح من هذه الرواية أن التعامل مع أهل الضلال والعناد يختلف عن أسلوب التعامل مع الكافرين. هناك رواية في كتاب سليم تدل على أن هناك الكثير من الناس في عداد الضالين وليسوا بالمؤمنين ولا بالكافرين.(3)
مما سبق نستنتج أن نسب الكفر الحقيقي والأخروي إلى أشخاص لا يفكرون مثلنا ولم يقبلوا مذهبنا هو محل تأمل. هذه النظرة لها تأثير عميق في التعامل مع أهل السنة وجميع المخالفين كما توفر الأرضية المناسبة لقبول توصيات أهل البيت علیهم السلام بحسن الخلق معهم.
ثانياً. إلغاء التلازم بين الكفر الفقهي والكفر الحقيقي
التمییز بین «الاسلام» و «الایمان» وإلغاء التلازم بين ” الكفر الفقهي” و” الكفر الحقيقي” هو محاولة أخرى للأئمة المعصومين في مجال التعايش مع الآخر. يعني لو فرضنا أن شخصاً هو فی الحقیقة کافر بسبب الخطأ والشبهة في الإعتقاد أو السلوك، هذا لایعنی أنه بالضرورة كافر فقهي، وقد يصدق عليه عنوان «المسلم». فعنوان «المسلم» هو حكم وضعي فقهي له عدة أحكام تكليفية.
هذا العنوان يصدق بإظهار الشهادة بالتوحيد والنبوة. بالطبع ونظراً لأدلة أخرى فإن هذا العنوان لا يصدق على «الخارجیّ» و «الناصبیّ». إن كثرة هذه المجموعة من الروايات واهتمام أهل البيت بهذه النقطة يمكن مشاهدتها في الجزء الثاني من كتاب الكافي في الصفحة42. لذلك فإن الكفر مقابل الإيمان لا يمكن أن يكون مسوقاً للتكفير الفقهي و ترتيب آثار الكفر الفقهي عليه.
المصادر :
1 – کافی، ج2، ص381 تا 383 و ص401 تا 403 و 414؛ کتاب سلیم، ج2، ص607 و 608؛ الوافی، ج4، ص211 و 212.
2. قرب الاسناد، ص25؛ تفسیر العیاشی، ج1، ص63؛ الکافی، ج2، ص27 و ص33 تا 35؛ التوحید، ص228؛ الخصال، ج1، ص178 و 179؛ نهج البلاغه، ص508؛ الأمالی للطوسی، ص448 و … .
3. کتاب سلیم، ج2، ص608.